تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة
شادي لويس
(دار العين للنشر، القاهرة، 2021)
***
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النص؟ ما هي منابعه وروافده، ومراحل تطوّره؟
شادي لويس (ش. ل.): كان من المفترض أن تدور أحداث الرواية خلال ثلاثة أيام من حظر تجوال فُرض على شرق القاهرة، في نهاية الثمانينيات. حضرت تلك الأحداث في طفولتي، وخلّفت أثرًا في ذاكرتي من نوع خاص، يقع في منتصف الطريق بين الرهبة من العالم والتحرر منه. ما حدث هو أن ما حاولت أن يكون مقدمة الأحداث أو تمهيدًا لها في الرواية أصبح هو صلبها، أي أن موضوع حظر التجوال غدا هامشيًّا. انتهيت من كتابة الرواية قبل الوباء، وربما لو تأخرت قليلًا، كنت سأكتب أكثر أو بشكل مختلف عن أيام حظر التجوال، العزلة المفروضة علينا بوصفها حماية وسجن أو كخلاص وعقاب في الوقت نفسه.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(ش. ل.): العنف، واحد من الثيمات الرئيسية، العنف بكل أشكاله، وبالأخص الخفي منه والمقبول، العنف المعنوي والمؤسسي والمتضمن في علاقات الأسر والصداقات الطفولية ومؤسسات التعليم والرعاية الاجتماعية ونظام التجنيد الإجباري، وصولًا إلى الصور الأكثر مباشرة كالعنف الديني والأمني. تأخذنا الرواية إلى الثمانينيات الهادئة، أو التي تبدو هادئة على السطح، لأسرة قبطية صغيرة من الطبقة الوسطى، وتعامل أفرادها مع العنف الذي يغلّف كل شيء من حولهم. الثيمة الأخرى هي اللغة، أو بالأحرى اللغة كعنف، كبنية للهيمنة والإخضاع والعزل والاختباء والتقسيم والهروب. تتبع الرواية في مسار مستقل لكن يتقاطع مع الأحداث، تاريخ للغة من أول آدم، مرورًا ببرج بابل حتى الترجمة البروتستانتية للكتاب المقدس إلى العربية. تشتبك هذه الثيمة مع موضوع آخر هو تاريخ الطوائف البروتستانتية وحاضرها في مصر. وإن كان معظم ما أشير إليه بالتاريخ، هو تاريخ أدبي، مختلق في معظمه ويتأسس على قليل جدًّا من الحقائق التاريخية، وحتى تلك الحقائق القليلة فإنها تذوب بالكامل في خيال، بحيث تضيع معالمها بالكامل. فهو من جهة تاريخ حقيقي تمامًا ومن جهة أخرى مزيف بالكامل. الثيمة الأخرى هي المشي، وكانت هذه ثيمة غير مقصودة أو غير واعية؛ أحبّ المشي وأنفق ساعات طويلة في التمشية بلا هدف، وبعدما انتهيت من كتابة الرواية اكتشفت أن معظمها تتعلق بأناس يمشون، وفي شارع واحد معظم الوقت.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(ش. ل.): التحدي الرئيسي كان كيف يمكنني كتابة رواية تدور معظم أحداثها في بضع ساعات، دون أن يفقد القارئ حماسه أو تركيزه أو تعلقه بالنص. هذا التكثيف الزمني والحدثي، تقاطع معه تداخل للذاكرة مع تيار الوعي والتأملات الفلسفية والتفسير اللاهوتي مع السرد البسيط والحكاية داخل الحكاية وإعادة السرد والتاريخ المختلق، وكان السؤال هو كيفية توليف كل هذه العناصر في وحدة تبدو متسقة ومتماسكة تربط السرديات الكبرى بالقصص الصغيرة في النص. ولهذا جاء العنوان الطويل للرواية، كتعبير عن هذا الطموح الإشكالي وبنفس القدر السخرية منه.
(ج): كيف يتموضع هذا العمل في الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
(ش. ل.): لا أعرف الحقيقة، ولا أعتقد أنني الشخص المناسب لتقرير ذلك. أو ربما يحتاج الأمر إلى بعض الوقت.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك والإبداعية؟
(ش. ل.): تشترك الرواية الأخيرة مع الروايتين السابقتين في أن الشخصية الرئيسية واحدة، أو تكاد تكون نفس الشخص. وقصدت أن تتعامل كل رواية مع مذبحة، مذبحة حقيقية ومنسية أو شبه منسية. كما تتعامل الروايات الثلاث بشكل ما مع فكرة الهشاشة، على سبيل المثال عالجتْ "على خط غرينتش" الهجرة كوضع هش، أما الرواية الأخيرة فتعاملت مع الطفولة والأنوثة كحالات أو تصنيفات هشاشة. كذلك الرواية تأتي في سياق محاولة الإجابة على سؤال ما معنى أن تكون قبطيًّا، كمشروع أدبي متصل بدأ من الرواية الأولى "طرق الرب".
