فرنسا وإسرائيل. أي لوبي صهيوني؟ مباراة مغشوشة على الحلبة الإعلامية

فرنسا وإسرائيل. أي لوبي صهيوني؟ مباراة مغشوشة على الحلبة الإعلامية

فرنسا وإسرائيل. أي لوبي صهيوني؟ مباراة مغشوشة على الحلبة الإعلامية

By : Arabic Editors

جان ستارن

أثبتت الهجمات المتواصلة بلا هوادة على غزة مرة أخرى ما يحتاجه الصحفيون الفرنسيون من عزيمة فولاذية لتغطية الأخبار في فلسطين وإسرائيل، بين مضايقات تقوم بها حفنة متهيجة من المؤيدين لإسرائيل، وتردد هيئات التحرير. هذا ما آل إليه الوضع بعد الحملة العنيفة ضد الصحفي الفرنسي شارل أندرلان لبثه صور مقتل الطفل محمد الدرة في تقرير تلفزي.

بعد أن أسفرت اعتداءات اليمين المتطرف الإسرائيلي في القدس الشرقية على عودة المواجهات بين الجيش الإسرائيلي وحماس، تتبين لنا مرة أخرى أهمية وجود رؤية مستقلة في عين المكان، وهو عادة دور مراسلي وكالات الأنباء والصحف. برقياتهم ومقالاتهم تفضح التصريحات الكاذبة لحكومة بنيامين نتانياهو التي يُعاد نشرها على صعيد واسع ودون تنسيب -خاصة من قبل جزء من الإعلام السمعي البصري الفرنسي- من قبل أنصار إسرائيل الذين يشكلون لوبي سياسي وإعلامي واسع تطرقنا إليه خلال هذا التحقيق. وتبدو المعركة غير متساوية أمام شراسة هذه الدعاية. لكنها لم تُحسم بعد.

ثلاثة صحفيين من ثلاث هيئات تحرير عملوا على تغطية الأوضاع في إسرائيل وفلسطين في ثلاث فترات مختلفة، والذين طالبوا بالاحترام الصارم لعدم الكشف عن هوياتهم، يتحدثون عن المكالمات الهاتفية غير اللائقة، والتهديدات المبطنة بالكاد وعن اللعبة المزدوجة لرئاسات تحريرهم.

عمل الأول -لنسمّه إيتيان-، كمراسل في القدس ليومية وطنية، والثاني، مارك، مع وسيلة إعلامية سمعية بصرية، بينما كان الثالث، فيليب، مبعوثا خاصا منتظما لأسبوعية. مثل معظم المبعوثين الخاصين والمراسلين في إسرائيل، يثني هؤلاء على جودة العمل في هذا البلد: الصحافة هناك متعددة، ومصادر المعلومات كثيرة ومفتوحة، والمواضيع متنوعة.

وحدها المعلومات المتعلقة بـ“الأمن القومي” تخضع للجنة الرقابة العسكرية، ويُمنع نشرها في بعض الأحيان. ويتعلق الأمر بشكل أساسي بهدف منع التعرف على هوية الجنود في وسائل الإعلام السمعية البصرية. ولكن هذا يخص أساسا الصحافة الإسرائيلية التي غالبا ما تكون عنيدة ولا تزال كذلك على الرغم من المناورات الكبيرة لبنيامين نتنياهو وأصدقائه من مليارديرات وسائل الإعلام لتطويعها.

نشر العديد من مراسلي جرائد “لوموند” و“ليبيراسيون” الفرنسية أو هيئات تحرير أخرى عند عودتهم من إسرائيل كتبا غالبا ما تكون رائعة بقدر ما تنتقد في كثير من الأحيان المجتمع الإسرائيلي1. لا يكمن المشكل إذا في إسرائيل. يقول روني باكمان2، الذي عمل لمدة طويلة في مجلة “نوفيل أوبسرفاتور” وهو اليوم يعمل في موقع “ميديابارت”: “نحن نعمل هناك بشكل جيد، فالناس معتادون على الصحافة ويمكن الذهاب إلى كل مكان، كل شيء مفتوح. نحن نتعرض للمضايقات في فرنسا”. ولكي نكون أكثر دقة: تتم مضايقة الصحفيين والتعتيم على المثقفين المنتقدين للسياسة الإسرائيلية.

