ولدت ككثير من الكويتيين لأب من أصل بدوي وأم من أصل حضري بالمعنى الجغرافي والتاريخي الصرف لهذين الوصفين (الجغرافي: المنطقة السكنية، والتاريخي: تاريخ دخول أسلاف العائلة للكويت). ولأني قضيت معظم طفولتي وشبابي حتى الآن مع أمي ذات الأصل الحضري وبيت أخوالي، صرت أتحدث بلهجة "حضرية" أو ما يعرف بـ"لهجة أهل الكويت".
لكنني كنت لكثيرين حولي حبيسة المنطقة التي أسكنها واسم والدي الذي ألبسني ثوب البداوة بمعناها المعاصر، فمن المؤكد أن احتفالي بالأعياد الوطنية مع أسرتي لا يكون إلا بنوع معين من الأغاني، فأكيد "ما تسمعون إلا شيلات، صح؟". لم أفهم إن كانت تلك نكتة، أو إهانة، أو ملاحظةً عابرة، أو تعمدت التغابي، لكنّ تعليقًا كهذا لم يكن الأول ولن يكون الأخير.
قصة كهذه تتكرر مع كويتيين كثر، ولكن المشكلة تأتي حين نأتي لتعريف هذا المصطلح: ما هي هذه اللهجة؟ وما هي مقوماتها؟ وأين تقع لهجة أبي البدوية مع غيرها من لهجات متنوعة ما زالت رغم ذوبانها المستمر في بوتقة «اللهجة» المثلى موجودة في أواسط اجتماعية خاصة؟
خرافة «اللهجة الكويتية الأصيلة»
من وجهة نظر لغوية، قد يقول الباحثون إن إلحاق أل التعريف بالعربية المحكية في الكويت («اللهجة الكويتية») لا يُقصد به إنزالها منزلة أعلى من اللهجات المحلية الأخرى التي يتحدث بها سكان الكويت، وليس محوًا لها، لكنها مصطلح عامٌ يندرج تحته لهجات أخرى تداخلت مع لهجة «أهل الديرة». فكما يقال اللهجة البريطانية لوصف الانجليزية المحكية في لندن أو «انجليزية الملكة»، في حين توصف لغة كل منطقة تحت هذا التصنيف؛ لهجة أهل ليفربول- مثلًا - أو اللهجة البريطانية المحكية في ليفربول.
لكن الكثير ممن يتحدث اللهجة الكويتية الدارجة أو «اللهجة الكويتية الأصيلة» يتعمدون إضافة أل التعريف وإلصاق صفة «الأصيلة» بها بقصد إعلاء شأنها عن باقي اللهجات التي يتحدثها الكويتيون منذ نشأة الكويت الحديثة وحتى اليوم، قاصدين بها «أصالة» نسب الشخص، حيث ورثها عن أسلافه الذين استقروا في الكويت في وقت مبكر - تقديره نسبي يختلف بين عائلة وأخرى -. ترتبط بها ثقافة تندر الآباء على أبنائهم بسبب استخدامهم «بدليات» أو كلمات وتراكيب لغوية لم تكن دارجة قبلًا.
يؤمن باحث التراث خالد الرشيد أن اللهجة الكويتية الدارجة «لن تندثر إذ إن المجتمع الكويتي مغلق ويحافظ على اللهجة»، وقد تكون قوانين التجنيس والعمل وغيرها من المعمول بها اليوم تحد بالفعل من تداخل الكويتيين بأناس من ثقافات ودول أخرى، ولكن على الرغم من هذا نجد التغير باللغة يقع بشكل ملحوظ، فاحتياجات مستخدميها تفرض هذا التغير على الرغم من ضيق النطاق.
فمثلًا كانت لهجة أهل الكويت القديمة تقسم إلى لهجات سكان ست مناطق جغرافية ذابت كلها فيما نعرفه اليوم بلهجة الكويت الدارجة، فمن الصعب جدًّا أن تجد اليوم طالبًا جامعيًّا أو مواطنًا من مواليد الغز قادر على أن يسرد لك الفروقات التي تميز بينها.
