محمد رامي عبد المولى
“العطش يتهدد تونس”، “تونس تعاني من الفقر المائي”، ندرة المياه خطر محدق بتونس“، ”شح الموارد المائية يهدد مستقبل البلاد".. هذه بعض من أبرز العناوين التي نجدها في الخطاب الرسمي والتناول الإعلامي عندما يتعلق الأمر بمسألة المياه. لكن ماذا يعني فعلاً الفقر المائي؟ وإذا ما كان هناك فقرٌ، فهل هو طبيعي وقديم؟ أم أنه بفعل السلوكيات والسياسات البشرية؟ هل تُحسن الدولة التونسية تثمين مواردها المائية؟
قبل تحليل وتشريح “الفقر” المائي، سيكون من الضروري الحديث عن الثروة المائية في تونس. وسنعتمد هنا أرقام وإحصائيات سنة 20191.
بلغ متوسط التساقطات السنوي في تونس 283 مم سنة 2019، بتفاوت كبير بين مختلف مناطق البلاد، فبعض المناطق الواقعة في الشمال الغربي تسجل أحيانا معدلا سنويا يفوق 1000 مم، في حين يقل هذا المتوسط عن 100 مم في بعض مناطق الجنوب المتاخمة للصحراء.
وتقدّر الموارد المائية لتونس بقرابة 5 مليار متر مكعب: مياه سطحية كميتها 2575 مليون متر مكعب، ومياه جوفية كميتها 2197 مليون متر مكعب. توفر المناطق الشمالية 80 في المئة من المياه السطحية. وبالنسبة للمياه الجوفية فتتوزع ما بين طبقات جوفية قليلة العمق تقدر مواردها بحوالي 746 مليون متر مكعب، يتواجد أغلبها في الشمال (49 في المئة) ثم الوسط (33 في المئة)، وتبلغ نسبة استغلالها أكثر من 117 في المئة بواسطة أكثر من 111 ألف بئر سطحية. أما المياه الجوفية العميقة فتناهز 1400 مليون متر مكعب - نصفها تقريباً غير متجدد - تتركز أساساً في الجنوب (60 في المئة) وتستخرج عبر أكثر من 30 ألف بئر ارتوازي بنسبة استغلال تناهز 120 في المئة.
وبالنسبة للبنية التحتية الهيدروليكية، فنجد أكثر من 1200 وحدةٍ موزعة كالآتي: 37 سداً، 258 سداً جبلياً، و913 بحيرةً جبلية، بالإضافة إلى 19 محطةً لمعالجة المياه، و15 محطةً لتحلية المياه الجوفية، ومحطةً واحدة لتحلية مياه البحر. في حين يبغ طول شبكة توزيع المياه أكثر من 55 ألف كيلومتر.
تستأثر الفلاحة بـ 80 في المئة من المياه المسحوبة، والصناعة بـ 5 في المئة، والسياحة بـ 2 في المئة، وتذهب البقية - 13 في المئة - للشرب والاستعمال المنزلي. وزارة الفلاحة هي الفاعل الرئيسي في إدارة المياه في تونس، أساساً عبر شركة استغلال قناة وأنابيب مياه الشمال، والشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه (صوناد) والديوان الوطني للتطهير (أوناس) وإدارة الهندسة الريفية ومجامع التنمية الفلاحية.
مصطلحات وأرقام ملغومة
الحديث عن “الفقر المائي” و“الندرة” و“الشح” في تونس عادة ما يكون مرفوقاً بأرقام “مفزعة”: نصيب الفرد من المياه لا يتجاوز 450 متراً مكعباً، وللتذكير، فإن مقاييس الفقر (أقل من 500 متر مكعب) والندرة (أقل من 1000 متر مكعب). تروج هذه المصطلحات والأرقام بشكل واسع دون التثبت منها ومن ماهيتها. حتى نفهم الوضعية المائية لتونس، اخترنا أن نسأل خبراء وناشطين في مسألة المياه عما هو التوصيف الأصح: ندرة، شح، فقر...؟
“ولا واحدة من هذه التوصيفات”، يجيبنا حبيب العايب، أستاذ - باحث في الجغرافيا ومخرج أفلام وثائقية وأحد مؤسسي “المرصد التونسي للسيادة الغذائية والبيئة”. ثم يشرح قائلاً: “”عما نتحدث في الحقيقة؟ لا أعرف حجم استهلاكك ولا ظروفك الاجتماعية، ولأي شريحة تنتمي، ولا نمط عيشك، لكني قررت وحدي أنك تحتاج لهذه الكمية وأنك لا تمتلكها. كلام مبني على مسلّمات تفترض أن كل الناس يستهلكون الكمية نفسها من المياه“. ويعتبر حبيب العايب أن الحديث المتكرر عن الفقر المائي في تونس هو تمهيد لسلعنة المياه:”النية المبطنة هي إنشاء سوق للماء. ولا يمكن خلق سوق دون طلب.. يجب خلق الحاجة والسلعة.. ولكي يرتفع ثمن السلعة يجب خلق الندرة.. هذا منطق متكامل، أيديولوجي بحت".
إذاً ليس هناك فقر مائي في تونس، ولا حتى بعلاقة بالمناخ الجاف وشبه الجاف المهيمن على الجزء الأكبر من البلاد؟ أجاب: “طبعاً المناخ يلعب دوراً، لكن مرةً أخرى لا يجب أن نفصل الظواهر عن بعضها. كما أن التغيرات المناخية لا تعني فقط ندرة الماء بل أحيانا كثرته، وقد تكون تونس مهددةً بفائض من المياه بسبب تواتر الفيضانات في السنوات الأخيرة”.
طرحنا الأسئلة نفسها على ناجح بوقرة، المهندس الخبير في المياه، فأجاب: “لدينا ما يكفي من المياه، غير أنه لدينا أيضاً تحركات اجتماعية مطالبة بالماء، وهي أغلبها تحركات مطالبة بالماء ذي الاستعمالات المنزلية، وهي تمثل حوالي 10 في المئة من مواردنا المائية الإجمالية، إذاً هي أزمة حوكمة وليست أزمة موارد، وعليه فإن العبارة الأقرب حسب اعتقادي هي أننا نعاني من الإجهاد المائي وليس من ندرة المياه”.
وفي المنحى نفسه أتت إجابة علاء المرزوقي، المنسق العام لـ“المرصد التونسي للمياه”، محذراً من التوظيف السياسي لخطاب الندرة: “هذه الأرقام أصبحت ذريعةً لإخفاء الإشكاليات الحقيقية للمياه في تونس. عندما تتكرر انقطاعات المياه في عدة مناطق، يخرج المسؤولون ليكرروا الكلام عن خط الفقر المائي، دون أن يفسروا ماهية الأرقام. المصطلحات الشائعة تستعملها وتفرضها منظمات دولية، ويجب أن نتعامل معها بحذر”.
طبعاً كل هذا لا ينفي أن الثروة المائية في تونس محدودةٌ مقارنةً بالدول الغنية مائياً، لكن لطالما تأقلم سكان هذه الرقعة الجغرافية مع هذه المحدودية، ولم تأتِ تسميات مثل “تونس الخضراء” و“مطمور روما” من فراغ. المشكلة لا تتعلق إذاً بالمتوفر، بل بكيفية إدارته وأولويات استعماله.
طماطم في الشتاء وفراولة في الصحراء..
أغلب الموارد المائية في تونس تذهب إلى الري والاستغلال الفلاحي، بنسبة تناهز الـ 80 في المئة. المستغلات العائلية الصغيرة الموجهة للاستهلاك المحلي كانت هي السمة الغالبة على الفلاحة التونسية إلى حدود ستينيات القرن الفائت. مع إرساء “التعاضد” (تعاونيات) في 1964، بدأت ملامح الفلاحة التونسية تتغير مع سعي الدولة حينها إلى تحقيق “الأمن الغذائي”. أصبح تكثيف استغلال الأراضي، وتسريع نسق الإنتاج الفلاحي، النباتي والحيواني، هاجساً لدى المسؤولين آنذاك، وكان من الطبيعي أن يتزايد استهلاك المياه. في بداية السبعينيات من القرن الماضي، تغيرت التوجهات الاقتصادية - الاجتماعية نحو الانفتاح الليبرالي، وتأثرت الفلاحة بهذه المتغيرات. فالدولة أصبحت تشجع الإنتاج الفلاحي القابل للتصدير، خاصةً زيت الزيتون والحمضيات والتمور وبعض الفواكه الأخرى، وكذلك الخضروات والباكورات، على حساب الحبوب والبقول وعدة منتجات أساسية. ونتيجةً لهذه الخيارات، سيشهد استهلاك المياه قفزةً كبيرة، وستتضاعف مساحات الأراضي المسقية. وتستثمر الدولة التونسية إمكانيات تقنية ومالية وبشرية هائلة في تشجيع إنشاء مناطق سقوية كثيفة الإنتاج. وعلى الرغم من حديثها الدائم عن الفقر المائي، فهي تواصل التشبث بهذه السياسة، حتى إنها وقّعت في حزيران/ يونيه 2018 اتفاقية قرض من البنك الدولي قيمته 140 مليون دولار لتكثيف المناطق السقوية في ست ولايات تونسية.
ينتقد حبيب العايب هذه السياسات بشدة فيقول: “هناك نصف مليون هكتار أراض مسقية في الجنوب.. وماذا يُزرع فيها؟ منتجات تذهب للتصدير. يعني نصدّر الماء، ولا نجد من يعطينا أرقاماً حول هذه النسبة من مجمل المياه التي تذهب للفلاحة. وما هي نسبة المياه التي تذهب للإنتاج الفلاحي الأساسي؟ لا أستطيع أن أعطيك رقماً دقيقاً، لكني أقدّر هذه النسبة بحوالي 30 في المئة فقط. البقية تذهب للفلاحة المعدة للتصدير، وكذلك لمنتجات فلاحية بكميات فائضة عن الحاجة، مثل اللحوم، أو محاصيل خارج فصولها. ماذا لو غيرنا المعادلة؟ نتوقف عن تصدير المياه، ونتخلى عن الإنتاج غير الضروري، ونركز بدلاً من ذلك على الغذاء الأساسي، سنوفر قرابة نصف الموارد المائية ونضمن السيادة الغذائية”.
وما أن يتطرق الحديث إلى مسألة المياه في المناطق الريفية، حتى تبرز مشكلة المجاميع / الجمعيات المائية التي يعتبرها الكثيرون من الأسباب الرئيسية لإهدار المياه. وهي منشآت مائية أحدثتها وزارة الفلاحة في المناطق التي يصعب تدخل “الصوناد” فيها. ولكي نفهم أكثر وضعية هذه الجمعيات، توجّهنا إلى علاء المرزوقي فأجاب: “عندما أُنشئت هذه الجمعيات كانت لها صبغةٌ اجتماعية في المناطق الريفية والوعرة والنائية. تدخلت وزارة الفلاحة ومدت الشبكات وأنشأت الجمعيات وسلمت المفاتيح لأهالي المناطق المعنية. لكن قبل الثورة في 2011، كانت هذه الجمعيات خزانات انتخابية للحزب الحاكم، وأغلب المشرفين عليها كانوا موالين للنظام. هذه الوضعية فتحت الباب أمام الفساد. يجمع المشرفون مبالغ الفواتير من المواطنين، ولا يوصلونها إلى الـ”ستاغ“(الشركة الوطنية للكهرباء والغاز) التي لم تكن تستطيع التدخل آنذاك. بعد الثورة قررت ”ستاغ“ قطع الكهرباء عن الجمعيات التي لم تسدد فواتيرها، أما المسؤولون عن الجمعيات، فتركوها غارقةً في مشاكلها وديونها وأفلتوا من المحاسبة. هناك أيضاً مسألة الإدارة. تصرف الدولة مليارات لإنشاء الشبكات، ثم تسلمها لأشخاص ليس لديهم حد أدنى من التكوين في الإدارة والصيانة والتصرف المالي. هذه الجمعيات المائية لا تتسبب في إهدار كميات كبيرة من الموارد المائية. على عكس ما يقال، فمياهها تذهب أساساً للشرب والنظافة، ويخصص منها نصيب صغير للفلاحة العائلية. أين وكيف سيهدر الأهالي هذا الماء في مناطق وعرة؟”.
سياحة مبذّرة وصناعة ملوثة
لا يستهلك هذان القطاعان نسبةً كبيرة من المخصصات المائية مقارنةً بقطاع الفلاحة. فنصيب الصناعة لا يتجاوز 5 في المئة، والسياحة 2 في المئة. لكن هناك أوجهٌ من الاستعمالات التي تضر بالثروة المائية إما إهداراً أو تلويثاً أو حتى استنزافا في بعض المناطق.
