حوار بين الخستاوية والنواية:
على يمين باب البستان وحال الدخول اليها مباشرة تشمخ نخلة الخستاوي التي يزهو عمرها على الستين عاماً. ومركز البستان يزهو بشجرة برتقال عمرها خمسون عاماً، اسمها النواية لأنها ناتجة عن زرع بذرة برتقالة على غير أقرانها الناتجة من تركيب جذر نارنج على برعم برتقال لاكتساب قوة جذع النارنج في مقاومة أمراض التربة وبعض حموضة النارنج.
النخلة تتمايل مع نسمات الهواء وتتموج سعفاتها بإيقاع راقص لتسلي عذوق التمر المرتكسة على بعض أغصانها بشبه انتظام وتشكل شبه دائرة صفراء تجذب الطيور أيام الصيف.
النخلة متثائبة مخاطبة النواية: ماذا حصل لنا؟ هل من معين؟ هل تذكرين أيام العز حين كان مثابر يتسلقني بالتبلية في أوائل أيلول لكي يجني رطبي ويوزعه على الجيران؟ لقد دربته على تسلق جذعي وهو ابن الخامسة عشرة. مرة انزلقت رجله اليمنى وكاد أن يهوي. تألمت كثيراً ووبخت الكربة الرطبة والسايفة التي خانت قدمه. تعلم مثابر بعدها أن لا يضع ثقله إلا بعد التأكد من صلابة الكربة. لقد ارتجف واصفر وجهه في أول تمرين في الحس الأمني. ثم أصبح يتسلق بمهارة. كنت أشعر بأنامله تداعب تمراتي وتفردها هل تعلمين أن ذلك كان يساعد التمرات على النضوج لكي يجنيها في المرة القادمة. يذكرني ذلك بالعلاقة بين البلبل والتين ينقر البلبل التينة ثم يعود لها بعد أن يتخمر مكان النقرة فيلعقها ويسكر ويغرد أشجاناً وألحاناً تطيب لها الخواطر وتتراقص معها الاوراق. تصوري أن يفيق البلبل ويجد البستان خالياً من التين؟ إنها مصيبة تشبه موسم قصاص النخيل حين يصحو مثابر ويجدني بلا جدائل.
النواية: صحيح لكن عزاءه أن موسم القداح قادم. كان يراقب قداحي ويسكر برائحته لقد كان يغار علي حتى من الطيور خوفاً من أن تثقل على أغصاني حين تحط عليها. لقد عاشر الطيور والفراشات لكي ترفق بي. كان يفضل عسل الربيع المتكون من قداحي على عسل الصيف الداكن المتكون من تمرك. لم يقل لي ذلك ولكن كنت أشعر به حين يشم العسل قبل أن تلامس قطراته نهاية لسانه. قال لي إن مقدمة اللسان مخصصة للحلاوة أما جانبيه فبراعمها تتحسس الملوحة ويستخدمهما للكرزات. أما قاعدة اللسان فإنها تستشعر المرارة، أبعده وأبعدك عنها. كان أحياناً يشعر بالمرارة حين ينقطع الماء في الصيف ويحزن. كان يجلب لي الماء من بئر قريبة حين كنت يافعة وجذوري لم تمتد إلى باطن الأرض عميقاً. كان يقول حين تهب الريح وترقص لها أغصاني: ليتني أكون ريحاً تداعب خصلات شعرك الأخضر. كان ينتظر موسم القطاف لكي يتباهى بثماري أمام أصدقائه.
النخلة: هل تذكرين كم كنت أحميك من حر الصيف؟ كنت أتلقف الهبوب الحارة ويملأ غبارها صدري فقط لكي لا تمس ناره عروقك اليوم كم خجولة أنا حيث أصبحت سبباً لتعاستك. يقطر دوباس النخيل من عروقي سماً عليك فتذبلين. إنه مرض يقتلنا نحن الاثنين ببطء. لم تعد هناك مكافحة ولا اهتمام. كنت أيام البرد القارس أتصدى للبرد والحالوب ولم أدعه يمرمر برتقالاتك المزهوة بصفارها. لماذا نحن هكذا؟ هجرتنا الطيور والنحل، بل حتى الغربان. أما مثابر فلم يعد.
