لا أذكر متى سمعت اسم فلسطين للمرة الأولى. «منذ قديم الزمان» عبارةٌ ملائمةٌ هنا. كانت موجودة في قصائد المرحلة الابتدائيّة، وفي نشرات الأخبار التي أدمنتُ عليها في المرحلة الإعداديّة، غير أنّ الكلمة لم تترسّخ بمعناها الجوهريّ لديّ إلا حين بدأ يتشكّل وعيي بها ولها. لم تكن القصائد وسيلة الوعي مع أنّي أحفظها عن ظهر قلب إلى اليوم، ولم تكن المظاهرات في الشوارع أيضًا، عفويّةً أم لا. في الواقع، لا أذكر تفاصيل مظاهرة لفلسطين وعنها؛ أذكر المظاهرات في بدايات الانتفاضة السوريّة بطبيعة الحال، غير أنّ المظاهرة التي علقت في الذاكرة كانت مظاهرةً إثر قصف بِل كلنتون للعراق عام 1998 (أذكر شعارًا صادحًا في تلك المظاهرة: «يا كلنتون يا جبان، روح دوِّر ع النّسوان» - كنّا نردّده ونحن نكاد نغصّ بضحكاتنا). تأخَّرَ ترسُّخ الوعي بفلسطين لديّ حتّى عام 2000، قبل الانتفاضة الثانية وأثناءها وبعدها. ترسَّخ ذلك الوعي عبر أربع صور، وتجذَّر بقوّة لا يمكن لي الآن تمييز «الرَّمنسة» فيها عن «المنطق». علاقتي بفلسطين عصيّة على التّحديد، وليست لدي رغبة بتحديدها أصلًا. هي حاضرةٌ بوصفها أمرًا وجوديًا بالنّسبة إليّ، مثلها مثل الفنّ والكتابة والقراءة. باقي الأمور (قد) تحتمل المساومة. من «حسن» الحظ ربّما أنّ إسرائيل تحتلّ الجولان إلى اليوم؛ هذا سبب يجعل لمكانة فلسطين لديّ منطقًا واضحًا بما أنّي غير فلسطينيّ: كلتاهما ضحيّتا احتلالٍ واحد. ولكن لا! الأمر أعقد وأجمل بكثير. قد يفيدنا القوميّون السوريّون هنا، أو أنطون سعادة بالأحرى. يرى سعادة - نظريًا على الأقل - أنّ فلسطين «جنوب سوريا». الصورة معكوسة لديّ: سوريا هي شمال فلسطين. وعيي الفلسطينيّ أوضح وأقوى حتّى من وعيي السوريّ. لعلّ هذه النّتيجة باتت أوضح لديّ الآن، ولكنّي كنتُ ما أزال أستوعب نشوء وعي هذه الفكرة لديّ عام 2000، حين شاهدت هذه الصور الأربع للمرة الأولى. تلك الصور هي التي حدَّدت بداية علاقتي بفلسطين.
1. رسم (برهان كركوتلي)
الأعين، أم لعلّها النّظرات. أعين متماثلة كما لو كانت مصبوبةً بقالب رصاص، نظرات متماثلة كما لو كانت نجومًا. سأصادف أعينًا متماثلةً في أوقاتٍ لاحقة: عند صفوان داحول مثلًا، ولكنّها أعين مرنة، متموّجة، مثل أقمار شاحبةٍ تعتصر القلب؛ أو عند يوسف عبدلكي مثلًا، ولكنّها أعين صلبة، صارمة، مثل فخٍّ جليديّ يكهرب الجسد. أعين برهان كركوتلي مختلفة. ليست مرنة، وليست صلبة. ليست متموّجة وليست صارمة. لعلّها مزيجٌ من هذه الصفات كلّها، غير أنّ لها تأثيرًا مغناطيسيًا مُزَلزِلًا. تَلوم، تُحرِّض، تتَهم، تطعن ... وتحنو. أعين أنثويّة. لا أعلم سبب اختياري لهذا التّوصيف رغم ضبابيّته، ولكنّه التّوصيف الأمثل الذي أجده ضمن مفرداتي. أعين أنثويّة حتّى في الوجوه الذكوريّة بشواربها الكثيفة. في واقع الحال، صادفتُ تلك الأعين للمرة الأولى في وجوه ذكوريّة، حين كانت لوحات كركوتلي مُرافِقةً لقصص زكريّا تامر في مختارات «عباد الله» التي اختارها وقدّم لها النّاقد صبري حافظ في سلسلة «كتاب في جريدة». كان هذا عام 1998، أو ربّما 1999، وكانت القصص «تامريّةً» نموذجيّة: عن الحارة التي تختزل العالم كلّه. حين بحثتُ لاحقًا عن أعمال كركوتلي، لم أجد اختلافًا بين عالم الحارة الشعبيّة، وبين عالم فلسطين الثّورة. الأسطورة هي هي، ولكنْ بأوجه متعدّدة. تبدو فلسطين عند كركوتلي سيرةً شعبيّةً أخرى، مثل سير المقهى الشّاميّة؛ سيرة لا رماديّ فيها: لا بدّ من خير وشرّ، من أبيض وأسود، وحين نضيف البندقيّة إلى الأعين، ستكتمل صورة النّضال الشعبيّ الذي سيُنجِبُ أبطاله كي ينتصروا حتمًا، حتّى لو كان منطق الواقع مُخالِفًا لمنطق السيرة الشّعبيّة. يخلع النّاس أساطيرَ السيرة الشعبيّة وصوتَ الحكواتي، كما يخلعون ملابس الخروج، حين يعودون إلى بيوتهم، إلى ظلال الرماديّ التي ترسم خطوط حاضرهم كلّه، غير أنّ الفارق الذي أحدثَتْه أعين كركوتلي لديّ هو أنّ تلك الأعين تنسف ذلك الرماديّ، وتُبْقي منطق السّيرة بلونيه الواضحين. لعلّه حماس مراهقتي، ولعلّه عناد ولد سيحاول (ويفشل) تقبُّل الرماديّ لاحقًا مع تزايد الشّعرات الرماديّة في رأسه (هي بيضاء وسوداء لو شئنا الدقّة)، إلا أنّه -آنذاك - كان يرى فلسطين للمرة الأولى بكلّ وضوح: عين مترافقة مع الرسم ومع الكتابة، مع المُتخيَّل ومع الواقعيّ، مع الأدب ومع الفنّ؛ مع الذاكرة، مثل عين مْنيموسيني، إلاهة الذاكرة التي أنجبت ربّات الإلهام التّسع. ذاكرة تَلِد إلهامًا ولا تذوي؛ ذاكرة سوداء وبيضاء، أو رماديّة، لا فارق. ذاكرة تطرق الذاكرة دومًا كي تنفض النّسيان. كان برهان كركوتلي سوريًا ولكنّه رسمَ فلسطين. رسم الـ «فلسطين» كما بتُّ أراها رغم مرور 21 عامًا من مئات أو آلاف اللوحات من فلسطين وعنها. ما فعله كركوتلي كان أمرًا بسيطًا: حتّى لو لم تكن فلسطينيّا بوسعك أن تصبح فلسطينيًا، بوسعك أن تكون.
2. رسمٌ آخر (منير نايفة)
آخر مكان يتوقّع المرء ملاقاة فلسطين فيه. ليس المكان في ذاته ما يدعو للاستغراب، إذ ما كانت مجلّة «العربيّ» الكويتيّة تبخل على فلسطين بالمساحة؛ تجدها في الافتتاحيّات، في الاستطلاعات، في الحوارات، في القصص، في «واحة العربي» ربّما، ولكن ليس في مقالة علميّة. كانت إحدى مقالات محمّد عارف التي بدأ نشرها متسلسلةً بدايات عام 2000 كما أذكر؛ كانت المقالات عن سير العلماء العرب العاملين في الغرب. كانت صورة فلسطين في المقالة عن الفيزيائيّ الفلسطينيّ منير نايفة. مقالة احتفائيّة بنايفة وبإنجازاته، على الأخص تمكّنه من تحريك الذرّات ذرّة ذرّة. لم أفهم آنذاك (ولم يزدْ فهمي كثيرًا اليوم، فالفيزياء ليست نقطة قوّتي العلميّة على أيّة حال) معنى تحريك الذرّات، غير أنّ الرسم الذي أنجزه نايفة بالذّرات كان صاعقًا. عُرف الرسم لاحقًا بكونه «أصغر غرافيتي في التاريخ»: قلب يجاور حرف P. ما معنى هذا الحرف؟ تناقلت المجلّات العلميّة أنّ المقصود كلمة Physics، ولكنّ نايفة باحَ لاحقًا بأنّه الحرف الأول من كلمة فلسطين Palestine، فبدأ الزلزال الذي يستوجب كبح ذلك البوح. وبدأت السيناريوهات العجائبيّة لاختلاق سياق آخر لهذا الحرف: ماذا لو كان الحرفَ الأوّل من اسم حبيبته أيّام الدراسة الجامعيّة في بيروت؟ ما الاسم العربيّ الذي يبدأ بحرف P أساسًا؟ لا يهم، المهم ألّا تكون فلسطين. أدركتُ حينها للمرة الأولى كيف يجب على فلسطين أن تغيب حتّى لو كانت حاضرة، حتّى لو كانت منمنمة بحجم النّانو. لا بدّ أن تكون فلسطين غائبة، أو منقوصة في أفضل الأحوال. يمكن لك أن تكون نصف فلسطينيّ: فلسطينيًا-سوريًا، فلسطينيًا-أردنيًا، فلسطينيًا-أميركيًا، فلسطينيًا-مريخيًا لو شئت، ولكن ليس فلسطينيّا كاملًا، ففلسطين غير موجودة على الخارطة. تسلّلت المفردات الإسرائيليّة إلى مصطلحاتنا: الفلسطينيّون غير موجودين حتّى في أرضهم التي باتت «أرض إسرائيل» حيث يعيش إسرائيليّون و«عرب». ولكنّي كنتُ أرى فلسطين دومًا في حرف P ذاك. باتت فلسطين حرف P ذاك الذي يُبصره الجميع، ولا يرونه. P، الحرف الذي يشبه بالمصادفة مفتاح العودة الذي تتناقله العائلات الفلسطينيّة جدارًا فجدار، بيتًا فبيت، أملًا بعودة، أملًا بحضور. P بأبعاد النانو، P بحجم الكون الذي يضيق بفلسطين.
3. حجر (فارس عودة)
كان يصغرني بسبعة أشهر. كنتُ في الخامسة عشرة، ولكنّه لم يبلغها، لا بعد سبعة أشهر، ولا إلى اليوم. انتهت حياته برصاصة مع أنّ الصورة التي ستبقى مرتبطة به كانت طفلًا ضدّ دبّابة، حجرًا ضدّ دبّابة. «صورة أيقونيّة» كما ساد توصيفها، صورة أسطوريّة تستدعي الأسطورة التّوراتيّة (معكوسها بالأحرى) التي تحوّلت لتصبح صورة فلسطين اليوم كلّها: داود ضدّ غوليات. مشكلة هذه الأسطرة أنّها أسبغت بعدًا ميثولوجيًا على واقع يوميّ. ما الذي تصبح عليه الأسطورة، وما الذي يبقى منها، حين تصبح واقعًا يوميًا؟ أتبقى الأسطورة أسطورة، أم تقلب التّعريفات كلّها؟ لم يعرف جيلي الانتفاضة الأولى عام 1987، ولكنّنا عرفنا الحجر. كان هو الحجر الذي حطّم الواقع اليوميّ، وعَبَر الأزمنة وأمسى أسطورة دنيويّة. عرف جيلي الانتفاضة الثانية عام 2000، وقد ارتبطت بصورتين لطفلين: محمّد الدرّة وفارس عودة. وكأنّما بات قَدَر فلسطين موزّعًا بين هذين الاحتمالين: إمّا أن تكون طفلًا عاجزًا ضعيفًا يباغته الموت في غير موعده، أو طفلًا مندفعًا (طائشًا ربما) يسعى إلى موته. الموت قَدَر هذه البلاد، قَدَرها الأوحد. ولكنّ هذا التأويل زائف؛ الاحتمال الأول لا مفرّ منه، كيف لك أن تهرب من موتٍ مباغت؟ ولكنّ الاحتمال الثاني لا يشبه الأول أبدًا: ما من بلاد تسعى إلى الموت. فلسطين، كغيرها، تتوق إلى الحياة. ثمّة قَدَر آخر مُغيَّبٌ عن الصور أو عن تأويلاتها. صورة فارس عودة ليست موتًا بل حياة؛ لم يكن يسعى إلى الموت حتّى حين واجه الموت. كانت صورتُه الصورةَ الوحيدة التي علَّقتُها على الحائط كي تكون إلهامًا لي كي أحيا، وكي أعرف معنى الحياة. كثيرون ارتدوا الكوفيّة في المناسبات، وارتدوا تيشيرت غيفارا، ولكنّ صورة فارس عودة مختلفة. كانت هي نموذج فلسطين كما رأيتها، وأراها، وسأراها دومًا. لعلّ محمود درويش أفضل من وَهَب للحجر معناه:«كيف يبني حجرٌ من أرضنا سقف السّماء!». كان حجرُه حجرَ الانتفاضة الأولى التي لم أعشها، وحجرَ فارس عودة في الانتفاضة الثانية التي عشتها،وحجر الانتفاضات القادمة لا محالة، على أنّ الحجر ليس محض حجر، وليس وسيلةً للموت؛ الحجر هو اللوحة، والقصيدة، والنص، والأرض، والرصاصة، والصاروخ، والعِلْم، والدِّين لو شاء البعض. ذلك الحجر هو العيش، هو الحياة، حياة فلسطين بأسطرة أو بغير أسطرة.
4. حجرٌ آخر (إدورد سعيد)
ثمّة من يراها أبهى صورة لإدورد سعيد، وأنا منهم. كانت اختزالًا لعلاقة سعيد بفلسطين، واختزالًا لحياة سعيد ونتاجاته كلّها. حين سُئل عنها في حواره مع «هآرتس»، حاول بادئ الأمر الالتفاف على الكلمات حين قال إنّ الأمر ليس إلا لعبة رمي حجر. لعلّه بعضُ الحقّ، ولكنّه ليس الحقّ كلّ الحق، ولا شيء غير الحقّ. حتّى حين تلعب بالحجر كي تتسابق فيمن يرميه أبعد فأنت تُحدِّد هدفًا ولو مُضمَرًا. كان السؤال الاستفزازيّ الثاني سيُعيد سعيد إلى أصل الفعل وإلى تأويل خِطاب الحجر، وإلى كشف ما كان مُضمَرًا: كان فعلَ رفضٍ، خطابَ رفض، رفضًا للإسرائيليّين حتّى بعد انسحابهم من جنوب لبنان. وما كان سعيد يرى تناقضًا بين رمي الحجر والمقاومة المسلّحة والمقاومة بالكلمة وبين السّعي (ولو متأخّرًا، ولو بعد خيبات متتالية) إلى حلم دولةٍ واحدة ثنائيّة القوميّة. الوسيلة لا تُلغي الغاية في نهاية المطاف، وما من طرف يقبل وجودك إلا حين تثبته لنفسك قبل أن تثبته لخصمك. حين رأيتُ الصورة للمرة الأولى، كان إدورد سعيد - بالنّسبة إليّ وإلى كثيرين - قمّة موجودة ولو لم ترها، ولو حجبتها بعض الغيوم عنك. أنت تعرف بوجودها، وتعرف علوّها، حتّى لو لم تجرّبه. ولكن لا بدّ من تجربة التسلّق كي تدرك علوّ تلك القمّة الشاهقة حقًا. قد تراها وعرة أحيانًا، وزلقةً أحيانًا، أو قد تجد طريقًا التفافيًا حولها، ولكنّك ستدرك علوّها حقّ المعرفة حين تقف عندها وتطلّ على المشهد. قد نتّفق معه وقد نختلف، ولكنّ هذه الاكتشافات ما كانت لتحدث لو لم نقف على كتفيه كي نرى الصورة الكاملة بشروخها كلّها. لمستُ التّناقض بين هذه الصورة وبين الحوار حين قرأته للمرة الأولى، ولكنّ آرائي تغيّرت، مع بقاء ثابت وحيد اختزله عنوان الحوار نفسه: «حقّ عودتي». لعلّه أضاع وقتًا حين راهنَ على تحالفات سياسيّة خاطئة، ولعلّه زاد شروخ الصورة حين تقلَّب في أفكاره حيال المستقبل-الحلم، ولعلّه تأخّر قبل أن يصل إلى أفكاره النهائيّة. كان في الخامسة والستّين حين رمى الحجر، وحين أجرى الحوار، ولكنّه طوَّع لنا طرق التّفكير وفتح آفاقًا كنا سنتأخّر حتمًا لو اختبرناها بأنفسنا. لعلّ أهمّ ما علّمني إيّاه حوار سعيد وصورته أنّ التّفكير بفلسطين أعقد من تضييقه في التّشاؤم والتّفاؤل. لم أكن لأفهم هذا عام 2000، ولكنّ مياهًا كثيرةً جرت تحت الجسور، وحطّمتها أحيانًا. بتُّ الآن أكبر من أن أقع في فخّ التفاؤل، وأصغر من أن يكبّلني التّشاؤم. باتت الصورة أوضح لأنّ ثمة جيلًا نظَّف عدسة الرؤية لنا، ولا بدّ لنا من تنظيفها أكثر لجيل لاحق. ذاك هو معنى الصورة، ومعنى الكلمة، ومعنى الحجر، كما أفهمه.