إعادة قراءة الفضاء العام: التعبير بالغرافيتي في مواجهة العنف المكاني في فلسطين

إعادة قراءة الفضاء العام: التعبير بالغرافيتي في مواجهة العنف المكاني في فلسطين

إعادة قراءة الفضاء العام: التعبير بالغرافيتي في مواجهة العنف المكاني في فلسطين

By : Dana Hasan and Sahera Bleibleh م. دانة حسن، د. ساحرة بليبلة

مضى قرابة عقد منذ أن قابلتْ يافا، فتاة فلسطينية في الخامسة والعشرين من عمرها، لأول مرة جدار الفصل العنصري في صيف 2010. لم تخف يافا، المولودة والمغتربة في دولة الإمارات العربية المتحدة، من المنظر الخارجي للجدار فحسب؛ بل تذكرت الأحداث العنيفة التي أدت لوجوده أصلًا. كحال الكثير من الفلسطينيين القابعين في الشتات، أرادت يافا أن تتغلب على المسافة من خلال التجوال في فلسطين والتعرف على تاريخها وتاريخ أجدادها. خلال رحلتها (التعريفية) من رام الله إلى كنيسة المهد في بيت لحم، تعرفت يافا على قساوة وجه الحياة اليومية تحت الاحتلال الإسرائيلي عند مرور "الفورد" التي كانت تستقله من جانب حاجز قلنديا الإسرائيلي. تدريجيًّا، انتقل تركيز يافا من الجدار نفسه إلى الرسومات المنتشرة على الجدار. على الجدار، لمحت يافا جداريتين مرسومتين: إحداهما لياسر عرفات والأخرى لمروان برغوثي؛ شخصيتين فلسطينيتين كان التعرف إليهما لحظيًّا وسريعًا. بجانب هاتين الجداريتين، خُطّت عبارتان على الجدار؛ إحداهما تنادي بـ"تحرير فلسطين" والأخرى بتحقيق "السلام". إضافة إلى ذلك، شاهدت يافا جدارية لفلاح فلسطيني يرتدي لباسه التقليدي الفلسطيني ويحمل مفاتيح داره؛ مما ذكّر يافا بقصة كانت قد روتها جدتها عن مفاتيح دارها التي ما زالت بحوزتها حين أُجبرت على تركها في يافا (المدينة) خلال حرب عام 1948. على نفس الجهة من الجدار، رُسمت خريطة فلسطين متوشحة بالكوفية. لفت نظر يافا جدارية أخرى لطفل يحمل مقلاعًا ليرمي "قلبًا أحمر". ذكرتها رمزية الجدارية بما سمعته عن الانتفاضة الفلسطينية الشعبية الأولى أو انتفاضة الحجارة. خُطَّ بجانب الطفل عبارة "من فلسطين مع الحب". رؤية يافا لكلمات جدتها مرسومة على الجدار قد هوّن لقاءها غير المحبب معه وغذاها بشجاعة لحظية. تاريخ امتد لأكثر من سبعة عقود تمثّل أمام عيني يافا في ومضة عبور مركبتها من أمام الجدار. كلما استمرت مركبتها في التحرك، كلما تخافتت صور الغرافيتي على الجدار وبقي الجدار يمتدّ لكيلومترات أخرى يلاحق المركبة على طول الطريق ومدةً أطول في ذاكرة يافا. تدرك يافا أن تجربتها مع الجدار "مؤقتة" مقارنة بتجارب الفلسطينين الذين عاشوا الاجتياح الإسرائيلي للمدن الفلسطينية عام 2002 (الحدث الرئيسي المسبّب لوجود الجدار حسب ما يدعي الاحتلال) ويعيشون آثاره إلى يومنا هذا.

