مركزية السمعة في جرائم الشرف

[لوحة للفنانة العراقية-الأميركية Hayv Kahraman] [لوحة للفنانة العراقية-الأميركية Hayv Kahraman]

مركزية السمعة في جرائم الشرف

By : محمد عودة

[لا تعبّر الآراء الواردة في هذه المقالة بالضرورة عن وجهات نظر تتبناها جدلية].

هذه المقالة مقتطفة من مقالة مطوّلة بعنوان "مركزية السمعة" وهي جزء من سلسلة مقالات تحاول بصورة أساسية معالجة ما أراه عقبات فكرية في إدراك الواقع الاجتماعي والسياسي. هذا الجزء يتعلق بالجرائم المسماة بجرائم الشرف ويسعى في الأصل إلى وضعها في سياق تحليلي يشمل ظواهر أخرى ويوضح أن جذرها مركزية السمعة في مجتمعاتنا، هذه المركزية تضخّم من تهديد العار والفضيحة إلى حد القلق الوجودي الذي يعيق حياة الأفراد ويشوش تصوّر المثقفين.

الشرف في أقاصي الأرض

في الشرق على الجزيرة اليابانية كان المقاتلون المعروفون بالساموراي يتبعون البوشيدو، وهو ميثاق أخلاقي وطريقة للحياة، يحمل قيمًا مثل الصدق والتفاني واتخاذ أسلم القرارات واللباقة وغيرها. كانت الطبقات المحاربة في الكثير من الحضارات تمتثل لقواعد الفروسية ولكن ما يميز الساموراي هو الهارا كيري، وهو انتحار عبر بقر البطن من اليسار إلى اليمين. في أولى الممارسات لهذا التقليد كان محصورًا على الساموراي وكانت الخطوة التالية من الآلية المؤلمة هي أن ينحر الساموراي نفسه أو أن يسقط على النصل الموجه نحو قلبه. لاحقًا دخل دور ثانوي، كايشاكونين، وهو رجل يقطع رأس الساموراي لتهوين الاحتضار.

هذا الانتحار الذي أصبح عادةً لها طقوسُها لم يعد يقتصر على الساموراي لاحقًا، غايته غسل العار عن النفس أو العائلة. إذا خسر الساموراي المعركة قد يقدم على الانتحار كي لا يقع في الأسر، أو ليمسح عار الخسارة، وفي بعض الحالات طُبّق كأنه وسيلة للإعدام، إذا ارتكب جرائم مثل السرقة والاغتصاب. لكن في هذه الحالة لا تسقط بالضرورة تبعات العار عن العائلة. من أشهر الأمثلة على الهاراكيري هو انتحار الكاتب يوكيو ميشيما بعد فشل محاولته افتعال انقلاب عسكري في اليابان.

أما في الغرب لعبت المبارزات دور الدفاع عن الشرف، لم يكن الهدف قتل الآخر بقدر ما كان إبراز الجسارة على التضحية في سبيل صون الشرف. على الرغم من المحاولات القانونية لإيقاف هذه الممارسة التي بدأت منذ العصور القديمة لم تنحسر حتى أواخر القرن العشرين. من أكثر المبارزات شهرةً هي تلك التي أدّت إلى مقتل ألكسندر هاميلتون، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، متأثرًا بإصابة من هارون بَرَّ نائب الرئيس الأميركي حينها. في عزائه قدّم القس والعالم إليفاليت نوت نعيًا يذم فيه ممارسة المبارزة لأنها تقوّض أسس المجتمع المدني وتخطف المواهب الشابة وتدمر السعادة المجتمعية. هذه الخطبة ساهمت، هي وغيرها من فعاليات جمعيات مُكرّسة لإنهاء هذه الممارسة، بالنجاح في أن يصدُرَ الأمر القانوني بمنع المبارزات.

