ولكنّ قلبي: متنبي الألفية الثالثة
يوسف رخا
(دار التنوير، لبنان، 2021)
جدلية (ج):
ما الذي قادك نحو الموضوع؟ كيف نشأت فكرة الكتاب؟
لماذا المتنبي تحديدًا، ما الذي حرّكهُ فيكَ كشاعر؟
هل يمكنك إطلاعنا هل الأسلوب الذي اتبعته في الكتابة؟
هل يمكنك إخبارنا عن نوعية المصادر التي استخدمتها في البحث والقراءة؟
ما هي التحديات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
يوسف رخا (ي. ر.): هذه كلها أمور يخوض فيها القسم الثاني – السردي – من الكتاب، والمعنون "الشرح" على طريقة الدواوين القديمة. مررتُ بمرحلة صعبة في مساري. كنت مستاء من المناخ الثقافي والوسط الأدبي. واستغللت الحالة في كتابة رواية كبيرة بالإنجليزية. لكن مع الوقت بدا لي أن في أدب اللغة الإنجليزية أجواءً وأعرافاً ربما أسوأ من تلك التي هربتُ منها في البداية، وكنت أحن إلى العربية بعد انقطاع.
في تلك الفترة كانت قراءة ديوان المتنبي لأول مرة مع شروحه جزء من محاولات التعافي والعودة إلى الأدب بروح متجردة ونَفَس حر. في البداية لم يكن في بالي أن أكتب وكانت القراءة في جانب منها مثل عودة إلى الدراسة أو التعلّم. كنت أستذكر النحو والصرف والعَروض فضلاً عن معاني الكلمات. لكنْ حَدَثَ أن عثرتُ على بيت منفرد ثم آخر تأثّرت بهما على نحو دفعني إلى كتابة قصيدة نثر بمثابة ترجمة لكل منهما، ليس من لغة إلى أخرى ولكن من زمن إلى آخر أو من حساسية أدبية إلى أخرى، ودونما أدري كنت أستخرج ما يخصني من هذا الإرث العظيم على شكل نص معاصر.
وجدتُني أكتب المتنبي الخاص بي، وكنت أكتبه بلغة معاصرة لكنها في حوار مع لغته هو، وبطريقة تعيد توظيف صوره واستعاراته بحيث يكون لها صدى في حياتي شخصياً. حتى خطر لي أن هذا يمكن أن يكون مشروعاً أدبياً. وبالتدريج تبلورت فكرة "ديوان" من عشرين قصيدة تردّ على عشرين بيتاً، يليه "شرح" سردي يتضمن ملابسات كتابته.
كنت وما زلت أقرأ ديوان المتنبي بتحقيق عبد الرحمن البرقوقي الذي يتضمن سيرة وترجمة للشاعر وزمنه فضلاً عن شرح يعتمد على الشروح التاريخية، لكني قرأت أيضاً شروح العكبري والواحدي وأبي العلاء وغيرهم بشكل منفصل. وعندما التزمتُ بالمشروع قرأتُ كل ما أمكنني الحصول عليه مما كُتب عن المتنبي وشعره: كتاب القاضي الجرجاني وكتاب محمود عبد الشكور بالذات كان لهما تأثير خاص على إدراكي لسياق ذلك الشعر وخصوصيته في زمنه.
أنا طبعاً لا أدّعي أني خبير في الشعر العربي القديم ولذلك لا يمكنني أن أقول بثقة لماذا المتنبي دون غيره. لكن المتنبي، ومن قبل أن أعقد معه هذه الصلة بسنين بل وعقود، كان دائماً يلفتني ويشدني أكثر من سواه. إنها براعة صياغاته طبعاً لكنها أيضاً طريقته في تحويل حياته وعلاقاته إلى أساطير وعوالم قائمة بذاتها.
أعتقد أن لهذه المسألة صلة حقيقية بفهمي للشعر ليس باعتباره نوعاً أدبياً له شروط تقنية ولكن باعتباره خطاباً فريداً له سيادة، خطاباً يتجاوز معانيه المتجذرة في سياق تاريخي محدد إلى مساحة جمالية وشعورية أوسع وأعمق. وأظن أن أكبر تحدٍ في هذه الكتابة كان خلق معادل معاصر لتلك الرؤية بلغة مفهومة نسبياً واستلهام مساحة شخصية موازية للمساحة التي يشغلها المتنبي في شعره دون أن تكون هناك محاكاة مباشرة أو ادعاء ندية.
