[لا تعبّر الآراء الواردة في هذه المقالة بالضرورة عن وجهات نظر تتبناها جدلية].
هذه المقالة مقتطفة من مقالة مطوّلة بعنوان "مركزية السمعة" وهي جزء من سلسلة مقالات تحاول بصورة أساسية معالجة ما أراه عقبات فكرية في إدراك الواقع الاجتماعي والسياسي. هذا الجزء يتعلق بالجرائم المسماة بجرائم الشرف ويسعى في الأصل إلى وضعها في سياق تحليلي يشمل ظواهر أخرى ويوضح أن جذرها مركزية السمعة في مجتمعاتنا، هذه المركزية تضخّم من تهديد العار والفضيحة إلى حد القلق الوجودي الذي يعيق حياة الأفراد ويشوش تصوّر المثقفين.
الشرف في أقاصي الأرض
في الشرق على الجزيرة اليابانية كان المقاتلون المعروفون بالساموراي يتبعون البوشيدو، وهو ميثاق أخلاقي وطريقة للحياة، يحمل قيمًا مثل الصدق والتفاني واتخاذ أسلم القرارات واللباقة وغيرها. كانت الطبقات المحاربة في الكثير من الحضارات تمتثل لقواعد الفروسية ولكن ما يميز الساموراي هو الهارا كيري، وهو انتحار عبر بقر البطن من اليسار إلى اليمين. في أولى الممارسات لهذا التقليد كان محصورًا على الساموراي وكانت الخطوة التالية من الآلية المؤلمة هي أن ينحر الساموراي نفسه أو أن يسقط على النصل الموجه نحو قلبه. لاحقًا دخل دور ثانوي، كايشاكونين، وهو رجل يقطع رأس الساموراي لتهوين الاحتضار.
هذا الانتحار الذي أصبح عادةً لها طقوسُها لم يعد يقتصر على الساموراي لاحقًا، غايته غسل العار عن النفس أو العائلة. إذا خسر الساموراي المعركة قد يقدم على الانتحار كي لا يقع في الأسر، أو ليمسح عار الخسارة، وفي بعض الحالات طُبّق كأنه وسيلة للإعدام، إذا ارتكب جرائم مثل السرقة والاغتصاب. لكن في هذه الحالة لا تسقط بالضرورة تبعات العار عن العائلة. من أشهر الأمثلة على الهاراكيري هو انتحار الكاتب يوكيو ميشيما بعد فشل محاولته افتعال انقلاب عسكري في اليابان.
أما في الغرب لعبت المبارزات دور الدفاع عن الشرف، لم يكن الهدف قتل الآخر بقدر ما كان إبراز الجسارة على التضحية في سبيل صون الشرف. على الرغم من المحاولات القانونية لإيقاف هذه الممارسة التي بدأت منذ العصور القديمة لم تنحسر حتى أواخر القرن العشرين. من أكثر المبارزات شهرةً هي تلك التي أدّت إلى مقتل ألكسندر هاميلتون، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، متأثرًا بإصابة من هارون بَرَّ نائب الرئيس الأميركي حينها. في عزائه قدّم القس والعالم إليفاليت نوت نعيًا يذم فيه ممارسة المبارزة لأنها تقوّض أسس المجتمع المدني وتخطف المواهب الشابة وتدمر السعادة المجتمعية. هذه الخطبة ساهمت، هي وغيرها من فعاليات جمعيات مُكرّسة لإنهاء هذه الممارسة، بالنجاح في أن يصدُرَ الأمر القانوني بمنع المبارزات.
قبل أن نعود لالتقاء الشرق والغرب في الشرق الأوسط حاملين معنا نقطتين من أقاصي الأرض لنبحث عما أعتقد أنه أوضح تجلي لمفهوم الشرف. مفهوم الـ"مانا" الموجود في تاهيتي وهاواي وعند قبائل الماوري، السكان الأصليين في ما يعرف بنيوزيلندا اليوم. المانا جزء من نظرة شاملة للعالم لذا لا يجوز اختزالها لمفهوم الشرف لكنها في سياقها المجتمعي قريبة منه. المانا هي طاقة روحية قد تفقدها أو تكسبها وفق الأفعال، وهي طاقة تعكس السلطة والكرامة والسخاء ومكانة الفرد أو القبيلة. هذا التجسيد للمكانة المجتمعية قد يفيدنا في إدراك الحجم الذي يأخذه الشرف في مجتمعاتنا.
أولًا لنلاحظ اتفاق الأطراف على تعريض النفس للخطر والتضحية في سبيل الدفاع عن الشرف وأهمية ذاك الشرف في المجتمع، ثانيًا أن ذلك لم يكن بين الطبقات الفقيرة أو من يتسم بالهمجية الفكرية، أي أنه ليس أمرًا يمكن تفسيره بالطبقية المالية. بل نجد مَن هم في أعلى المراتب في الدولة يتبارزون، أو أفراد الطبقة المحاربة - وهي من أقوى الطبقات في المجتمع - يعرّضون حياتهم للخطر في سبيل الحفاظ على الشرف. قد تلاحظ مع إكمال المقال أن الانحدار من الشرف إلى السمعة هو انحدار يمكن تشبيهه بانقلاب الأخلاق وفق جينالوجيا نيتشة.
ارتبط الشرف في الأعراف الاجتماعية بمكانة الشخص وعائلته في أعين المجتمع، النبلاء والمحاربون بسلطاتهم العسكرية والاقتصادية هم أولى بالدفاع عن تلك المكانة. هذا المفهوم لم يكن غريبًا البتة عن القبائل العربية بل نجده، كما أزعم في هذه المقالة، في مركز العلاقات بين القبائل وبين الأفراد أنفسهم. هذا الزعم لا يبتعد كثيرًا عن المتعارف عليه من مركزية العائلة والقبيلة في المجتمعات العربية. هو أمرٌ يتفاخر به العرب في العادة بأكثر من صورة، وتعاب المجتمعات الغربية مثلًا على عدم معرفة المرء لجده العاشر. لكن يلزمنا اكتشاف الجوانب المظلمة من المركزية القبلية.
التفاخر بالأنساب وتفاخر الشعراء العرب بأنفسهم لا يحتاج إلى الكثير من الشرح فهو حاضرٌ إلى اليوم في الوعي الجمعي. سطوة العشائرية على كل الجوانب المجتمعية في معظم الدول العربية أمرٌ يُذكر بشكل اعتيادي، عادةً في محل الذم لوقوفه في طريق المدنية. لكنه ذمٌّ بالألسنة أما فعليًّا نجد تلك الروابط بمتانة لا يبدو أنها ستتزعزع قريبًا. رغم الاتفاق الشفهي على ضرورة سيادة القانون فوق تلك الاعتبارات ما زالت السلوكيات المجتمعية تعتمد على هذه التجمعات الفرعية سواء بصورتها القبلية أو العائلية. إضافةً إلى ذلك هناك خوف من فقدان هذا الود وتلك الأواصر.
في أحد الجوانب المظلمة تقبع المفارقة البارزة بين جريمة الشرف والمبارزة في طبيعة الخصومة، في المبارزات الغربية يقف الرجلان اللذان اتفقا على تلك المبارزة بعد تعرض أحدهم لشرف الآخر، أما في جرائم الشرف لا يتبارز الرجل مع الرجل الذي يعتقد أنه دنّس شرف عائلته بل يتخاصم مع الأخت أو الابنة.
لا تفسير هنا لتلك الجريمة لكننا قد نجد تفسيرًا لظاهرة ثانية وهي أن تستخدم الشتائم المهينة للشرف بدلًا من إهانة ذات الشخص. في معظم الأحيان تعتبر تلك الشتائم استفزازًا لأجل عراكٍ أو لاستدراج الخصم، بدلًا من مبارزة بالسيوف والمسدسات تكفي الأيدي. لو اقتربنا أكثر من تلك الشجارات سيلوح أمامنا اختلافٌ ثقافيٌ آخر في طبيعة العراك، في الضربات عشوائية، وفي الشجار نوعٌ من الاعتماد على الآخرين بالانضمام إما لتكبر حلبة القتال أو للفض بين المتعاركين. أما في الشجارات الغربية تكون الضربات مركزة أكثر للإيذاء لا بتلك العشوائية وبدلًا من الانضمام للقتال أو إنهائه يكتفي المارّة بمتابعة الحدث. عدم التركيز على الأذية المباشرة قد يشير إلى سذاجة قتالية في المجتمع أو إلى أن هذه الشجارات السريعة والفجائية لا تنشُب من أجل أذية مبالغٍ بها بل لرد السمعة والحفاظ على الشرف أو لإهانة شرف الخصم. أي أن المبارِز - إن صحّت تسميته بذلك - يسعى لإثبات جرأته على الدفاع عن شرفه أكثر من قدرته على القتال.
المفارقة تبرز أيضًا بأن الشرف في منظور المحاربين والنبلاء كان بمثابة الهالة الاجتماعية حول السلطة العسكرية أو الاقتصادية، امتداد للقوة والقدرة على الهيمنة أو الدفاع عن مكانة وأملاك. هذا الجانب ليس غريبًا على القبائل التي اعتبرت الشرف عبارة عن قدرتها على الدفاع أمام القبائل الأخرى وضمّت تحت جناحه مفاهيم مثل المروءة وإكرام الضيف وما يشابهها مما يرفع من قيمة المانا عند قبائل الماوري.
المجتمعات التي اتجهت نحو المدنية لفظت المظاهر التقليدية للحفاظ على الشرف بجانبه السلطوي، أما في الشرق فقد اختفت الطبقة المحاربة كما حصل في كل الدول المتمدنة مع نشوء الجيوش النظامية.
الشرف والقرف: جرائم السمعة
في المثالين المذكورين من المبارزة أو الهاراكيري لا نجد مرادفًا لجرائم الشرف، هذه الجرائم بحاجة إلى دراسة أدق وأكثر محلية؛ كيف تشكلت وتطورت هذه الظاهرة وما تخبرنا عن ظواهر أخرى قد لا تكون بفظاعتها لكنها في نفس السلسلة من المفاهيم الهجينة والمتخلفة زمنيًّا وأخلاقيًّا. لا هالة من سلطة من أي نوع تنتج عن ارتكاب عائلة جريمة بحق أحد أفرادها. لنعتبر أن الجريمة تأديبية بقصد منع العلاقات الجنسية لكننا ومع ذلك لا يمكننا تجاوز غرابة عقاب أحد شركاء الجريمة دون الآخر. ولو أخذنا أمثلة المبارزة وإسقاطها على العوام من شجارات بالأيادي والأسلحة البيضاء فإننا ما زلنا بعيدين كل البعد عن تفسير توجيه الضربة لامرأة فقط مع ترك الرجل الذي عرّض الشرف للخطر. كما أننا لا نستطيع وضع هذه الجريمة كأنها وليدة لحاجة القبائل الدفاع عن نفسها ضد القبائل الأخرى فهو في السابق دفاعٌ بنية حماية نساء القبيلة. فإذا كانت الفتاة هي شرف العائلة كيف نفسّر قتلها للحفاظ عليه؟
إن لم تكن الفتاة هي الشرف ولم يعد الدفاع عنها وعن سلامتها هو الشرف، وبما أنها ليست دعوة المعتدي على الشرف إلى مبارزة شريفة لا لغاية قتاله بالضرورة بقدر ما هي لغاية إثبات الرجل في أي عائلة أنه مستعد للدفاع عن شرفه. فما الحاصل حقًا في مثل هذه الجرائم؟ من المغري أن نعزو ذلك إلى وحشية كامنة في البشرية، ذلك في بعض الأحيان يفسر فظاعة الاعتداء على الإناث مثل ذاك الزوج اللعين الذي فقأ عيني زوجته، لا بد من الحديث عن الاختلال الأخلاقي والخلل البشري المسبب لذلك، لكنه لا يفسر كل الجرائم من هذا النوع فهي أقرب إلى الإعدام في صورتها الفظيعة ومباشرة القتل فيها.
