أنطولوجيا الشعر الأفغاني الحديث
مريم العطّار
(دار المدى، بغداد، 2021)
***
جدلية (ج): ما الذي قادك نحو الموضوع؟
مريم العطار (م. ع.): الذي قادني في المقام الأول هو التشابه. شعرت أن ثمّة تشابهًا كبيرًا بيني وبين هذا النوع من الشعر؛ الشعر القادم من مناطق مظلمة وباردة لا يصلها الضوء، شعر يأتي من الهامش والفقر والحروب، شعر محوره في الأساس الإنسان، الإنسان الذي رغم كل هذا الفيض من المعاناة استطاع أن يواصل عملية الكتابة والخلق والإبداع.
(ج): على أي أساس اختير الشعراء/الشاعرات ضمن الأنطولوجيا؟
(م. ع.): اختير الشعراء في هذا الكتاب بعد مراجعة طويلة لنتاجهم الشعري. بعد ذلك تواصلتُ مع اتحاد الأدباء في أفغانستان واجتمعت بنقّاد وكتّاب أفغان قدموا لي أسماء كثيرة اخترت منها مجموعة متكونة من 35 شاعر وشاعرة، ابتداء من مواليد 1953 ولغاية 1995، وهذه الكوكبة هي نموذج من الشعراء الذين يكتبون الشعر الحُرّ، وقصيدة النثر. ووقع الاختيار على من يسكن في داخل أفغانستان وخارجها حتى يكون نموذجًا متكاملًا، رغم يقيني أن ثمّة شعراء مجهولون ما زالوا يكتبون قصائد جميلة دون أن يلتفت لهم العالم أو حتى يعرف عنهم، ولكني حاولت وعلى قدر استطاعتي أن أُسلط الضوء على بعضٍ منهم.
(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب، هل هنالك ثيمة معينة؟
(م. ع.): لا، ليست هنالك ثيمة محددة. كل الشعراء الذين وردت أسماؤهم في هذا الكتاب ينظرون للعالم من زاوية ومكان مختلفين، الثابت والمعيّن في هذا النوع من الشعر هو العالم، والإنسان، والمعاناة، والظلم، والجور، وما إلى ذلك.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والترجمة؟
(م. ع.): فكرة إعداد مجموعة أنطولوجية، والدراسة والبحث عن كل ما كتبوا، وانتقاء الأفضل والقابل للترجمة كان تحديًا صعبًا. أفغانستان بلد متعدد الأعراق، منها الطاجيك والهزاره والبشتون، وفي هذا الكتاب ترجمت الشعر الأفغاني الذي كُتب باللغة الفارسية، ولكن وردت في معظم القصائد كلمات ومقاطع شعرية باللغة الأفغانية (الدَّرية)، وكنت حريصة جدًّا على البحث وإخراج أصل الكلمة ومفهومها لكي أستطيع أن أترجمها إلى اللغة العربية، خاصة وأنني تحملت مسؤولية تقديم هؤلاء الشعراء لأول مرة إلى القرّاء. لم يكن الأمر مجرّد بحث عن شخص واحد بل عن جيل كامل بعدة طوائف وقوميات، لكن ساعدتني كثيرًا الاتحادات الأدبية وساعدني الشعراء الأفغان كبار السن.
(ج): كيف تمارسين الترجمة، هل يمكنك إطلاعنا هل الأسلوب الذي اتبعته؟
(م. ع.): عملية الترجمة من لغة إلى أخرى ومن ثقافة إلى ثقافة ثانية ليست بالعمل الهيّن أبدًا. أنا أترجم من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية، والأمر يتطلب أن يكون المترجم على دراية بأسرار كلا اللغتين. اللغة الفارسية لها قواعدها وضوابطها التي قد لا تنسجم مع ضوابط اللغة العربية في كثير من الأحيان، هنا يأتي دور المترجم كي يوازي بين اللغتين، هذا جانب، أما الجانب الآخر وهو التوغل في روح الشعر والشاعر بالتحديد، كي ينقل ما يراد ترجمته بكل أمانة وأصالة. ليس لديّ أسلوب محدد في الترجمة، فأنا حين أترجم قصيدة، أشعر بأنني أنا صاحبة القصيدة، رغم أنها ليست لي ولكن هذا التقمص والولوج في عوالم الشاعر أمر في غاية الصعوبة. والأمر هكذا مع كل شاعر تعاملت مع تجربته الشعرية.