 

[الشكل 1: جدار الفصل العنصري جانب معبر قلنديا في مدينة رام الله. المصدر: ساحرة بليبلة، 2015]

منذ نشأتها في مترو أنفاق نيويورك في سبعينيات القرن الماضي، أصبح الغرافيتي لغة ثقافية وشعبية نابضة بالحياة، جغرافيًّا واجتماعيًّا. اهتمام الأكاديميين في دراسة هذه الظاهرة الحضارية أنتج موسوعة علمية كبيرة متعلقة بدراسة الغرافيتي من وجهات نظر تحليلية مختلفة. على سبيل المثال، ركز الباحثون المعاصرون على موضوعات مثل الهوية الحضرية، والسياسة الحضرية، والذكورية، والآخرية، والتكوين الذاتي، والمطالبات الإقليمية، وتواصل العصابات وسيادتهم على المناطق، والمقاومة السياسية، والثقافات الفرعية، وسوء السلوك المكاني، والاستطباق (gentrification)، والصور المتضاربة. رغم الاهتمام بدراسة ظاهرة الغرافيتي، القليل من الأكاديميين فقط هم من درسوه على أنه بناء تفاعلي ومنتج اجتماعي. لذلك، يتناول هذا المقال دراسة لوظيفة أو دور ظاهرة الغرافيتي الفلسطينية على جدار الفصل العنصري الإسرائيلي. إذ يقدم وجهة نظر تحليلية للعنف المكاني الحضري ونستكشف الغرافيتي كـ"عملية" اجتماعية. على وجه الخصوص، من خلال هذا المقال نناقش دور الغرافيتي في تمكين حق الناس في مواجهة الآثار الاجتماعية والمكانية للعيش تحت فضاء عام مضطهِد ومضبوط من خلال تشكيل وإعادة تشكيل ميزان القوى القائم.

الغرافيتي واستعادة المكان في فلسطين

أَطَّرَ، أو "بَرْوَزَ"، الاحتلال الإسرائيلي ذكرى اجتياحه للمدن الفلسطينية عام 2002 من خلال بنائه جدار الفصل العنصري عازلًا بذلك المناطق الفلسطينية المحتلة منذ نكبة 1948 مع مدينة القدس عن باقي المدن الفلسطينية في الضفة الغربية. منذ بنائه، يواجه الفلسطينيون تقييدًا على حركتهم في مدنهم من وإلى "داخل" الجدار. محكومين بأوامر وتصاريح الدخول الإسرائيلية، يعاني الكثير من المزارعين الفلسطينيين صعوبة الوصول لأراضيهم "خلف" الجدار، عدا عن الوقت الضائع في العبور من خلال الحواجز الإسرائيلية. يواجه الفلسطينييون أيضًا صعوبة الوصول إلى مدينة القدس شخصيًّا وبصريًّا. إضافة إلى ذلك، أصبح الجدار هو المنظر الخارجي لكثير من نوافذ المنازل الفلسطينية والفضاءات الخارجية العامة. يؤكد ما سبق "الحقائق على الأرض" وهي أن الاحتلال العسكري الإسرائيلي قد نجح في بناء وتصميم الفضاءات العامة والخاصة بطريقة تفرض هيمنته على الحياة الفلسطينية مكانيًّا وزمانيًّا ونفسيًّا.

 

[الشكل 2: أحد المعابر الإسرائيلية في جدار الفصل العنصري في مدينة بيت لحم. المصدر: ناجح هشلمون/Flash90 ، 23 أغسطس 2010]