لنترك هؤلاء الصحفيين الثلاثة يتكلمون بشكل أوسع.

إيتيان، مراسل سابق ليومية.

كانت المفاجأة الأولى عندما أقمت بالقدس، وتمثلت في مجيء أحد رؤساء تحرير الجريدة لزيارتي وقدم لي أحد “الأصدقاء” القدامى من الموساد. ربطني هذا الأخير بعميل أصغر في الاستخبارات الإسرائيلية يطلق على نفسه اسم بول، وهو أحد الضباط المسؤولين عن الصحافة الأجنبية. قدم لي بول بانتظام وثائق في مجلدات بلاستيكية لا أستعملها، لأنه لا يمكنني التأكد منها من مصدر ثانٍ أو لأن المعلومات التي تتضمنها غير مهمة. غير أنني أجد هذه المعلومات منشورة في الجريدة لعدة مرات بإمضاء نفس رئيس التحرير الذي أتى لإسرائيل دون إخطاري. وقد ذهب حتى لإجراء مقابلة صحفية مع الوزير الأول دون أن يشاركني فيها، على عكس العرف الذي ينص على أن يكون المراسل في البلد حاضرا خلال المقابلة. وقد تم إخطاري بمكالمة هاتفية من رئيس التحرير: “إنه يريد رؤيتي أنا فقط”... ثم مرر لي ضابط الموساد المسؤول عن الصحفيين الأجانب الذي قال لي بدوره: “أنا آسف، هذا صحيح.. إلخ”. والسبب وجيه: كانت افتتاحياته تعكس الموقف الإسرائيلي في ذلك الوقت.

بعد أشهر قليلة من ذلك، تلقيت طلبية غير عادية من قسم المجتمع بالجريدة: مقال حول اليهود الفرنسيين الذين هاجروا إلى إسرائيل بسبب تنامي معاداة السامية بفرنسا. أظهر لي استطلاع سريع بأن الأمور مختلفة تماما. فعدد المهاجرين القادمين من فرنسا لم يزد في ذلك الوقت، وكل من قابلتهم قالوا لي أنهم لم يقوموا بـ“العلية” (“العودة” إلى إسرائيل) خوفا، بل بوازع صهيوني وأن على كل حال “البلد الذي يتعرض فيه اليهود للخطر هو هذا”.

زودني مصدر بالوكالة اليهودية بإحصائيات حديثة تظهر البعد النضالي جدا للمهاجرين، فأكثر من 90% منهم ذهبوا في فرنسا إلى مدارس أو هيئات يهودية. وتؤكد أغلبية كبيرة منهم بأنهم أتوا لأسباب إيديولوجية. لكن هذا لم يرض الصحفية من قسم المجتمع المكلفة بإدارة مقالي، ولم أكن أعرف بأنها مقربة من اليمين الإسرائيلي. وفي اليوم الموالي وجدت مقالي في الجريدة مبتورا ومنقوصا من الأرقام المزعجة. نفس الصحفية كتبت مقالا مجاملا عن “الجالية اليهودية الفرنسية الغاضبة من الصحافة”. إذ لأنني كنت أذهب بانتظام إلى الضفة الغربية وغزة وأعطي الكلمة للفلسطينيين، احتج المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا –“الكريف”- بالقرب من إدارة جريدتي. الصدى الوحيد الذي وصلني عن ذلك جاءني من رئيس “الكريف” نفسه. ففي نهاية مؤتمر كان يشارك فيه في القدس، سحبني جانبا وسألني: “هل اتصل بك مديرك؟” سألته بأي صفة يمكن أن تهمه اتصالات خاصة بالجريدة، وأجبته: “لا يتصل بي مديري أبدا، فهو يثق بي تماما” ثم تركته مكانه. عرفت محتوى القصة في وقت لاحق بعد مروري بباريس. التقيت مدير التحرير الذي شرح لي: “لقد دعيت إلى رحلة إلى إسرائيل من قبل”الكريف“، وذهبت إلى هناك من أجل أن أنعم بسلام. لم أرغب في محادثتك بشأنها حتى لا أزعجك أو أؤثر عليك، وبالطبع لم أكتب أي شيء”.