(ج): هل يمكنك إخبارنا عن نوعية المصادر التي استخدمتها في البحث وانتقاء الشعراء؟
(م. ع.): فيما يخص المصادر، بالطبع كانت الكتب المطبوعة والمتوفرة لهؤلاء الشعراء هي المصدر الأول. وقبل كل شيء، اخترت مجموعة لا بأس بها من الكتب وطالعتها مطالعة جيدة. أما الشعراء الذين لم أحصل على كتبهم، أخذت نصوصهم من مواقعهم الخاصة عبر الإنترنت، واخترت القصائد التي كنت أراها جيدة ومناسبة.
(ج): كيف يتموضع هذا الكتاب في الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
(م. ع.): هذا الكتاب أنطولوجيا مكوّنة من قصائد مجموعة من الشعراء المعاصرين. سابقًا، وعن دار المدى أيضًا، ترجمت كتاب أنطولوجيا الشعر الفارسي الحديث، وكان التفاعل معه جيدًا نوعًا ما. في النهاية، الكتاب هو لمحبي الشعر، ولأولئك الذين يرومون التعرف إلى الآخر والى العالم عمومًا، من خلال بوابة الشعر.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(م. ع.): هذا الكتاب الأول من نوعه، أعني الترجمة من اللغة الأفغانية. مسؤوليتي في هذا المسار كانت تقديم أصوات جديدة ومختلفة، وقصائد تحتوي على قيم وجمال وحقيقة. أود الإشارة إلى أنني، وخلال مسيرتي، أخرجت صوت شعراء شباب كانوا في ميادين الحرب ولم تمسخهم الحروب إلى كائنات بائسة متوحشة. على العكس من ذلك تمامًا، ثمّة صوت إنساني عميق في أرواحهم، رغم ما في الحرب من مآسٍ ومرارة. هؤلاء الشبّان تحدوا كل المصاعب التي كانوا يواجهونها ولم يستسلموا، بل واصلوا الكتابة وأنتجوا إبداعًا حقيقيًا، يمكنني القول بأنني كنت محظوظة في نقله إلى لغتنا العربية.
(ج): من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأملين أن يصل إليه القراء؟
(م. ع.): أنا أترجم لقلة قليلة من الناس، لأولئك المهتمين بالشعر، والذين لديهم إيمان عميق به. يهمني كثيرًا أن يُقرأ الكتاب بعين دقيقة بصرف النظر عن عدد قرّائه، ويهمني أن تُسمع تلك النبرة الحزينة التي تقف وراء كل نص ووراء كل قصيدة. كل قصيدة تحمل سرًّا وهذه هي مهمة القارئ، أن يكتشف وأن يبحث عن هذا السر العميق الكامن وراء كل تلك الأشعار.
(ج): ما هي مشاريعك المستقبلية؟
(م. ع.): أعمل على ترجمة الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الإيراني أحمد شاملو. ولدي مخطوطات جاهزة منها "مختارات شعرية للشاعر الإيراني حسين بناهي"، وقصيدة طويلة بعنوان "إسماعيل" للكاتب الإيراني رضا براهني، ومجموعة شعرية ثالثة بعنوان "أكلوا رمانة كتفيها" من تأليفي.
مقتطفات من الكتاب
مُراهِقةٌ فوقَ الخراب / الشاعر مجيب مهرداد
الآنَ
باشتباكِ غصنٍ يافعٍ على جلدِ عنقِكِ تحمرّينَ
وبلمسةِ إصبعٍ على وجنتيكِ
العالمُ يسودُّ في عينيكِ
تقتطفينَ الثمارَ الناضجة
من الأشجارِ التي أصيبتْ بشظايا
من الفاكهةِ التي أصيبتْ بشظايا
تضعينَ فوقَ رأسكِ سلّةً منها
تتمشين في الطُرقِ الريفيةِ..
الريحُ من كلِّ الجهاتِ تأتي برائحةِ اللحمِ المحروقِ
تحمينَ جسدَكِ بمعطفكِ أكثر
حتى تظهرَ مفاتنُ جسدِكِ أمامَ القرويين الحزينين
الأشجارُ لا تصطدم بجسدِكِ
مئاتٌ من الغصون المليئةِ بالزهورِ
يتحركنَّ في طريقِكِ
عندما تدعينني أمامَهنّ إلى امتصاصِ دمِّكِ
أنتِ مزدهرةٌ بما يكفي
ولا تتأثرينَ بصراعِ جغرافيةِ الحروبِ
أنتِ تستطيعينَ أنْ تمنحيني الفرحَ
حتى أرتشفَ دم البحرِ..
أنتِ نضجتِ فوقَ الدمارِ
مثلَ بيوتٍ مهجورةٍ كشفتْ عن ملاجئها
تلك الملاجئ التي كانت تخبئ المقاتلين الجرحى غير البالغين!
