من «عائد إلى حيفا» إلى عائدون إلى حيفا (3 - 3)

[حيفا] [حيفا]

من «عائد إلى حيفا» إلى عائدون إلى حيفا (3 - 3)

By : Hanadi Loubani هنادي لوباني

على مشارف حيفا، يقول سعيد (س) لزوجته صفية، التي كانت منصرمة إلى التحديق نحو الطريق غير مصدقة بأنها ستراها مرة أخرى: «أنت لا ترينها، إنهم يرونها لك.. لقد فتحوا الحدود فور أن أنهوا الاحتلال فجأة وفورًا، لم يحدث ذلك في أي حرب في التاريخ.. لسواد عينيك وعيني؟ لا. ذلك جزء من الحرب. إنهم يقولون لنا: تفضلوا انظروا كيف أننا أحسن منكم وأكثر رقيًّا. عليكم أن تقبلوا أن تكونوا خدمًا لنا، معجبين بنا» (كنفاني: 12). يذكرنا سعيد (س) بقول المعماري الإسرائيلي رام كارمي: «إننا لا نخطط التضاريس الطبيعية فحسب، بل التضاريس الذهنية في نفوس البشر، أيضًا»(1)، فترسيخ الهزيمة العسكرية لا يستوي إلا بتكريس ثقافة الهزيمة عند الطرف الفلسطيني. وهنا نرى أن العودة المشروطة، كما المواطنة المشروطة، هي مصيدة أساسها قبول الفلسطيني بالهزيمة، وكسر روحه بقبول الإحسان من العدو بالسماح له بالعودة/المواطنة المؤقتة. يعي سعيد (س) أن المكان هو مكون أساسي في العلاقة بين المعرفة والسلطة، أي في نظم إنتاج المكان وصياغته وتمثيله سرديًّا، وتشكيله ماديًّا من خلال التخطيط العمراني، والذي يتم توظيفه كجزء من عملية اختراع الذات القومية، وبما يخدم مصالح السلطة المسيطرة وإظهار قوتها الشاملة. هذا ما يسميه إدوارد سعيد بالجغرافيا التخيلية (Imaginative Geography)، كمفهوم قائم على منطق القوة والهيمنة، وآليات التمثيل التبايني والإقصائي على المستوى المادي، الذي يعني الأرض وتمزيقها، واقتطاعها، وتشويه تكويناتها، وطمس معالمها التي تعد شاهدًا على هوية ثقافية غير مرغوبة، أو ينبغي تصفيتها وإنهاؤها على المستوى السردي الذي تبنى بواسطته الذوات المستعمِرة والمستعمَرة في ثنائيات الذات والآخر، المركز والهامش، واحتل المستعمِر فيها القطب الأول(2). المشروع الاستعماري في نظر إدوارد سعيد هو منظومة معرفية سلطوية تتجسد وتتحقق عن طريق المد والعنف الجغرافي، الذي يعمد إلى تأسيس نفسه في التاريخ وعلى الأرض والإنسان والهوية على السواء.

وهكذا يمضي سعيد (س) في رحلته، من هزيمة عبور الحدود، التي تحولت من خط هدنة إلى خط "أخضر"، إلى هزيمة تنكر المدينة/البيت/الابن له. في مواجهة الجغرافيا التخيلية والرواية الصهيونية والأسرلة كان لا بد لسعيد (س) أن يستحضر على مستوى الوعي والخطاب سردية أخرى، يتشابك فيها حاضر وذاكرة فلسطيني الداخل مع فلسطيني الشتات ضمن سردية مشروعها خيار وجدوى المقاومة. يصوغ سعيد (س) بالتوازي مع قصته قصة فارس اللبدة، جارهما الذي يتوجه إلى بيته في يافا بعد عشرين سنة معتقدًا أن الذي يعيش في بيته هو يهودي، وليتضح له أن من يعيش في بيته هو رجل فلسطيني من سكان المنشيّة: هدم بيته في الحرب، وانضم للمقاومة، ولما عاد إلى المدينة المهجورة اعتقله اليهود لفترة طويلة، ورفض أن يغادر يافا بعد إطلاق سراحه، فاستأجر بيت اللبدة من الحكومة بكل ما فيه من أشياء وأبقاه على حاله، وبقي فيه مع زوجته وولدين، أحدهما على اسم صاحب صورة وجدها في البيت، أخ فارس اللبدة الشهيد بدر، والتي بقيت محفوظة بأمان مع العائلة عشرين سنة، ولم تزل معلقة في مكانها على الحائط في غرفة الاستقبال.