عندما تم استبدال هذا المدير بمناسبة تغيير مساهم في الجريدة، كنت قد عدت إلى باريس. وتباهى خليفته في كل مكان بأنه جعل من اليومية “جريدة مؤيدة لإسرائيل”.

مارك، مراسل وسيلة إعلامية سمعية بصرية.

“تسعى إسرائيل منذ زمن طويل إلى تطبيع صورتها دوليا، ولكن المشكل لا يكمن في نتنياهو بقدر ما يكمن في داعميه بفرنسا. عندما نقوم بتحقيق في الضفة الغربية، يهيج هؤلاء على مستوى الشبكات الاجتماعية وعلى صفحات مواقعهم ويتهموننا بمعاداة السامية وبترويج أخبار كاذبة. إنه هذيان كامل. المشكل بالنسبة لنا في المجال السمعي البصري أنه خلافا للصحافة المكتوبة -التي ليست لها رقابة خارجية- يتم تتبعنا من طرف مجلس السمعي البصري الأعلى، وأعضاؤه لا يعرفون شيئا ولا يدركون حتى كيف نعمل، ولكنهم يعتبرون بأنه علينا”ضمان معالجة متوازنة للنزاع“ويمكنهم أن يوجهوا إلينا”تحذيرات“3. إنه تهديد دائم معلّق فوق رؤوسنا.

هكذا تم توجيه الاتهام لـ “راديو فرانس” في يوليو/تموز 2020 من قبل مجلس السمعي البصري الأعلى بخصوص تقرير لإذاعة “فرانس أنتير” حول تدمير الجيش الإسرائيلي لعيادة متنقلة لمكافحة كوفيد-19 في الأراضي المحتلة. لقد كذّبت تنسيقية الأنشطة الحكومية في الأراضي المحتلة -وهي فرع للجيش مكلف بالسلطة في المناطق المحتلة- التقرير المبني على مصادر للإذاعة. ولكن كثيرا ما تقول هذه التنسيقية هراء حيث أن جيش الاحتلال ليس موجودا هنا من أجل الشفافية. وقد تم اللجوء إلى مجلس السمعي البصري الأعلى من طرف النائب ميار حبيب الذي يعتبر أن إذاعة “فرانس أنتير” هي وكر للـ“هبستر” الإسلامويين-اليساريين. بالطبع، من شأن هذا أن يخلق مناخا معينا ولكن لا ينبغي تضخيمه أيضا. غير أن ذلك يجعلني حذرا، وعليَّ أن أفكر مرتين قبل أن أقترح موضوعا ما. فأنا لا أريد التعرض إلى مضايقات باستمرار، كما أن رئاسة تحريري لا تريد تلقي توبيخات من مجلس السمعي البصري الأعلى.

فيليب، مراسل خاص لمجلة.

زرت إسرائيل وفلسطين كثيرا على الرغم من أن ذلك لم يكن جوهر عملي. ذهبت إلى هناك لأول مرة من عشرين سنة، ضمن رحلة استكشافية نظمتها اللجنة اليهودية الأمريكية بباريس. في الجريدة التي كنت أعمل بها، لم أكن الأول ولا الأخير الذي يقوم بهذا النوع من الرحلات. كان ذلك منظما ومدفوع النفقات بالكامل. تدعو اللجنة اليهودية الأمريكية عادة عديد الزملاء وليس فقط المراسلين للأقسام الدولية. فهناك كُتاب أعمدة ورؤساء تحرير وصحافيو أقسام. في المجموعة التي ذهبت من ضمنها، كان هناك صحفي متخصص في مسائل النقل، وزميلة تغطي قضايا الاستهلاك والحياة اليومية في قسم تحرير تلفزيوني. كانت الأمور محكمة ويتم تسييرها بسرعة. قمنا بجولة على متن طائرة عمودية في النقب والتقينا عددا من النواب والوزراء، والتقينا في ذلك الوقت حتى ممثلا عن معسكر السلام. على حسب علمي، لم يكتب أحد شيئا ولم يُطلب منا شيء، ولكن بالطبع، عندما تتم دعوتك، يدعوك هذا بالضرورة إلى عدم البصق في الصحن الذي قُدم إليك.