يصعب تجاهل هذا الجدار خصوصًا مع حجمه غير الإنساني والارتياب الذي حققه، وما زال يحققه، في البنى التحتية الفلسطينية المادية والاجتماعية. وعليه، يُجبَر الفلسطينيون على التعامل مع الجدار يوميًا بشكل يستحيل تفاديه. كردة فعل لوجوده القصري، استُخدم الجدار كمساحة رسم من قبل فنانين فلسطينيين، مثل تقي الدين سباتين، ودوليين، مثل بانكسي. من خلال لوحاتهم والغرافيتي، يعكس هؤلاء الفنانون الرواية الفلسطينية لتجاربهم المعيشية مع الجدار، مسلطين الضوء على الظلم الناتج عن وجوده. فعلى الجدار الإسرائيلي، رُسم العلم الفلسطيني، والعديد من الرموز الفلسطينية (مثل مفتاح العودة، وشجرة الزيتون، والكوفية، وغيرها)، وبعض الشخصيات الفلسطينية (مثل ليلى خالد) وبعض الشهداء (مثل رزان النجار وإياد حلّاق)، ومسجد قبة الصخرة، وغيرها من الصور الرمزية. بينما تعبّر بعض الجداريات عن الذاكرة الجماعية والهوية القومية الفلسطينية، تعبر أخرى عن المعاناة اليومية للمعيشة تحت الاحتلال الإسرائيلي وأخرى عن الطموحات الشعبية بمستقبل عادل ومحرر. عدا عن ذلك، توجه جميع الجداريات المرسومة رسالات لمستخدمي الفضاء العام للجدار، وللمجتمع الدولي، وللمحتل الإسرائيلي أيضًا.

 

[الشكل 3: رسومات غرافيتي مختلفة على جدار الفصل العنصري في مدينة بيت لحم. المصدر: ألاء شويكي، 21 يوليو 2019]

ممارسة فن الغرافيتي على جدار الفصل يمثّل تحديًا واضحًا لهيمنة الاحتلال الإسرائيلي المفروضة على الفضاء العام الفلسطيني. فعندما يرسم الفنان على الجدار فهو يقاوم بشكل مباشر أبراج المراقبة الموزعة على كل 250 متر منه، ويتحدى أيضًا جنود الاحتلال المتواجدين دومًا في تلك الأبراج. برغم الاعتقالات والمخالفات التي يمكن أن يفرضها الاحتلال على كل من يقوم بعمل مشابه تحت بند "تخريب" الجدار، يستمر الفنانون بالكتابة فوقه. في عام 2018، تعرض فنانان إيطاليان بجانب فنان فلسطيني للاعتقال من قبل قوات الاحتلال لرسمهم جدارية لعهد التميمي في مدينة بيت لحم.

خلقت الغرافيتي الفلسطينية فرصًا لتوحيد جهود العالم نحو محاربة الظلم عالميًّا وأصبح الفضاء العام للجدار العنصري فراغًا لمقاومة الظلم والعنف المحلي والدولي. ونتيجة لعيش الفلسطينيين في مساحة محدودة ومسيطر عليها تبيّن أن ذلك لم يمنعهم من أخذ دور في محاربة الظلم عالميًّا. الأمر الذي يعزز حقيقة "أن الفلسطينيين موجودون هنا" رغم كل المحاولات الإسرائيلية لطمسهم واعتبارهم "غير مرئيين"

عهد التميمي فتاة فلسطينية كانت قد اعتقلت من قبل جيش الاحتلال وهي في السابعة عشر من عمرها لصفعها جنديًّا إسرائيليًّا، دفاعًا عن نفسها، عندما حاول اقتحام منزلها في قرية النبي صالح. بينما حكم القضاء الإسرائيلي بترحيل الفنانين الإيطالين وإبعادهم 10 سنوات عن الأراضي المحتلة، وبقي مصير الفنان الفلسطيني مجهولًا. بالنسبة للشارع الفلسطيني، من خلال الكتابة على الجدار "يعلّم [الفلسطينيون] عليهم" وفقًا لما قالته لمى، فتاة فلسطينية كانت قد شاركت رأيها خلال دراسة ميدانية في شوارع مدينة بيت لحم عام 2019. في المقابل، روى لنا نضال، شاب فلسطيني في السابعة والعشرين من عمره، تجربته بالعيش مع جدار الفصل العنصري:

"عندما كنت صغيرًا، ربًاني والداي على عدم الاقتراب من الجدار أو الجنود الإسرائيليين. لكنّي لا أنسى اليوم الذي تماديت فيه مع مجموعة من أصدقائي عندما اتجهنا إلى الجدار ولمسناه. لم أكن أعلم لماذا كان هذا الجدار هنا أو ماذا كان سيحصل لي يومها لأني لمسته" (مقابلة، بيت لحم، 23 يوليو/تموز 2019).