أدت النكبة إلى انهيار الهيكل المجتمعي الفلسطيني، وتمزيق نسيجه الاجتماعي التقليدي بقطع الأواصر العائلية والقبلية وغيرها من العلاقات الاجتماعية، وتقسيم الشعب ما بين الذين بقوا في داخل أراضي 48، والذين أقاموا في قطاع غزة والضفة الغربية، والذين عاشوا لاجئين في البلدان العربية المجاورة. هذا التشتت الجغرافي أدى إلى انقسام الشعب إلى «الذين في الخارج» و«الذين في الداخل»، داخل مصيدة المواطنة التي فرضت عليهم وقطعت اتصالاتهم مع الخارج الفلسطيني والعربي. قبل نكسة الـ67، غلب الظن بأن الفلسطينيين من حملة الجنسية الإسرائيلية، ويتقنون اللغة العبرية، ويقف أولادهم في يوم "استقلال إسرائيل" وينشدون: «بعيد استقلال بلادي غرد الطير الشادي»، فقدوا الوعي الذاتي وشخصيتهم الفلسطينية. في قصة «الحب في قلبي»، التي يختم بها إميل حبيبي مجموعته سداسية الأيام الستة، نقرأ رسائل مهربة من أسيرة مقدسية متهمة بتهريب السلاح أو التستر على تهريبه، كتبتها على ورق سجائر ديجل إلى عائلتها، وتحكي قصة لقائها في سجن الرملة بأسيرة حيفاوية متهمة بالاتصال بالعدو(3). تكشف الرسائل الصورة التي رسمت لفلسطيني الـ48، وتنفض الفتاة المقدسية سذاجة جهلها لما تكتشف مدى قرب عالمها من الفتاة الحيفاوية، بل تطابقهما تقريبًا. يتشارك فارس اللبدة مع الأسيرة المقدسية في تجربة اللقاء بعد عشرين عامًا من القطيعة مع فلسطيني الداخل وفي محاولة الربط بين مكانين وزمنين وحدتهما الهزيمة. وكما المقاومة (التهمة، الأسر، السجن) هي النقطة العقدية (nodal point)، القادرة على تجميع حب الشعر والأغاني والأكل، وذكريات العائلة والوطن، وتجارب المنفى، بشقيه الداخلي والخارجي، فإن صورة الشهيد بدر اللبدة هي النقطة العقدية التي تحدد تجميع وتضمين الأشياء التي يلاحظها فارس اللبدة بعد عشرين عامًا من الغياب، البيت وأثاثه وترتيبه وألوان جدرانه وأشيائه ورائحته.

نعرف من إرنستو لاكلاو وشانتيل موفي أن الفضاء يتكون من عناصر حرة، دلالات عائمة، متنوعة وغير منضمة ومتباينة، وحتى متنازعة، ما يسميه لاكان نقاطًا (Capiton)، ولكنها قادرة من خلال نقاط عقدية على التجمع والتواصل والانتظام في سلسلة تكافؤ موحدة، تضمن معناها وتحدد هويتها مجازيًّا(4). ما يمكن أي نقطة لأن تكون عقدية هو تميز موقعها الدلالي داخل لغة وتراث رمزي وأخلاقي مشترك، وفكرة عامة ومشروع لتحقيق ما هو عادل، ورواية تاريخية موحِّدة قادرة على إثارة الخيال والعواطف، كل هذا يسمح لباقي النقاط أن تتماهى معها. وهكذا تعمل صورة الشهيد بدر اللبدة كنقطة تعريف عقدية، تجمع عناصر المكان، بشرًا وأشياء وذاكرة، تشد أواصر التفاعل بين اليافاوي الباقي على أرضه مع اليافاوي اللاجئ، رغم تحولات التجربة في الزمن، وتربط الحاضر بالماضي لاستعادة زمنٍ مضى، وفهم زمنٍ حاضرٍ، وتكثفهما كنقطة انطلاق إلى مستقبل سيرسم معالمه بالمقاومة من أجل استرداد فلسطين. في المواجهة مع صورة أخيه الشهيد التي ما تزال معلقة حيث كانت، وحدها في الغرفة كلها، وعلى نفس الحائط في صدر الغرفة وبشريط الحداد الأسود العريض الذي مد على زاويتها اليمنى، تكر على وجنتي فارس اللبدة الدموع الممزوجة بحنين ساحر تغلغل في مسامات روحه من شوقه لبيته وما يحتويه من ذكريات وأشياء. يكتشف فارس اللبدة أن اليافاوي هو الوصي الفعلي والأمين على أشيائه وبيته ومدينته. ويكتشف فارس اللبدة أن لا حق له في استرداد صورة أخيه بدر الشهيد، لأن الذي احتفظ بهذه الصورة، وعاش معها، وحفظ روايتها وتفاعل معها هو أحق الناس بامتلاكها. يقول اليافاوي لفارس اللبدة عن صورة أخيه الشهيد: «هذا الرجل لنا نحن. عشنا معه وعاش معنا وصار جزءًا منا.. [هو] جسركم إلينا وجسرنا إليكم» (كنفاني: 57). فعلًا جسر، نكتشف مع فارس اللبدة، ومع كل نظرة وقصة وذاكرة وبسمة ودمعة، أن فلسطينيي الداخل بقوا وصمدوا وتشبثوا بالبقاء في أرض فلسطين بوجه الحرب والمجازر والحكم العسكري، وقوى القمع الإسرائيلية ووحشيتها بالعنف والاعتقالات، ومصادرة الأراضي في النقب والمثلث والجليل وغربي القدس، وسياسات التهجير البطيء، وعملية الإفقار الممنهجة، وعنصرية المجتمع اليهودي، وفاشية القوات الأمنية. ندرك أنهم مرتبطون بتاريخنا وأرضنا وقضيتنا بشكل جذري ويومي؛ لا هم عملاء لـ"إسرائيل"، ولا هم قديسون ولا منزهون عن ارتكاب الخطايا، بل فقط مختلفون، كما نحن مختلفون، انقسمت مصائرنا، وكل كوّن حياته بسبب الاحتلال بأشكال مختلفة، واختار لنفسه وسلك درب مغايرة لنفس الآلام. ندرك أننا من شعب وذاكرة وقضية واحدة متوفرة على المتعدد فينا، والتي توفر على أن نكون كثرة. نتحول من كينونات منفصلة ومنعزلة إلى تجسيد وحدة فلسطين في علاقات وعلائق فاعلة ومستمرة في ديناميكيتها، كل شيء فيها مترابط، داخليًّا أو خارجيًّا، ويمكن معاينتها من أي منطلق أو ركن أو زاوية، وترفض الخروقات الدائمة، والانفصالات الجذرية، والتحقيب بقطوعات الزمان الموزعة بين ماض وحاضر ومستقبل، والحدود المكانية التي رسمها الاستعمار.

