ليزا ماكاباسكو
آمن مؤسس الطب الحديث، أبقراط، أن أرحام النساء تتحكم بهنّ. وفي منتصف القرن التاسع عشر، أجرى جيمس ماريون سيمز، الملقّب بأب طب النساء المعاصر، تجاربه على النساء المستعبدات من الأصول الأفريقية دون أن يخدرهنّ، لاعتقاده أنهنّ يشعرن بألم أقل من النساء ذوات البشرة البيضاء (نُصِبَ تمثاله في الـ"سنترال بارك" في ولاية نيويورك لما يزيد عن قرن، إلى أن أُزيلَ عام 2018). كما ادعى الأطباء أن حق المرأة في التصويت سيؤذي جسدها الهش وعقلها الناقص. تدنّس مثل هذه الأمثلة المشينة عبارة "لا ضرر ولا ضرار".
يعدّ تاريخ الطب تاريخًا ثقافيًّا واجتماعيًّا بقدر ما هو علميٌّ، ولقد ترسّخت الهيمنة الذكورية في أسسه. إلا أن الكاتبة إلينور كليغورن، التي انغمست خلال السنة الفائتة في دراسة تاريخ علاقة النساء مع الطب، صُدِمت من "مقدار التعمّد والمكر الموجود فيه"، وفق تصريحاتها لصحيفة الغارديان، إذ قالت: "استُخدِمت النظريات البيولوجية عن أجساد النساء لدعم وتعزيز الأفكار المقيّدة لهنّ".
يسرد كتاب كليغورن الجديد، بعنوان "نساء غير سليمات" (Unwell Women)، السلسلة الطويلة من الطرق التي أسيء فيها فهم وتشخيص عقول النساء وأجسادهنّ عبر التاريخ. بدءًا من أسطورة الرحم المنتقل عند اليونانيين القدماء (إذ اعتُقد أن الرحم المنزاح هو السبب للعديد من الأمراض التي تصاب بها النساء)، ومحاكم الساحرات في أوروبا خلال العصور الوسطى، ومرورًا بعصر ازدهار تشخيص الهستيريا، وصولًا إلى الخرافات الحديثة عن الحيض. إذ تكشف الكاتبة عن طرق علاج النساء غير المعقولة والفظيعة أحيانًا، التي استمرت ألف سنة باسم الطب.
بصفتها باحثة سابقة في جامعة أكسفورد، ولديها خلفية في الثقافة والتاريخ النسويّ، صاغت كليغورن، بدقة، إطارًا نظريًّا قد يثير حنق الكثيرين، تبيّن فيه الطريقة والأسباب التي آذت فيها السيطرة الذكورية على عالم الطب النساء، خاصة النساء الأقل حظًّا أو ذوات البشرة الملوّنة. ويُظهِر كتاب "نساء غير سليمات" كيف أن هذا الإرث من الحرمان والتمييز ما زال موجودًا حتى يومنا هذا. فنراه في انخفاض تمثيل المرأة في التجارب الطبية، بسبب الفكرة السائدة أن ألم النساء هو ألم نفسي وعاطفي لا يؤخذ به. وتصل عدائية النظام أحيانًا إلى أنه من المرجّح أكثر أن تُوصَف مضادات الاكتئاب والمهدئات للنساء من أن تتم إحالتهنّ إلى المزيد من التشخيص والرعاية الأكثر تخصصًا.
استوحت كليغورن فكرة الكتاب من تجربتها الخاصة مع تجاهل الأطباء لها، الذي استمر لسنوات قبل أن تُشخَّص أخيرًا بداء الذئبة الحمامية (systemic lupus)، وهو مرض يصعب تشخيصه وينتشر عند النساء بمعدل تسع مرات أكثر من الرجال. (تحدثت مغنية البوب سيلينا غوميز بصراحة عن معاناتها مع هذا المرض المعقّد والمزمن). تقول كليغورن: "كنت أحاول أن أستوعب السبب وراء عدم قدرة أي من أطبائي على شرح الكثير عن المرض. استطاعوا إخباري ماذا يحدث داخل جسدي، لكنهم لم يستطيعوا إعلامي لماذا أصبت به، أو لماذا أنا كإمرأة أكثر عرضةً له. بدأت بعدها بالتنقيب في تاريخ الطب، لأجد حالات دراسية عن نساء مررن بما أمر به". (بدأت كليغورن بكتابة عملها أثناء فترة الحظر، بالاعتماد على الأرشيفات الطبية المتاحة عبر الإنترنت، والمجموعات الرقمية الواسعة لمكتبة ويلكوم. وقالت مع ضحكة خافتة: "لحسن حظي، يحب الرجال الذين كتبوا عن أجساد النساء أن يكتبوا الكثير عن المرأة ذاتها").
أولئك "النسوة المتشابهات" دفعنَ كليغورن للتعلم عن أمراض حادة ومزمنة أخرى، وتصيب النساء أكثر من الرجال. واحد منها هو الانتباذ البطاني الرحمي (endometriosis)، الذي يصيب تقريبًا امرأةً واحدةً من كل عشر نساء في العالم، ومع ذلك يستغرق تشخيصه في المتوسط ما بين سبع إلى تسع سنوات. تشير كليغورن إلى أنه بالرغم من حصول المرض على اسمه في عشرينيات القرن الماضي، ألا أن الغموض ما زال يلتبس تشخيصه إلى اليوم، وتضيف: "في العشرينيات، وصف أحد الأطباء الانتباذ البطاني الرحمي بأنه أحد ألغاز علم مسببات الأمراض، وإلى الآن ما زلنا لا نعرف كيف يحدث. يعدّ انعدام التقدم [العلميّ] هذا على امتداد 100 سنة، مثالًا حقيقيًّا على ضآلة التطور الذي أحرزناه في هذا الحقل. أردت العودة لمعرفة سبب استمرار وجود العديد من علامات الاستفهام حول هذه الحالات، ومن أين جاءت هذه الفجوات وهذا الظلم والتمييز".
