منى سليم
في صفوف ضحايا الثورة، بين قتلى وجرحى، يحمل البعض جراحا من نوع خاص، وهم رفاق اللحظات الأخيرة. أولئك الذين عاشوا لحظة سقوط صديق أو قريب برصاص قوات الأمن.
إسكندرية، 2013. في صباح 28 يناير/كانون الثاني، وقف سكان شارع “مسجد السلام” في “سيدي بشر” يتابعون بكاميرات هواتفهم الحدث المنتظر، إسوةً بالعام السابق. متظاهرو أولتراس الزمالك “وايت نايتس” (الفرسان البيض) يهتفون “الشعب يريد حق الشهيد” و“في الجنة يا حسين”. وفي مساء نفس اليوم تأتي مجموعة متنوعة، وتشهد عمارة 42 أجواءً خاصة، حيث حرص والد حسين طه، شهيد “جمعة الغضب” على إحياء ليلة ذكر وعشاء وألفة، تجمعه وزوجته وابنه وأصدقاء الشهيد.
إسكندرية، 2021. زرته وصديقةً لي في اليوم نفسه هذا العام فقال: “كل شيء تغير. لم تعد هناك فرصة -لأسباب كثيرة عامة وخاصة- أن أجمعهم سنوياً كما كنت نذرت من يوم صلاة الجنازة. بعضهم يتصل هاتفياً وبعضهم غاب تماماً. لا ألومهم، هؤلاء الشباب يحق لهم أكثر من غيرهم أن يتغيروا”. تريني والدة الشهيد بعضاً من صور تلك الأمسيات. أسألها: “ولكن أين هشام بين هؤلاء؟”، وهو صديق ابنها، كان معه يوم استشهاده. ينظران لبعضهما البعض، يقول الأب: “حاولت أن أحافظ على التواصل قدر ما استطعت، لكني احترمت مشاعره وانسحبت”.
“حملوه بسرعة وجروا للخلف”
يحدثني الأخ الأصغر: “هشام اختفى عقب الاستشهاد بشهور قليلة. لم أعد أستطيع الوصول إليه، على الرغم من أنني التحقت بكلية الحقوق مثله ومثل حسين أخي. كنت أود أن أخبره أن شخصاً قد أرسل لنا فيديو صُوّر من أمام مسجد القائد إبراهيم، وفيه المشهد الذي انهار، وهو يحكيه لنا، وقرر من بعدها الامتناع عن زيارتنا”.
أمام كاميرا إحدى البرامج في يونيو/حزيران 2011، ظهر هشام للمرة الأخيرة. اتصل به والد الشهيد، وطلب منه مشاركتهم التصوير، وطلب منه فريق البرنامج أن يكون التصوير عند ساحة المعركة، من أمام مسجد القائد إبراهيم، حيث أدلى هشام بهذه الشهادة:
"ما إن انتهت الصلاة حتى بدأت الهتافات، وفي الوقت نفسه إطلاق كثيف لقنابل الغاز التي كنا نجرّبها للمرة الأولى. كان العدد كبيراً جداً، ولكن أيضاً كان عدد المجندين كبيراً. كَوّنوا بزيهم الأسود ثلاثة أضلع لمربع، وكنا نحن المتظاهرين نشكل الضلع الرابع باتخاذ قرار بالتوجه نحوهم والتحرك لزحزحتهم. في لحظة، وبينما نحن نتقدم شعرتُ بأن الخطر يزداد، لأنهم يرفضون التقهقر. جذبت حسين من يده، وقلت له الأفضل أن نرجع قليلاً، وكان رأيه أن نتقدم مع المتقدمين حتى ينفتح الضلع المواجه لنا. انتهى الكلام. بدأ إطلاق الرصاص، والغاز يزداد حتى اضطررت أن أغمض عيني. فتحتهما وكنا قد تباعدنا، لكني لمحت صديقي على الأرض يخرج الدم من صدره كنافورة، وآخرون يحملونه بسرعة ويجرون للخلف.