يتخذ فارس اللبدة قراره بالانضمام إلى صفوف الثورة لاستكمال مشروع أخيه بدر الشهيد ومضيفه اليافاوي المناضل. هذا التحول في الوعي ما كان ليحدث أو يتبلور فيه مشروع نزع ملكية الأرض من أيدي سالبيها واستردادها لمالكها الفلسطيني الشرعي لولا إدراك فارس اللبدة العميق لما قاله اليافاوي: «كان يتعين عليكم، إن أردتم استرداده، أن تستردوا البيت، ويافا، ونحن.. الصورة لا تحل مشكلتكم». هنا يدرك فارس اللبدة أن قيمة الصورة هي في ألا تكون أية صورة معلقة على الجدار، مثلها كمثل مفتاح دار جابر في عن الرجال والبنادق، والذي انتقل من الوطن إلى المنفى وبات يمثل النوستالجيا للفردوس المفقود، وذكريات الهزيمة، وحكايات الماضي، وقصص العجائز والأمهات والأعمام عن الخوف والذل والعويل والحيرة والضياع والتخلي، بل أن يكتشف فيها فارس اللبدة لا صورة أخيه فقط، بل صورة من امتشق البندقية، كما اكتشف الصغير في صورة مفتاح دار جابر الحقيقية: فأس الأرض التي لا بد من استعادتها(5). يدرك فارس اللبدة أن عدالة الذاكرة تتطلب أن يدخل في علاقة غيرية مع الصورة: يحولها إلى نقطة عقيدية، تتفاعل في زمنية الذاكرة المركونة في ماضيها قوة نشاط اليقظة والوعي والإدراك والمعرفة، وتتدفق كأداة لنبش الأسئلة الممكنة المستفزة للحاضر المقترن بالاستعمار الإحلالي واستلاب الذات وافتقاد الحق في تقرير المصير، وكجسر عبور من نضال الشعب الفلسطيني في الماضي إلى عمل المقاومة في الحاضر لاستشراف المستقبل في التحرير والعودة والحرية.

هذه النقطة العقدية هي بالذات ما يفتقده سعيد (س) في بيته وما كان له فيه، إلا أنه من خلال سردية فارس اللبدة يحول هذا النقص إلى فائض، إلى قصة ما بعد الهزيمة التي سيكتبها خالد وفارس اللبدة وهما يواصلان درب الشهيد بدر الذي امتشق البندقية واستشهد في سبيل الوطن. يقول سعيد (س) لصفية: «إن دوف هو عارنا، ولكن خالد هو شرفنا الباقي» (كنفاني: 75). وهنا يلفت انتباهنا في القصة أن غسان كنفاني لم يعطِ اليافاوي اسمًا، ولكنه أعطى أولاده اسم سعد واسم بدر. فبحسب عالم غسان كنفاني وحدهم الفاعلون، خنوعًا وخيانة (أبو الخيزران) أو تمردًا ومقاومة (سعد)، في الحاضر والمستقبل هم الذين يستحقون أن يكون لهم اسم، بينما الآخرون لا أسماء لهم، مجرد أجساد تتنفس لا معنى لحياتهم(6). وهذا يعني أن اليافاوي المناضل ليس له اسم لأنه يعيش على أمجاد وذكريات الماضي، يصون ذاكرة الراحلين واللاجئين، مثله كمثل أم الروبابيكا، هند في رواية إميل حبيبي، والتي لم تلجأ إلى لبنان مع من لجأوا في النكبة، وبقيت في بيتها في وادي النسناس في حيفا، وتدبرت أمور حياتها بما كانت تبيعه من فراش ولحف وما وقعت يداها عليه من الأثاث والأمتعة المنهوبة إذ كانت تصلح وتحتفظ بكنوزها التي تجدها في الفراش على أمل إعادتها لأصحابها عندما يعودون(7). وكانت العودة المشروطة بعد هزيمة حزيران، ودق فارس اللبدة باب بيت اليافاوي مرتين، إلا أن بيت هند الذي بقي مفتوحًا لم يطرق بابه أحد. إلا أن كنفاني لا يتركنا بدون استشراف، فيرمز بتسمية أولاد اليافاوي سعد (على اسم الفدائي في رواية أم سعد)، وبدر (على اسم الشهيد بدر اللبدة)، إلى رواية ما زال جيل بعد أكتوبر في الـ48 يسطرها بالمظاهرات الشعبية، وإضراب الكرامة، ومبادرات الاقتصاد الوطني، وراديكالية الأسئلة عن مقاطعة المشاركة والمواطنة.

