"سوف يذهبُ هذا العراقُ إلى آخرِ المقبرةْ
سوف يدفنُ أبناءَهُ في البطائحِ، جيلًا فجيلًا
ويمنحُ جلاّدَهُ المغفرةْ"
سعدي يوسف*
ليلُ العراق طويلٌ، يقول الراحل محمود درويش في قصيدةٍ أهداها لسعدي يوسف.
وهو كذلك.
ليلنا طويلٌ، فيه متسعٌ من الوقت لينبُتَ خنجرٌ آخر أعمى في عِلباة العراقيّ الذي يقفُ هناك، ببابِ بيتٍ لم يَعُد مِلكًا لهُ، ويتلمس، بأناملٍ عَرَفتْ طعمَ الدّمِ ورمل المقابر، ندوبًا خَلفتها جراحُ الأمس واليوم، وليُرثي قتلى الأمس واليوم، وليبكي بصمت، ماضٍ تشتعلُ به النيران(1).
وليلي صمتٌ، أحيانًا دموع. أحاذرُ المكالمات الهاتفية من المنفى. "شلونك؟" هذه تبتزني. لا تسألني، لا أريدُ أن أبكي. هل تقرأون الأخبار؟ الموتُ عندنا لا يَشْبع. أختنقُ كثيرًا. موقفُ الباص قُربَ مَعمل بِسكولاتَه مَكسورٌ. رَحلَ آخرُ الرُكاب عند ربّ العباد. نَصَبَ أهلُ العراق الخيام أمام باب الجنة. بَعضهم أدخلهُ النارَ قَچقچيٌ شوهدَ يوزعُ وعودًا بطفرةٍ "مضمونةٍ" إلى الفردوس سيرًا على الأقدام عبرَ تلال الأعراف(2).
البقيةُ ينتظرونَ تأشيرةً إلى أيّ مكان، أيّ زريبةٍ، أيّ هُناك بعيدًا عن هذه الهُنا: منذُ أن عَضّ أنكيدو لسانهُ وندبهُ جلجامش ستة أيام وسبع ليالٍ، قبل أن يهيمَ في البراري ليُقابلَ أور-شنابي - ملاحُ أوتو-نبشتم والقچقچي الأول - وينحدرَ إلى الغابة يقتطعُ المرادي ليعبرَ به هذا الأخير مياه الموت، مُذاك وأرتالُ الهاربين ما انفكّت تتقطارُ من وراء أسوار العراق(3).
ألمْ تسقط المروحيةُ بعلي وادي والمهربين على الحدود؟ حدودُ مَن كانتْ؟ سلوفاكيا؟ رُبما، لا فرق، كُلّ الحدود أمامنا مَسدودةٌ. صفرٌ لهذا التاريخ، قُبلةٌ على جَبينِ علي وادي(4).
***
أهيمُ حينَ تهجعُ الأمّة، أذرعُ أزقة المحلةِ كعائدٍ من دياميس مُعتَقَلٍ بعيد. هذا بيتنا، على هذا السطح سمعتُ أولَ غارة. عند هذا الباب أصبحتُ شاهدًا على إصابة شابٍ أعزلٍ برصاص جُنديٍ أميركي. في هذه الحديقة ركضتُ مع أخي وأولاد عمي وأصدقائي خلفَ كُرةٍ من البلاستيك المُعاد: تَكْ كَولّ، وجدي على كُرسيهِ المُتحرك بيننا الحكمُ.
صُنبور الماء تحت النارنجةِ، يقطرُ بحنوٍ على لَمّة النعناع. كم أشتهي رشفةً منهُ هذه الليلة. لكِنّ جدي مات، في الحديقةِ بيتٌ جديدٌ، وأنا وحيدٌ هذه الليلة، تمامًا كليلة الأمس، والغد، وباقي أيّام الأسبوع.
كيف كبرنا بهذه السُّرعة؟ لماذا عادت الحربُ؟ كيفَ عضّ الزمانُ دشداشتهُ وهروَلَ حافيًا بتلكَ الأيام كاللِّصّ إلى لا أعرفُ أين؟(5)
أُعزي زوايا الحيّ برحيل أهله، أقرأُ الفاتحة على أمواتي، وأعودُ بعد ساعةِ الطواف إلى عَتمَة حُجرتي، حيثُ توم وايتس ينوح، وأنا أقضمُ قلبي وأكتبُ ما استطعت.
هذا ما يَحدثُ عادةً في الليلِ.