قبل أن نعود لالتقاء الشرق والغرب في الشرق الأوسط حاملين معنا نقطتين من أقاصي الأرض لنبحث عما أعتقد أنه أوضح تجلي لمفهوم الشرف. مفهوم الـ"مانا" الموجود في تاهيتي وهاواي وعند قبائل الماوري، السكان الأصليين في ما يعرف بنيوزيلندا اليوم. المانا جزء من نظرة شاملة للعالم لذا لا يجوز اختزالها لمفهوم الشرف لكنها في سياقها المجتمعي قريبة منه. المانا هي طاقة روحية قد تفقدها أو تكسبها وفق الأفعال، وهي طاقة تعكس السلطة والكرامة والسخاء ومكانة الفرد أو القبيلة. هذا التجسيد للمكانة المجتمعية قد يفيدنا في إدراك الحجم الذي يأخذه الشرف في مجتمعاتنا.

أولًا لنلاحظ اتفاق الأطراف على تعريض النفس للخطر والتضحية في سبيل الدفاع عن الشرف وأهمية ذاك الشرف في المجتمع، ثانيًا أن ذلك لم يكن بين الطبقات الفقيرة أو من يتسم بالهمجية الفكرية، أي أنه ليس أمرًا يمكن تفسيره بالطبقية المالية. بل نجد مَن هم في أعلى المراتب في الدولة يتبارزون، أو أفراد الطبقة المحاربة - وهي من أقوى الطبقات في المجتمع - يعرّضون حياتهم للخطر في سبيل الحفاظ على الشرف. قد تلاحظ مع إكمال المقال أن الانحدار من الشرف إلى السمعة هو انحدار يمكن تشبيهه بانقلاب الأخلاق وفق جينالوجيا نيتشة.

ارتبط الشرف في الأعراف الاجتماعية بمكانة الشخص وعائلته في أعين المجتمع، النبلاء والمحاربون بسلطاتهم العسكرية والاقتصادية هم أولى بالدفاع عن تلك المكانة. هذا المفهوم لم يكن غريبًا البتة عن القبائل العربية بل نجده، كما أزعم في هذه المقالة، في مركز العلاقات بين القبائل وبين الأفراد أنفسهم. هذا الزعم لا يبتعد كثيرًا عن المتعارف عليه من مركزية العائلة والقبيلة في المجتمعات العربية. هو أمرٌ يتفاخر به العرب في العادة بأكثر من صورة، وتعاب المجتمعات الغربية مثلًا على عدم معرفة المرء لجده العاشر. لكن يلزمنا اكتشاف الجوانب المظلمة من المركزية القبلية.

التفاخر بالأنساب وتفاخر الشعراء العرب بأنفسهم لا يحتاج إلى الكثير من الشرح فهو حاضرٌ إلى اليوم في الوعي الجمعي. سطوة العشائرية على كل الجوانب المجتمعية في معظم الدول العربية أمرٌ يُذكر بشكل اعتيادي، عادةً في محل الذم لوقوفه في طريق المدنية. لكنه ذمٌّ بالألسنة أما فعليًّا نجد تلك الروابط بمتانة لا يبدو أنها ستتزعزع قريبًا. رغم الاتفاق الشفهي على ضرورة سيادة القانون فوق تلك الاعتبارات ما زالت السلوكيات المجتمعية تعتمد على هذه التجمعات الفرعية سواء بصورتها القبلية أو العائلية. إضافةً إلى ذلك هناك خوف من فقدان هذا الود وتلك الأواصر.

في أحد الجوانب المظلمة تقبع المفارقة البارزة بين جريمة الشرف والمبارزة في طبيعة الخصومة، في المبارزات الغربية يقف الرجلان اللذان اتفقا على تلك المبارزة بعد تعرض أحدهم لشرف الآخر، أما في جرائم الشرف لا يتبارز الرجل مع الرجل الذي يعتقد أنه دنّس شرف عائلته بل يتخاصم مع الأخت أو الابنة.

لا تفسير هنا لتلك الجريمة لكننا قد نجد تفسيرًا لظاهرة ثانية وهي أن تستخدم الشتائم المهينة للشرف بدلًا من إهانة ذات الشخص. في معظم الأحيان تعتبر تلك الشتائم استفزازًا لأجل عراكٍ أو لاستدراج الخصم، بدلًا من مبارزة بالسيوف والمسدسات تكفي الأيدي. لو اقتربنا أكثر من تلك الشجارات سيلوح أمامنا اختلافٌ ثقافيٌ آخر في طبيعة العراك، في الضربات عشوائية، وفي الشجار نوعٌ من الاعتماد على الآخرين بالانضمام إما لتكبر حلبة القتال أو للفض بين المتعاركين. أما في الشجارات الغربية تكون الضربات مركزة أكثر للإيذاء لا بتلك العشوائية وبدلًا من الانضمام للقتال أو إنهائه يكتفي المارّة بمتابعة الحدث. عدم التركيز على الأذية المباشرة قد يشير إلى سذاجة قتالية في المجتمع أو إلى أن هذه الشجارات السريعة والفجائية لا تنشُب من أجل أذية مبالغٍ بها بل لرد السمعة والحفاظ على الشرف أو لإهانة شرف الخصم. أي أن المبارِز - إن صحّت تسميته بذلك - يسعى لإثبات جرأته على الدفاع عن شرفه أكثر من قدرته على القتال.

المفارقة تبرز أيضًا بأن الشرف في منظور المحاربين والنبلاء كان بمثابة الهالة الاجتماعية حول السلطة العسكرية أو الاقتصادية، امتداد للقوة والقدرة على الهيمنة أو الدفاع عن مكانة وأملاك. هذا الجانب ليس غريبًا على القبائل التي اعتبرت الشرف عبارة عن قدرتها على الدفاع أمام القبائل الأخرى وضمّت تحت جناحه مفاهيم مثل المروءة وإكرام الضيف وما يشابهها مما يرفع من قيمة المانا عند قبائل الماوري.

المجتمعات التي اتجهت نحو المدنية لفظت المظاهر التقليدية للحفاظ على الشرف بجانبه السلطوي، أما في الشرق فقد اختفت الطبقة المحاربة كما حصل في كل الدول المتمدنة مع نشوء الجيوش النظامية. 

الشرف والقرف: جرائم السمعة

في المثالين المذكورين من المبارزة أو الهاراكيري لا نجد مرادفًا لجرائم الشرف، هذه الجرائم بحاجة إلى دراسة أدق وأكثر محلية؛ كيف تشكلت وتطورت هذه الظاهرة وما تخبرنا عن ظواهر أخرى قد لا تكون بفظاعتها لكنها في نفس السلسلة من المفاهيم الهجينة والمتخلفة زمنيًّا وأخلاقيًّا. لا هالة من سلطة من أي نوع تنتج عن ارتكاب عائلة جريمة بحق أحد أفرادها. لنعتبر أن الجريمة تأديبية بقصد منع العلاقات الجنسية لكننا ومع ذلك لا يمكننا تجاوز غرابة عقاب أحد شركاء الجريمة دون الآخر. ولو أخذنا أمثلة المبارزة وإسقاطها على العوام من شجارات بالأيادي والأسلحة البيضاء فإننا ما زلنا بعيدين كل البعد عن تفسير توجيه الضربة لامرأة فقط مع ترك الرجل الذي عرّض الشرف للخطر. كما أننا لا نستطيع وضع هذه الجريمة كأنها وليدة لحاجة القبائل الدفاع عن نفسها ضد القبائل الأخرى فهو في السابق دفاعٌ بنية حماية نساء القبيلة. فإذا كانت الفتاة هي شرف العائلة كيف نفسّر قتلها للحفاظ عليه؟

إن لم تكن الفتاة هي الشرف ولم يعد الدفاع عنها وعن سلامتها هو الشرف، وبما أنها ليست دعوة المعتدي على الشرف إلى مبارزة شريفة لا لغاية قتاله بالضرورة بقدر ما هي لغاية إثبات الرجل في أي عائلة أنه مستعد للدفاع عن شرفه. فما الحاصل حقًا في مثل هذه الجرائم؟ من المغري أن نعزو ذلك إلى وحشية كامنة في البشرية، ذلك في بعض الأحيان يفسر فظاعة الاعتداء على الإناث مثل ذاك الزوج اللعين الذي فقأ عيني زوجته، لا بد من الحديث عن الاختلال الأخلاقي والخلل البشري المسبب لذلك، لكنه لا يفسر كل الجرائم من هذا النوع فهي أقرب إلى الإعدام في صورتها الفظيعة ومباشرة القتل فيها.