(ج):
ما هي الأفكار التي يتضمنها الكتاب، هل هنالك ثيمة معينة؟
كيف يتموضع هذا الكتاب في الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(ي. ر.): الكتاب لا يتضمن أفكاراً بالمعنى المعتاد ولكنه يتقاطع مع قضايا أو أسئلة محيطة بظروف كتابته، ومع ذلك أستطيع أن أقول إن ثميته الكبرى هي معنى الشعر (وعلى اعتبار أن الشعر هو النموذج الأوقع للأدب، معنى الأدب عموماً). كيف يختلف الشعر عن سواه من الخطابات وماذا يعرّفه أو يميّزه؟
الكتاب يختبر هذا السؤال من خلال ذات الشاعر وحياته، وهو ما تراه في ديوان المتنبي كذلك: إنه يمدح ويذم ويرثي وكذا، لكنه أيضاً يكتب سيرته الذاتية. أنا طبعاً أفعل ذلك على نطاق أضيق بما لا يقارن كما أفعله بتعمّد ووعي أكبر، وأمارس الهوس بالذات بحس مفارقة أعلى. لكن هذا هو الموضوع.
أحكي عن سفري المبكر للدراسة وموت أبي وعلاقتي بالكتابة والكُتّاب، أغطس في الأشياء التي كانت تؤرّقني أيام شرعت في قراءة الديوان. وهناك جانب منه أيضاً حول تحولاتي الشخصية خلال عشر سنين من الزواج. الأبوة وما يسميه الكثيرون أزمة منتصف العمر، ذلك الوعي المفاجئ بأنك أنفقت نصف رصيدك من الحياة أو أكثر وأنك تعيش منعزلاً إلى حد كبير وجسدك آخذ في التهالك. كل هذا مذكور في "الشرح".
لا أظن أن للكتاب جنساً كتابياً واضحاً وإن كان هناك في أدب اللغة الإنجليزية المعاصر نوع من الكتب القصيرة يجمع بين القصيدة والمقال السردي وعادة ما يكون شديد الذاتية. يمكنك أيضاً أن تراه في سياق تجربة قراءة لتراث المتنبي، قراءة إبداعية، لكنه ليس ولا يحاول أن يكون عن المتنبي أو أدبه بأي شكل. إنه عن شخص موجود هنا الآن. شاعر أو كاتب قرر أن يقرأ المتنبي ويرى ما يفعله به ذلك. وأعتقد أن لهذا الكتاب على صغره موقع محوري تماماً في مسيرة ذلك الشخص.
كانت أول محطة كبرى في تاريخي الأدبي هي "كتاب الطغرى" حيث محاولة للتماهي مع لغة الجبرتي وأسئلة الهوية في سياق القاهرة وبمنطق يستدعي الشكل الروائي. صدر "كتاب الطغرى" سنة ٢٠١١، قبل عشر سنوات بالتمام من صدور "ولكن قلبي" حيث محاولة التماهي مع لغة المتنبي وأسئلة الهوية في سياق شخصي أنا ووعيي بنفسي ككاتب والأهم كشاعر.
عدت عبر قراءة المتنبي وكتابة هذه النصوص إلى اللغة العربية بعد نحو خمس سنوات لم أكتب فيها شيئاً يُذكر غير روايتي الإنجليزية وإن كنت ترجمت إحدى روايات جون بانفيل وواصلت عملي في كتابة المقال وبعض القصص القصيرة (أكثرها بالإنجليزية أيضاً).
والآن بدأت في كتابة رواية عربية جديدة وكأنني أواصل مسيرة انقطعت بين ٢٠١٤ و٢٠١٥. إنها الجزء الثالث من ثلاثية التماسيح: التماسيح (عن العشق والشعر)، باولو (عن العنف والفوتوغرافيا)، والرواية الجديدة (عن الموت والموسيقى).
ليس للأدب جمهور. أنا لا أفكر في الجمهور. هناك قراء أفراد فقط. لي قراء يتابعون كتابتي أنا، وهناك قراء مشغولون بالشعر المعاصر، وربما هناك قراء آخرون يعنيهم سؤال استلهام التراث. الكتاب لكل من يمكن أن يحبه. أنا فقط ممتن لأنني تمكنت من إنجازه.
