إخضاع الكلب
أحمد الفخراني
(دار الشروق، القاهرة، 2021)
***
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النص/النصوص؟ ما هي منابعه وروافده، ومراحل تطوّره؟
أحمد الفخراني (أ. ف.): إن كنت تسأل عن نصوصي عمومًا، أظن أن أكثر ما يشغلني هو رصد طريقة تفكير الفرد المعاصر، الذي يرى العالم أو السلطة الجمعية بطريقتين متناقضتين؛ الأنانية المطلقة بحيث يصير هو مركز العالم وقطبه مهملًا المجموع، أو معوضًا اغترابه بتخيل عوالم بديلة، في الحالتين، نحن أمام عالم غير حقيقي لا يدور إلا داخل أذهاننا. في الأعمال السابقة على إخضاع الكلب، كنت أرصد ذلك العالم، من خلال الفانتازيا، لكن مع تغير زاوية نظري، رأيت إن بإمكاني تقديمه من خلال تفاصيل واقعية، على أن ينحصر دور الفانتازيا في مساحات محددة.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(أ. ف.): عالم نفسي بامتياز، يتساءل ما هو الحب، كيف ننفتح بثقة أكبر على الآخر.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(أ. ف.): ألا يصاب القارىء بالملل، فالرواية تدور عن علاقة مجردة بين رجل وكلب، الشخوص الأخرى هامشية، بالإضافة إلى كيفية رصد ردود أفعال وتصرفات لكائن غير عاقل كالكلب، وأن تكون تلك الأفعال مفسرة لنفسية البطل.
(ج): كيف يتموضع هذا العمل في الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
(أ. ف.): أظن أن الأعمال الروائية التي تدور بين إنسان وحيوان قليلة في الأدب العربي المعاصر، في حدود ما قرأت، أتمنى أن تكون تلك الرواية إضافة له.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(أ. ف.): كانت هناك نصوص اطلعت عليها، بعد أن فكرت في الرواية، مثل رواية الناب الأبيض لجاك لندن، وفي ذهني كان خيار العجوز والبحر لهمنجواي، حيث العلاقة مجردة بين رجل وسمكة، بدلًا من التوسع في رسم شخوص وحيوات أكثر، وكذلك الكثير من الكتب عن الكلاب وترويضها.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(أ. ف.): لدي رواية شبه مكتملة، ومجموعة شبه مكتملة، أعمل على إنهائهما ونصوص متفرقة قد تشكل كتابًا غير سردي.
مقتطف من الرواية
صحوت مع تسلل أشعة الشمس، أغرقتني الحرارة والرطوبة، أصوات صبية تلعب وتتشاجر وبائع خضروات ينادي على بضاعته في ميكرفون، نافذة غرفة نومي تطلّ على الشارع، اعتدت إغلاقها كي لا أستيقظ على مشهد رؤوس متطفلة. هل تركتها أسما مفتوحة؟
لم تكن بجواري، تحسست أثرها المفقود ثم احتضتنه، يلفني ألم شبحي كالذي يحدث لمن بتر لتوه جزءًا من جسده، امتصصت أريجها الوهمي حتى الثمالة.
خرجت إلى الصالة بأمل أنها لم تغادر، مسكونًا بأحلام عن الوصل، ولم أكن لأسمح لها بإفراغ لذتي بالطريقة التي فعلتها بها ليلة أمس، بل سنتشرب بعضنا البعض على مهل، بلساني وأصابعي وذكري المهان، لقد بعث حضورها جسدي، لكن تلك المرة كأزمة علاجها الوحيد أن يبادله أحد اللمس، كل ما أحتاجه ليكتمل العالم، أن ينغرس لحمي في لحمها إلى الأبد.
كانت الصالة أنظف وأقل فوضى، يظللها شيء من اللمسة الأنثوية المباركة بالأناقة والحياة، تسللت ابتسامة إلى فمي لها طعم الندى، صاعدة من الثقب الذي خلفته أسما في روحي، من الوعد الهش، وسراب الأمل.