اقترابها من الإعدام لا يقلل من الوحشية لكنه يضعها في فئة مختلفة، فإن لم تكن الوحشية تفسر تلك الجرائم، محاولتي لتفسير الفعل من تلك الطرق محاولة موعودة بالفشل من مطلعها لأن ذلك يجمعها مع جرائم مختلفة، كما تتميز جرائم الشرف عن كل الجرائم بحصرية جنس الضحية. لذلك بدلًا من السير في مقدمات لا أستطيع فهمها بسبب قبح الجريمة على الأصعدة الأخلاقية والبشرية سأسلك الطريق رجوعًا من رَدَّتي فعلٍ استهجنتهما، سأفعل ذلك في سبيل تمييز تضاريس تضع هذه الجرائم دون غيرها في موقعها المميز.

أول ردٍ يبررها بالإشارة لتلك الفورة الذكورية واعتبار ما حصل ابتلاء للأخ والأب. هذا التصور لحالة المجرم يرشدنا إلى طبيعة إدراكه لما وقع، حالة التأهب العدائي المرتبطة بتلك الفورة قريبة جدًّا إن لم تكن هي نفسها حالة التأهب في نظرية السيكولوجية لاستجابة الكر والفر. تلك الدرجة من التوتر والعصبية والحاجة للاختيار السريع بين القتال أو الهرب من الموقف عند مواجهة خطيرة في نظر الشخص. وهي تضخّم للهيجان الواقع عندما يُشتَم الشخص في عرضه على الملأ.

ما هو هذا الخطر الذي يراه هذا المجرم عند النظر إلى أقرب الأقارب؟ الكثير من جرائم الشرف ليست ردة فعلٍ مباشرة على الإمساك بالفتاة وهي تزني. ما الذي يروّع المجرم لدرجة الإقدام على قتل أقرب أقاربه إذًا؟ لو صحّ استنتاجنا بأن المسألة لم تعد ترتبط بالشرف، لا بمعناه النبيل وتلك الهالة السلطوية ولا بمعناه القبلي وتلك الحالة الدفاعية عن نساء القبيلة. أقرب الأمثلة لتلك الحالة النفسية من العصبية هي جرائم الشغف. الخيانة هنا هي ليست خيانة زوجية بل خيانة الفتاة، في نظر المجرم، للعائلة. لكن ما الذي فرطت به الضحية حقًّا من حق العائلة كي يحكم عليها المجرم بالخيانة؟ لم تهدر الأملاك بل على أغلب الظن كان عشيقها يحاول إثبات مشاعره بإهدائها الهدايا. لا يسعني إلا القول بأن ما فعلته الضحية هو خيانة سمعة العائلة.

في المجتمعات ذات الطابع القبلي هناك سلطة اجتماعية للسمعة وكل قبيلة لها محصلة من تلك السمعة عليها الحفاظ عليها، مانا بدوية لا ماورية. استخدامي لكلمة السمعة مقصود للتفريق بينها وبين مفهوم الشرف الذي أعتبره عريقًا وذا أصلٍ نبيل. وهو اختيار لا يقتصر على ذلك بل يفتح أمامنا بوابة تفسيرات للكثير من الظواهر الأخرى في تلك السلسلة الهجينة التي ذكرتها سلفًا. السمعة التي خانتها الضحية هي بحد ذاتها أحد الأملاك المعنوية للعائلة.

إن لم تكن الفتاة هي الشرف ولم يعد الدفاع عنها وعن سلامتها هو الشرف، وبما أنها ليست دعوة المعتدي على الشرف إلى مبارزة شريفة لا لغاية قتاله بالضرورة بقدر ما هي لغاية إثبات الرجل في أي عائلة أنه مستعد للدفاع عن شرفه. فما الحاصل حقًا في مثل هذه الجرائم؟