في البداية لم أواجه أية مشكلة في تمرير مقالاتي، على الرغم من أن أحد رؤساء التحرير كان ينشر افتتاحيات موالية أكثر فأكثر لإسرائيل، وكانت تتناقض مع ما كنت أكتبه… تلقيت بسبب أحد مقالاتي العديد من الرسائل المعادية، وأعرف أن رئاسة التحرير تلقت أيضا ومن دون شك مكالمات من أصدقاء مؤثرين في الجريدة. ثم شيئا فشيئا، ودون أن يخبرني أحد بشيء، صار من الصعب أكثر فأكثر الذهاب إلى هناك. كان يقال لي: “هل أنت متأكد؟”، “في الحقيقة لم يعد القراء مهتمين بذلك”، “أليس ذلك مكلفا بعض الشيء؟”، ولكن كل هذه الحجج لم تكن تقدم فيما يخص كتابة الافتتاحيات. فالرأي المؤيد لإسرائيل أصبح جامحا في الجريدة دون أن يقابله تحقيق ميداني أكثر اتزانا".

كان غيوم جاندرون مراسلا لجريدة “ليبراسيون” في إسرائيل وفلسطين بين عامي 2017 و2020، وقد أمضى عديد المقالات خلال الأيام الأخيرة في الجريدة التي يعمل بها تتوافق مع ما كُتب في اليومية في 16 كانون الأول/ ديسمبر 2020 لوصف صعود اليمين المتطرف في المجتمع الإسرائيلي:

أصبحت إسرائيل وفلسطين اليوم متشابكتين أكثر من أي وقت مضى، فالحقائق ليست متوازية بل متكدسة، وبأقدار كما لو أنها مكبلة بالأصفاد. ففي حين يتجذر المستوطنون، مما يضفي على الضفة الغربية طابع التكساس لكن بنكهة كوشير، أو نوع من بلاد ترامب ثانية حيث يقوم رعاة البقر الذين يرتدون القلنسوة المنسوجة بالصوف بإعادة لعب أسطورة الحدود بشاحنات صغيرة وبنادق أم-16 أمام هنود عرب، يقوم بنَّاء من جنين بربح قوته في ورشات تل أبيب وراء الجدار المجتاز بتصريح أو بدونه. في نفس الوقت لا يحلم الشباب الفلسطيني -جيل “خلاص” المحروم من أي آفاق- سوى بالبحر.

في لقاء له بعد أسابيع قليلة من ذلك مع دومينيك فيدال بمعهد البحث ودراسات المتوسط والشرق الأوسط لسرد تجربته المهنية التي استمرت ثلاث سنوات، تأسف جاندرون، مثله مثل كل الصحفيين الفرنسيين الذين يغطون الأحداث بتل أبيب والقدس ورام الله، من المضايقات التي يقوم بها المتعصبون للدفاع عن إسرائيل … في فرنسا. “هناك طريقة جد منظمة في تسيير الاعتداء، هناك أشخاص يقومون بذلك طوال اليوم على شبكات التواصل الاجتماعي، يدققون في تقارير المراسلين بحثا عن معلومات مظللة مزعومة”. يواصل غيوم جوندرون قائلا: “في البداية، كنت أخوض الجدال، ولكن مع أشخاص بهذا الكم من سوء النية والمستعدين لتحريف كلماتك، أصبحت لا أدخل في النقاش لأنه في الواقع ليس نقاشا”.