أحياءً كانوا أم أمواتًا
كانوا يصلونَ إلى النشوةِ من دماءِ العدوِ
حالما نضجت الثمارُ
على وجهِكِ ظهرت الندوبُ
حولَ الشجرةِ
أَلفُّ جسدَكِ
الذي غَطى ارتفاعي
كغصنِ لبلابٍ متعطشٍ للدماءِ
أنا أيضًا لمرّاتٍ عديدةٍ
وعندَ نُضجِ الفاكهةِ
كثمرةٍ طازجةٍ على جذعِ شجرةٍ، اعتصرتُكِ
تَدَفَقَ ماءٌ عذبٌ من كلِّ مساماتِكِ
الآنَ
خرجتِ من بينِ الأشجار
تمشيتِ على الأنقاضِ
عانقتُكِ كجنديّ العدوِ من الخلف
وفي المخبأ
سأخنقُ
أصواتَ أنينكِ.
بصحّةِ بساتين العنب المعلّقة / الشاعر الياس علوي
"إنْ شاءَ الربُّ و نَضَجَ العنَبُ"
العالم سيثْمَـلُ
سيخرجونَ إلى الشوارعِ سُكارى..
يضرِبونَ على أكتافِ رئيسِ الجمهوريةِ والمتسوِّل..
الحدودُ ستثملُ
(محمد علي)
بعد سبع عشرَة سنة يرى أمَهُ
(آمنة)
بعد سبع عشرَة سنةٍ
تلمسُ طفلَها
إن يشاء الربُّ، العنبُ سينضِج
وذلك الهندوسيّ يفكُّ أسرَ ابنتِه
وللحظةٍ، سينسونَ المدافعَ والذبحَ..
ينسونَ السكاكينَ..
والأقلامُ ستكتبُ.
كفى نارًا.. كفى رَصاصًا
إنْ شاءَ الربُّ، ستصِلُ الجبالُ بعضَها
والبحارُ تخدشُ بأظافرِها السماءَ وتسرِقُ القمرَ
الأسودُ تذهبُ برِفقةِ الغِزلان إلى الحاناتِ
إنْ شاء الربُّ..
الثمالةُ ستصلُ
إلى الأشياء
إلى النوافذ
وتتهشمُ الجُدران
وأنتِ..
كلّما تقبّلينَ حبيبَكِ بقوّةٍ، تتذكّرينني
حبيبتي..
حبيبتي المرميةُ بعيداً..
أعطني كأسًا آخرَ
بنَخبِ بساتين العنبِ المعلّقةِ.
الشاعرة باران سجادي
1
لا يوجد أحدٌ هنا
شمعٌ وحزنٌ
كلُّ شيءٍ مهيّأ للجنون
من أين أبدأ؟
سيبدأ جنوني من سلالمِ الحديقة
تلك العتباتُ الشهيرة
ماذا نفعل هنا؟
روحٌ من دون جسدٍ
وألفُ عاشوراء تبكي في عيني
الدينُ يضغطني
السياسةُ تضاجعني
أبي يرقدُ على كفِّ يديّ
أبي.. أبي..
ترى كم ثمن روح أبي؟
هناك مسافةٌ طويلةٌ بيني وبين حواجبي
أحدُهم بكى أسبوعًا
دونَ أن يَعدَّ دموعَه
يجبُ عليَّ أنْ أزرعَ نفسي في الشارع
شارعٌ لا تتأذى به أحذيتي
هل الربُّ ميتٌ؟
الربُّ يعيشُ بكلِّ لحظةٍ في جهلي
وأجسادُنا جميعًا تموتُ لأجلهِ.
هدايا مرتابة / الشاعرة فاطمة روشن
هنا، في أفغانستان
سككُ القطارِ مدورةٌ
المحطاتُ مصنفةٌ بالأرقام
كلُّ العرباتِ من الدرجة الأولى
مسؤولو القطار
ينحنون احترامًا للجميع
يبتسمون للجميع
يمنحون الجرائدَ والمياهَ المعدنيةِ للجميع
هنا، أي، في أفغانستان
القطاراتُ سريعةٌ من دونِ ركّابٍ
لا أحدَ يأخذُ من المحطاتِ
تذاكرَ مجانيةٍ
والقطاراتُ المجانيةُ على السككِ المدورةِ
لها أصواتٌ حزينةٌ
الأطفالُ
عندما يشاهدون السككَ يصرخون
الشيوخُ يعتقدون أنّ العربات الفارغة
هدايا مرتابةٌ
عاجلًا أم آجلًا
ستخرجُ القطاراتُ من السككِ المدورةِ
كلُّ شيءٍ سيئٍ أو جيدٍ
سينتهي ذاتَ يومٍ.