ثلاث قصائد من الكتاب
ولُولا أنّني في غيْر نومٍ
لَكنتُ أظنّني منّي خيالا
ولكنّ قلبي سَمَكَةٌ والحُبُّ كالتاريخ. عَطَش الشعوب هامشٌ في سِجِلّات الغيلان، أولئك الذين تَسقُط الأيامُ عن أكتافِهم كمساكنَ تتفجّر أو عواصمَ طَوّقَتْ أعناقَها الكريهةُ. إنهم رعاديدُ كُذَّب. ليس على الأرض سوى ما تُسَجّل أصابِعُهم حين لا تَطِقُّ فرقعاتُها تَصُمّ آذانَنا عن النحيب. شِشْ! هل تسمعين فجيعة العالم؟ هل تريْنهم يقذِفون البَشَر في الهواء ليعودوا يلقَفُونهم ويقذفونهم مِثل القواريرِ في يديْ بهلوان؟ إنهم يُوَشّون قُماشة الواقع. بُهْمٌ يَذيع صيتهم على الشاشات وأنا الذي التقمتُ جِذرَ الكلام أَبِيتُ بلا اسم في سِجِلّات الفصاحة! كم كلباً يتغوّط في... شش! العالم كُستُبان. ولقد خرجتُ فعلاً على أساطين العشيرة. في هذه الأنواء طيورٌ تسقُط من السحاب صريعةً. أينما وَلّيتِ ناسٌ تُسخِّم وجوهَها وتبكي. الموت طائرة بلا طيّار. ونحن لسنا سوى المادة الخام لإعلانات السوشيال ميديا، أليس كذلك؟ لكنّ الحب فعلاً كالتاريخ. أعِدُكِ. في انتفاضات قلبي كل أسرار المحيط.
يُخيّل لي أن البلاد مسامعي
وأنيَ فيها ما تقول العواذل
رَحْلي خفيفٌ في منامات السَفَر. على مسرح الجريمةِ لا رفاقَ ولا طريق. فقط قاتلي الذي لا أراه. أكون على حافّة سريرِ أنتيكا وحقيبةٌ كبيرةٌ فوق رُكبتيّ. شتائمُه لا تَلِج دماغي حتى تزايِلَها: يا مفضوح! إنني عارٍ فِعلاً، وقميصي يُرفرِف تحت سَقفٍ سامِق. تهبِط قطراتُ دَمٍ سمينةٌ في اضطرابي، تداني يافوخي تترَجرَجُ لكنها تَعودُ تَعلو وكأنّ كلَّاً منها يويو بخيطٍ خَفيّ. لا تَبلُغُ الأرضَ أبداً. في الليالي الرائقة يُصاحبني حِصان. يكون من الصِغَر بحيث تسعُه راحَتي لكنّه أشهبُ سابح، ولا أَشكُّ لحظة في إمكانية امتطائه. مع هروب الضوء أسمع قاتلي مُقبِلاً فأفتح الحقيبة لأرى مَطَاراً بحجم صندوق كازوزة. فوق ركبتيّ سوقٌ حرة ونقاطُ تفتيش، سُيور أمتعة. تُقلِعُ طائرات. أتناولُ البوردنغ باس وأنا أفكّر أنّ القتل عَمَل يومي وأنا قادرٌ عليه. بالخيل والخُيلاء خيال الناجين. لأنّ الرَحْلَ سَرجٌ وسَكَن. قاتلي ميّتٌ وأنا أملأ استمارة الجوازات.
عَرَفتُ اللَيالي قَبلَ ما صَنَعَت بِنا
فَلَمّا دَهَتْني لَم تَزِدني بِها عِلما
فكَوْني سائلاً لا يُصيبني بَلَل. وكوني حُزْناً لا أصبو إلى الألوان. الماءُ جَفنٌ لِجَسَدي أُغمَدُ بِلا صوتٍ حيث أَهبِط مستوياً ويائساً وظمآنَ سوادٍ. هل تعلمين أن الجَفن ليس للعين وحدَها؟ عيناي مِنشفة لجسدكِ المرتعش كطائرٍ قَنَصَه غُولٌ سارِحٌ لكنّه لا يموت. إنهما رعشةُ ذلك الطائر تنثُر دَمَاً طازَجاً على خطّ الأُفُق، وهما الضوْءُ يَطفِر لؤلؤاً من جبينك حين انبَلَجْتِ تُجيبينَ أربعةً وأربعين عاماً من الدُعاء. هل تعلمين أن الغِمد أيضاً جَفنُ سيْف؟ كَفّي تعانق الطائر حتى يتأوّد مُلتذّاً بينما فمي على الجُرح يكبَحُ النزيف. وجهي خريطةُ السنين مفروشةً حيث جئتِ: وطؤك أكسجين. ها هو السائل يتجمّدُ سيْفاً يُسَلُّ لطِعان غولٍ آخرَ حيث الماءُ بدلَ الهواء وطعمُك في فمي وأنا أغطِس. مع انطفاء أنوار المَسبَح وأنفاسي تُبَقبِق إلى أعلى أتأكّد: سأموت قبلَكِ. لكنّك عُمرٌ آخرُ يا حبيبتي. وأنت مِثلي من قَبل أن تَعرفي تعرفين.
[صدر الكتاب بدعم من آفاق (الصندوق العربي للثقافة والفنون) مع رسوم لوليد طاهر].