كما هو موضح، فن الغرافيتي الفلسطيني قد أصبح لغة ثقافية مقاومة استطاعت أن تغير موازين القوى في الفضاء الفلسطيني العام المحتل. كان نضال يجهل حقيقة أن الجدار وُجد لتقييد حرية وحركة الفلسطينيين. لكن، مظهر الجدار الخارجي قد نجح بزرع الخوف في قلبه وقلوب آخرين. بناءً على رواية نضال، يعتبر الاحتلال الاقتراب من الجدار عملًا متمردًا، بينما يراه الفلسطينيون عملًا شجاعًا يتغلب على مخاوفهم من الاحتلال ويتغلب على "النظام" التأديبي للظالم، ويكسر شوكة/حدّية القوى المسيطرة على المكان. وعليه، فإن موازين القوى في الفضاء العام قد مالت لصالح الفلسطينيين، لحظيًّا أو جزئيًّا، من خلال استخدام الفضاء العام بحرية وتغيير معالم المكان بشكل يعكس مشاعر وقيم الشعب الفلسطيني، ضاربين بعرض الحائط قوانين المحتل، كما وضّحت لنا رواية يوسف:

"حسّنت الغرافيتي الحياة اليومية بجانب الجدار. يستخدم الشباب هذا الفن كأداة للتعبير عن أنفسهم كلما أحسوا بالملل أو الغضب. هم أيضًا يرسلون رسالات للاحتلال الإسرائيلي بذلك" (مقابلة، بيت لحم، 23 يوليو/تموز 2019).

كما ذُكر سابقًا، الرسالات المرسومة على الجدار تعكس آراء وطموحات ومعاناة الفلسطينيين. امتد الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين لأكثر من عقد، مما يعرّض ذكريات الحرب الأليمة والحقوق الفلسطينية لخطر النسيان بالرغم من الأثر الكبير المتروك في ذاكرة الفلسطينيين. على الرغم من ذلك، التجارب الفردية والجماعية للحياة اليومية الفلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلي خلّفت كتابًا سميكًا من الذاكرة الشعبية الذي بدوره أصبح جزءًا لا يتجزأ من الهوية القومية الفلسطينية خلال 73 سنة فائتة. الأمر الذي من شأنه أن يخلق صعوبة في نقل ورواية الأحداث اليومية تحت الاحتلال. لذلك يعتبر نقل وتوريث الرواية الفلسطينية شكلًا من أشكال المقاومة. نجح الشباب الفلسطيني في تحويل الجدار المادي للفصل إلى دليل حي ولوحة تسلط الضوء على الذكريات المؤلمة المشتركة للفلسطينيين. الغرافيتي الفلسطيني حوّل أيضًا مستخدمي الفضاء العام إلى مستخدمين نشطاء واعيين ومشاركين في عملية المقاومة السلمية الحاصلة في الفضاء العام؛ إذ إنهم على الأقل يشاركون في التأمل والتفكير بما يرونه على الجدار من قصص وروايات جسّدها الغرافيتي. وبالتالي، فإن إحياء الذكرى الجماعية والتجارب المعيشية للفلسطينيين يمكن أن يساعد في تحفيز المحادثات العامة والاحتفاظ بسجل للانتهاكات الإسرائيلية. وفي هذا الصدد، يعد التواصل الحضري أحد أشكال التفاعل العلاجي داخل الفضاء العام بحيث يعزز الشفاء الجماعي ويدعم الرفاهية الاجتماعية للمجتمعات المتضررة. لذلك، وكما هو موضح في هذا المقال، فإن تعبيرات الغرافيتي الفلسطينية تجسّد "الحق في المدينة" (لوفيفر، 1968) وتعتبر خطوة فاعلة نحو استعادة الفضاء العام.