اليوم، برز نجم قطاع الحفاظ على العافية (wellness industry)، قطاعٌ يحقّق أغلب أرباحه على حساب النساء برأي كليغورن، وشعبيته مرتبطة بانتشار مثل هذه الأمراض المستعصية. تقول كليغورن: "يعي هذا القطاع أن الطب التقليدي السائد يخذل النساء اللواتي يعانين من هذه الظروف الصحية، لذا فهو يصوّر نفسه على أنه يرعاك ويهتم لأمرك، ويستمع لهمومك، ويعاملك بإنسانية. تبدو لي اللغة المستخدمة في قطاع الحفاظ على العافية متشابهة على نحو مخيف مع لغة القرن التاسع عشر، في ظروفها ومتلازماتها".
تؤكد كليغورن في كتابها على الأثر المركّب للعرق، ووفرة الخيارات، وامتلاك الامتيازات، على الجندر، إذ تقول: "لقد تصدّينا، وما زلنا نتصدى، في المملكة المتحدة، إخفاقاتنا المتعلقة بصحة النساء من الأصول الأفريقية أو الآسيوية أو من العروق المختلفة، اللواتي يعانين من فوارق صحيّة أكبر بكثير من تلك التي تعاني منها النساء البيض، خاصةً في مجال الصحة الإنجابية". ولكنّ الكاتبة مصدومة من استجابة الحكومة "الباردة جدًًّ"، وتضيف: "ما يثير الغضب والصدمة، عدم توفير المزيد من الأموال والاستراتيجيات والأبحاث، وعدم تحديد الأولويات الطارئة مثل مشكلة الوفيات عند الحوامل من الأصول الأفريقية".
يقابل هذا التاريخ من خيبات الأمل والظلم، تاريخ بديل ومشجع من مقاومة النساء ومساهماتهنّ الفعّالة. تذكر كليغورن الكاتبة والطبيبة الأميركية الرائدة ماري بوتنام جاكوبي، التي أثارت في سبعينيات القرن التاسع عشر فكرة أن النساء بحاجة إلى الراحة أثناء الحيض، وتقول: "اعتمد الأطباء الذكور في ذلك الوقت على القصص والتخمينات فقط، فأتت بوتنام جاكوبي لتوظف معرفتها الشخصية كامرأة، لدحض مثل هذه الأفكار بذكاء. هناك نوع من المقاومة الراديكالية المبطّنة في استخدام معرفة النساء عن أنفسهن لتغيير ثقافة عدم المساواة الطبية".
وهنا تضع كليغورن آمالها للمستقبل، خاتمةً كتابها بفصل عنوانه "صدّقونا". لطالما كانت مصداقية النساء ومعرفتهن بأجسادهن موضعًا للشك. رغم أن الطب الحديث يسمح الآن للنساء أن يثقّفن أنفسهن حول أجسادهن (ما يعتبر رفاهية قد حرمن منها لقرون) ويقدم لهنّ فرصة أن يكُنَّ جزءًا من المجتمع الطبي، إلا أن كليغورن تؤمن أن فهم صحة المرأة ما زال قضيّة مهمشة.
ولكنها تقول إن بداية الحل سهلة: "إعطاء الأولوية لأصوات النساء مهم جدًّا. لا أعتقد أنها مؤامرة ذكورية ضخمة، بقدر ما هي تحيّز ضمني ولا شعوري، متجذّر للغاية حتى في تفاعل الطبيب مع المريض. سأشعر أنني تلقيت رعاية طبية جيدة فقط عندما تتاح لي فرصة التحدث بحرية، دون استعجال أو إطلاق أحكام".
جمعت استراتيجية صحة النساء التي وضعتها الحكومة البريطانية مؤخرًا أدلة من النساء حول تجاربهنّ مع نظام الرعاية الصحية، باذلة بذلك خطوة رائدة من نوعها، كما توضح كليغورن؛ "هذه المرة الأولى في التاريخ التي تُستخدم فيها أصوات وتجارب النساء الشخصية. ومن المهم أن نبدأ من هنا، لأن تجارب النساء ليست واحدة".
تأمل كليغورن أن يساعد كتابها أيّ شخص خاض تجربة صحيّة مؤلمة أو صعبة، وتقول: "عليكِ أن تشعري بأهميتك وقيمتك، لأن هذه التجربة قد تشعرك بالعزلة والإحباط، وقد تكون تجربة لا-أخلاقية ومنزوعة الإنسانية. إلا أن هناك معنى وراء إصابتك بالمرض، لأنك ستكونين جزءًا من إنتاج هذه المعرفة المهمة للغاية. أتمنى أن تتمكن القارئات من وضع بصمتهنّ في التاريخ، الذي نأمل أن نملك القدرة على مباشرة تغييره من الآن".
[ترجمة أفياء غرايبة. المصدر: وورلد بِست].