عائدون إلى حيفا

أحد عشر يومًا. كنا نضبط أعصابنا وننظم أنفاسنا مع فصول المقاومة الشعبية والمسلحة في فلسطين، نرتجف لضوضاء سماء غزة وهي تمطر الصواريخ بهمجية عبثية لتخرج أرضها كأنما زلزلت، وأطبق الدمار والخراب والجثث على كل جزء فيها. ومن قاع هذا الفزع والوجع، كنا نبتسم بعفوية ونصرخ ونهلل ونكبر لرشقات صواريخ المقاومة على القدس و"تل أبيب" وحتى "رامون"، ونصفق فرحًا على مشهد المستوطنين وقد دب الرعب فيهم وتخبطوا، وكأن القيامة قد وصلتهم. وما إن انتظمت دقات القلب حتى كنا نطبق جفوننا، وتغمرنا لحظات من الصمت الثقيل، ونصلي بخشوع وقد اشتعلت غلالات سماء الأقصى بوهج القنابل المسيلة للدموع، وعلا الصخب الاتجاهات، وتصادمت الأكتاف. قطعت خشوع صلاتنا صرخة فتاة في وجه قطعان الجنود والمستوطنين في الشيخ جراح، فتقدمنا خطوة إلى الأمام مع الجموع الزاحفة ومددنا لها يدنا، فرأيناها بجمال نظراتها الحانية كسيقان النرجس وببسمتها الشامخة فوق السحاب ترسم عبير شارة النصر. ابتسمنا لها والدمع يترقرق من عيوننا المحملقة وقد التقى صوت الشعب في حيفا وعكا والناصرة مع صوت الشباب المنتفض في البيرة و"بيت إيل"، وصوت الرصاص في اللد والنقب مع صوت حشود العودة عند الحدود، فعجزنا أن نترجم ما لكل هذا من معان ولا نقوى إلا على نطق سوى كلمة واحدة: «فلسطين صارت أقرب»، ونكررها مرة، واثنتين، وربما أكثر.

لدينا مقاومة مسلحة موحدة على مستوى الأجنحة العسكرية للفصائل، قلبت قواعد الاشتباك الموجودة، وفرضت بالدم والحديد قواعد اشتباك جديدة مدعومة ميدانيًّا وشعبيًّا بمجموعات وحراك شبابي فاعل في كل الميادين والساحات في فلسطين والشتات، يبدع في صياغة حيوية ووطنية ووحدة الشعب الفلسطيني، ويخلق مشاريع ومبادرات وفعاليات قادرة أن تفرض خطابًا جديدًا

أحد عشر يومًا، توحد الفلسطينيون خلف خيار المقاومة، وأشعلوا جبهات غزة والقدس والضفة الغربية والداخل والشتات، وبثوا الروح في القضية الفلسطينية في المنطقة والعالم بعد عقود من محاولات محوها وتشويهها. تسمرنا في مشاهد مقاومتنا وانتفاضتنا ووحدتنا وقد انتابتنا الرهبة، هذه التوليفة المركبة والمختلطة أمام ما هو مدهش ومثير، مهول وقوي، كمثل ما يحدث عند النظر إلى أعجوبة الطبيعة في العواصف والأعاصير.. هذا الخليط من قشعريرة فيزيولوجية وتَجربة فلسفية تثير المتعة، والإحساس بالأمان، والثقة بالنصر الآتي لا محال؛ فإدراك ما يسميه كانط بالـsublime، ويترجم في العربية إلى السامي/الجليل، يعمل على تنشيط الخيال، ورفعة الوعي عن التفاهة، ويحفز الشعور بالانتماء إلى شيء أكبر منا كأفراد ومجموعات ومكونات؛ فالـsublime تدل على السمو والارتقاء إلى الحافة أو الحد الأقصى من التجربة، أو حتى تَجاوزها(8). هذا الارتقاء كمفهوم فلسفي ينسج، ما يصفه جان فرانسوا ليوتار، بالمحايِثة: إدراك السامي دون تذليله للجمود والانتظار والتأملية، وإنما الصعود بالعاطفة المصاحبة للتجربة وعفويتها وإبداعيتها وقيمتها الجمالية وعمقها الوجداني، وإدراك أثرها الحسي في نوع من تحفيز الخيال وقفزته النوعية في الشكل والمحتوى، ورفع سقف الوعي وفتح أفق انشغالاته في عين اللحظة على مغامرة الكشف عن الإمكانيات والممكنات ووجهات نظر ومنظورات من شأنها أن تحدث التغير المنشود(9). عندئذ تتحقق آثار إدراك السامي/الجليل كتجربة غنية، خيالية وجمالية، وغير منفصلة عن الواقع والتاريخ، تجسر الهوة بين استشعار الرهبة والاستجابة للتحدي، بين المتعة وتفاؤل الإرادة، بين الإلهام وفن صناعة المستقبل وتحقيق المستحيل. وما زال جسدنا الفلسطيني الواحد يتطوح في نشوة كالسكر، هي أقرب للانتشاء الصوفي: تتخلخل معا مستقراتنا، فترفعنا ثوابتنا؛ نصطدم بالتحديات، فيحيينا الأمل؛ نلاحق أفقًا يتمدد وتوقعات تتوسع، فتتوالد الأسئلة على كل مفترق، ويباغتنا كبر المسؤولية وحاجتنا إلى المحافظة على معطيات عظمة وضخامة الواقع الذي نعيشه ونضاعفه.