دامت رحلة الأسرة للوصول إلى المكان الذي نقل إليه الشهيد ثلاثة أيام، فالشاب الشاهد الوحيد فقد القدرة على التصرف أو تتبع الإسعاف. وعندما خرجت الجنازة من مستشفى السلام، مشى وسط الآلاف، يصلّون على 52 شهيداً، والتقى هناك بكل أصدقاء طفولة حسين ممن كان يحكي له عنهم، وأنهم مختلفون عنه، وليست لديهم نية للتظاهر.
حكى رامي ومصطفى وكل من استطعتُ التواصل معه من مجموعة شباب مدينة “طوسون” في أبوقير بالإسكندرية عن جلستهم التي لم تتغير طوال تلك السنوات عند “سلالم عباد الرحمن”. يقول مصطفى: “هذه هي جلستنا منذ كنا بالإعدادية. الآن أغلبنا خرج من المدينة للعمل أو السفر أو الزواج لكننا نعود بالإجازات والأعياد لزيارة أهلنا ونلتقي هنا”. صورة حسين لا تزال تتوسط جلستهم، يجددون “اللافتة” كل عام حتى لا تبهت ألوان الصورة. “نحن مدينون لهذه الجلسة، لم نتمكن لشهور بعد استشهاده من الاجتماع، لم ننسَ كيف كنا نجلس هنا. لم نشارك في الثورة إلى أن اقترب منا شخص يحمل محفظة، وقال لنا ’هل تعرفون حسين طه؟’”.
“سأسمي ابني حسين”
ينتظر عبد الرحمن مولوداً بعد 7 أشهر. قال “سأسميه حسين. ليست لديّ معلومات عن هشام، كنت أتمنى أن أوصلك به ونطمئن عليه. لم ألتقه إلا في الجنازة. لكن شعرت أن حسين قرر أن يجمعنا. نحن لم ننزل معه، وهشام فعل ما يستطيع وعاش تجربة صعبة. لكن حين أفكر الآن، أرى نفسي تخليت عن صديقي، ولم يكن كتفي إلى جانب كتفه في يوم كهذا”.
يبتسم الأب، وأنا أنقل له الحوار الذي استمعت إليه من شباب “أبوقير”، ويقول: “هم رفاق الطفولة، كان يجمعهم بحسين حب الكرة، أما هشام، فجمعهما حب البلاد وكره الفساد، وبعد وفاته اجتمع لدي كل أصناف المحبين”.
قبل إنهائي للزيارة، يطالبونني بطمأنتهم عن هشام في حال الوصول إليه. تقول أم الشهيد بحسرة وتعاطف معه: “بعد الاستشهاد بأيام، حضر عدد كبير من الشباب، جميعهم عرّفوا بأنفسهم عدا واحد فقط، وكان ينظر دوماً للأرض. وخلال حديثنا معهم أخبرتهم أن صديقاً لحسين اتصل قبل صلاة الجمعة، وأصر أن أوقظه له، ولم أكن أعرف أنهم قرروا المشاركة بالمظاهرات. عندها انفجر هشام بالبكاء، وقال لي: ’أنا آسف، أنا هشام يا طانط’”. من الإسكندرية إلى القاهرة إلى السويس، كانوا 1050 شهيداً مسجلين بشكل رسمي في الدفاتر على مدار الثمانية عشر يوماً، لكلٍ منهم رفيق أو أكثر، شهدوا ما جرى، وأصبحوا جزءاً من الرواية، على اختلاف مواقعهم وأسمائهم. كانت “جمعة الغضب” بالنسبة لأغلبهم التجربة الأولى، ولدى البعض الأخيرة. هناك من غضب من الموت واستمر، وهناك من اختزله الموت فانكفأ، ثم جاءت الأحداث على التوالي تبتلع الجمع الواسع، تهضمه وتعيد تشكيله. وفى وسط هذا الزحام ذابت شارة “رفاق اللحظات الأخيرة”: يعيشون وسط الجمع كأن لا فارق يفصل بينهم وبين الآخرين، كأنهم مثل من لم يفارقوا بيوتهم، أو من مضوا دون أن يفقدوا من كان إلى جوارهم. يعيشون كأنهم وقد ذابت همومهم، واختلطت بأحلامهم على مشارف حياة جديدة. ذابوا كشهود، وبقيت الدهشة معلقةً في حسرة عند كل زاوية.
