فرشاة الرسم والإزميل
أوعز إلي كاتبٌ يومًا ما إتمام مهمة شاقة لمساعدته في كتابه القادم مقابل نصف الأرباح. لقاءُ نخبة وجمع قصصٍ شخصية من حياتهم لا عنهم بل عمن اعتبره رب عملي المؤقت أعظم رجالات ذاك المجال، والذي وجدته بالصدفة ثملًا يقيل بجانب الكاتب. المهمة صعبة بسبب عدم توفر أي مركبة، لكنني كنت بحاجةٍ ماسةٍ للمال لأدفع دية أحدهم، لكن تلك الصعوبة في التنقل كافأتني بمنظرٍ خلبني. وقفت على حافة تلة وتأملت اللوحة المرسومة أمامي. لم تكن لوحة ربانية طبيعية رسمها الخالق بأمر "كُن" وكذلك لم تَخُطها ريشة رسامٍ أجاد الفن. امتدت اللوحة وشملت أشجارًا ونباتاتٍ شِئتُ قطاف ثمرها وغزلان اشتهيت صيدها، وفي وسطها وقفتُ أنا. حسنًا ربما لم أقف شخصيًّا هناك لكن الشخصية التي لعبتُها، آرثر مورغان، هي من وقفت هناك، وسط الشاشة.
تدور أحداث لعبة "ريد ديد ريدمبشن 2" في الغرب المتوحش قبيل بدء القرن العشرين بسنة. هذه اللعبة مثل العديد من الألعاب التي سأستحضرها في هذه المقالة تستحق مقالة بحد ذاتها، لكنني سأكتفي باستخلاص اليسير للوصول إلى ما أرمي إليه. عودةً لتلك اللوحة التي أبهرتني بواقعيتها حتى في أدق التفاصيل، مثل ذيل الفرس الذي امتطاه آرثر، إطار اللوحة كان حدود شاشة حاسوبي الشخصي، وتركيزي في هذه اللعبة، مثل أي لعبة رقمية، ساهم في تجميد التفاصيل حول الشاشة والانغمار في تفاصيلها.
اللوحة المرسومة رقميًّا لا بريش فنانين من مدرسة تميل إلى الواقعية وتُعنى بالطبيعة، مثل مدرسة باربيزون الفرنسية، قد يؤخذ على أنه حجة ضد اعتبار المشهد لوحةً حقًّا. لكن لو أخذنا خطوة للخلف لرؤية الشاشة الأكبر سنتساءل عما حاول الرسامون الوصول إليه بأعمالهم المبهرة على مر العصور. لن نحصل على إجابة موحدة، ومن المنطقي أن تختلف باختلاف الرسامين والمدارس والحقب، لكن لو أخذنا أمثلة من المدارس المختلفة ووضعناها بجانب الألعاب الرقمية المُصمَمة وفقًا لفلسفة تلك المدارس أو تأثرًا بها سنجد سؤالًا آخر يستحق الإجابة، ما الفارق بين الرسام المبدع للوحة بمفرده والرسامون القائمون على إنتاج اللعبة الرقمية؟ بين النحاتين للتماثيل والمبرمجين الذين يصممون الشخصيات ثلاثية الأبعاد؟ حتى تلك الرسومات ثنائية الأبعاد التي تجدها داخل اللعبة لتوضيح قدراتٍ يستخدمها اللاعب مثلًا. خذ على سبيل المثال صورًا ورسوماتٍ من شركة «كرايتيك» التي صممت ألعابًا ملفتة بصريًّا مثل "كرايسيس" و"هانت: شو داون".
فنان التصوّر هو من أوائل الرسامين العاملين على تصميم اللعبة الرقمية، مهمته رسم مسودات ولوحات تصور مبدئي لطبيعة اللعبة لتُلهم العملية كاملة، من الشخصيات للمناظر والبيئة والأسلوب. مثال على ذلك جاسون تشان الذي عمل على تصميم شخصيات في "ماس إيفيكت 3" و"دراغون إيج". التصميم يمر في الكثير من المراحل بعد المرحلة التصوّرية الأولى، مثل توضيح التسلسل على اللوح القصصي (storyboard) وينتقل العمل إلى النمذجة والاعتناء بالتفاصيل مثل الإضاءة والملمس والمؤثرات إذا كانت اللعبة ثلاثية الأبعاد، ومعظم الألعاب اليوم هي كذلك، باستثناء ألعابٍ من مصممين مستقلين معروفة بألعاب الإندي. الناتج النهائي هو بلا شك مجموعة ضخمة من اللوحات الرائعة المتتالية، كل لقطة لوحة.