رأسي ممزقة من أثر غياب الكافيين، اتجهت إلى المطبخ لإعداد القهوة، من شباكه المطل على الفناء الأمامي رأيت الكلب مقيدًا إلى شجرة الكافور العالية العجوز، وكل ذرة في وجوده تسخر مني، تخبرني، ها أنذا ثمرة أوهامك، أردت حبًّا: ضاجِعني لو أردت.
*
اعتصرني الغضب. وجود الكلب جعل اقتحامها لبيتي ونومها بفراشي أكثر منطقية، خدعة مدبرة للنيل من المتوحد الصموت، قررت أن أهدأ، الطريقة الوحيدة لقتل متعة الهازئين بالضعف هي ألا يشعروا بسريان سم مزحتهم في شرايين ضحاياهم.
سأكمل فنجان القهوة، سأغتسل من أثر الاستمناء القسري الذي أجبرتني عليه، سأتحلى بالشجاعة، سأفك قيده ثم أطرده خارج المنزل، وعندما أقابلها مرة أخرى سأهبها عقابي الأثير: محوها، كشأن كل ما أغضبني. سأفعلها عبر وجه متصلب بارد وحيادي، بعينين ميتتين لا يعكسان وجودها بل ينزعانه كأن شيئًا لم يكن، كأنها لم تكن.
تركت نفسي لانسياب الماء، شباك الحمام أيضًا يطل على الفناء، واربته قليلًا وتلصصت على الكلب، كان يرقد مسترخيًا تحت ظل الشجرة، رآني فانتبه، وقف على أربع، نفض شيئًا وهميًّا بجسده ومد خطمه تجاهي كمن يناديني.
أغلقت الشباك، كأني إن فعلت سيختفي من حياتي.
لكنه ظل هناك كشأن الشرور.
بحثت عن أي شيء يحميني فلم أجد إلا عصا المكنسة، حملتها وخرجت إليه عازمًا على طرده، انتفض مجددًا لمرآي ورمقني بعينين متحفزتين، الأمر كان أصعب مما قدرت، حمت حوله على مسافة محسوبة من القيد، تحسبًا لأي قفزة غير متوقعة. استبعدت الاستعانة بجيراني، ففضلًا عما سيجلبه الأمر من سخرية سيمد طلبي جذور تطفلهم وتلك المرة سأكون مديونًا بشيء.
رأيت ورقة على مسافة منه مثبتة بحجر ثقيل، كانت رسالة من أسما مكتوبة بخط أبله وطفولي:
"شكرًا على استضافتي عندك ليلة أمس.. لقد أنقذتني.. أبي كان هنا.. جاء ليرغمني على العودة معه.. كان علي أن أجد مأوى آمنًا عند شخص ليس على قائمة معارفي وأصدقائي حتى يأتي موعد الأتوبيس المغادر إلى سانت كاترين.. ستظن أني خدعتك.. كنت مرهقة وخائفة وسكرانة.
أرجو أن تعجبك الهدية.. ونيس.. كلب جيرمن مهجن مع بلدي.. رائع وذكي.. وجدته صديقة لي في القاهرة وهو بعمر شهرين، ثم تركته عندي منذ أسابيع.. الآن عمره ستة أشهر.. أظنك أولى بصحبته.. فلتعتبره بداية العلاج.. إن شعرت بعدم الرغبة في الاحتفاظ به فكل ما أطلبه هو أن تستضيفه في بيتك لثلاثة أسابيع حتى أعود.. لقد تلقى تطعيمًا ضد السعار".
ملحوظة: "لقد اضطررت إلى استعارة بعض الأشياء.. آسفة.. سأقوم بردها.. أعدك بتعويض ملائم وليال لا تُنسى".
أسما.
بجوار توقيعها رسمة لقلب بدا لي كمؤخرة مقلوبة، وإيموجي مبتسم يسخر مني في وحشية.
عدت إلى غرفة النوم حيث أحتفظ في درج الكوميدنو بأربعة آلاف جنيه، إيجار البيت الذي يستحق الدفع قريبًا، اختفت.