أحد عشر يومًا، انتقلت الذكرى 73 لنكبة فلسطين من حيزها الرمزي المسكون بالأرض المسلوبة، والحقوق المستباحة، والأحلام المسروقة، والنكسات المتتالية إلى ما هو واقعي ويومي وملموس، جاعلة الواقع نفسه، بكل ما فيه من واقعية، ملحمة تفجر الرهبة أمام ما يحفل به هذا الواقع من عظمة وضخامة الأمر المدرك وهوله. أحد عشر يومًا أحيت ضمير العالم، وأحدثت رعبًا وجوديًّا عند الكيان الصهيوني، واستعادة القضية الفلسطينية فيها مشروعها التحرري وفرضته بالمقاومة الشعبية والمسلحة. فما حال قلوبنا؟ قلوبنا تحب البلاد، وقلوبهم تحمي البلاد، قلوبنا تدافع عنهم في كل ساحات الشتات، وقلوبهم تجدد فينا الأمل والذاكرة والحلم والاعتزاز بالانتماء، قلوبنا تعزف لحن العودة، وقلوبهم تدك العدو بالصواريخ وتحول كل لحظة ونقطة احتكاك إلى نقطة اشتباك. قلوبنا وقلوبهم قلب واحد، قلب شعب فلسطين الواحد بكل ما فيه من حنين وأنين وعذاب وشقاء وشوق وتمرد وألم وحلم وذكريات وفي انتظار ساعة الصفر. نقف كشعب واحد في عين النكبة، لا فقط كحدث مفصلي وصاحب الأثر الأكبر، ورغم تفاوت آثاره في حياة الفلسطينيين، بل أيضًا كتجربة جماعية تدل وقائع الشتات، والداخل في 67، وداخل الداخل في أراضي 48 بأن كل عواملها لا تزال موجودة، تُمارس وتتجدد وتتواصل يوميًّا؛ فالنكبة، وفي تحوير لمقولة ويليام فوكنر، أبدًا لم تمت، هي حتى بعد لم تمض.

النكبة مستمرة. ويعقوب، حرامي الشيخ جراح، أصدقهم لما قال: «إذا لم أسرقها، سيسرقها غيري». النكبة مستمرة لأن السرقة مستمرة. في الشيخ جراح، زورت شركة نحلات شمعون الاستيطانية أرض كرم الجاعوني لتزعم ملكيتها منذ العهد العثماني لـ40 عائلة يهودية مهاجرة من جورجيا. استخدم هذا الادعاء كحجة من أجل طرد السكان وهدم منازلهم في معركة قضائية وسياسية طويلة امتدت لسنوات، ونجحت في إخلاء بعض العائلات. في تشرين الثاني 2008، أُصدر قرار بإخلاء عائلة الكرد من منزلها بقرار من محكمتي الصلح والمركزية، وتكرر المشهد في آب 2009 بطرد عائلتي حنون والغاوي من منزليهما. يواصل الكيان نشاطه المحموم للاستيلاء على الأراضي والعقارات والمنازل الفلسطينية عبر تجنيد شركات استيطانية يتم إنشاؤها بغرض الاحتيال على الفلسطينيين وتزوير عقاراتهم لبناء المستوطنات. خلال العام 2018، أُسست 49 شركة إسرائيلية لتسريب الأراضي إلى المستوطنين، كما جرى في أراضي السواحرة حيث زوّر 11 ألف عقار، إلا أن أصحاب الأراضي تمكنوا من إبطال مشروع التسريب. وتنشط شركات نحلات شمعون وإلعاد وعطيرت كوهنيم في الاحتيال على الفلسطينيين لشراء ممتلكاتهم بمساعدة سماسرة فلسطينيين، يشترون العقارات وينقلونها للمستوطنين مقابل حصولهم على مبالغ مالية باهظة، أو من خلال لجوء البائعين والسماسرة إلى كتاب عدل أردنيين لإصدار وكالات دورية عرفية لا يتم اكتشافها إلا حين إعلان نية إحدى الشركات تسجيل قطعة أرض في الصحف، أو من خلال تزوير وثائق وعقود تثبت عدم ملكية أصحاب العقارات الفلسطينيين لها. ثم تبدأ الجمعيات الاستيطانية برفع دعاوى في داخل المحاكم لمصادرة تلك الممتلكات وإقامة مشروعات استيطانية عليها، أو بيعها في المزاد العلني للسكان الإسرائيليين فقط.