بين “فراغات” على الهواء وذكريات هاربة، يصعب تقييم المعالجة الإعلامية للعلاقة بين فرنسا وإسرائيل. قال لي الكثيرون بطرق مختلفة خلال الأشهر الأخيرة “هذا ليس موضوعا”، لكن يوجد حراس قائمون على مهمة تصفية حسابات الصحفيين الذين يقومون بتأدية واجبهم فقط، أي الإعلام. من بين هؤلاء الحراس الصحفي كليمون فال راينال وموقعه “إنفو ايكيتابل” ( InfoEquitable)، والمحامي جيل ويليام غولدناجيل الذي يتجول في البلاتوهات العديدة للقنوات اليمينية وبالطبع النائب عن الفرنسيين بالخارج ميار حبيب الذي لا يمكن تجنبه، والذي كثيرا ما يكون في المناورة لمضايقة الصحفيين، وهو المتعود على الظهور بانتظام في القناة الإسرائيلية I24News. ويتم نقل مواقف هؤلاء بانتظام من طرف “الكريف” وشخصيات مختلفة مثل الفيلسوف آلان فينكلكروت والعديد من مستخدمي الإنترنت والمواقع الفرنسية الإسرائيلية ذات الرواج الضعيف مثل JJS News وأيضا الشبكات الاجتماعية طبعا. بالنسبة لهم وفي تعارض مع العقل والملاحظة البسيطة، فإن شيطنة إسرائيل أمر مرعب في الصحافة الفرنسية. فهم يطالبون بإعلام “متوازن” كما لو أن لهذا المصطلح معنى. ويشرح أحد الزملاء الذي يشتغل بالقدس: “لديهم فكرة خاطئة عن المعلومة”المتوازنة“التي يجب أن تكون وفق رأيهم مؤيدة باستمرار لإسرائيل”.

تسعى إسرائيل منذ زمن طويل إلى تطبيع صورتها دوليا، ولكن المشكل لا يكمن في نتنياهو بقدر ما يكمن في داعميه بفرنسا. عندما نقوم بتحقيق في الضفة الغربية، يهيج هؤلاء على مستوى الشبكات الاجتماعية وعلى صفحات مواقعهم ويتهموننا بمعاداة السامية وبترويج أخبار كاذبة. إنه هذيان كامل.

يذكر العديد من الصحفيين الجملة الشهيرة لجان-لوك غودار حول الموضوعية في التلفزيون، “خمس دقائق لليهود، وخمس دقائق لهتلر”، وقد أكد لي أحدهم بأن ميار حبيب حرفها بشكل كبير لينتقد التغطية الإعلامية لفلسطين لتصبح: “خمس دقائق لليهود، وخمس دقائق لإسرائيل”.

ومع ذلك فإن أولئك الذين يصفهم بيوتر صمولار، المراسل السابق لجريدة لوموند في القدس بـ“النمل الحاقد”، ينجحون في فرض قانون الصمت. يعلق روني باكمان قائلا: “سمعت ذلك مرارا من أصدقائي. فهم يجدون صعوبة متزايدة في العمل. حيث يقال لهم:”هل تعتقد أن فلسطين أمر يستحق العناء؟ انتهى، لقد قضي الأمر".