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص في عملية الكتابة، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(ش. ل.): من الصعب الحكم أي من القراءات كان له تأثير خاص على كتابة نص بيعنه. كنت أقرأ كوتزي وأتشيبي وبولانيو أثناء كتابة الرواية، لكن هذه لم تكن المرة الأولى، كانت بالأحرى إعادة قراءة. أحسب أنها قراءة مريحة وحميمة أفضّلها أثناء الكتابة. لكن بشكل واعٍ كان هناك تأثير لمجموعة من النصوص الأخرى، ليست بالضرورة أدبية. مثلًا، عدد من الكتب البحثية عن تاريخ الإرساليات البروتستانتية، وبالأخص الأميركية لمنطقتنا، وكذلك أدبيات المدارس البنيوية وما بعد البنيوية للغة. وغير هذا كان الكتاب المقدس، وقصصه التي أعدت صياغتها بشكل واعٍ أو غير واعٍ في الرواية، كانت روافد إلهام رئيسية.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(ش. ل.): بدأت في كتابة عمل بعنوان "موهن يذهب إلي جنة الفردوس"، يبدأ في مزرعة تعاونية للبطاطا في بيلاروسيا مطلع القرن الماضي، وينتهي في قرية صغيرة في المنطقة الشرقية داخل السعودية. أتقدم فيه ببطء وعلى نحو متقطّع، بسبب انشغالات بعيدة عن الكتابة.
مقتطف من فصل الرواية السادس
في المرة الأولى التي ذهبنا فيها إلى بيت الأخت جنفياف كانت النار هي السبب. الحرائق التي لم تشتعل بعد، بقيت كامنة تحت السطح، نستمع إلى صوت طقطقتها ولا نراها، تتلظّى بهدوء، وفي الانتظار. ليلتها، عدنا أنا وبابا إلى البيت بعد مغامرة الصيد الفاشلة. كان وقت العشاء تقريبًا، والبيت غارق في ظلمة غير معتادة كأنها تخفي شيئًا داخلها. أشعلنا الأضواء، وتوجه بابا إلى المطبخ مباشرة، وهو ينظر حوله بتوجّس، ولم يكن هناك شيء في البيت يستحقّ تلك النظرات. كبَّ معدات الصيد الصغيرة في صفيحة الزبالة، ومعها بعض ممّا تبقّى من اعتزازه بنفسه. لم أكن واثقًا إن كان ينبغي مقاطعة ما يفعله أم لا، فقد بدا عليه الكثير من التأثر، أكثر ممّا يحتمل الأمر. لكنني استجمعت شجاعتي، وطلبت منه أن يعطيني علبة الطعم. وفي الحال ناولها لي، مع ابتسامة تشي بالامتنان، وكأن طلبي أعفاه من عبء هيّن لكنه يعكّر راحة البال.
وحين فتحت العلبة، وجدت الديدان ميتة وتفوح منها رائحة حَنونة كرائحة الطين الرطب ودورة الطبيعة. وفي الناحية الأخرى من المطبخ، رفع بابا ركبته وقصم عليها البوصة نصفين. فعل ذلك بغلٍّ أقرب إلى الإذعان، وصدر عن البوصة الفارغة من الداخل صوت تأوّه طويل، وبعدها كسر النصفين المقسومين بنفس الطريقة، مرة بعد مرة قِطعًا صغيرة. ظهر عليه الارتياح حين انتهى، ونفض يديه من فتات البوصة، بعد أن ألقى قطعها المحطمة في الزبالة. ولم نلاحظ أن ماما لم تكن في البيت، إلا حين فتحنا الثلاجة ولم نجد شيئًا مطبوخًا نأكله. تجوّل بابا في الدور الأرضي، بوجه شارد، وبعدها صعد إلى الطابق الثاني ونظر في غرفة النوم، ولم يجدها، وهبط مرة أخرى إلى الصالة، وقطعها بخطوات متسارعة، وتوجّه إلى المطبخ وفتح الباب الموصل إلى الحديقة الخلفية، وتلفت حوله ونادى عليها، واصطدم صوته بالأسوار التي تفصلنا عن بيوت الجيران ورأيت عينيه تفوران بالشر.
بعدها بربع ساعة وصلت ماما، قالت إنها كانت تشتري حاجة، وفتحت الشنطة الشبك التي في يدها لتريه، وبدأ هو في الخناق. ولم أكن راغبًا في التورّط في طقوسهما، كلاهما أراد أن أكون شاهدًا في مثل تلك الحالات، لأسباب مختلفة طبعًا. وقبل أن يجدا الفرصة لاستدراجي، أدرت ظهري، وجريت إلى الدور العلوي، وهناك جلست على واحدة من درجات السلم التي عادة ما تحتفظ ببرودة منعشة في الأيام الحارة، وشغلت نفسي باستنشاق علبة الدود، ووجدت شيئًا باعثًا على الاسترخاء في رائحتها الأرضية.