القضية ليست قضية حي الشيخ جراح حصريًّا، هي أيضًا قضية سلوان، ولفتا، وبيتا، والخان الأحمر، وبعلين ونعلين، وسوسيا، وحي العجمي في يافا، والنقب، والأغوار، والبلدات القديمة في القدس والخليل وعكا، وقرى المثلث والجليل، كل شبر في فلسطين. القضية هي قانون «الدولة القومية»، الذي سمي بـ«القانون الأساسي: إسرائيل بوصفها دولة قومية للشعب اليهودي»، والذي ينص على أن حق تقرير المصير هو حق خاص وحصري للشعب اليهودي فقط، نافيًا وجود شعب آخر على أرض فلسطين له حق تقرير المصير؛ ويجعل من العبرية اللغة الأساسية لـ"الدولة"، مغيبًا اللغة العربية؛ ويحذف بند المساواة من القانون الجديد، ومنها أيضًا تغييب مبدأ الديمقراطية، وبالتالي لا يلزم بانتهاج، ولو رسميًّا وعلى الورق، مبدأ المساواة في رصد الميزانيات للبلدات الفلسطينية؛ ويشجع الهجرة اليهودية، رافضًا حق العودة؛ ويحظر على الفلسطينيين في الضفة الغربية التقاضي أمام المحكمة العليا بشأن نزاعات على الأراضي أو ضد قرارات "الإدارة المدنية للاحتلال" بشأن مصادرات أراضٍ فلسطينية جديدة، ما يعني مزيدًا من عمليات المصادرة؛ ويرى في تطوير الاستيطان قيمة قومية، فاتحًا تطبيق قانون شرعنة الاستيطان وتبييض آلاف الوحدات السكنية التي تعتبر وفق القانون القائم، وتسريع وتكثيف عمليات فرض الوقائع على الأرض المحتلة في ضم الحارات والقرى المحيطة بالقدس، والمنطقة "سي" والأغوار، وتهويد الجليل والنقب ببناء مستوطنات لن يسمح بقبول غير اليهود فيها.

خلال ثلاثة عقود من وحل أوسلو وشحارها، تمكنت "إسرائيل" من إحكام سيطرتها على أكثر من 85٪ من أراضي فلسطين التاريخية، يستغلها 51٪ من اليهود الإسرائيليين، بينما يشكل الفلسطينيون 49٪ من مجموع سكان فلسطين التاريخية، ويستغلون 15٪ من مساحة الأرض فقط(10). نحن اليوم في مفصل تاريخي خطير. ونحن أيضًا في «لحظة مهمة جدًّا، وهي فاتحة الإمكانيات لكل شيء جديد». النكبة مستمرة. والمقاومة أيضًا مستمرة. في الذكرى 73 للنكبة، استيقظ الشعب الفلسطيني من نومة كهف أوسلو، ونفض نفسه كالمارد في كل الساحات في وجه كل من تخيلوا أنهم قهروه وألزموه الصمت الأبدي ليقول بالفم المليان، واليد القابضة على الزناد والحجر والمولوتوف، والقلب المفعم بشجاعة الحق والحقيقة أن فلسطين حية في عقولنا ووجداننا، وأننا مصرون وماضون في الدفاع عن أرضنا ومقدساتنا وحقوقنا الكاملة والمشروعة فيها وبكل الوسائل المتاحة، وأننا نقف صفًّا واحدًا وندًّا لكل من أراد تهميش قضيتنا واستبعادها من بؤرة الاهتمام والتركيز والدلالة، وأننا وبكل فخر شعب الجبارين وأبناء فلسطين العنقاء والولادة والقادرة والمقتدرة على البعث والبشارة بالنصر.

كان المعطى الأكثر وضوحًا هو استجابة فصائل المقاومة في غزة السريعة والمباشرة لنداءات المقدسيين لنصرة المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح، وما مثله هذا من تحول استراتيجي في قواعد الاشتباك العسكرية من ناحية أن المقاومة هي التي وجهت إنذارًا إلى الكيان الصهيوني، وحددت ساعة الصفر إن لم يتراجع، وهي التي بادرت بقصف القدس المحتلة بصواريخ نوعية تدخل الخدمة لأول مرة، وصعدت المواجهة من "تل أبيب" شمالًا إلى "رامون" جنوبًا. بهذا غيرت فصائل المقاومة من مسار المواجهة وثبتت قواعد اشتباك جديدة لتكون القدس هي العنوان لتوسيع النطاق الجغرافي لعملياتها خارج حدود قطاع غزة.

وكان المعطى الأكثر استراتيجيًّا هو انتفاضة شعبنا في أراضي الـ48 وإفشالهم كل مساعي الأسرلة في تحويلهم إلى مجرد تجمعات سكانية مفككة ومسلوخة عن قضاياهم الجوهرية، ومحو ذاكرتهم وانتمائهم الوطني. مظاهرات اللد التي انتقلت إلى البلدات الفلسطينية في النقب والمثلث والجليل، وبالذات فيما يسمى المدن المختلطة، حيفا ويافا وعكا واللد، عرّت السياسات الاقتلاعية الصهيونية، والقوانين العنصرية، والإيديولوجيا الدينية الفاشية، وثقافة الكراهية التي باتت تشكل خطرًا جديًّا على شعبنا، وكشفت للعيان أن قضية حي الشيخ جراح بالقدس هي أيضًا قضية حي العجمي في يافا والبلدة القديمة في عكا. هذا أرعب الاحتلال لدرجة اعتبار أحد قادته «إن تحرك العرب في إسرائيل أشد خطرًا مما يجري على حدود قطاع غزة».