دعوني أعود إلى رد الفعل الآخر الذي استهجنته بعدما قتل أحدهم ابنته وشرب الشاي فوق جثتها. هذه الجريمة يندى لها جبين أي شخصٍ سوي، ومنهم الآباء، لكن أحد الردود المتسهجنة كانت بالإسراع للتذكير بأهمية الأب في المجتمع. ربما كان ذلك في خضم الدفاع عنهم بسبب ردود فعل المجتمع النسوي بمهاجمة المجتمع "الأبوي". لكن ما هذه الأولوية عند تفشي ظاهرة تنحصر فيها دائرة الضحايا على البنات لا الآباء؟ وهي كما ذكرنا سابقًا لا تمتد حتى للأبناء من العوائل الأخرى المشتركين في علاقة ربما لم تصل لمرحلة جسدية أو جنسية. نرى في رد مستهجن كهذا على المجتمع النسوي انقلابًا كاملًا لمفهوم الشرف القبلي القائم على دفاع الذكور عن الإناث، ما نجده هو دفاع من إناث عن الآباء والإخوة بينما كان الأصل في مفهوم الشرف أن يدافع ذكور القبيلة عن إناثها. نحن ما زلنا إذًا بعيدين كل البعد عن الشرف بمعانيه النبيلة ولكننا قريبين كل القرب من مفهوم السمعة. يرى أولئك المسرعون للدفاع عن الآباء بعد جريمة لا شأن لها بالأبوّة أن سمعة الآباء أولوية والدفاع عنها ضروري حتى قبل أن تجف دماء الضحية. هذا الدفاع المستميت عن السمعة وتلك الفورة كما لو أن الفتاة خائنة، وخيانتها كانت خيانة لسمعة العائلة تضع هذه الجرائم والتي سأسميها بعد هذه النقطة جرائم السمعة لا جرائم الشرف، في موقع يمكن تفسيره دون أي نية أو حاجة لتبرير هذا الجرائم القبيحة.

في الهاراكيري يضحي الرجل بنفسه وفي المبارزات يعرّض نفسه لخطر التضحية للدفاع عن شرفه، في هذه الجرائم تُقدّم الفتاة كأنها أضحية في سبيل كيانٍ ما. لا يعقل أن يكون إله المسلمين وليس هو الشرف كما وضحنا. يمكن القول بأنها جريمة لاستعادة المانا المفقودة. هي السمعة، والسمعة لا توجد دون مستمعين، أي دون عوائل أخرى في المجتمع ينظرون بدونية إلى العائلة التي لا تسعى بجدية للحفاظ على سمعتها. نحن لا نتحدث عن سلطة عسكرية أو اقتصادية لنبيل أو محارب بل لمكانة العائلة في المجتمع. فقط قبولها في المجتمع القبلي يتطلب قرابين بشرية. بل تصل هذه السمعة إلى حالة من التجريد المعنوي والقداسة وتطلب القرابين في ذهن العائلة أينما ارتحلوا، بعض جرائم السمعة تقع في عوائل عربية هاجرت إلى مجتمعات غربية تتقبل العلاقات الجنسية.

لا تنفع بعض المبالغات النسوية بتصوير كل الذكور بأنهم مجرمون لكن الفرصة لم تتح لهم الفتك ببناتهم وأخواتهم، ولا أعني بهذا تبرئة الذكور من العدائية المصبوبة في كيانهم سواء بيولوجيًّا أو اجتماعيًّا لكن هذه المبالغة ستشوش فهم جرائم السمعة. هناك جوانب اقتصادية مرتبطة بهذه الجرائم وأخرى ترتبط في البيئات المحيطة بتلك العائلات التي ترتكب مثل تلك الجرائم. لا أظن أن كل فتاة تعتقد حقًّا أن أخاها أو أباها لديهما القدرة على إيذائها دون أي دلائل مسبقة على ذلك. في المقابل والأهم من الرد على الأقلية النسوية هو التوجه بالحديث إلى رجال عريضي المناكب غليظي الشوارب، أولئك الذين يظنون أنهم يدافعون عن المجتمع بالشجار الإلكتروني مع فتيات بالعادة يصغرونهم عمرًا. إلى أولئك الظانين بأنهم حماة الشرف دون التنبه لانقلاب تام لمعنى الشرف في حماية نساء القبيلة.