العدسة واللقطة
قد تبدو أولوية تشبيه الألعاب الرقمية بالأفلام بدلًا من اللوحات بديهية لهنيهة، لكن إمعان النظر في الوسيطين يوضح الفروق الجوهرية. عند ذكر الأفلام نفكر عادة بالأفلام التمثيلية لا بالرسوم المتحركة، والمانع الأساسي لتشبيه الألعاب الرقمية بالأفلام التمثيلية هو العنصر البشري. أفضلية التمثيل البشري لا يُعلى عليها مهما تقدمت دقة المحاكاة الرقمية للإنسان. اعتمدت لعبة "أل أي نوار" على 400 ممثل وتقنية متطورة لمسح تعابير الوجه. لم يؤخذ هذا الخيار الفني لإبهار اللاعبين فحسب، بل صَبّ مباشرةً في أسلوب اللعبة، فأنت تلعب دور محققٍ وتعتمد تحرياتك على تعابير وجوه المتهمين. أخذت اللعبة عند صدورها قبل عشر سنوات قفزة واسعة في المحاكاة، لكن التكنولوجيا حينها عجزت عن إتقان التفاصيل البشرية وباتت بعض التعابير حينها مادةً للـ"ميمز"، كما أشعرت اللاعب أحيانًا بأنه في الوادي الغريب. لكن مع مرور الوقت، اقتربت الشخصيات المحاكية اقترابًا مدهشًا من الممثلين البشر. لعبة "ديث ستراندغ" التي تحاكي شخصياتها ممثلين مشهورين منهم نورمان ريدس مثال جيد، أو لعبة "فار كراي 6" وشخصية غيانسارلو إسبوسيتو.
سيحسن التقدم التكنولوجي المتسارع المحاكاة ويطورها بإتقان لا تنضب معه الدهشة. لكن مهما تفوقت هذه التكنولوجيا ستبقى في تعريفها تكنولوجيا تقليد. لو تحدثنا عن الطبيعة السينمائية فمن الطبيعي أن نُفضّل متابعة الممثلين أنفسهم لا تصميمات تشبههم(1).
هنا تكمن أفضلية الرسوم المتحركة ببناء الشخصيات الخيالية. يتطلب التمثيل جهدًا وموهبةً بلا شك، لكن هذا لا يقع على عاتق الممثل فحسب، نحن المتابعون أيضًا علينا أن ندفع قسطًا من تعليق عدم التصديق للاستمتاع بالأداء. عندما يمثل نورمان ريدس دور ديريل ديكسون علينا أن نتناسى أنه نورمان ريدس الإنسان، وأنه أحد الممثلين في أغنية بيورك، ومحاكاة شخصية سام بورتر. أما عندما نتابع شخصية مخلوقة من أجل دورٍ معين في فيلمٍ متحرك أو لعبة فنحن لن نجدها إلا هناك. لينك من سلسلة ألعاب "زيلدا" هو لينك، حتى عند ظهوره في ألعاب أخرى فهو يظهر بصفته لينك. استقلالية الشخصيات المرسومة يعطيها من التفرد ما لا يمكن الحصول عليه عند متابعة أي بشري. لا لنقصٍ في البشر بل لنقصٍ في مفهوم التمثيل.
الفرق الجوهري الآخر هو زاوية التصوير. كانت زاوية التصوير في بواكير تاريخ الألعاب الرقمية تغطي مشهدًا ثنائي الأبعاد ومن جانب واحد يعرف باسم سايد-سكرولنغ (الإزاحة-الجانبية) مثل لعبة "ماريو"، أو ثابتة في ألعاب القتال مثل "ستريت فايتر". نجحت الألعاب تدريجيًّا في تحرير الكاميرا ومَنْحِنا نظرة حرّة. زوايا التصوير في الأفلام من أهم الخيارات الإبداعية لصانع الأفلام. مثال بسيطٌ هو زاوية التقاط الشخصية، إذ يمكن للمخرج التواصل مع المشاهد عن طريق الديناميكية بين الشخصيات من زوايا الكاميرا، تصوير أحدهم من زاوية سفلية وآخر من زاوية علوية قد يخبرنا ما يخفيه الحوار. أما حرية تحريك يد التحكم تحتّم اختفاء الترتيب المنتظم لأي مشهد، وفي بعض الأحيان تفشل الكاميرا الحرة على مستوى اللعب. كل لاعبٍ عَلِق على الأقل مرة في زاوية منعته من رؤية الشخصية أو الخصم.
معظم الألعاب الحديثة تعتمد على ما يعرف باللقطات الانتقالية التي تقاطع مسار اللعبة لإبراز أحداثٍ مهمة، مثل حوارات أو مشاهد تبعد عن الشخصية التي تلعبها أو النهايات. هذه اللقطات في العادة توقف التحكم وتُعرَض كأنها لقطات سينمائية - وبالفعل اسمها بالفرنسية لقطة سينمائية -. في هذه اللقطات يمكن لمصمم اللعبة الرقمية محاكاة الفنون السينمائية، لكن اللقطات الانتقالية تعتبر مأخذًا لأنها تنفي ميزة التفاعلية الأساسية في الألعاب الرقمية، بدلًا من أن يتحكم اللاعب بشخصيته في تلك اللقطات عليه متابعتها كأنه يشاهد فيلمًا منفصلًا عنه.
يشكل إدراج التفاعلية في تلك اللقطات تحديًا حقيقيًّا للمصممين في الحفاظ على الجدية وسلاسة اللعبة. تطورت الألعاب لتسمح لنا بتغيير خِلقة الشخصيات التي نلعبها كليًّا في ألعاب تقمص الأدوار مثل "سايبر بنك 2077"، أو جزئيًّا عبر تثبيت الملامح والسماح لِلّاعب ارتداء أزياء مختلفة أو قص شعره، مثل غيرالت في "ذا ويتشر". هذه الحرية تعطي التجربة لكل لاعبٍ تجربة شبه حصرية وتدعم الارتباط بشخصيته، مع تطور الألعاب أصبحت هذه التعديلات تلازم الشخصية حتى في اللقطات الانتقالية.
هذه الميزة ترفع من قيمة اللعبة أدائيًّا لكنها تتيح المجال للعبث بجدية تلك اللقطات، هناك نكتة بتصميم شخصية سخيفة المنظر وارتداء أزياءٍ مضحكة ثم تفعيل تلك اللقطات للانتقاص من حدة الحوارات أو خطورة ألد الخصوم. بالطبع هي نكتة عابرة ويفضل أغلب اللاعبين تلقي اللعبة على محمل الجدية، لكنها توضح القصور السينمائي. تترك بعض الألعاب الحرية في التنقل أثناء اللقطات الانتقالية وذلك أيضًا يؤدي إلى شيء من العبثية، مثل التفاف شخصية اللاعب حول محاورِه أو الهرولة والقفز أو مقاطعة الأعداء للحوار.
إضافة التفاعلية في تلك اللقطات تكشف التوتر بين الوسيطين فنيًّا وأدائيًّا. التصميم في اللقطات الانتقالية القتالية ينجح في بعض الأحيان مثل لعبة "ريزدنت إيفل 4" لكن الاعتماد المفرط على سينمائية اللعبة وتقليص دور اللاعب ليضغط على الأزرار بين حوارات طويلة أو سلسلة أحداثٍ ينتقص من قيمة اللعبة بصفتها لعبة.
أبرز مثال على الفشل في الموازنة بين سينمائية اللعبة والتفاعلية فيها وجدته في "هيفي رين". كانت اللعبة مبهرة قصصيًّا وناجحة في طموحاتها، لكن التركيز على التصوير السينمائي طغا على الأداء التفاعلي. تجبرك اللعبة على إجراء مهمات رتيبة مثل إعداد الطعام، في حين نحن نجري في هذه اللعبة تحقيقًا حول سلسلة جرائم ونحاول إنقاذ ابن إحدى الشخصيات، تقليب المعكرونة آخر أولوياتي في هذا السياق. حتى أن ضغط الأزرار لحرق الأدلة، مع أهميته السردية، لكنه أمرٌ بلا داعٍ من الناحية التفاعلية. لو أزلنا مثل هذه المهمات لا يبقى سوى لقطاتٍ مطولة دون أي تفاعل، مما يجعلها أقرب إلى فيلم.
سمحت حلقة "بندر سناتش" من مسلسل "بلاك ميرور" بدرجة بدائية من التفاعلية، إذ إن المتابع يساهم في توجيه القصة مع بعض الأزرار. القيمة المضافة من هذه الخيارات لم تجعل حبكة الحلقة مميزة. هي تجربة فريدة بلا شك ولكن إذا وضعنا هيفي رين وبندر سناتش جنبًا إلى جنب يتضح لنا التوتر بين وسيط الألعاب الرقمية والأفلام. هناك مسافة بينهما ومحاولات اقتراب أي منهما للآخر تعني مقايضة بين التفاعلية وحُسن المتابعة. هذه المقايضة تأتي بسبب حدودٍ تقنية، كلما ازدادت التفاصيل في المحيط وفي الشخصيات والخيارات ستثقل اللعبة على فريق الإنتاج وعلى قدرات الأجهزة، وستزداد اللقطات التي لن تُتابع بالضرورة. المقايضة أيضًا تبرز بسبب اختلافٍ في صميم الوسيطين. لكنها تفسر شهرة بث الألعاب على مواقع مثل تويتش، بعض الألعاب لا تستحق اللعب لسوء التفاعلية لكنها تستحق المشاهدة.
الأغنية والنَغمة
تمنح الموسيقى اللعبة مزاجها وتساهم في تكثيف التفاعلية. وظيفة الموسيقى في معظم الألعاب، إن أتقن مصممو اللعبة انتقاءها أو تلحينها، هي إدخال اللاعب في الحالة النفسية المطلوبة. في بعض الألعاب تعمل النغمات والأصوات على إنذار اللاعب بوجود الأخطار أو بأمان المنطقة. المؤثرات الصوتية مركزية في بعض الألعاب لشحذ التشويق أو تحفيز الشعور بالرعب، وفي بعض المواجهات تعمل كإشارة تُعلِم اللاعب بنوع الضربة القادمة وتوقيتها مثل لعبة "فيوري". هناك أنغامٌ أو أصواتٌ مميزة بمثابة بصمة سمعية لبعض الألعاب، كلام الشخصيات في "أندرتيل" ونغمة الفوز في سلسلة "فاينال فانتاسي" وصرخة "مورتال كومبات".
أما الأغاني المميزة فهي تفرض ذاتها بطريقتين على الأقل. الأولى(2) هي عندما تتمكن من البروز بذاتها خارج اللعبة، أن تدلك على اللعبة بدلًا من المعتاد وهو أن تكتشفها أثناء اللعب. يحتفي النقّاد بألعاب شركة "سوبرجاينت غيمز"، فهي تتميز باللوحات البصرية المميزة والأغاني الملحنة والمكتوبة خصيصًا لتتناسق مع الحبكة. اكتشفتُ لعبة "باستيون" التي صممتها هذه الشركة بعدما وجدت أخي يستمع لإحدى أغانيها "مَجمع الآلهة"، الاستماع لها ولسائر الموسيقى دفعني لاقتناء اللعبة. ذكرتني الأغنية بأغنية جوني كاش "سيقطعك الإله". ربما لوجود آلهة في العناوين أو لتشابه المحتوى. بعد السماع إليها عدة مرات قبل اللعبة ولاحقًا أثناء اللعب شعرت كأنها إصدار مستقل وفي الوقت ذاته تتناسب مع اللعب. أغنية ثانية من اللعبة "جاءت على الوجع" كما يقال، أغنية "أمي، ها أنا". ربما تنبه القارئ من العنوان مباشرة لأثر أغنية كهذه على المستمع، ولو أخذ بالحسبان استماعي لها أيام الغربة المثقلة بالاشتياق فلن يلومني على ترقرق بعض الدموع خلال دقيقتين. يمكن الاستماع لهذه الأغنية أيضًا دون الحاجة لمعرفة شيء عن اللعبة.
الأغاني في لعبة "باير" مميزة ولكن كلماتها تخص اللعبة، وهنا يمكننا الحديث عن الطريقة الثانية من تفاعل الأغنية مع الألعاب الرقمية، فهي تُبتكر من وحي اللعبة ذاتها وتتحدث عنها مباشرة ولن تترك ذات الأثر على السامع إن لم يلعبها. مثال ذلك أغنية "متحدون معًا" التي تذكر الشخصيات وأحداث الخاتمة مع اعتناءٍ بأدق تفاصيل اللحن.