وكان المعطى الأكثر فاعلية هو انتفاضة شعبنا في الضفة الغربية، وتحويل نقاط التماس مع الجيش الإسرائيلي إلى بؤر اشتباك. اليوم، ينتفض شعبنا على محورين. على محور الاشتباك مع الاحتلال من خلال إبداعات خلاقة. تحولت بيتا إلى مناورات الإرباك الليلي، والعمل المنظم المستمر على مدار الساعة، وبتنسيق من حراس الجبل الذين يعملون من خلال 10 وحدات، كل وحدة توكل إليها مهام معينة؛ بحيث تتكامل فيما بينها لتشكيل حالة من الإرباك والهلع للمستوطنين. وأيضًا على محور اغتيال الكلمة الحرة والحريات، التي فضحت ملفات الفساد والمفسدين وتشابكهم مع ملفات الاحتلال. تخرج جماهيرنا لتتصدى لاغتيال الشهيد نزار بنات على يد سلطة فيشي في رام الله وجهازها الأمني، الذي تحول إلى مطية صهيونية، تنوب عن بذاءة الجيش الإسرائيلي في الاعتقال والإعدام الميداني للحق والحقيقة الفلسطينية.

ولعل المعطى الأكثر بعدًا هو تأكيد الشتات الفلسطيني على دوره في مسيرة النضال الفلسطيني بتفعيل ساحات أبعد من فلسطين نفسها في مظاهرات حاشدة نصرة للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية وحقوقه المشروعة وروايته التاريخية. وإذ أكد الشتات الفلسطيني أنه ليس خارج دائرة الصراع، فإن المخيمات الفلسطينية في لبنان وسوريا والأردن أكدت أن مساحات المخيمات هي جزء لا يتجزأ من جغرافيا فلسطين وجسدها الشعبي والسياسي؛ فالمخيمات هي فلسطيننا التي أعدنا بناءها من أجسادنا الحية، وجبلنا بيوتها وحاراتها بطين ذاكرة قرانا ومدننا وأسمائها، وابتعثنا من خيام اللجوء فيها ومفاتيح بيوتنا موطنًا مؤقتًا في أوطان الآخرين، عمدنا دروب آلامها بدمنا وخبز انتمائنا وبشارة ثورتنا وعودتنا. التزمت المخيمات بإضراب الكرامة، وخرجت جماهيرنا إلى الحدود في تأكيد على حق العودة، وجبروت انتمائنا المتجذر في تراب فلسطين، وقوة ارتباطنا بأهلنا في الأرض المقدسة، ووحدتنا الراسخة لاستعادة دورنا التاريخي في تفجير الثورة الفلسطينية واحتضان تجربتها في الكفاح المسلح رغم كلفة الحروب، والمجازر، والحصارات، والاعتداءات، وتدمير عدد من المخيمات، والضريبة من حياة أبنائنا دمًا ونزفًا وتهجيرًا.

أما المعطى الأكثر مفاجأة، فهو الملحمة الرائعة التي قدمها الجيل الفلسطيني الرابع، حين قرر الآلاف من الشباب والشابات والأطفال، وبدون قرارات فوقية، تحمل المسؤولية في حماية عروبة القدس وهويتها الفلسطينية ومقدساتها، باعتبارها عاصمة فلسطين. أثبت هذا الجيل نفسه بجدارة، وسبق القيادات التقليدية والأحزاب والفصائل في حراكه السريع والشعبي، وفي تحديث طرق التظاهر، وتجنيد تقنيات الفيسبوك والتويتر واليوتيوب وتسخيرها لمعركته. رسخ هذا قواعد اشتباك جديدة في استفتاء شعبي قوامه الإجماع على رفض الاستسلام، وخيار المقاومة وضرورتها وجدواها، وتفعيل ساحات الشتات ومواقع التماس في القدس والضفة والداخل الفلسطيني، والتعامل مع مساحة الوطن الفلسطيني على أنه ساحة واحدة. في تأكيد هذا الجيل على الترابط العضوي بين الشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده وتواجده، ووعيهم الجمعي وإدراكهم الكامل لجوهر وطبيعة الصراع ومصيريته، برزت أجندة وطنية قائمة على مبدأ وحدة النضال الفلسطيني وكسر "خصوصية" و"قفص" كل بقعة جغرافية، وأدت إلى انهيار كل المعادلات والمراهنات القديمة في المفاوضات العبثية ومسارات الحلول السلمية، والتطبيع بين الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية، والإجراءات الصورية لتغيير النظام السياسي الفلسطيني والوحدة القائمة على أساس المحاصصة الفصائلية. ترجم هذا الجيل انتصار المقاومة العسكري في غزة إلى تحول استراتيجي في فلسفة وثقافة قواعد الاشتباك، وأسس ميدانيًّا لرؤية واستراتيجية وطنية وسياسية جديدة، تقوم على الالتزام بمنطق الشراكة الوطنية مع مختلف أطياف وتمثلات المجتمع الفلسطيني في الداخل والخارج، وتعزيز دور الشباب الفلسطيني التاريخي في إعادة تعريف واستعادة الحقيقة والحقوق الفلسطينية الكلية، وبهذا وضعوا الفصائل الوطنية والاسلامية أمام مسؤولياتهم في العودة إلى مصدر الشرعية الأول: الشعب الفلسطيني.