لقد مرت “قضية”محمد الدرة من هنا. تعرض شارل أندرلين، مراسل قناة فرانس 2 بعد تقريره عن قتل هذا الطفل الفلسطيني البالغ 12 سنة على يد قناصة إسرائيليين في غزة سنة 2000 إلى حرب علنية وقضائية طويلة. يروي الصحفي بالتفصيل في كتاب “مات طفل” (دار دون كيشوت 2010) وفي مذكراته المهنية الأخيرة، “من مراسلنا في القدس” (دار سوي 2021) الاتهامات بالكذب التي وجّهت له. لقد تطلب الأمر ثلاثة عشر عاما من الإجراءات حتى تتم تبرئة أندرلين من قبل العدالة الفرنسية، ويتم رفض تهم ادعاءات متهمه الرئيسي فيليب كارسنتي، الذي حُكم عليه بدفع التكاليف. غير أن الجرح كان عميقا والإشاعة قائمة. أن تتهم بالتضليل والكذب وأن تسمع “الموت لأندرلين” خلال لقاءات عامة كان أمرا فظيعا لهذا الصحفي. وإن دعمته إدارة عمله خلال الاجراءات القانونية، وكذلك فريق التحرير الذي وقع بالإجماع تقريبا على عريضة قدمتها النقابة الوطنية للصحفيين، فإنه “سرعان ما تم تهميش شارل ولم تكن حياته سهلة”، كما تقول دومينيك براداليي، الأمينة العامة للنقابة الوطنية للصحافيين وإحدى زميلاته السابقات في قناة فرانس 2. وتضيف: “لم تعد تؤخذ منه تقارير، كما قام بوجاداس، الذي كان آنذاك مقدم أخبار الثامنة، بوضعه على القائمة السوداء.”

جمعت عريضة أخرى لدعم أندرلين أطلقها روني باكمان مئات التوقيعات، بما في ذلك العديد من الأقلام من الجريدة الساخرة “لو كنار أونشيني” وأسبوعية “لونوفيل أوبسرفاتور” ووكالة فرانس راس ووسائل إعلام سمعية بصرية. ولكن لم يوقعها أي صاحب وسيلة إعلامية باستثناء ديدييه بيليه من الجريدة الجهوية “لابروفانس” وكلود بيردريال (وذراعه اليمنى في مجلة “لوبسيرفاتور” آنذاك دونيس أوليفان).

لم تظهر “مشيخات” الجرائد أدنى قدر من التضامن تجاه شارل أندرلين في حين كان واجب الإعلام في ذلك الوقت على المحك، وليس فقط في فلسطين. على العكس من ذلك كان دونيس جانبار، مدير أسبوعية “ليكسبرس” أحد متهمي أندرلين الرئيسيين، كما تناقلت صحف مثل اليومية اليمينية “لوفيغارو” عدة مرات حجج كارسنتي وأصدقائه أمثال إليزابيث ليفي لمجلة “كوزور” (يمين متطرف). ناهيك عن مواقع أكثر سرية والتي يعد تتبع كتلة معلوماتها المضللة شبه مستحيل، والتي تستمر في إدانة أندرلين.

وإضافة إلى ذلك، أخفقت محاكمات أخرى حركها مؤيدون لإسرائيل خاصة ضد الفيلسوف الفرنسي الشهير إدغار موران والكاتبة دانيال صالوناف والمحلل السياسي سمير ناير (برأتهم محكمة التعقيب باسم حرية التعبير بسبب مقال نشر في جريدة “لوموند” في 2002) أو الصحفي دانيال ميرميت الذي كان آنذاك بإذاعة “فرانس أنتير” (تمت تبرئته هو أيضا). ولكن هذه القضايا جعلت رئاسات التحرير تقتنع بأنه من المستحسن الابتعاد عن هذا الجدل. الجميع كان يربح القضية أمام العدالة ضد المؤيدين لإسرائيل، ولكن -وهي المفارقة المريرة- يخرج هؤلاء منتصرين من الجدل النتن الذي يحدثونه. للأسف لم يكن ذلك لغطا من أجل لا شيء.