مع هذا التفصيل في البال يمكننا رؤية الفروق في أغاني الجزء الثاني من لعبة "ديسؤنرد". أثناء تجوالك في شوارع كارناكا يمكنك سماع فرق غنائية متجولة تتناسب أغلب كلمات أغانيهم مع الأوضاع السياسية وأحوال عالم اللعبة، أغنية "على رمال سيركونوس" أغنية حب لكنها تشير بالاسم إلى المدينة وإلى شخصية متنفذة فيها ولا يكتمل فهمها دون اللعب. بينما تنفع أغنية "تهويدة بريغمور" مثالًا على طريقة التفاعل الأولى. الكلمات تنفع لصياغة مرعبة لتهويدة يمكن الاستماع إليها دون الحاجة لأن تلعب اللعبة، لكن اللعب يثريها ويقدم نسخة مريعة وساحرة في المرحلة الأخيرة.
التصنيف السابق لا ينتقل إلى القِطع الموسيقية، دون الكلمات لا يوجد فرقٌ واضح بين الموسيقى التي تحمل إشارات داخلية في اللعبة وتلك التي تنفع داخلها وخارجها. ومع أن القسط الأكبر من الاهتمام في هذا الجزء من المقالة كان ليعود على الموسيقى لا الأغاني إلا أن معظم الموسيقى في الألعاب عادية وفي العادة تنسى مع ختامها، كما تستعين العديد من الألعاب بأغانٍ لم تُكتب لأجلها. لكن من حسن حظنا هناك استثناءات تكسر ما يمكن توقعه من رتابة موسيقى الألعاب، نجد ذلك في سلسلة ألعاب شركات "فروم سوفتوير" المشهورة بصعوبتها. ما يميز بعض المقطوعات في هذه السلسلة هو تناغم الألحان مع سياق مواجهة بعض الأعداء الرئيسيين، لم تلحن فحسب لوضع اللاعب، أو بالأحرى لزجّه، في حالة نفسية تناسب مواجهة أشرس الخصوم فحسب بل لتشكل جزءًا محوريًّا من مرحلة القتال.
القصة والرواية
الرغبة بمعرفة المزيد عن شخصيات أو أحداث يدفعني في العادة إلى البحث بعد ختام اللعبة. لكل لعبة مجتمعها الخاص، إما على مواقع مثل ريدت أو عبر اللعبة نفسها إن كانت تسمح لتجمعات أثناء اللعب مثل ألعاب تقمص الأدوار كثيرة اللاعبين على الإنترنت(3). بعد تجميع المعلومات وأحيانًا خلق بعض النظريات حول أحداث اللعبة تنشر في مقاطع فيديو على منصة يوتيوب أو مواقع شبيهة بالويكيبيديا. يشار إلى تاريخ الشخصيات والأحداث بكلمة "لور" - لاحظ أن كلمة فولكلور منحوتة من دمج كلمتي فولك والتي تعني القوم ولور والتي تعني حكايا وتراث - كلمة "لور" في عالم الألعاب معتمدة عُرفيًّا للإشارة إلى تلك المعلومات المرتبطة بالشخصيات والأدوات، في لعبة "بلاسفيموس" تم استبدال كلمة "لور" بكلمة "وصف الأداة" عن الأدوات في جعبة اللاعب.
علاقة القصة مع الألعاب الرقمية متشعبة، أبسط الألعاب الرقمية مثل "تيترس" أو الألعاب الرقمية الرياضية لا تحتوي على قصة بالمعنى الخيالي للكلمة، سائر الألعاب تحتوي على قصة مهما قصرت. "باكمان" تحكي قصة كائن يهرب من أشباح تلاحقه ويأكل ما في طريقه. "ماريو" سبّاك ينقذ الأميرة من وحش خطفها. الألعاب لها قدرة مميزة على سرد القصص وهذه المقالة تتعمق في ذلك. لكنني أود الإشارة إلى العلاقات الأخرى بين كيفية سرد الأحداث في الألعاب مقابل الروايات.