كتابة الرواية الفلسطينية على الجدار حفّزت أيضًا حوارات حضرية بين المجتمع المحلي والدولي ضد الاحتلال المهيمن. لطالما أثار جدار الفصل أسئلة حول النظام العنصري وراء وجوده، إذ أدانت القوانين الدولية والمجتمع الدولي بناءه. وعليه، انضم العديد من الفنانين حول العالم إلى الصورة لرسم اعتراضهم على وجود الجدار على الجدار نفسه ولمؤازرة الفلسطينيين. الداعي للدهشة هو أن العديد من لوحات الفنانين العالميين، مثل بانكسي، أصبحت وجهة سياحية لمحبي هذا النوع من الفن ولمحبي "السياحة المعتمة". الأمر الذي ساهم في نشر الوعي أكثر عن القضية الفلسطينية عالميًّا، وخلق فرص دخل لبعض العائلات الفلسطينية محليًّا. وبذلك تحوّل الجدار إلى مساحة تعبيرية أو خشبة مسرح يتبادل من خلالها العالم تجارب الظلم ويعكس الصوت الفلسطيني تضامنه أيضًا مع الحركات العالمية ضد الظلم. على سبيل المثال، في عام 2020، عندما أُعدم جورج فلويد من قبل الشرطة الأمريكية، أبدى الفنان تقي الدين سباتين تضامن الشعب الفلسطيني مع الحركة الأميركية "حياة السود مهمة" من خلال رسمه جدارية لفلويد على جدار الفصل بجانب عبارة كتبت باللغة الإنجليزية "لا أستطيع التنفس، أنا أحتاج للعدالة لا للأوكسجين". وضّح سباتين أن العنصرية التي قتلت فلويد في أميركا هي نفسها التي أنشأت جدار الفصل العنصري في فلسطين (ربتلي، 2020). وبذلك خلقت الغرافيتي الفلسطينية فرصًا لتوحيد جهود العالم نحو محاربة الظلم عالميًّا وأصبح الفضاء العام للجدار العنصري فراغًا لمقاومة الظلم والعنف المحلي والدولي. ونتيجة لعيش الفلسطينيين في مساحة محدودة ومسيطر عليها تبيّن أن ذلك لم يمنعهم من أخذ دور في محاربة الظلم عالميًّا. الأمر الذي يعزز حقيقة "أن الفلسطينيين موجودون هنا" رغم كل المحاولات الإسرائيلية لطمسهم واعتبارهم "غير مرئيين" (بليبلة، 2015) كما وضّح جهاد، فلسطيني يعيش بجانب الجدار في بيت لحم:

"الغرافيتي هي لغة يسهل قراءتها على الجميع. يستطيع العالم قراءة معاناة الفلسطينيين مع الجدار على الجدار نفسه" (مقابلة، بيت لحم، 24 يوليو 2019).

لكن بالنسبة لآلاء، فتاة فلسطينية، "إسرائيل عمياء، بل ترفض أن ترانا"، وتوضح آلاء أكثر:

"عندما نتكلم معهم، نفترض أن الطرف الآخر يسمع، لكنهم ببساطة لا يسمعون. لو قرر الإسرائيليون ليوم واحد فتح أعينهم حقًّا لكان بإمكانهم رؤية ما يحدث على أرض الواقع، ويمكن أن يشعروا بضرورة إزالة هذا الجدار" (مقابلة، بيت لحم، 23 يوليو/تموز 2019).