لم أجد اللابتوب والكاميرا، هل هذا ما تعنيه بـ"الاستعارة؟" لن تردّ شيئًا، ستتبخر النقود على الخراء الذي تحقن به نفسها، الآن يتبدى وجهها كوجه مدمن عتيق، شاحب ومدمر، جمالها وجاذبيتها لم يكنا إلا هلوسة خادعة صنعتها الوحدة والهشاشة.
ارتديت ملابسي، أشعلت سيجارة، القهوة سيئة المذاق، حضور أسما ما يزال في فمي يلعن قهوتي الصباحية إلى الأبد.
فضلت الخروج من الفناء الخلفي كي أتجنب الكلب. رأيت جاري، يستأجر من نفس المالك المنزل الملاصق لبيتي يمينًا. تحاشينا بعضنا البعض.
كان جاري رسامًا أربعينيًّا عديم الموهبة، لفظه الفن وأنكرته المدن الكبرى، فجاء إلى هنا ليعيد اختلاق حياته ككذبة (وهو خطأ شائع يرتكبه أبناء الطبقة الوسطى اللذين فروا إلى دهب) كفنان تشكيلي شهير ملّ الصخب والأمجاد وزيف الأوساط الفنية.
لثلاثة أشهر، حام الجار بوجهه المستطيل ككلب إنقاذ لكن بعينين مدربتين على النطاعة حول قوقعتي المصمتة، متحايلًا لاختراقها بالاقتحام الوقح تارة، والسخرية واللمز تارات، متجاهلًا إشارات وجهي المقتضبة الحادة ووجهي المحذر كأشواك قنفذ.
لم يكن إقامة علاقة إنسانية هو ما يبغيه ولا قطع الذيل الطويل للوقت، كل ما يحركه كشأن جيراني هو فضول مبعثه الخوف لا حب الاكتشاف. كان صمتي يبعث بإشارات غير متعمدة عن خطري، وكان عليه أن يسحبني إلى ما يفهمه، فالكلمات وحدها بإمكانها أن تحيل كل ما هو مهيب إلى شيء عادي يمكن اختبار حدوده ومناطق ضعفه، اجتياحه من ألف ثغرة، بالطريقة نفسها التي دفع بها أوديب أبي الهول ليُلقي نفسه من فوق الصخرة فيسحق ميتًا، بحل أحجيته، بإبطال الغموض وتمزيق الحجب الساحرة للغز الصمت.
هكذا كرس جاري طاقته كي يسوقني إلى حتفي عبر الكلام، ليخلص العالم مما أسببه من فزع وكل ما يُنذر به الصموتون من هلاك، فبطريقة ما نحن نذكر الآخرين برسل الموت.
عندما مللت محاولاته المتكررة، قررت ذات يوم أن أنهي المهزلة، استجبت لدعوته باستضافتي، منحته ما أراد، تحدثت لطيلة ساعات دون أن أتوقف لحظة.
بدأت بأن تلفظت عشوائيًّا بأول كلمة قفزت إلى ذهني: شجرة، تلك التي كنت أراقبها صغيرًا من شباك منزلي أيام الطفولة، فالأشياء تكون مبهجة أكثر داخل إطار، سواء كان إطار نافذة أو لوحة أو كتاب أو عدسة كاميرا، ربما لهذا أحببت مهنة التصوير، من كلمة شجرة جررت معي العالم، الخضرة، الطراوة، الليونة، التراب، الماء، الظل، الهجير، الأمل، أبي، أمي، التكرار الرتيب، الأصوات، الألوان، الحياة، الحب، الموت، الخيانة، الرعب، الروائح، الحشرات، دبيب النمل، مواء العشاق والقطط، أعشاش الطيور وأوكار الأفاعي، الريح، السحب، المطر، في النهاية استدعيت الطوفان، محوت كل شيء، ثم أعدت الكرة من كلمة جديدة دون أن أقول جملة واحدة مترابطة بل محض لعثمة مبعثرة وتائهة، لكنها سرعان ما تحولت إلى دوامات وكثبان من الرمال المتحركة أنفثها يائسًا من فمي، كادت أن تبتلع الفضولي القاتل.
كنت بالطبع أتحدث عن شيء حتى لو لم يدركه: عن ضياع أزليّ بلا خلاص.