يتراوح حضور القصة في اللعبة بين لمحات مبسّطة جانبية يمكن تجاهلها دون أن تتأثر التجربة سلبًا وبين مركزية لا يمكن الاستمتاع باللعبة أو التقدم دون الاهتمام بها. في الألعاب المصممة من أجل اللعب على الإنترنت قد تَصرِف مئات الساعات دون أن تعرف شيئًا عن الشخصيات سوى اسمها أو حتى ما دون ذلك، ألعاب باتل رويال خير مثال، منها لعبة "ببجي" المشهورة والأولى من نوعها، الكلمة اختصار لعنوان الكامل "ساحات معارك اللاعبين المجهولين". القصة هنا مبسطة لدرجة أن لا داعي لمعرفة حتى اسم الشخصية، فأنت تُرمى من طائرة على جزيرة لتقاتل تسعة وتسعين لاعبًا مجهولًا حتى الموت(4). إضافة المزيد من التفاصيل في ألعاب أخرى لا تضطرك لمعرفتها كي تستمتع بها، في لعبة "هانت: شو داون" هناك ما يكفي من القصة لتستوعب العالم المميز لكنك بغنى عن القراءة عنه.
في ألعاب القتال ثنائية الأبعاد قد تجتمع الشخصيات في دوري قتالي مثل "ذا كينغ أوف فايترز"، هنا نجد المزيد من التمايز بين الشخصيات وما يكفي من اللقطات التي توضح شيئًا من دوافعها وتاريخها ويرتبط هذا بأساليب القتال. هناك ألعابٌ قصصية تعرف باسم "روايات مرئية" وتعتمد بشكل أساسي على قراءة الحوارات والتعليقات والاختيار بين خيارات نصيّة. هناك ألعابٌ تعتمد على حوارات وقراءة المعلومات بدقة، أي أن حضور القصة جزء من اللعبة. في لعبة "أورويل" البسيطة تعمل في نظام استخباراتي لتتجسس على مواطنين في دولة خيالية. لا يمكن إنجاز المهمات هنا دون البحث في المعلومات الشخصية للمتهمين وفي ترابطها.
أما الألعاب التي لا تحتاج للإنترنت فهي تحتوي على "الحملة" أو القصة الرئيسية، وفيها ما يكفي من المعلومات عن شخصيتك وما يجب أن تفعله لتتكون عناصر قصة. بعض الألعاب ترتكز مباشرة على روايات فانتازية مثل سلسلة ألعاب "ميدل إيرث" القائمة على روايات "لورد أوف ذا رينغز". هناك ألعابٌ تعتمد على الغموض من أولها وحتى النهاية مثل "ليمبو" و"إنسايد".
إذا أردنا مقياسًا لتوضيح الفارق يمكننا أن نشير إلى القدرة على تخطي اللقطات الانتقالية والحوارات. جرت العادة عند الكثيرين أن يمضوا أوقاتهم في دهس المشاة وتفجير سيارات الشرطة في لعبة "غراند ثيفت أوتو" بدلًا من اجتياز أي مهمة في مسار القصة الرئيسية. الجزء الخامس يخلق شخصياتٍ مميزة وحبكة ممتازة، وستخسر الكثير من المتعة إن تجاهلت الحوارات بينهم وأنجزت المهمات مباشرة دون التعرّف على تريفور النزق مثلًا، لكنك ستتقدم في اللعبة حتى ختامها دون حاجة لذلك.
هذا بالنسبة للتدرج بحضور القصة، لكن هناك جانبٌ آخر من العلاقة بين القصة واللعبة الرقمية وهو التشعب القصصي. في سلسلة ألعاب "فال آوت" تجد نفسك في عالمٍ ديستوبي واسع بعد حرب نووية غيرت مجرى التاريخ. العالم يحتوي على الكثير من المهمات والقصص الجانبية التي تستطيع استكشافها إضافةً إلى القصة الرئيسية. في لعبة "فال آوت: نيو فيغاس" تختلف خاتمة اللعبة وفقًا لقراراتك في تلك القصص الجانبية وقد لا تذكر إن لم تنجز تلك المهمات. ويمكن أن ترافقك بعض الشخصيات إذا ساعدتها في مهمة ما. لذا يصعب التمييز بين القصة الرئيسية والقصص الجانبية من ناحية الأهمية في تجربتك الشخصية، الفرق الأساسي بينهم هو الطوعية، المهمات الجانبية طوعية، قد تمضي مئات الساعات في لعبة تنجز تلك المهمات قبل أن تعود للقصة الرئيسية وقد يفوتك بعضها، لكن الوصول إلى نهاية اللعبة يعتمد على إتمامك للقصة الرئيسية فقط. الفرق الأساسي الثاني هو أن القصة الرئيسية في العادة لها تبعات جذرية مثل كشف مناطق أو قدراتٍ جديدة أو تغيّر العالم بينما تكون مكافآت المهمات الجانبية محدودة. التشعب أيضًا في وجود قصصٍ داخل القصة، في سلسلة ذا "إيلدر سكرولز" تجد كتبًا فيها قصص قصيرة أو معلومات وفيرة عن تاريخ منطقة أو شخص أو عرق، أي أنك ستجد "اللور" منثورًا داخل اللعبة.