النواية: أنا متيقنة أن مثابر لم يتوقف عن تذكرنا. أسأل الريح عنه أحياناً والطيور المهاجرة. مرة سألت السنونو ومرة سألت نسمة صيف ترفة تتموج بين ثنايا أوراقي وتغازلها وقالت إن مثابر حملها أبهى تحياته لنا وتذكرنا خاصةً حين اقترب من الموت في كردستان أكثر من مرة. لقد أوصى الريح بان تبلغ تحياته لنا وقال: خل "يحاللوني ويواهبوني" عن أي تقصير. لقد دمعت عينا الريح وقالت نيابة عناً: محالل وماهوب ليوم القيامة. لقد قال لها إن بقايا عبق القداح الملتصق في أعماق رئتيه أنقذه من الضياع أكثر من مرة. قال لها إن لديه الكثير من القصص سيحكيها لنا إذا عاش وعاد. لقد حمل طائر السنونو رسالة إلى مثابر فيها:
هاك بوسة لعينك الحلوة كحل
شوف بيها أحبابك وناغيها
هاك وأدري الغربة أبد ما تنحمل
مرة صعبة بحيلك تلاويها
هاك وأدري بدمعتك ترفة وتهل
وأدري بيك بمستحة تلاويها
اشما ثگل غيم الوكت باچر يطل
فجر جيتك وإحنة المتانيها
النخلة مبتسمة: أتذكر حين كان يأتي مثابر مع حبيبته كنت أراقب الطريق من كل الجهات. مرة كدت أموت حين جاء والده مسرعاً من المقهى وفي غير وقته. كم ارتحت حين عبر باب البستان وتوجه إلى البيت. حينها عرفت أن مثابر ليس هو الهدف.
النواية: كنت استرق السمع لأحاديثهم. كانا يقفان في ظلالي. أحياناً يمر وقت صمت. يتخاطبان بلغة العيون فقط. كانت تنزل العباءة السوداء إلى مستوى أكتافها ويظهر شعرها الأسود المتهدل. مرة استرق مثابر بخجل قبلة من الجبين. تصوري! من الجبين. كم كان خجولاً. حتى الحب كان التزاماً لديه.
النخلة: كان مخلصاً لي كثيراً. مرة واحدة فقط تسلق نخلة التبرزل ذات الرأسين لربما للتحدي وليس حباً بتمرها. لم أبتسم له لمدة أسبوع. كان يقول لي: إنك مثل السجاد الإيراني. كلما كبرت يصبح تمرك أحلى. ماذا سيقول اليوم إذا ما شاهدني. علي نذور لو رديت يا مثابر وتلاقينا لسوي سعفاتي إلك شمعات تضوي بصواوينة! سعفاتي التي جفت منذ افترقنا وكرباتي التي زحلقت كل من حول أن يتسلقها من بعد أقدامك الترفة.
وقت تركيس العذوق كان يتسلق بعناية. كان يلوي عنق العذق الذي يتألم قليلاً ثم يحطه على سعفة قريبة بتأن وهكذا مع بقية العذوق حتى يصنع دائرة من العذوق حول رأسي تشبه طوق العروس. تعذره العذوق حين يصفر التمر ويصبح الطوق كقلادة ذهبية أزهو بها لحين وقت القصاص. كنت كالعروس تزورني الطيور مهنئة ثم يأتي مثابر لكي يداعب القلادة في أواخر آب. لم أكن أشعر بالحر. في موسم التكريب كان مثابر يقص السعفات الشائخة بسكين مقوسة بعناية ثم يشطبها من المركز فتبدو كحزام خصر أتباهى به. في موسم القصاص كان يكلف مثابر صديقه. لم يستطع أن يتحمل منظر تقطيع قلادتي إرباً إرباً.