الآن أصبح الصمت يُفرض في الصفوف. سبق أن كتبنا ذلك هنا، هناك قانون صمت مفروض، وأصبحت معلومات كثيرة لا تمر بكل بساطة. على سبيل المثال، هل قرأنا في فرنسا، نهاية أبريل/نيسان 2021، بأن دوائر “أمنية” إسرائيلية استعملت بشكل مغالط هويات صحفيين للقيام بعمليات سرية لفائدة “زبائن” في أبو ظبي؟ لقد تم تداول المعلومة التي نشرها الموقع الأمريكي “ذا ديلي بيست” (The Daily Beast) بصفة واسعة بالولايات المتحدة والمملكة المتحدة… وفي إسرائيل. ولكن لم يكن ذلك الحال في فرنسا، حيث تبدو وسائل الإعلام المرئية والمسموعة أكثر خجلا تجاه إسرائيل من الصحافة المكتوبة، كما أن مسؤوليها أكثر فزعا أو أكثر تأييدا لإسرائيل. وبالفعل فإن الأصوات الناقدة نادرا ما تكون حاضرة في البلاتوهات. يشهد روني برومان، الفرنسي-الإسرائيلي، مثل شارل أندرلين ومثل كثيرين آخرين، بأنه لم يعد يُستضاف في وسائل الإعلام: “أنا شخص غير مرغوب فيه في قناة فرانس 24. تمت دعوتي ذات مرة بعد ملف قدم في حصة حول اليهود وإسرائيل. وتم إلغاء دعوتي عشية ذلك وتعويضي بـبيرنارد هنري ليفي. ويبدو أن الشركة المنتجة وجدت بأنني”رجل مثير للجدل“”.

يشرح سفير فرنسي متقاعد بأنه “يمكن انتقاد إسرائيل بفرنسا، ولن يدخل أحد السجن بسبب ذلك. ولكن إذا انتقدنا إسرائيل، سيقوم أصدقاء تل أبيب ضدنا وهم كثر. لا أريد تضخيم الأمور، كلٌّ حر في التفكير بما يريد، ولكن يوجد في بلادنا حمايات قانونية ضد معاداة السامية، وبالتالي يمكن الاعتقاد بأن النقاش يمكن أن يكون مفتوحا، ولكن ليس ذلك هو الحال حقيقة”.

توضّح الأكاديمية فريديريك شيلو، وهي أيضا فرنسية-إسرائيلية بأن “الهجوم السياسي لجعل المناهضة للصهيونية معاداة جديدة للسامية سمح بتسجيل النقاط لدى الرأي العام. إن الأمر منحاز بعض الشيء، ولكن العملية نجحت، وتعود بفائدتين بالنسبة لإسرائيل: أن تتمكن من القول بأن معاداة السامية اليوم مقنَّعَة بطرق مختلفة، وتخفيض مستوى الحظر على النقد السياسي”.

أصبح الخوف من تهمة معاداة السامية يشلّ العديد من الزملاء. كما أن تبني مجموعات مختلفة منذ أوائل عام 2021 لتعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكست، الذي يعتبر انتقاد إسرائيل معاداة للسامية، لا يسهل الأمور، بما في ذلك داخل هيئات التحرير.

أما الدفاع عن فلسطين وعن حقوق الفلسطينيين، فيقول برونو جان كور، نائب عن حزب الحركة الديمقراطية بأنه “ليس موضوعا يحظى بشعبية كبيرة. كثيرون لا يريدون المجازفة، وذلك ليس من الشجاعة وليس من المجد”.

ويلاحظ جاك فتح، وهو مسؤول دولي سابق في الحزب الشيوعي الفرنسي: “لا يزال هناك تمسك عميق بالقضية الفلسطينية بفرنسا. هناك حركة تضامنية تدفع بها الجمعيات، ولكن لا توجد تغطية إعلامية، ولا يتحدث عنها أحد. إنه جدار تعتيم رصاصي حقيقي”.

لقد لعبت ويلات الإرهاب الإسلاموي دورا رئيسيا في هذا الصمت. وصار المؤيدون لإسرائيل يكررون بأن دعم الفلسطينيين يعني دعم حماس وبالتالي دعم الإرهاب. على الرغم من أن الحجة واهية فقد كانت مؤثرة ولا تزال.

لم تعد وسائل الإعلام ملتزمة. وأصبح الموضوع منذ فشل مسار أوسلو ثانويا. كما أن التهديدات بالمضايقات من قبل أشرس المؤيدين لإسرائيل، والتي ينقلها “الكريف”، أدت برؤساء التحرير إلى التزام الصمت والتواري عن الأنظار وفرض ذلك على هيئات التحرير.