من السهل اعتبار اللعبة الرقمية بشكل ما رواية باعتبارها سردًا قصصيًا. لكن ثمة تساؤل يطرح نفسه عن اختلاف طبيعة تلك "القصة" بالسرد الرقمي والسرد الروائي. ما هو رديف تلك القصص القصيرة المكتوبة في عالم الرواية؟ وما رديف المهمات الجانبية؟ يمكننا تشبيه الألعاب الرقمية مفتوحة العالم بالروايات الإطارية التي تجمع العديد من الحكايا، مثل ألف ليلة وليلة أو الديكاميرون الإيطالية. القصة الرئيسية في تلك الألعاب تخص العالم كلّه وليست قصة بطل أسطوري فحسب، تجتمع القصص جميعها لبناء العالم، والاستكشاف هو بمثابة الترحال في رواية إطارية ثلاثية الأبعاد، بدلًا من تصفح الإزاحة-الجانبية وفق تسلسل السرد، نبحث بأنفسنا عن تلك الفصول.
لذا يمكن أن تقوم اللعبة دون قصة، أو أن تأخذ القصة دورًا مبسطًا لتملأ الفراغ السردي، أو أن تحتوي اللعبة الرقمية على قصة مميزة دون إلزام اللاعب باستيعابها أو التعامل معها، أو أن تكون اللعبة مقتبسة من رواية، أو أن تكون اللعبة بذاتها قصة مرئية أو أن تكون القصة مركزية، أو أن تشكل عالمًا قصصيًا تحت قصة إطارية. ويمكننا إضافة العلاقة الأخيرة بالإشارة إلى الروايات الرابطة، وهي الروايات التي تُكتَب بناءً على اللعبة الرقمية. مثلًا يعمل الكاتب البريطاني جيمس سوالو على روايات مستلهمة من عوالم ألعاب رقمية مثل "هالو"(5).
الهوامش
(1): لعلنا نجد في هذه التكنولوجيا مثالًا ممتازًا عن مفهوم أفلاطون للمحاكاة (Mimesis) لا (Simulation).
(2): للمزيد من الأمثلة دون الدخول في التفاصيل، أذكر أغنية "واقعك" والتي يمكن الاستماع إليها كأغنية حب عادية لكنها في اللعبة تحمل وزنًا لا يليق ذكره على عجلة.
(3): الترجمة على ويكيبيديا هي كثيفة اللاعبين لكن كثيرة اللاعبين أقرب إلى العربية وتفي بغرض الإشارة لعدد اللاعبين الهائل.
(4): اللعبة مُستلهَمة من فيلم ياباني بعنوان باتل رويال.
(5): مع كل هذه التداخلات بين القصة واللعبة الرقمية علينا أن نتوقع ازديادًا ملحوظًا بتأثر الكتّاب الشباب بالألعاب الرقمية وقدرتها السردية المميزة. عندما أقدمت على كتابة روايتي الأولى والمتواضعة "الموتى" اعتبرتُ أن أسلوب السرد المستخدم هو "الشخص الثالث المحدود". تيمنًا بسلسلة أغنية الجليد والنار لجورج ر. ر. مارتن، لكن بعد مرور ثلاث أعوامٍ على صدورها زرتها مجددًا للعمل على رواية قصيرة في نفس العالم واكتشفت أنني كنت أقرب إلى متابعة الشخصيات الرئيسية كأنها شخصيات تتقمصها في لعبة رقمية. مع مرور الوقت أمسى التأثر بالألعاب الرقمية تأثرًا أكثر وعيًا وقصدًا في الكتابة، وأعتقد أن حتمية مادية ستوجه المزيد من الكُتّاب إلى التأثر أو على أقل تقدير الإشارة لألعابهم المفضلة في أعمالهم.
[هذه المقالة جزء من ملف خصّصته جدلية لتناول موضوع الألعاب الرقمية].