اقترابها من الإعدام لا يقلل من الوحشية لكنه يضعها في فئة مختلفة، فإن لم تكن الوحشية تفسر تلك الجرائم، محاولتي لتفسير الفعل من تلك الطرق محاولة موعودة بالفشل من مطلعها لأن ذلك يجمعها مع جرائم مختلفة، كما تتميز جرائم الشرف عن كل الجرائم بحصرية جنس الضحية. لذلك بدلًا من السير في مقدمات لا أستطيع فهمها بسبب قبح الجريمة على الأصعدة الأخلاقية والبشرية سأسلك الطريق رجوعًا من رَدَّتي فعلٍ استهجنتهما، سأفعل ذلك في سبيل تمييز تضاريس تضع هذه الجرائم دون غيرها في موقعها المميز.
أول ردٍ يبررها بالإشارة لتلك الفورة الذكورية واعتبار ما حصل ابتلاء للأخ والأب. هذا التصور لحالة المجرم يرشدنا إلى طبيعة إدراكه لما وقع، حالة التأهب العدائي المرتبطة بتلك الفورة قريبة جدًّا إن لم تكن هي نفسها حالة التأهب في نظرية السيكولوجية لاستجابة الكر والفر. تلك الدرجة من التوتر والعصبية والحاجة للاختيار السريع بين القتال أو الهرب من الموقف عند مواجهة خطيرة في نظر الشخص. وهي تضخّم للهيجان الواقع عندما يُشتَم الشخص في عرضه على الملأ.
ما هو هذا الخطر الذي يراه هذا المجرم عند النظر إلى أقرب الأقارب؟ الكثير من جرائم الشرف ليست ردة فعلٍ مباشرة على الإمساك بالفتاة وهي تزني. ما الذي يروّع المجرم لدرجة الإقدام على قتل أقرب أقاربه إذًا؟ لو صحّ استنتاجنا بأن المسألة لم تعد ترتبط بالشرف، لا بمعناه النبيل وتلك الهالة السلطوية ولا بمعناه القبلي وتلك الحالة الدفاعية عن نساء القبيلة. أقرب الأمثلة لتلك الحالة النفسية من العصبية هي جرائم الشغف. الخيانة هنا هي ليست خيانة زوجية بل خيانة الفتاة، في نظر المجرم، للعائلة. لكن ما الذي فرطت به الضحية حقًّا من حق العائلة كي يحكم عليها المجرم بالخيانة؟ لم تهدر الأملاك بل على أغلب الظن كان عشيقها يحاول إثبات مشاعره بإهدائها الهدايا. لا يسعني إلا القول بأن ما فعلته الضحية هو خيانة سمعة العائلة.
في المجتمعات ذات الطابع القبلي هناك سلطة اجتماعية للسمعة وكل قبيلة لها محصلة من تلك السمعة عليها الحفاظ عليها، مانا بدوية لا ماورية. استخدامي لكلمة السمعة مقصود للتفريق بينها وبين مفهوم الشرف الذي أعتبره عريقًا وذا أصلٍ نبيل. وهو اختيار لا يقتصر على ذلك بل يفتح أمامنا بوابة تفسيرات للكثير من الظواهر الأخرى في تلك السلسلة الهجينة التي ذكرتها سلفًا. السمعة التي خانتها الضحية هي بحد ذاتها أحد الأملاك المعنوية للعائلة.
دعوني أعود إلى رد الفعل الآخر الذي استهجنته بعدما قتل أحدهم ابنته وشرب الشاي فوق جثتها. هذه الجريمة يندى لها جبين أي شخصٍ سوي، ومنهم الآباء، لكن أحد الردود المتسهجنة كانت بالإسراع للتذكير بأهمية الأب في المجتمع. ربما كان ذلك في خضم الدفاع عنهم بسبب ردود فعل المجتمع النسوي بمهاجمة المجتمع "الأبوي". لكن ما هذه الأولوية عند تفشي ظاهرة تنحصر فيها دائرة الضحايا على البنات لا الآباء؟ وهي كما ذكرنا سابقًا لا تمتد حتى للأبناء من العوائل الأخرى المشتركين في علاقة ربما لم تصل لمرحلة جسدية أو جنسية. نرى في رد مستهجن كهذا على المجتمع النسوي انقلابًا كاملًا لمفهوم الشرف القبلي القائم على دفاع الذكور عن الإناث، ما نجده هو دفاع من إناث عن الآباء والإخوة بينما كان الأصل في مفهوم الشرف أن يدافع ذكور القبيلة عن إناثها. نحن ما زلنا إذًا بعيدين كل البعد عن الشرف بمعانيه النبيلة ولكننا قريبين كل القرب من مفهوم السمعة. يرى أولئك المسرعون للدفاع عن الآباء بعد جريمة لا شأن لها بالأبوّة أن سمعة الآباء أولوية والدفاع عنها ضروري حتى قبل أن تجف دماء الضحية. هذا الدفاع المستميت عن السمعة وتلك الفورة كما لو أن الفتاة خائنة، وخيانتها كانت خيانة لسمعة العائلة تضع هذه الجرائم والتي سأسميها بعد هذه النقطة جرائم السمعة لا جرائم الشرف، في موقع يمكن تفسيره دون أي نية أو حاجة لتبرير هذا الجرائم القبيحة.
في الهاراكيري يضحي الرجل بنفسه وفي المبارزات يعرّض نفسه لخطر التضحية للدفاع عن شرفه، في هذه الجرائم تُقدّم الفتاة كأنها أضحية في سبيل كيانٍ ما. لا يعقل أن يكون إله المسلمين وليس هو الشرف كما وضحنا. يمكن القول بأنها جريمة لاستعادة المانا المفقودة. هي السمعة، والسمعة لا توجد دون مستمعين، أي دون عوائل أخرى في المجتمع ينظرون بدونية إلى العائلة التي لا تسعى بجدية للحفاظ على سمعتها. نحن لا نتحدث عن سلطة عسكرية أو اقتصادية لنبيل أو محارب بل لمكانة العائلة في المجتمع. فقط قبولها في المجتمع القبلي يتطلب قرابين بشرية. بل تصل هذه السمعة إلى حالة من التجريد المعنوي والقداسة وتطلب القرابين في ذهن العائلة أينما ارتحلوا، بعض جرائم السمعة تقع في عوائل عربية هاجرت إلى مجتمعات غربية تتقبل العلاقات الجنسية.
لا تنفع بعض المبالغات النسوية بتصوير كل الذكور بأنهم مجرمون لكن الفرصة لم تتح لهم الفتك ببناتهم وأخواتهم، ولا أعني بهذا تبرئة الذكور من العدائية المصبوبة في كيانهم سواء بيولوجيًّا أو اجتماعيًّا لكن هذه المبالغة ستشوش فهم جرائم السمعة. هناك جوانب اقتصادية مرتبطة بهذه الجرائم وأخرى ترتبط في البيئات المحيطة بتلك العائلات التي ترتكب مثل تلك الجرائم. لا أظن أن كل فتاة تعتقد حقًّا أن أخاها أو أباها لديهما القدرة على إيذائها دون أي دلائل مسبقة على ذلك. في المقابل والأهم من الرد على الأقلية النسوية هو التوجه بالحديث إلى رجال عريضي المناكب غليظي الشوارب، أولئك الذين يظنون أنهم يدافعون عن المجتمع بالشجار الإلكتروني مع فتيات بالعادة يصغرونهم عمرًا. إلى أولئك الظانين بأنهم حماة الشرف دون التنبه لانقلاب تام لمعنى الشرف في حماية نساء القبيلة.
النساء في المجتمع الشرقي يخافون الخروج دون تحرش ويقول لهم الذكور بأن الذنب ذنبهم إن حصل ذلك، ألا يعني ذلك أننا لو أخذنا المجتمع كقبيلة كبيرة فهي أكبر قبيلة عديمة الشرف؟ حيث لا تشعر نساؤها بالأمن فيها؟ وحيث لا يأمن أي ذكرٍ فيها من خبث الذكور الآخرين، ولذا بدلًا من منازلات لانهائية مع كل الذكور تجبر الأنثى في العائلة على تنازلات لانهائية في حياتها؟ هذه المجتمعات ما زالت في العقلية القبلية حتى وإن ارتدت زي المدنية، والأصح أنها ليست قبيلة واحدة بل عدة قبائل أقرب في حالة هدنة طويلة الأمد(1). هدنة مهددة بالاختفاء لحظيًّا دون اكتراثٍ بمفهوم الدولة. لهذا السبب يشعر الرجال في هذه المجتمعات بتلك الفورة وتلك الحاجة لحماية النساء، عفوًا، لحماية السمعة حتى لو كان الثمن دم النساء. لأنهم يدركون أن الرجال في الخارج ليسوا أبناء دولة ولا هم أبناء عمومة، كلهم أعداء محتملون. معظم السجالات في هذا الموضوع تشير إلى التشنج بين القبلية والمدنية، بين اعتبار نفسك في دولة وكل من حولك مواطنين وبين اعتبار نفسك في قبيلة وكل من حولك قبائل معادية. وهي تفسر بصورة عكسية كيف ينظر المتحرش لأي فتاة بأنها تستحق الكلام البذيء، فهي الأخرى ليست مواطنة ولا قريبة مما يعني في عقليتهم البدائية أنها تستحق هذه المضايقات.
التهديد المطلق للموت في جريمة السمعة يحيط الكثير من تفاصيل الحياة، حتى في العلاقات السليمة مع شباب لا يقدمون على إيذاء الفتاة بسبب السلطة التي يتقلدونها تلقائيًّا، تتشوه العلاقة بسبب السرية، حتى لو صدقت نية الطرفين وحتى لو كانا ينويان الزواج بالحلال بعد التأكد من توافق شخصي وامتنعا أو قللا أي اتصال جسدي.
في آخر المطاف، بدلًا من الحفاظ على "الشرف" أصبحت هذه المجتمعات تتخبط وتلفظ أبناءها وبناتها للتزاحم على الهجرة إلى تلك المجتمعات التي لا "شرف" لها وفق تعريف المتحرش لهذه الكلمة.
نقطتان قبل الختام، الأولى هي أن هذا المقتطف لا يصوّر الحقب التي حملت معنى الشرف الأصيل بأنها حقب تحترم النساء احترامًا جمًّا لكنها بلا شك حقب كان فيها لكلمات مثل النبيل والشريف والمحارب معنى على عكس يومنا هذا. والثانية هي أن النقد هنا ليس لنظام ذكوري من وجهة نظر نسوية بل من داخل النظام نفسه، فهو في صورته الحالية في الشرق الأوسط نظامٌ يسوده أرذل الرجال، الخانعين لكل شيء خارج المنزل والدولة و"الأقوياء" فقط على نسائهم، ويقصي أشرف الرجال في كل الميادين بدلًا من أن يتوّجهم.
مركزية السمعة تلقي بظلالها على الكثير من تعاملاتنا وتكرب أفكارنا وتحدّ من طموحاتنا بشتى الطرق، جرائم السمعة ما هي سوى رأس الجليد من الكوارث الاجتماعية والفكرية والسياسية التي تمتد تحت سطح المياه.
هوامش
(1): ولن تثنيني تهم الاستشراق عن هذه الملاحظات دون الانتقاص من ضرورة كشف الاستشراق عند بعض المفكرين الغربيين، لكنني في المقالة الأصلية أشير إلى أن مركزية السمعة تمنع المفكرين العرب من الاعتراف بالقصور وتجعلهم يبالغون في حماية "السمعة" الجمعية لمجتمعاتنا.