اليوم، لدينا مقاومة مسلحة موحدة على مستوى الأجنحة العسكرية للفصائل، قلبت قواعد الاشتباك الموجودة، وفرضت بالدم والحديد قواعد اشتباك جديدة مدعومة ميدانيًّا وشعبيًّا بمجموعات وحراك شبابي فاعل في كل الميادين والساحات في فلسطين والشتات، يبدع في صياغة حيوية ووطنية ووحدة الشعب الفلسطيني، ويخلق مشاريع ومبادرات وفعاليات قادرة أن تفرض خطابًا جديدًا، وأن تشكل قوة سياسية حقيقية، وأن تضخ الدم في شرايين العمل الوطني، وتؤسس لرؤية تعيد تعريف النضال الفلسطيني وتمحوره حول خيار المقاومة وبعيدًا عن خزعبلات "دولة أوسلو" أو سخافات "المساواة داخل إسرائيل". أثبت هذا الجيل قدرته على قيادة حركة كل الشعب. واجبنا أن نفتخر بهذا الجيل ونتواضع في حضرة تضحياتهم ونضالاتهم ومبادراتهم، ألا نسلط سوط الوصاية التافهة على أجسادهم وعقولهم ووعيهم. واجبنا أن نقف في صفهم، ونسلمهم زمام المبادرة في صياغة وقيادة المشروع الوطني لإحقاق تقرير المصير والتحرير والعودة ولحمة الشعب والأرض. واجبنا هو واجب سعيد (س) تجاه خالد: أن نطير إليهم، ونحتويهم، ونقبلهم، ونبكي على كتفهم، مستبدلين أدوار الأب/الأم والأبن/ة على صورة فريدة، ونقول لهم: أنتم الوطن. بكم ومعكم، عائدون إلى حيفا. فهذا الجيل هو نبوءة غسان كنفاني والذي قال فيه عبد الرحمن الأبنودي:

..جيل

أوصافه غير نفس الأوصاف

إن شاف وعي

وإن وعي ما يخاف(11)

الهوامش

(1): سنان عبد القادر. «العمارة والحيز الثالث وما بينهما».  بناة ـ العمارة والبناء (2010).

(2): Said, Edward. The World, the Text, and the Critic. (Cambridge: Harvard University Press, 1983), p. 137-8.

(3): إميل حبيبي. سداسية الأيام الستة وقصص أخرى. (القاهرة: دار الشروق للنشر والتوزيع، 2006).

(4): إرنستو لاكلاو وشانتيل موفي. الهيمنة والاستراتيجية الاشتراكية: نحو سياسة ديمقراطية راديكالية. ترجمة: هيثم غالب الناهي. (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2016).

(5): غسان كنفاني. عن الرجال والبنادق. (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1987).

(6): يزن الحاج. «بعد الهزيمة: إميل حبيبي وغسان كنفاني». جدلية يناير 2020).

(7): إميل حبيبي. أم الروبابيكيا: هند الباقية في وادي النسناس. (القاهرة: دار الشروق للنشر والتوزيع، 2006).

(8): J-F. Lyotard. Lessons on the Analytic of the Sublime. trans. Elizabeth Rottenberg (Stanford: Stanford University Press, 1994), p. 6-7.

(9): المصدر السابق.

(10): تحرير صوافطة. «سياسات إسرائيل الاستيطانية وأثرها على اقتصاد الأغوار» مكتبة بير زيت (2015)، صـ138.

(11): محمد القدوسى. الأحزان العادية/عبد الرحمن الأبنودي، دراسة نقدية. (القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 1999)، صـ46.

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • من «عائد إلى حيفا» إلى عائدون إلى حيفا (2 - 3)

      من «عائد إلى حيفا» إلى عائدون إلى حيفا (2 - 3)

      وقف منصور عباس، زعيم القائمة العربية الموحدة، مبتسمًا بجوار نفتالي بينيت بعد لحظات من تولي الأخير رئاسة الوزراء وتحقيقه أغلبية بسيطة للأحزاب الساعية للإطاحة ببنيامين نتنياهو.

    • من «عائد إلى حيفا» إلى عائدون إلى حيفا (1 - 3)

      من «عائد إلى حيفا» إلى عائدون إلى حيفا (1 - 3)

      بعد عشرين عامًا يصل سعيد (س) وزوجته صفية إلى بيت كان يومًا لهما في حيفا(1). يصعدان الدرج المؤدي إلى بيتهما في الطابق الثاني. يجاهد سعيد (س) ألا ينظر إلى الأشياء الصغيرة

    • القدس: نحو جغرافية ثقافية مقاومة (٣ من ٣)

      القدس: نحو جغرافية ثقافية مقاومة (٣ من ٣)

      في العام ٢٠٢٠، شهدت مدينة القدس ٤٣٠ عملية فدائية، بحسب تقرير الشاباك، تنوعت ما بين عمليات الدهس والطعن، وإطلاق النار، والاشتباك المسلح مع الجنود، وتفجير العبوات الناسفة المصنعة محلياً، والاقتحام المسلح للمستوطنات، واستهداف الحافلات والمنشآت

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