النواية: هل من الممكن أن يأتي مثابر ويعيد مجالسه في رعايتي؟ كم تعلمت منه! كان يتحدث أحياناً مع من معه من أصدقاء عن أمور لم أكن أفهمها إلا انها مرتبطة بهموم الناس. كان الفلاح والساقي والحارس يحضرون بعض الجلسات ويصغون إلى حديثه ويأتمنونه على أسرارهم. كان يقول لهم: أنتم ملح هذه الأرض. بدونكم سوف لن تبزغ شمس أو تبرعم شجرة. كان يشكرهم حتى على رائحة القداح وكان يمازحهم أحياناً ويوصيهم بنسائهم خيراً. لقد اشتكى عبود مرة أمام مثابر من زوجته ورفضها معاشرته ليلاً. قال مثابر عليك أن تقتدي بالرسول حيث قال: ولا ترتموا بأنفسكم عليهن كالبهائم بل اجعلوا بينكم وبينهن رسلا. فسأل احدهم: وما الرسل يا رسول الله؟ قال: القبل ومداعبة الثدي. قال عبود: هي بس هاي عايزة ونصير گواويد!
استرسلت النواية: مرة وحدة كان مثابر مذعوراً حيث جاء على عجل في يوم صيفي قائظ مع أكياس من الكتب دفنها تحتي وأوصاني بها.
النخلة: ومرة جاء مع صديقه الضرير. لقد داهمتني خلية نحل منشقة، فيها آلاف من النحل يتبعون ملكتهم في وقت انشقاق خلايا النحل. اتخذت المجموعة من إحدى سعفاتي مستقراً لها فشكلت ما يشبه العنقود. مثابر تسلقني ومعه حبل. عمل حزاً في السعفة ولف الحبل عليه ثم قطع السعفة بعناية دون أن يستفز النحل. كان يرتدي ما يشبه القناع. أنزل السعفة بهدوء. قبل أن تصل الأرض تلقفها صديقه ونفضها في صندوق معد لهذا الغرض ثم تركها لحين استقرت والتف الجميع حول الملكة ثم أغلق الصندوق. هكذا حصد خلية نحل جديدة أضافها إلى خلاياه الكثيرة. خفت عليه من لسعات النحل. كان الأمر جديداً وغريباً علي وما أدهشني أكثر أداء صديقه الضرير الذي لسعته نحلة في وجهه وأخذ يؤنب مثابر على فعلته.
تدرين حتى خلايا النحل ماتت بعد أن غادر مثابر؟ فقدت حنانه ورعايته وفقدت شهيتها على الرحيق.
اليوم ونحن على مشارف النهاية نجتر ذكرياتنا ونسعد بها ونعض شفاهنا على ما أصابنا، فهل من غد أفضل لبناتنا؟
(النواية برتقالها حلو. يعني أحلى من البرتقال العادي الذي هو أصلاً مركب على جذر نارنج لمنحه صفة المقاومة ولكن يكتسب إأضاً بعض حموضة النارنج. المشكلة أن شجرة النواية فيها سلي كثير. يعني تسلقها ليس سهلاً. شجرة النواية ترتفع أعلى من شجرة البرتقال العادي. أحب النواية لحلاوة ثمرها ولظلها الوارف وإذا أردت أن تضيف شاعرية للمشهد بإمكانك أن تقول إن الثمرة لا تأتي الا بمشقة ولذلك فهي أشبه بالحياة. أنا لم أزرعها فهي أكبر مني ب-15 سنة. كما أخبرتك هي تنمو من زراعة بذرة برتقال على غير أشجار البرتقال العادية المركبة على جذع نارنج. مرة كان عمري 10 سنوات اصطحبني أبي معه اأكر من المعتاد إلى البستان وطلب مني تسلق النواية وبيده زنبيل. كان الوقت فجراً وكان يريد أن يأخذ هدية علاوة إلى بغداد حيث كانت عادته أن يتفقد الأقرباء والاصدقاء كل موسم. تسلقت النواية وصرت العب مع أغصانها وأقطف البرتقال وأرميه إلى الزنبيل بيده. تسلقت أحد الأغصان الضعيفة فنزل بي مسافة إلى الأسفل وأنا أتنقل كالقرد بين الأغصان. اأي خاف أن أسقط فصاح: إنزل هيچ فرتقال هم ما ينراد. أنا جايبك من الصباحيات تلعب أكروباتيك!)