خريطة الكويت الجغرافية واللغوية
في غالب المسلسلات والمسرحيات الكويتية تُسنَد اللهجة الكويتية البدوية لشخصيات محط انتقاص عام لسبب أو لآخر، وهو ما ساعد في ترسيخ دونية اللهجات البدوية في الكويت مقارنة بلهجة أهل الديرة أو مركز المدينة. هذه المركزية الجغرافية بقيت سائدة منذ خمسينيات القرن الماضي حين بدأ سكان مدينة الكويت بالنزوح عنها للعيش في مناطق سكنية كجزء من التطور الحضري الذي شهدته البلاد بعد اكتشاف النفط وقبيل استقلالها.
أفرزت هذه الخريطة لدولة للكويت صنفًا آخر من العنصرية مبنيًّا على التوزيع الجغرافي الجديد، تقاطع فيه المذهب الديني وإثنية سكان الكويت آنذاك. هذا التعريف الجديد لأهل الكويت ظل ثابتًا مع توسع الرقعة السكنية خلال العقود الماضية، وتولدت معه مناطق تعرف غالبية سكانها بجانب من جوانب هويتهم: فتوجد مناطق للبدو (تعرف بعضها بقبائل معينة)، ومناطق للشيعة، ومناطق للبدون، وأخيرًا المناطق التي طوقت مدينة الكويت بين طريق الدائري الأول والخامس والتي تسمى بـ«المناطق الداخلية».
وحتى وقتٍ قريب كانت المناطق المسماة بـ«الداخلية» تحتضن بينها وبين مدينة الكويت أهم المناطق الحيوية في البلاد منها وزارات الدولة وهيئاتها المستقلة وجامعة الكويت. وفي هذه البيئات الاجتماعية التي يحتك بها الكويتيون من خلفيات عدة صار كل من لا يتحدث لهجة أهل الديرة يتحول إليها، ليس لأن لهجته المحكية في محيطه الاجتماعي الخاص غير مفهومة، بل حتى لا يكون محط انتقاد من حوله، وهو ما يعرف لغويًّا بظاهرة «التذبذب أو التناوب اللغوي» أو كما يقول الكويتيون «قَلَب الموجة» والتي يعنى بها التحول بين لغة وأخرى أو لهجة وأخرى في كلام الشخص المتحدث، وهو ما نمارسه يوميًّا دون أن نلاحظ لأن لغتنا العربية مطعمة بكثير من المصطلحات الأجنبية.
إدراكنا للهجات وأثره على متحدثيها
في ثمانينيات القرن الماضي، قام اللهجوي دينيس بريستن، أحد رواد مجال دراسات اللهجوية الإدراكية، بدحض خرافة كرسها اللغوي الأمييكي جون كَينْن بين عشرينيات وأربعينيات القرن الماضي، إذ أطلق على اللهجة التي يتحدثها في أوهايو «الأميركية العامة». وفي تلك الفترة، كتب كَينْن كتيبات إرشادية يفصل بها كيفية النطق والحديث بهذه اللهجة: لهجة ولايات الوسط الغربي في الولايات المتحدة. تحولت تلك الفكرة التي روج لها كَينْن إلى واقع حين اعتمدت قنوات شبكة الـNBC - خلال تلك الفترة - كتيباته الإرشادية بين مذيعيها.
لكن بريستن وغيره من لغويي اليوم، يرفضون فكرة اختيار لهجة واحدة بناءً على رأي يؤمن بجمال صوتياتها، لتصبح معها اللهجات المحكية في اللغة نفسها أقل شأنًا منها دون اعتبار للتنوع الصوتي في اللغات، وجمالها الذي يأتي في هذه التعددية.