“فكّرتُ في الموت كثيراً”
لم يكن التواصل مع السيدة سُهير سهلاً، كيف يمكن لأم أن تعود بعد سنوات لتحكي عن طفلها الذي فقدته. لا لأنه نزل للمظاهرات دون علمها، أو بتشجيع منها، ولكن لأنها هي من دعته للانضمام إليها ومشاركتها.
كان هذا عقب صلاة الجمعة في منطقة “دار السلام” الشعبية بالقاهرة. نزلوا وهتفوا مع المتظاهرين، وفي اللحظة التي قررت فيها الانسحاب لتضع ما تحمله من مشتريات في المنزل ثم العودة مرة أخرى، لم تكمل دقائق حتى وجدت من يلحقها يطالبها بالعودة.
تتماثل الأم الثورية هذه الأيام للشفاء من عملية جراحية في الرحم. لم تبك، بل ابتسمت كأنها تتبادل الابتسامة مع شخص يربت على كتفها، ولا نراه: “لا أنسى يوم ولادته بعملية قيصرية. منذ أفقت من البنج وأنا أفكر به، وفكرت في الموت كثيراً، وأنا على باب غرفة العمليات”.
“لقد منحني مستقبله”
أن تعود من أجل أخيك لتشاركه النزول في التظاهرات، فيخبرك خلال طريقكما أنه يريد لك العودة إلى السويس، وعدم التمسك بالفرص غير المستقرة في القاهرة، وأنه سيحاول أن يُلحقك بالعمل في شركة البترول التي يعمل فيها موظفاً صغيراً.
هكذا تنقلت فصول قصة حياة المحاسب تامر رضوان شقيق شهيد “جمعة الغضب” بمدينة السويس شريف رضوان. التقيته مرتين. الأولى بعد خلع مبارك بأشهر قليلة. لم يذكر لي هذا التفصيل، كان تركيزه على وصف بشاعة ما حدث أمام قسم السويس، وكيف وهو يجري وكفه في كف أخيه، سقط منه فظن أنه تعثر، فحاول أن يساعده على الوقوف مرة أخرى مردداً: “يلا يا شريف مفيش وقت”، ففوجئ ببقعة الدم الصغيرة في جانبه الأيمن.
مرت السنوات، وأصبح تامر هو الأب والعم لابنة وابن شريف. تزوّج في 2013، وسكن في الشقة المجاورة لهم بعد أن حصل على وظيفة في الشركة نفسها تكريماً لروح الشهيد. وقبل عامين حصل على ترقية مناسبة سمحت له بشراء بيتٍ من طابقين لأسرته وأسرة أخيه الشهيد.
تذكّر كم بكى قبل سنوات أمامي، وأنا أقوم بالتسجيل من وراء الكاميرا، وقال: “لم أعد أبكي إلا في بعض الأوقات، وأنا أصلي الفجر. أدعو له أمام الله، وأعده بحماية أولاده وأشكره، فقد منحني مستقبله، ولم أدرك أنه كان يقول لي ذلك، ونحن في طريقنا نحو الرصاص والموت”.
“كنت أتمنى أن أجدها الآن، في شرفتها بالبناية المجاورة”
“كان الأسبوع الأول الذي تحمل فيه أميرة هاتفاً محمولاً”، تقول هدى مدرّسة الرسم الآن، التي ما زالت تسكن مع أسرتها في البناية المجاورة، ولا تملك إلا قراءة الفاتحة لصديقتها كلما خرجت بكوب شاي إلى تلك الشرفة.