كانت أصواتهما تعلو بالصياح، وتعود لتهدأ مرة أخرى، في موجات متتابعة ويصعب توقعها، وسمعت بابا يقول شيئًا عن جارنا الأستاذ شعبان، وأمورًا كثيرة قبيحة عن ماما. كان يلقي بشكوكه التي لا تهدأ في كل خناقة، ولم يظهر أنه يصدق نفسه فعلًا، لكن فهمت من ردود أفعالها أن الشكّ في حدّ ذاته عقابٌ قاس للنساء أو على الأقل تهديدًا قائمًا به. اهتز صوتها وهي ترد، قالت إنها كانت في انتظار عودتنا بالسمك لتقليه، هذا كل شيء، "فين السمك بقى؟". ومرّت لحظة مشدودة بحبال الترقب، وفجأة سمعت الخبطة الأولى وصراخها يلحق بها.
لم يزعجني الأمر. صحيح انتفضتُّ على وقع الخبطة المفاجئ، لكن بمجرد أن يتنبه المرء إلى أن هناك ضربات قادمة، وتتوقعها الحواس المدربة، لا يبالي جسدك بعدها، كل ما تحتاجه أن تكون مستعدًا ولو بشكل غير واعٍ.
تابعت عبثي بالدود الميت. فهمت أن بابا يضربها. سيستمرّ صراخها لدقائق، ويعود هو إلى غرفته بعد أن يرزع الباب خلفه. ستبكي نصفَ ساعة وأنا أطبطب عليها، ويحل السكون بعدها. سننام كالموتى المجهدين، فالنومات الأكثر عمقًا تأتي بعد البكاء الطويل، ومعها أحلام براقة واضحة الألوان. كان هذا ما يحدث دائمًا، طبيعة الأشياء، ودورتها الرتيبة، ببساطةِ تعاقب الفصول، وحركة الشمس على قوس السماء، والذهاب إلى المدرسة والعودة منها.
وحين فعصت الدودة بين أصابعي، خرج المعجون البني الفاتح من الجانبين، قربته من أنفي وملأت الرائحة السخية خياشيمي. ومن الأسفل صعدت أصوات الضربات والصراخ، كانت تتداخل مثل جوقة حزينة، وتضخّم صدى تشوشها في صندوق السلم. وبشكل لا إرادي، وضعت قطعة من جسد الدودة الممزق في فمي، حركتها بلساني لتصبح بين الضروس الخلفية، وضغطت بقوة، ونزت أحشائها اللزجة على جانبي اللثة مختلطة باللعاب، واجتاحتني دغدغة غامضة من اللذة، من النوع الشبقي والغريزي الذي يشعر به الأطفال حين يحطمون شيئًا بأياديهم الصغيرة أو يؤذون كائنًا أكثر هشاشة منهم.
في أيامنا، خربنا اللعب العزيزة التي تعمل بالزمبلك والبطاريات. امتلكنا القليل منها. ومع هذا، دشدشنا الإطار الخارجي بالمطارق، فككنا التروس وبعثرناها، وكانت الجائزة الكبرى هي قطع المغناطيس التي انتزعناها من أحشاء المواتير مع صرخات الانتصار. كنا نربط الكلاب الصغيرة من رقابها بحبال تشبه عقد المشنقة. قمنا بسحلها في الشوارع، دون ضغينة ضربناها بالتناوب بعصيّ منزوعة من أقفاص الخضار الفارغة التي حطمناها قبلها. أُلقيت القطط من الشبابيك بدافع الفضول، أو دفعناها في وسط المرور والسيارات تمرّق حتى نتأكد أنها بسبع ترواح. في ظهريات الصيف الملولة، كانت سدوم وعمورة اللعبة المفضلة لدينا والأكثر إثارة، لعبة عرفتها كل الكتب المقدسة. كنا نجمع أقلام الفيلوماستر الفارغة ونشعل أطرافها، وتنطلق غارات الغضب الإلهي. انهمرت كور اللهب المنصهر على مستعمرات النمل، وتصاعدت دخنة ثقيلة كالحبر من أجساد الخنافس المفزوعة. تأملناها وهي تحترق بالنار والكبريت، ونقاط البلاستيك السائل تتمدد من بركان يتقيأ أحشاءه. ولم يكن في هذا كله ولو لمحة من القسوة، كانت هذه طبيعة الأمور، في البيوت وفي المدارس وفي الشوارع، وفي كل مكان آخر. كانت أيامًا هادئة في أزمنة هادئة.