إعراب الألعاب
بعد المرور العام على علاقة الألعاب الرقمية ببعض الفنون، آن الأوان لنعود إلى العنوان ونسأل عن موقع الألعاب الرقمية من الإعراب الفني. هل اللعبة الرقمية وسيطٌ جديد من الفن بجماليته وقدرته على خلق تجربة شخصية سامية كما هو الحال في تلك الفنون؟ أم هو نشاطٌ مسلٍ ومن الاستهتار الاستخفاف به، لكنه حقًا ليس فنًا؟
الإجابة الفلسفية تتطلب مقالة فوق هذه المقالة. بدلًا من الخوض في أطروحات استطيقية قررت تقليب وتقريب المسألة بعد عرض تقاطعات مع الفنون المختلفة.
الجدل أو الجدلية
قد يقال إن الألعاب الرقمية وإن جمعت فنونًا فهي ببساطة تكوّم تلك الفنون فوق نشاطها الأساسي: اللهو. لذا أي إشارة إلى فنيّة الألعاب إشارة إلى تلك الفنون لا إلى اللعبة. قدّم روجر إيبرت، الناقد السينمائي الراحل، حجة مماثلة ليفصل بين الألعاب والفنون، تعتمد الألعاب على قواعد ولها أهداف واضحة ولو لم تفعل ذلك فستتحول إلى محض تمثيل للفنون الأخرى.
رفض آخرون فكرة تقبّل اللعب كنوعٍ من الفنون ومنهم مصممو ألعاب أنفسهم. صرّح مؤسسو شركة "تيل أوف تيلز" قبل عقدٍ من الزمن أن الألعاب الرقمية مضيعة للوقت ولن تصير فنًّا إلا إذا مُزّقت القواعد التي تحكمها. هيديو كوجيما مصمم ألعاب آخر اتفق مع روجر إيبرت نوعًا ما، الفن بالنسبة له هو ما تجد في المتحف، ووصفَ مصممي الألعاب بالقائمين على المتحف، مهمتهم ترتيب المعرض والإضاءة وبيع التذاكر. لكنه أضاف أن مهمته بصفته هيديو هي ترتيب المعرض بالإضافة إلى إبداع ما يعرض فيه.
في المقابل نجد قراراتٍ تعطي بعض الألعاب قيمة فنية، عندما حصر كوجيما الفن بما نجده في المتاحف في عام 2006 ترك ثغرة في درع حجته، ففي عام 2012 أضاف متحف الفن الحديث في نيويورك 14 لعبة رقمية إلى مجموعته الفنية. باولا أنتونيللي القائمة على قسم العمارة والتصميم في المتحف تشرح السبب وراء قرارها في ضم المجموعة وهو التركيز على التصميم التفاعلي في الألعاب. هذه الإضافة لا تحسم مسألة فنيّة اللعبة الرقمية من عدمها لكنها تقترب أكثر إلى الإجابة، والأهم من ذلك أنها تكشف العلل في تصريحات من يرفض اعتبار اللعبة الرقمية نوعًا من الفنون. إحدى حجج إيبرت كانت ببساطة طلب تسمية أي لعبة تسمو لأن تكون فنًّا والإشارة إلى عدم وصول أي من الألعاب الرقمية إلى مستوى الأعمال الفنية العظيمة للمخرجين والكتاب والملحنين، حجة قد تبطل فور حصول ذلك مستقبلًا. يبدأ إيبرت مقالته بالتخفيف من قوة حجته فهو لا يستبعد أن تصير الألعاب الرقمية فنًّا في المستقبل لكنه يزعم أن أيًّا من اللاعبين الأحياء في وقته لن يعمّروا لرؤية ذلك.
تصميم التفاعلية هي في صميم الألعاب الرقمية بلا شك، لعبة "بونغ" المحاكية لكرة الطاولة اقتصرت على شرطتين تتقاذفان بنقطة. لقد قطعت الألعاب أشواطًا منذ صدور تلك اللعبة ولا يمكننا اختزال الألعاب الرقمية بهذه الصورة المبسطة من التفاعلية إلا إن اتفقنا على اعتبار الأفلام في يومنا هي فقط إصدارات جديدة من أول فيلم صدر في عام 1878.