 

[الشكل 4: جدارية للشهيد إياد حلّاق قام برسمها الفنان الفلسطيني تقي الدين سباتين، بجانب جدارية للمناضلة ليلى خالد. المصدر: هشام أبو شقرة، 15 يونيو 2020]

"الحق في المدينة"

يواصل الاحتلال الإسرائيلي، اعتبار الكتابة على جدار الفصل العنصري شكلًا من أشكال التخريب. ومع ذلك، في فلسطين، أصبحت الكتابة على الجدران ممارسة ثقافية لإعادة إنتاج أماكن ذات مغزى في المجتمع من خلال تدوين القيم والذكريات والهويات وكذلك تمثيلها على جدار الفصل العنصري ماديًّا. لقد تحدى الفنانون المحليون والدوليون بشكل إبداعي وحر مراقبة القوة العسكرية الإسرائيلية المحتلة ونظامها من خلال كتاباتهم ورسوماتهم الملونة. حفزت أفعالهم أيضًا المحادثات العامة ومكنت مستخدمي الفضاء العام من القراءة والتفكير والتأمل ومحاكاة التجارب المشابهة. وهي عملية تُحوِّل مستخدمي الفضاء من مارة فحسب إلى أعضاء نشطين في حركة المقاومة؛ وبالتالي، فإن الكتابة على الجدران هي بمثابة تعبير ومثال على دعوة لاستعادة "الحق في المدينة". في السياق الفلسطيني، تجاوز التواصل الحضري عبر الغرافيتي الجمهور المحلي واستهدف الجمهور العالمي. إن الوصول إلى المجتمع الدولي من خلال هذا الفن يضيف إلى استراتيجية المقاومة الفلسطينية، لا سيما في مواجهة الإقصاء والتجاهل.

باختصار، تعتبر الكتابة على الجدران الفلسطينية ممارسة إبداعية نابضة بالحياة تساهم في إعادة إنتاج المساحات الحضرية. شكل بناء جدار الفصل العنصري ظلمًا مكانيًّا. ومع ذلك، فإن الكتابة على الجدران نفسها قد أعادت توظيفها في فرصة لتحقيق العدالة. يعتبر الفلسطينيون الكتابة على الجدران وسيلة زمنية ويومية لاستعادة حقهم في المدينة، حيث لا يمكن تحقيق العدالة الحقيقية إلا من خلال تفكيك الجدار. وعليه، فإن الكتابة على الجدران وتفسيرها والتعرف عليها هو نتاج اجتماعي من خلال المشاركة النشطة في الحياة اليومية في فلسطين. هذا المقال يساهم في الجدل الأكبر حول "الحق في المدينة" والبيئات العادلة بحيث يقدم فهمًا أكثر تعمقًا لمقاومة الناس اليومية على الرغم من القيود الموجودة. علاوة على ذلك، تناقش التجربة الفلسطينية الفنية منظورًا جديدًا فيما يتعلق بالكتابة على الجدران كمنتج اجتماعي وعملية تهدف إلى إعادة تشكيل الفضاء العام في مواجهة الظلم المكاني والعنف الحضري.

ملاحظات

1. غُيّرت جميع أسماء الأشخاص الذين تمت مقابلتهم إلى أسماء مستعارة لحماية سرية هويتهم.

2. استُخدمت جميع الصور بعد الحصول على إذن أصحابها، مع منح الحقوق.

المصادر والمراجع

Bleibleh, S. (2015). Walking through walls: The invisible war. Space and Culture, 18(2), 156–170.

Lefebvre, Henri (1996), "The right to the city", in Kofman, Eleonore; Lebas, Elizabeth (eds.), Writings on cities, Cambridge.

Ruptly (Director). (2020, June 10). Mural depicting George Floyd unveiled on West Bank “Apartheid Wall” [Video]. YouTube.

*صورة المقال: جدارية للشهيد إياد حلّاق قام برسمها الفنان الفلسطيني تقي الدين سباتين، بجانب جدارية للمناضلة ليلى خالد

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