النساء في المجتمع الشرقي يخافون الخروج دون تحرش ويقول لهم الذكور بأن الذنب ذنبهم إن حصل ذلك، ألا يعني ذلك أننا لو أخذنا المجتمع كقبيلة كبيرة فهي أكبر قبيلة عديمة الشرف؟ حيث لا تشعر نساؤها بالأمن فيها؟ وحيث لا يأمن أي ذكرٍ فيها من خبث الذكور الآخرين، ولذا بدلًا من منازلات لانهائية مع كل الذكور تجبر الأنثى في العائلة على تنازلات لانهائية في حياتها؟ هذه المجتمعات ما زالت في العقلية القبلية حتى وإن ارتدت زي المدنية، والأصح أنها ليست قبيلة واحدة بل عدة قبائل أقرب في حالة هدنة طويلة الأمد(1). هدنة مهددة بالاختفاء لحظيًّا دون اكتراثٍ بمفهوم الدولة. لهذا السبب يشعر الرجال في هذه المجتمعات بتلك الفورة وتلك الحاجة لحماية النساء، عفوًا، لحماية السمعة حتى لو كان الثمن دم النساء. لأنهم يدركون أن الرجال في الخارج ليسوا أبناء دولة ولا هم أبناء عمومة، كلهم أعداء محتملون. معظم السجالات في هذا الموضوع تشير إلى التشنج بين القبلية والمدنية، بين اعتبار نفسك في دولة وكل من حولك مواطنين وبين اعتبار نفسك في قبيلة وكل من حولك قبائل معادية. وهي تفسر بصورة عكسية كيف ينظر المتحرش لأي فتاة بأنها تستحق الكلام البذيء، فهي الأخرى ليست مواطنة ولا قريبة مما يعني في عقليتهم البدائية أنها تستحق هذه المضايقات.

التهديد المطلق للموت في جريمة السمعة يحيط الكثير من تفاصيل الحياة، حتى في العلاقات السليمة مع شباب لا يقدمون على إيذاء الفتاة بسبب السلطة التي يتقلدونها تلقائيًّا، تتشوه العلاقة بسبب السرية، حتى لو صدقت نية الطرفين وحتى لو كانا ينويان الزواج بالحلال بعد التأكد من توافق شخصي وامتنعا أو قللا أي اتصال جسدي.

في آخر المطاف، بدلًا من الحفاظ على "الشرف" أصبحت هذه المجتمعات تتخبط وتلفظ أبناءها وبناتها للتزاحم على الهجرة إلى تلك المجتمعات التي لا "شرف" لها وفق تعريف المتحرش لهذه الكلمة.

نقطتان قبل الختام، الأولى هي أن هذا المقتطف لا يصوّر الحقب التي حملت معنى الشرف الأصيل بأنها حقب تحترم النساء احترامًا جمًّا لكنها بلا شك حقب كان فيها لكلمات مثل النبيل والشريف والمحارب معنى على عكس يومنا هذا. والثانية هي أن النقد هنا ليس لنظام ذكوري من وجهة نظر نسوية بل من داخل النظام نفسه، فهو في صورته الحالية في الشرق الأوسط نظامٌ يسوده أرذل الرجال، الخانعين لكل شيء خارج المنزل والدولة و"الأقوياء" فقط على نسائهم، ويقصي أشرف الرجال في كل الميادين بدلًا من أن يتوّجهم.

مركزية السمعة تلقي بظلالها على الكثير من تعاملاتنا وتكرب أفكارنا وتحدّ من طموحاتنا بشتى الطرق، جرائم السمعة ما هي سوى رأس الجليد من الكوارث الاجتماعية والفكرية والسياسية التي تمتد تحت سطح المياه.

هوامش

(1): ولن تثنيني تهم الاستشراق عن هذه الملاحظات دون الانتقاص من ضرورة كشف الاستشراق عند بعض المفكرين الغربيين، لكنني في المقالة الأصلية أشير إلى أن مركزية السمعة تمنع المفكرين العرب من الاعتراف بالقصور وتجعلهم يبالغون في حماية "السمعة" الجمعية لمجتمعاتنا. 

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