كذلك يمكننا التصدي للمزيد من الحجج التي تعرّي الألعاب من الأشكال الفنية التي تكوّنها، اللعبة الرقمية هي مجموعة متكاملة من العناصر وحذف أيٍ منها يجب أن يقابله حذفٌ من العناصر(1) الفنية الأخرى. نستطيع حذف الأغاني بصفتها فنًّا بذاتها من الألعاب وحتى الأفلام (الأفلام الصامتة مثلًا) لكن هل نتعامل مع الأفلام في يومنا كأنها مركب "الفيلم + موسيقاه" عند مناقشتها؟ وما هو حد التجزئة الممكن في الأشكال الفنية على أي حال؟ هل اللوحة الفنية هي ما نراه على النسيج الخيشي أم أن النسيج جزء من اللوحة؟ سَل أي رسام قدير عن أهمية الأدوات وعن الدقة في انتقائها.
من الواضح أن الزمن لا يَحِنُّ على الآراء في هذا الجدال، وهذه مسألة ترتبط بالتطور السريع للتكنولوجيا(2). ومع اقترابنا من المرحلة الأخيرة في المقالة عليَّ الإذعان لسنّة الزمان وأن أقدّم رأيي ببالغ التواضع والأناة.
نَوعا الانغمارية
عند الحديث عن إمكانية سمو اللعبة الرقمية إلى نوع حديثٍ من الفنون لا أشمل كل الألعاب. مثلًا يصعب وصف الألعاب الرياضية مثل "فيفا" و"برو إيفولوشن سوكر" بأنها أعمالٌ فنية، على الرغم من رواجها واستمتاعي بلعبها مع أصدقائي أيام الجامعة. أستثني أيضًا بعض ألعاب تصويب منظور الشخص الأول مثل "باتلفيلد" التي استمتعت كثيرًا بلعبها مع أخي، وألعاب أخرى قضيت معها عشرات الساعات مثل "هيروز أوف ذا ستورم" وهي من فئة ألعاب حلبة قتالية متعددة اللاعبين عبر الإنترنت. لكن ما المعايير أو السبل للفصل بين الألعاب دون الانحدار في النسبية؟
أعتقد أن الصميم التفاعلي هو مربط الفرس وعلينا أن نتحدث عما يتيحه وسيط الألعاب من تجربة تفاعلية مكثفة يسميها اللاعبون بالانغمار. الانغمار في عالم اللعبة يشمل تعليق عدم التصديق والترفيه والتحدي، سأقسمه إلى نوعين لغاية توضيح وجهة نظري إزاء موضوع المقالة، لكنني لا أفصل بين النوعين في التجربة أثناء اللعب.
الانغمار الترفيهي
يسجّل المتجر الرقمي للألعاب "ستيم" عدد الساعات التي تقضيها في اللعب، قد تتفاجأ أحيانًا لأنك صرفت مئات الساعات على لعبة ما، أو حتى في نهاية جلسة تكتشف أنك قضيت ست ساعات متواصلة. الألعاب الرقمية تقدم متعةً قد تؤدي إلى الإدمان.
لا يأتي الإدمان في الألعاب الرقمية من التخدير الحاصل كما هي الحالة مع الكحول والمخدرات، اللعبة الرقمية لا تقذفك في حالة من الترنح المضحك أو النشاط المفرط أو الخمول اللذيذ بل تتحداك وتدفعك لليقظة والمهارة المركزة. في المقابل تتشابه كل هذه الأمور في إدخالك إلى حالة وعيٍ مختلفة، الكحول والمخدرات قد تغيّر العالم الحقيقي أمامك أما الألعاب تخلق لك عالمًا خياليًّا برمّته.
عندما ذكرتُ اختلاف الشخصيات بين الألعاب الرقمية والأفلام تحدثت عن الشخصيات البشرية، لكنّ الألعاب الرقمية قادرة على إبراز كائنات عجيبة وإعطائها حياة بصورة لا يمكن لأي فيلمٍ تصويرها إلا ظاهريًّا وبصورة مسطحة. نعم الصور المنشأة بالحاسوب في الفيلم تعرض لك تلك الكائنات لكنك في اللعبة الرقمية تواجهها مباشرةً. عالم الرواية الميثولوجي كان يذكر للبشر تلك الكائنات ويترك لخيالهم تصوّرها، لك أن تتخيل اسكندنافيًّا قبل قرونٍ يؤمن بمواجهة سيغورد للتنين فافنير أو فكّر بانبهار اليابان بضخامة غودزيلا في الخمسينات، لكنك في لعبة "سكايرم" تقاتل التنانين وجهًا لوجه وفي "سيكيرو" تواجه تنينًا في مبارزة خلابة. الحاجز الميثولوجي أو السينمائي بين الفرد والمخلوقات العجيبة يبهت في اللعبة الرقمية.
لا تحصر الألعاب الرقمية عوالمها بالموجودات أو بالأساطير، فبعد التخلص من القيود الفيزيائية وحتى العقلانية لا يبقى من الحدود سوى تلك الخيالية والتكنولوجية. العدو الرئيسي الأول في "نير: أوتوماتا" هو روبوت جالوتيّ الحجم، طوله مئات الأمتار وذراعاه آلات تعدين، لاحقًا تواجه حاملة طائرات عملاقة حجمها بالكيلومترات. في الجزء الثالث من "غود أوف وور" تقاتل كرونوس وتتسلق عليه كالقملة، لا يحس بك بسبب صغر حجمك إن لم تحدث ضررًا كافيًا للفت انتباهه. ولا بد من ذكر "أزورا راث" حيث تلاكم وايزين الذي يفوق حجمه في نهاية النزال حجمَ الكوكب!
لا عيب في ضآلة الحجم، حتى الأعداء الرئيسيون بأحجام بشرية يفرضون عليك تحدياتٍ لن تنساها بعد الانتهاء من اللعبة كما تنسى المواجهات في الأفلام والروايات. لأنك أنت من يخوضها بدلًا من المتابعة الخاملة للبطل يفعل ذلك بعيدًا عنك. يتّبع الأعداء الرئيسيون في كل الألعاب أنماطًا معينة في ضرباتهم ويشعر اللاعب بهيبة القتال وشيئًا من لذة التعلم في استكشاف نقاط ضعفهم، نشوة الانتصار تتعاظم مع القدرة على مواجهة العدو مرة ثانية وثالثة حتى تصل مرحلة من الحرفية في القضاء عليه. تقدّم "فيوري" فرصة لهزيمة الأعداء مع عداد للزمن والضربات التي تتلقاها كي تحسّن من أدائك.
الانغمار الترفيهي في عالم الألعاب الرقمية له جانبٌ اجتماعي أيضًا، ففي معظم الألعاب الجماعية تُحَسّنُ مهاراتك مع فريق من اللاعبين من كل أنحاء العالم، وكثيرة هي قصص الالتقاء بأصدقاء عبر هذا الوسيط. هذه التجربة لا مثيل لها في متابعة الأفلام، مشاهدة الفيلم مع الأصدقاء ممتع بلا شك لكنكم ما زلتم تشاهدون الأحداث من وراء حجاب الشاشة، أما في الألعاب الرقمية فأنتم ترسمون تفاصيل المعركة بالتعاون والاعتماد على بعضكم. لذلك تتبع معظم الألعاب الرقمية الجماعية منطق التعاون وتوزيع الأدوار، هناك شخصيات تتحمّل الكثير من الضربات وأخرى تؤذي الخصم وخلفهم لا بد من شخصية تعالج الفريق وتحميه من ألوان السحر المختلفة.
ما ذكرتُه حتى الآن مجرد رؤوس أقلامٍ لما تقدمه الألعاب الرقمية من تفاعلٍ ترفيهي لا نظير له في أي الوسائط الأخرى. لو ابتعدنا عن ملحمية النزالات مع الأعداء وعن حسّ الإنجاز ستقدم لنا ألعاب الفرصة لأن نملأ وقت الفراغ في تجربة إنسانية مثل لعبة "سيمز" أو بسيطة مثل صيد الحيوانات في "ريد ديد ريديمبشن" أو تجربة النسخة الرقمية من ألعاب ورقية مثل "غوينت" و"هارث ستون" و"ليجيندز أوف رونتيرا".
هل يعني هذا الجانب من الانغمارية أن اللعبة الرقمية فن؟ الإجابة المباشرة هي لا، مع التذكير بأن المتمرسين في الألعاب قد يصل أداؤهم إلى مرحلة يمكن وصفها بالفن، مثلما يمكن وصف أعظم لاعبي كرة القدم. لكن أغلبنا لا يقضي الوقت الكافي في أي لعبة حتى يصل إلى مرحلة يرتقي فيها أداؤه إلى أداء فنّي. هذا الجانب من الانغمار لا يمكن تناسيه عند الحديث عن الألعاب، كما لا يجوز اختصار الألعاب فيه كما سأوضح عند الحديث عن الجانب الآخر من الانغمار التفاعلي. التفاعل الترفيهي قد يعطي في أوجِه تجربة بشرية لا توفرها الفنون.
الانغمار السردي
في لعبة "لايف إز سترينج" تأخذ دور ماكس، شابة تعود إلى مدينة أركاديا بي بعد غياب لسنوات، في بداية اللعبة تشهد ماكس مقتل صديقة الطفولة كلوي ولكن معجزة تحصل عند رؤيتها لفراشة - في إشارة مباشرة لمفهوم أثر الفراشة - تعطيها القدرة على العودة بالزمن لتنقذ صديقتها. التفاعل في اللعبة يعتمد على قدرة التلاعب بالزمن ومحاولة حل الألغاز واختيار الكلام الأنسب في الحوارات. في اللعبة تتعرض شخصية فتاة محافظة للخداع والتخدير ثم التصوير ونشر مقطع الفيديو على الإنترنت، التنمر وتبعات المكيدة تدفعان الفتاة لمحاولة الانتحار. فاجأني ذلك لوقوعه مبكرًا في اللعبة، عندما حاولتُ إنقاذها وفشلت في ذلك لم تتوقف اللعبة، ومع أن ذلك لا يخلُّ بها بصفتها لعبة إلا أنني شعرتُ بحس المسؤولية وأعدت المرحلة كي أعير هذه الشخصية اهتمامًا أكثر ولأنقذها في النهاية. هذا النوع من الانغمار ليس ترفيهيًّا في نظري، الخيار الخاطئ لم يؤثر باستمرارية اللعبة.
معضلة التنقل في الزمن والتلاعب بالأحداث تتفاقم مع كل مرحلة، مع كل محاولة لاختيار ما هو أفضل ظاهريًّا نكتشف عواقب وخيمة يفوق سوؤها خيرَ ما نسعى له. في نهاية اللعبة يهدد إعصار ضخم المدينة وتكتشف ماكس وكلوي أن أثر الفراشة من إنقاذ كلوي من الموت سَبب الإعصار، على اللاعب الخيار بين إنقاذ أعز صديقة لشخصيته أو التضحية بها مقابل إنقاذ المدينة. قد تبدو هذه المعضلة سهلة للمراقب المنفصل عن اللعبة والمتحدث ببلادة عن الاعتبارات الأخلاقية، لكن الانغمار في اللعبة وفهم درجة الصداقة بين الشخصيتين وما عانت منه شخصية كلوي لن يستسهل الخيار. "لكنها محض لعبة رقمية" قد يقول أحدهم، لكن لو أسقطنا علاقاتنا الشخصية على هذه الخيار لاكتشفنا أن إجابة هذا السؤال تخبرنا الكثير عن أنفسنا.
لا يوفر أي وسيطٍ آخر أي درجة من التفاعل مع الشخصيات، الترابط في الألعاب يطرح الأسئلة الأخلاقية والعاطفية بصياغة أعمق. يمكنك متابعة فيلم أو قراءة رواية تتطرق لأثر الفراشة ومعضلة التضحية لكن مهما تقربت من الشخصيات سيبقى هناك حاجز الإشارة إليهم بضمير الآخر. في النهاية ستتساءل ما إن كان فعل الشخصية الفلانية صحيحًا أم لا، لكنك في اللعبة الرقمية تأخذ القرارات بنفسك، يتحول السؤال من "ماذا ستفعل الشخصية؟" إلى "ماذا سأفعل؟". هكذا توفر لك الألعاب - إن غمرتك سرديًّا - حس مسؤولية فريد.
حتى لو لم تكن المسألة أخلاقية قد يصعب عليك ترك مسافة عاطفية. لم يتمكن أي عملٍ سينمائي أن يربطني بشخصية خيالية مثل ارتباطي بشخصية كليمنتاين في لعبة "ذا ووكنغ ديد" أو أن يؤثّر في عواطفي مثل ما أثرت العلاقة بينها وبين شخصية ليي، الرجل الذي حاول حماية هذه الطفلة في خضم وباء الزومبي. الجزء الأول والأروع من السلسلة يزرع فيك النزعة لحماية كليمنتاين كأنها طفلتك ودفعني لمرافقتها في الأجزاء التالية على الرغم من تدهور مستوى اللعبة تدريجيًّا. في الجزء الرابع لم يعد في اللعبة أي قيمة ترفيهية، لكنني اكترثت بمصير كليمنتاين، عبرت اللعبة دون مردود ترفيهي فقط لأطمئن عليها. أمرٌ لن أستسيغ فعله في الوسائط الأخرى التي تقتصر علاقة المتلقي فيها على الاهتمام بالسرد والصورة من مسافة آمنة لأن المردود السردي هناك هو الترفيهي.
ما يميز هذه الألعاب هو تعدد الخيارات والمسارات الممكنة، عندما تهجم مجموعة من الوحوش على البشر من حولك ستجبر على الاختيار بين إنقاذ شخصيتين وثم متابعة اللعبة لتحمّل عواقب قراراتك، ترفيهيًّا وسرديًّا. الخيارات ليست شخصية دائمًا، ففي لعبة "ديوس إكس" ستلعب شخصية جي سي دينتون، وهو عميل في تحالف الأمم المتحدة ضد الإرهاب، سرعان ما تكتشف مؤامرات على مستوى عالمي. السلسلة كاملة تتمحور حول هذه المؤامرات وتكون خياراتك في اللعبة هو بين الاتفاق مع مجموعة - أو الانقلاب ضدهم جميعًا - الخيار إذًا سياسيٌ واجتماعي وليس عاطفي أو شخصي. يجدر بالذكر أن ألعاب مثل "ديوس إكس" و"ديسؤنرد" تتيح خيارات من نوعٍ آخر، في كل مهمة تعطيك مسارات عدة لتنفيذ المهمة، يمكنك اقتحام المنطقة وقتل كل الأعداء أو التسلل بكل هدوء وإنجاز الهدف دون قطرة دم.
الانغمار السردي في الألعاب يأتي من تشعب القرارات والتفاعلية ويعطي بالإضافة إلى الانغمار الترفيهي ما يعرف بقيمة إعادة اللعب(3)، وهي قدرة اللعبة على أن توفر الترفيه حتى عند إعادة لعبها من البداية، الخيار المعروف بـ"اللعبة الجديدة+" أصبح خاصية تتيحها اللعبة وهي تسمح لك بإعادة اللعب دون خسارة ممتلكاتك وقدراتك مما يجعل الجولة الثانية في اللعبة مثيرة للاهتمام أيضًا.
أخيرًا تتيح الألعاب انغمارًا سرديًا بالتفاعل مع شخصياتٍ تحطم الجدار الرابع بصورٍ مبتكرة، في لعبة "أندرتيل" تدرك بعض الشخصيات أنها تقدر على تسجيل اللعبة كما يفعل اللاعب وتهزمك مرارًا وتكرارًا كلما اقتربت من هزيمتها. أما "دوكي دوكي: لترتشر كلاب" فقد أخذت كسر الجدار الرابع إلى مستوى مبتكر، تدرك إحدى الشخصيات وجودها في لعبة رقمية وتتلاعب بملفات الشخصيات الثانية كي تحقق هدفها. النجاح أخيرًا يتطلب منك مسح ملفٍ خارج اللعبة. هذا التفاعل المباشر مع شخصيات تحاول مخاطبتك لا بصفتك شخصية في اللعبة بل بصفتك الشخصية يتيح انغمارًا سرديًّا تامًّا.
النهاية المفتوحة
إذًا ما هو موقع الألعاب الرقمية من الإعراب؟ فلنقل إن اللوحة في وصفها للعالم هي بمقام النعت، والفيلم بطبيعته قطعة فنية نشاهدها مفعولٌ به، والموسيقى بحلولها في الأجواء وتذكيرنا بالحالات النفسية ظرف مكاني وزماني، والقصة هي الجملة بأكملها، ستكون اللعبة الرقمية بما تمتاز به من تفاعل مباشر من اللاعب فاعلًا.
هذا الوسيط ما زال في مرحلة تكوينية، إن طغت الاعتبارات المادية للشركات سترجح كفة الانغمار الترفيهي. التكنولوجيا بالمجمل هي في تضاد مع الروحانيات، نحن نعيب المتدين الذي لا تلازم عباداته التهذيب الأخلاقي والمبدع الذي تنفصل فنونه عن شخصه وتبدو لنا معلبة كأنها سلعة في نهاية خط إنتاج مصنعي. وكذلك نعيب تلك الألعاب المكررة التي تحلبها الشركات ماديًّا. لكن من المؤكد نشوء أصنافٍ مميزة من الألعاب يؤمن مصمموها بأنهم يخلقون فنًّا ويقدرون على الحفاظ على التوازن بين طرفي الانغمار فيها.
علينا أن نتنبه أيضًا إلى عجلة الزمان، بعد جيل أو جيلين ستصبح الألعاب الرقمية جزءًا من حياة كل الأجيال ومن نسيج الثقافة، هذا الملف دليلٌ على ذلك، لن تبقى طارئًا يترفع عنه العجزة. سيجلس الحفيد في حضن الجد ليسمع للمرة العاشرة تلك القصة عندما هزم "إشّين آشينا" في وقتٍ قياسي أو عن لحظة تخاطر مع فريقه في "ليغ أوف ليجيندز" أو كيف تشنّج ساعده وهو يصعد جبل "غيتنغ أوفر إت" في بثٍ حي لتلك اللعبة اللعينة.
الألعاب الرقمية لها القدرة على السمو إلى فن بلا شك، لكن ذلك سيتطلب الوعي بها كذلك في مرحلة تصميمها. لا أستطيع أن أجد أي منتجٍ آخر يتضمن الفريق العامل عليه هذا العدد من الفنانين والمصممين دون أن يُسمى قطعة فنية. ولا أدري من يمكن أن يمر بتجارب انغمارية من الطراز الرفيع ويخرج منها دون أن يشعر بأنه مسَّ مستوى متساميًا. أعتقد أن حالَ الألعاب الرقمية من الفنون المتفق عليها حالُ اللهجة من اللغة قبل أن تنمو لتصير لغةً بذاتها. لكن حتى لو كُتب على الألعاب الرقمية أن تبقى "ألعابًا" بالمعنى السلبي للكلمة، فليكن ذلك، لن يثنيني هذا عن الاستمتاع بها في قضاء الوقت مع أخي ولا أظنه سيثني أي لاعب عن الاستمتاع بها مع أعزائه.
الهوامش
(1): إحدى الحجج ضد الألعاب بصفتها فنًّا هي عدم وجود "الفنان" وراءها لكن الكثيرين من الضحايا سقطوا على أيدي النقاد في القرن العشرين، منهم "المؤلف" وفقًا لرولاند بارثس وغيره ممن رأوا في هذا الدور أمرًا مصطنعًا متأخرًا في التاريخ البشري. ولنقل إن القارئ رفض هذه الجريمة بحق المؤلف وأحياني، بعد شكره سأضطر آسفًا لإخباره أن حتى العملية الروائية - على الأقل في الدول التي تنشر الكثير وتحترم الكتّاب والقرّاء - لا تقتصر على مؤلفٍ ينتج مئات الكتب من العدم. نعم المؤلف الروائي مثل الرسام له نظرة وفي مخيلته انطباعات وأفكار يصدرها عبر وسيطٍ فني لكن الوسيط يمر في مراحل تشمل أفرادًا آخرين. المدقق والمحرر والعامل في المطبعة والمسوّق، حتى أصحاب المكتبات أنفسهم، كلهم ضروريون ليحصل القارئ على العمل الأخير، هناك قرارات وحدود خارجة عن سيطرته. طبعًا لا تتساوى قيمة الوظائف هذه لكن القول بأن الرواية عمل فني فردي بالمطلق لا يصح، وكذلك الأعمال السينمائية التي لن تنجح دون طاقم التصوير، حتى لو تحدثنا عن الفنانين من الممثلين فهل يشمل حديثنا كل شخصٍ يظهر على الشاشة؟ هل الكومبارس فنانون أيضًا؟ وإن لم يكونوا فهل يسلب وجودهم من قيمة العمل الفنية؟ لماذا إذًا نحصر الألعاب الرقمية بهذا النقد؟
(2): وهو تطورٌ أحذّر منه وأعتبره خطرًا على البشرية وعلى الفن بالمجمل.
(3): هذه إحدى مميزات الوسيط الرقمي التي أرغب في ترجمتها إلى ميزة في بعض الروايات التي نشرتها، القراءة الثانية ستختلف نوعًا ما عن القراءة الأولى، لا لمعرفة القارئ بما سيحصل فحسب بل لأن بعض الإشارات تُركت من أجل ذلك. مع الإقرار بأن إعادة المتابعة للفيلم أو إعادة القراءة دومًا ستكون محدودةً مقارنةً بما تقدمه الألعاب الرقمية.
[هذه المقالة جزء من ملف خصّصته جدلية لتناول موضوع الألعاب الرقمية].