قد لا تنعكس هذه الأفكار النمطية في الدراسات الإحصائية في هذا المجال الدراسي - خصوصًا وأن المؤمنين بها لن يعترفوا بها طواعيةً -، لكنّ آثارها النفسية على اللهجات المحكية واضحة في ظاهرة تسمى بـ«الأمن اللغوي» على سبيل المثال، ما قد يُشعر المتحدثين بغير هذه اللهجة بحاجة إلى التحول لها.
لماذا نلجأ إلى التناوب اللغوي؟
لخصت إذاعة أن بي آر في الولايات المتحدة أسباب لجوء مستخدمي اللغة إلى فعل كهذا بناءً على تجارب مستمعيها ممن يتذبذبون لغويًّا في حياتهم اليومية، أحد تلك الأسباب كان شعور المتحدث بالحاجة إلى الاندماج في البيئة التي يعيش فيها، وفي بيئات العمل خصوصًا، كانت ممارسة كهذه يقصد بها التزلف أو التودد لرب عمل.
كما تستعمل كذلك لإيصال فكرة لا تكفي المتحدث معرفته بلغة أو لهجة واحدة لإيصالها، وهو السبب الذي غالبًا ما يذكره ثنائيو اللغة في مجتمعاتنا ممن يتكلمون لغة أجنبية بجانب العربية. مؤخرًا، اكتشفت أن ابن أختي ذا الست سنوات يمارس التذبذب اللغوي خارج نطاق (العربية الكويتية/الانجليزية)، فبعد توسع نطاقه اللغوي واحتكاكه أكثر مع أبناء عمومته صار يعرف أي «كويتية» يتحدث في المكان الذي يكون فيه. فحين يتحدث الانجليزية في المدرسة وكويتية الديرة في بيت أخواله، تعلّم أن يتحدث كويتية بدوية في بيت أعمامه.
وقبل سنة من الآن، سمعته وهو يلعب مع ابن أخي وهو يقول «إلا!» ثم تراجع بسرعة وكأنما سب أحدًا «قصدي امبلا!». ابن أختي الطفل الصغير يعي بالعنصرية التي يتعرض لها من يتحدث بهذه اللهجة الكويتية، وهو بهذا العمر يعرف كيف يلعب بالقواعد اللغوية الواهية التي وضعها مجتمعنا منذ عقود مضت.
الـ«أصالة» اللغوية وإسقاطاتها على المواطنة
حين نُصرّ على «أصالة» نسخة معينة من اللهجة الكويتية، فنحن بالضرورة نختار أن نتعامى عن حقيقة أن اللغة متغيرة، وعن كل التغييرات التي طرأت عليها على مر العقود. ورغم كل ما نبذله من جهود ومحاولات للمحافظة على «أصالة» اللهجة الكويتية، سواء بتصحيح «أخطاء» أبنائنا أو بالدفع نحو تعليمها في المدارس، فستأتي أجيال بعدنا - كما فعلت أجيال تعيش بيننا اليوم - لتبدّل وتغير بها صوتيًّا ودلاليًّا ومصطلحيًّا فيما يرونه مناسبًا حسب حاجاتهم ليتمكنوا من التعبير بها.
وحين نُصرّ على وسم اللهجة الكويتية الدارجة بـ«الأصيلة»، فنحن نختار أن نقصي كل من لا يتحدث بها عن هذه الخانة، لتصير مواطنة المتحدث بغيرها أقل مستوىً ممن ينطق بها، وتصير معها سببًا يذكر لعدم أحقية الكويتيين البدون في الجنسية. قياس مواطنة الشخص اليوم مبني على معايير عرفية وضعت لتصنيف الولاء، والتي ورثناها بدورها عن أجدادنا في خلطة غريبة أبقت على كثيرٍ من تقاليد مشيخة في ظل بناء دولة حديثة.
إن كنا نريد بحق أن نكون جزءًا من هذا العالم في هذا العصر فيجب أن نتخلص من عبء أفكار بالية حملناها على ظهورنا منذ زمن. الولاء والحب للوطن لا يكونان بإثبات تاريخ دخول أول سلف لي إليه، بل بما أقدمه أنا اليوم له.