تحكي هدى:
كنا في الثانوية العامة، وتأتي أميرة دويدار صديقة طفولتي لتلقي بعض الدروس الخصوصية هنا. وفي “جمعة الغضب”، اشتعلت الأمور أمام قسم رمل ثاني، ووقفنا كغيرنا نتابع، لكن أميرة كانت أكثر غضباً مني، ولعلهم لاحظوا هذا، ولهذا اختارها القناص. رفعت الهاتف وأخذت تصور من عدة زوايا. دخلتُ وفي يدي كوب شاي. سقطت هي أمامي ولم أفهم في البداية. سقط كوب الشاي أيضاً، وللحظة خفت عليها من سخونته. ثم رأيت كمية الدم النازف من بطنها. نظرت إليّ وهي تحاول التقاط النفس ثم فقدت الوعي، وكان آخر ما سمعته هو صراخي وأهلي يجرون نحوي.
تخبرني والدة الشهيدة أنها تشفق على هدى كثيراً. “لا أحب أن أراها وهي تحكي وتسترجع المشهد”. تقول هدى: “لم أعد أبكي كما كنت كلما طالبني صحافي أو زائر أن أحكي، لكن كلما مر الوقت تحولت أميرة داخلي لمصدر للفخر. لكني حزينة عليها. كنت أتمنى أن أجدها الآن في شرفتها بالبناية المجاورة، وهي خريجة كلية هندسة أو تستعد للزواج”.
فلان الفلاني يشعر بالخذلان
“أنا جبان علشان ما ساعدتش أحمد”، ينشر الصحافي أحمد الشيخ هذه الرسالة التي وصلته من شخص طلب منه عدم ذكر اسمه. والسبب: “كنت إلى جوار الشهيد أحمد بسيوني، صديقك الذي لم أكن أعرفه حينها، ولم أساعده بالشكل الكافي”.
يكمل صاحب الرسالة: “كان في يده كاميرا متخصصة تمكنه باستخدام خاصية الزووم من أن يرى من يطلق الرصاص، وكان يقول لنا ’أنا شايف الضابط، اتحركوا هنا.. تعالوا كده’”. حكى كيف أنقذ الشهيد أكثر من شاب من رصاصة مقصودة، ليس فقط بتحذيره شفوياً ولكن بدفعه له أيضاً. “شعرتُ أن الاقتراب منه فيه درجة كبيرة من الأمان، وطلبت منه أن أصاحبه، قال لي: ’خلي عينك عليا’. وفي إحدى المرات التفت ليقول لي على مكان القناص، كما في كل مرة من الساعات الثلاث التي نسجتْ معرفتنا، فوجدت الرصاصة سبقت صوته وأسقطته أيضاً”. لم يستطع رفيق اللحظة الأخيرة غير التحرك إلى الأمام في ظل صوت الرصاص المنهمر من فوق مجمّع التحرير فور دخول الميدان بيوم “جمعة الغضب”. بعد خطوتين صرخ، وحاول العودة، وطالب المتظاهرين بالتوجه معه لسحب أحمد" لكن المدرعة كانت أسرع منهم، لم يصدقوا أعينهم وهم يرونها تدهسه.
يقول لي الشيخ: “قابلت هذا الشخص مرتين. نشأت بيننا صداقة إلكترونية محدودة ولكن حميدة، حاولتُ أن أخفف عنه، أخبرته أني ارتحت قليلاً رغم كل ما قاله، لأن صديقي الذي كان من المفترض أن أكون معه لم يكن لوحده. كنا اتفقنا أن أنزل من الإسكندرية لأشاركه النزول للتحرير، لكنني باللحظة الأخيرة توجهت إلى شارع”القائد الكبير“(القائد إبراهيم). استشهد هو في القاهرة، وفقدت أنا عيني في الإسكندرية”.
[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورنيت]