ترتطمُ أنهارُ الوجود بحائطِ العبث، وتتلاشى بتأنٍ كما يوڤا، تسقط من سيّارة والدها أثناء الهرب من الموت.
تعجَّلَ القيادة خوفًا على 21 هاربًا في سيّارته، إلى أين؟ أماته قبل موته عمله، لكن مالّذي حصل ليوڤا؟
يمكنك أن ترى، أو تتخيّل، إثنين وعشرين شخصًا، رجالًا ونساءً، يتكوّرون في مؤخرة سيّارة لنقل البضائع، ينحنون كُلّما سمعوا صوت إطلاق النار، منذرًا بليلٍ يتشرّب ما تبقى من خيوط الضوء، ماسحًا برفقٍ على جبين السلام لينام، وطاردًا الحياة بصرخة تشق طريقها إلى أذن الحياة تفزعها.
هذه الأرض للموت، أهل هذا الوطن يسكنون المقابر وبلاد المهجر ومخيمات النازحين، يسكنون كل شبرٍ من الأرض والسماء سوى وطنهم، فهل هُم هم؟ وهل وطنهم وطن؟
الشمسُ تضرب بسياط حرارتها اللاهبة على السيّارة، تحاوِلُ يوڤا التحكم بخصلاتٍ هاربة من ربطة شعرها البلاستيكية، تغمض عينيها البنيّتين، وجهها حنطي استعار بياض غيومٍ سكنت سماء الصيف، سماء أوصدت نوافذها وأبوابها لئلا تسمع صرخة، أو رصاصة.
سقطت يوڤا من السيّارة، وسقطت معها المدينة، قلوب والديها، وأحلام طفلة لم تعرف معنى الموت.
أضحى ليلها خريفًا، وأنا، أتخيّل، علّي أملأ فراغًا يسكنني بالحزنِ، غير أنّه يبقى فارغًا، أسمع الريح تعوي داخلي، وتعصفُ ثم تسكن.
أقفُ كُلَّ الشتاءات فاغر الفاه، علّ قطرةً من الأمل تسقي حقل الوجود في قلبي، العبثُ يغزو ويفوزُ، لا أجسرُ على السخريةِ من ألمي، لا أجسرُ على تجاوزه، فأفسحُ له مجالًا في خيمتي، ليسكن مع ثمانية أشخاص، نحيلٌ هذا الألم، يعتاشُ على قلبي الصغير.
أفكِّرُ بماهية الحرب، ماذا تكون؟ ليس هناك تحليلٌ ولا تفسير للحرب، ولا انتصارٌ، ولا بقاءٌ، الحرب ممحاةٌ وهذا الوطن سطور من كلمات تشبه يوڤا.
القتلة وأولاد الكلب والمجرمون، كلّهُم ولدوا هنا، بجوارنا، ربما فصل بينك وبينه جدارٌ طيني أو شارعٌ غير مبلط، لحظة واحدة، تجعله قاتلًا وأنتَ مقتولًا، لحظة الضغط على الزناد، هي الفرق بينكما، في وجودكما.
في سيلٍ من غيث الأمطار، تحمل بلوزة وردية اللون، أرى نفسي، أمضي مُسرِعًا نحو اللاأدري، أرتطم ثم أعاود الركض، دون توقفٍ، دون وجهة، تائهًا هائمًا غارقًا في اللحظة الحالية، أحاول إيجاد سبب لعبث اللحظة، بينما اللحظة تضيع.
مدينة الخيم لا تعرفني، لا تخمِّنُ أي حديثٍ يختبئ وراء سكوتي، ليل المخيم لا يعرفني، لا يعرف كم ضوءًا يهربُ مني.
افكر لوهلة، بافتراضٍ مستحيل؛ (لو) نجت يوڤا، (لو) لم تقع، (لو) بلغت سيارة والدها حدود كردستان، وسكنت في هيكل بيت من طابق واحد، ساعدت والدها في تغطية النوافذ بالنايلون، اتقاءً لحرارة الصيف، ووقفت معه في طابورٍ لاستلام أسرّة رصاصية وخبزًا جافًا وعصيرًا كل يوم، ثُمّ هربت معه إلى مدينةٍ أخرى لأنّ كل ساكني المدينة هربوا، خوفًا.
وسكنت في مدرسةٍ كردية أقصى الشمال العراقي، ثُمّ صارتْ تشحذ في البيوت الكردية تطلب ثلجًا، في الصيف، وستائر وأغطية في الشتاء، تطردها سيّدة كردية وتضربها، تقع على الأرض وتبكي.
ثُمّ حين تتجهز مدينة الخيم، تسكن خيمة مع عائلتها، وتساعد والدها في تغطية جوانب الخيمة ودفنها تحت الأرض، ثُمّ تبيع الحلويات على حصيرة في رأس شارع الخيم، تكسبُ ألف دينارٍ أو ألفين، ثم تمشي مع والدها لتسجيلهم نازحين في المخيم، وأصبحت مشردة رسميًا، ثم مضت الأعوام، عام تلو الآخر، وهي تكبر، دون خصوصية، خارجة من رحم الحرب أكثر من رحم أمّها، تنضج في مدينة خيم، ثم تحترق خيمتهم، بسبب تماس كهربائي، بعد سبعة أعوام في المخيم، يقرر والدها العودة إلى شنگال، تتقلب في فراشها طوال الليل وهي تفكر بما سوف تراه، تحتضن أمّها التي تتململ نائمة، تقضي الليل في مهد الأرق.
في الصباح، تسافر كل الطريق إلى شنگال، رأسها محني نحو زجاج النافذة، نائمة.
توقظها أمّها لتساعدها في تنظيف البيت.
صفّين من الغرف المتقابلة، مهدمة سوى غرفتين، فتبدأ بإزالة شبكات العنكبوت وأعشاش العصافير الغائبة، وبيوت النمل.
تغسل الجدران بحذر، لأن المياه مقطوعة، وتحضِّرُ (لالة) لقضاء الليل على أنوارها، لأن الكهرباء مقطوعة.
تحمل الأسرّة وتصعد بها إلى سطح إحدى الغرف، تفرش الأسرّة، تنام في الهواء الطلق وهي تشاهد النجوم، تتنفس ملء رئتيها، أوكسجينًا نقيًّا لم يشبه دخان النفايات المحروقة في المخيم، ولا أشجار القمامة في رؤوس الشوارع.
تنام ملء جفونها غير مكترثة بما سيجيء غدًا، "تحب الحياة غدًا، عندما يأتي الغد، سوف تحب الحياة، كما هي، عاديّة ماكرة، رماديّة أو ملونة" تتمرد على حالها بلحظة فرحٍ تخبئها عميقًا في صدرها، ينشرح صدرها، شهيق، زفير، شهيق، زفير، شهيق.
الطائرات التركية تقصف القرية
وتموت يوڤا.