أهي رقابة ذاتية؟ جبن؟ كسل؟ تأييد؟ “قليل من كل ذلك”، يقول ألان غريش مدير موقع أوريان 21 متنهدا، وهو الذي يتابع المنطقة منذ عقود، ومثل برومان تم “إلغاء دعواته” من طرف وسائل إعلام مرئية ومسموعة، ثم لم تعد توجه له دعوات على الإطلاق.

يمكننا لمواصلة الاستعارة الحيوانية “للنمل الحاقد” التحدث عن زملائهم، السحالي الكسولة، والخُلدان حُصرُ النظر. وهم أساسا العديد من المسؤولين ومساعديهم الموجودين في مهنة ذات نظام هرمي أكيد، الذين يقولون بأن الرأي العام لم يعد يهتم بالموضوع، وهي طريقة لتجنب معالجته. ولكنهم في نفس الوقت يفتحون أعمدتهم وقنواتهم للمؤيدين الكثيرين لإسرائيل.

يمكن التأكيد بأن الكاتب فريدريك أنسيل، المؤيد المعروف لإسرائيل على حق. ففي محاضرة قدمها في ستراسبورغ في 2013، ظهر كديك منتصر وهو يتحدث عن وسائل الإعلام وإسرائيل: “بشكل عام فإن الوضع … (كدت أن أقول هو تحت السيطرة) مواتٍ. نجد حقا وسائل إعلام مؤيدة لإسرائيل متوازنة وصادقة في كل مكان، في كل مكان بصفة مطلقة: فهذا صحيح في الصحافة المكتوبة وفي الإذاعة وفي التلفزيون”. بالنسبة لروني برومان، “كان إنسيل يتحدث بموضوعية عن لوبي موجود بشكل موضوعي. إن الأمر متبنى ومعلن”. وكان فريدريك إنسيل آنذاك في عز مجده الإعلامي بفضل تسييره المؤقت لعمود الجيوسياسة خلال فصل الصيف في إذاعة “فرانس أنتير”، والذي أوصله إليه فيليب فال، مؤيد آخر لإسرائيل الذي كان على رأس المحطة.

كتب بيوتر صمولار، المراسل السابق لجريدة “لوموند”، والذي لم يعد يحصي الشتائم والقذف الذي يتعرض له بعد بعض مقالاته، بأن “أولئك الذين يطالبون الصحافيين بالتحلي بـ” موضوعية“مستحيلة بخصوص إسرائيل هم بصفة عامة الأكثر تعصبا”. إنها وضعية فرنسية بامتياز، لأن وسائل الإعلام الإسرائيلية والأمريكية والبريطانية أكثر حرية في اللهجة كما في اختيار المواضيع4.

حتى وإن صار عددهم أقل -إذ أغلقت قناة التلفزيون الأولى (TF1) مكتبها بالقدس، ولم يتم بعد استبدال المراسل الدائم لجريدة “ليبراسيون”- لا يزال العديد من الزملاء، خاصة المتعاونون (الذين يعملون لحسابهم الخاص)، موجودين بتل أبيب والقدس ورام الله، ويقترحون تغطية شاملة ومتنوعة للوضع في عين المكان. وعليهم التوفيق بين جبن القادة الباريسيين والتهديدات الرقمية لجماعات الضغط لليمين الإسرائيلي، ناهيك عن وضعهم الاقتصادي الهش. ما يجعل نظرتهم ثمينة أكثر حتى وإن كانت الوسائل التي تفسح لهم المجال تزداد ندرة. وسيكون صمتهم أشد الهزائم مرارة. لكن ليس هذا هو الحال بعد.

[ترجم هذا المقال من الفرنسية حميد العربي.]

 [تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورينت] 

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • جدلية في شهر (أيار 2025)

      جدلية في شهر (أيار 2025)

      نستعرض أدناه المواد التي نشرت في جدلية الشهر الماضي.

    • ترشيحات مسموعة (19)

      ترشيحات مسموعة (19)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

    • ترشيحات مسموعة (18)

      ترشيحات مسموعة (18)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