وفي الليل، يطوفُ الجِياع، أولئِكَ الذين شُنقوا في زنازين السجون البعيدة، شوارعَ المدينةِ بحثًا عن أحِبَّتهم. أستلقي هنا، في عتمةِ حُجرتي، مُنتظرًا وصولهم عندَ باب البيت. هُم حُفاةٌ من أَهْل الله، عُراةٌ يلفحهمُ الحرّ، يَرقبون حَركة الستائر ويبكونَ بصمت. من عُيونهم تجري أنهرٌ من الدُموع. وحين يُكفّنُ الليلُ أزِقّة المَدينة، وتهجعُ، مؤقتًا فوهاتُ البنادق، أُغافلهم وأنطلقُ بِدَوري في الشوارعِ لأزورَ مَوقِع آخر تفجيرٍ هزّ أركان البلد. وأعبأ، بلا كللٍ، رؤوس الأطفال الرُضّع، في كيس جُنفاصٍ أُسلمهُ مَلَك الموت (صديقي الوحيد) أمانةً حينَ يمرُّ بي في طريقهِ عائدًا إلى النجف.
ولم أكن أدري، حين كتبتُ ما كتبت، أن القتلى في العراق يَسيرونَ ليلًا مُنذُ الستين، مُنذ أن رآهم سعدي يوسف يَسيرونَ ليلًا و"أكفانُهم لا تسترُ الجسدا:
هُمُ يسيرون
والأفواهُ مزرعةٌ
من الرصاصِ، تُغَنِّي، والدروبُ صدى"(6).
لَك وحتى في المنفى، هُناك، عندَ تلكَ الزاوية بالذات، صادفَ سركون بولص أحَدُهُم، صَديقهُ القديم الفكهُ بذاتهِ:
"لكنّ شيئًا قَلَبَ قَسَماتِهِ
من الداخل: الحواجبُ بيضاء
سوداءُ هي الأسنان
إذا ابتسم (لا فرَحًا) بدا كأنّهُ يبكي"
لاقاهُ وكانوا خارجين من عاصفةٍ، وصرخ به:
"يا يوسف!
ماذا حدثَ لوجهكَ يا يوسف؟
ماذا فعلوا بعينيكَ يا يوسف
ماذا فعلوا بعينيك وحَقَّ الله؟
قال: لا تسألني، أرجوك.
قال: إنّهُ الدمار"(7).
***
نَعَم، إنّهُ الدمار. اقرأ النَّشرَةَ المسائية. أو لا تقرأ، اُنظُر حولكَ. هذهِ الحواجزُ الكونكريتيةُ أنصابٌ خرساء، كُلّ يومٍ تُصلبُ عليها قربانًا رايةً جديدةً للحداد. لوحاتُ المرور هنا مُزركَشة بالشظايا، تُدِلك الطريق إلى المقابر، إلى المطار، وتذُكرك - لو نسيتَ سهوًا - بمَجَازر الأمْس القريب.
هنا الحربُ يا سيدي لم تنته بعد. وكَم مَضى؟ مليون قتيل؟
اُنظُر حولكَ، والْعَن مَن تشاء. اِقذف فردة نعلك في أيّ اتجاه، ففي كُل زاويةٍ يتقرفصُ عندنا دجال. ثُم لَملِم چوالاتكَ واهرُب(8). أو لا تهرُب. اِقبَعْ بين هذهِ الجُدران، ومُتْ قهرًا، أو برصاص المُلثمين.
*كُتب هذا النص قبل رحيل الشاعر الكبير سعدي يوسف (1934-2021). لروحك السلام أيُّها الشاعر.
(1): علباة الشخص، الجهة الخلفية لرقبته.
(2): في المحكية العراقية، القچقچي هو المهرب، والطَفْرَة هي الهربة، أي الهجرة بطريقةٍ غير شرعية إلى الخارج.
(3): في سعيه للخلود بعد موت صديقه أنكيدو، يلجأ جلجامش إلى أور-شنابي للوصول إلى جده أوتو-نبشتم عبر بحر الموت، بعد أن تدله سيدوري صاحبة الحانة إلى مكانه. والمردي أداة تستعمل اليوم في دفع المشاحيف في أهوار العراق. (انظر: ملحمة جلجامش، ترجمة طه باقر من منشورات وزارة الإعلام، الجمهورية العراقية، 1975). أما عضّ لسانه، فتعني مات بالدارجة العراقية.
(4): علي وادي زميل في الجامعة الطبية في ترنوبل، أوكرانيا. بعد تخرجه من كلية الطب، حاول الوصول إلى أوروبا الغربية مستعينًا بمهربين، لكنه توفي بحادث تحطم طائرتهم على الحدود مع سلوفاكيا. وفي هذه الأسطر استعارة لكلمات من قصائد الشاعرين الراحلين سركون بولص ونزار قباني.
(5): لحظة الركض المفاجئ، يعضّ العراقي دشداشته (أي ثوبه التقليدي) ليرفعها ويحرك رجليه براحة.
(6): من قصيدة "القتلى يسيرون ليلًا" لسعدي يوسف، جاءت في مجموعته الشعرية "النجم والرماد"، الصادرة عن مطبعة اتحاد الأدباء العراقيين، في عام 1960.
(7): من قصيدة "جئتُ إليك من هناك" لسركون بولص، من مجموعته "عَظمة أخرى لكلب القبيلة"، الصادرة عن منشورات الجمل في عام 2008.
(8): في المحكية العراقية، چوالاتك، هي أغراضك الشخصية.