اختارت الدولة التونسية منذ سبعينيات القرن الفائت تشجيع “السياحة الجماهيرية” القائمة أساساً على الفنادق الرخيصة والبحر والشمس، والمتركّزة بشكل رئيسي على سواحل الوسط والشمال الشرقيين. وفي ذروة الصيف، عندما تعاني العديد من المناطق التونسية تقطعات في توصيل المياه أو انقطاعها تماماً، تكون الفنادق عامرةً بالسياح الذين ينعمون بالمسابح والجاكوزي وخدمات التنظيف مقابل مبلغ زهيد من العملة الصعبة. علماً أن أغلب الفنادق تتمركز في مناطق مجهدة مائياً نظراً لثقلها الديموغرافي و/أو مناخها شبه الجاف. فأغلب مناطق تونس، باستثناء الشمال الغربي (مناخ رطب) وجزء من الشمال الشرقي (شبه رطب) تصنّف كمناطق جافة وشبه جافة. وأكثر المناطق فيها فنادق هي منطقة الساحل وهي تقع في الجهة الشرقية للبلاد، المحظوظة مقارنةً بالجهة الغربية الداخلية، لذا فهي قبلة لملايين التونسيين يفدون إليها للعمل والدراسة والعلاج، وتتركز فيها مناطق صناعية (النسيج والصناعات الغذائية)، ومواردها المائية تستنزف بشكل كبير، ديموغرافياً وصناعياً وسياحياً.
أما بالنسبة للصناعة، فالمشكلة مزدوجة. فبالإضافة إلى حجم الاستهلاك هناك أيضا الممارسات الملوِثة. سنورد مثالين فقط. الأول يتعلق بصناعة النسيج وهي تمثل قطاعاً حيوياً في تونس. يمر إنتاج النسيج بعدة مراحل منها الغسيل والدباغة. هذان النشاطان يستهلكان كميات كبيرة من المياه، وينتجان قدراً أكبر من مختلف أشكال التلوث “ذلك أن مراحل عملية الغسل تتطلب استعمال 12 حوضاً للمياه، بما في ذلك تنظيف المعدات، ويتم استعمال عديد المواد الكيميائية في عملية الغسيل كماء الجفال والماء الأوكسيجيني”، كما يشير إلى ذلك تقرير لـ“المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية”. وحسب المصدر نفسه، فإن عملية الإنتاج تتطلب “25 لتراً من الماء للقميص و55 لتراً للسروال (...) دون احتساب استهلاك الشركات التي تقوم بصبغ ودباغة الأقمشة”. كما أن الكثير من الشركات العاملة في قطاع النسيج تستنزف المياه الجوفية، بل لا تعالج المياه المستعملة وتلقيها مباشرة في الطبيعة.
المثال الثاني هو صناعة الفوسفات. لن نتحدث عن كل أركان الجريمة البيئية - الصحية التي تُرتكب بحق سكان مثلث قفصة – قابس - صفاقس، وسنكتفي بمسألة المياه. مثلاً يستهلك مركب الصناعات الكيميائية في قابس أكثر من 30 ألف متر مكعب يومياً، ويلفظ 42 ألف متر مكعب من الوحل “الجبسي” يومياً تذهب إلى البحر، وإلى المائدة المائية في الأرض. أما الحوض المنجمي في ولاية قفصة فيعاني العطش أو“التعطيش”، إذ تستحوذ مغاسل الفوسفات التابعة لـ“شركة الفوسفاط بقفصة” على كمية كبيرة من مياه الجهة، ولا تكتفي بالمياه الجوفية، بل تستعمل أيضاً نصيباً من مياه الشرب، وتلقي بكمية كبيرة من المياه المستعملة بجوار آبار المياه الجوفية، مما يلوثها ويحرم السكان العطاش منها.
بنًى تحتية متدهورة
نسبة من إهدار المياه في تونس تتسبب فيها حالة البنى التحتية والشبكات المائية. فمثلاً تفقد السدود في تونس قرابة 20 في المئة من طاقة التخزين بسبب الترسبات ونقص الصيانة. وحسب الأرقام التي أمدنا بها د. حمزة الفيل، الباحث في مجال تحلية المياه، ورئيس مخبر بـ“مركز بحوث وتكنولوجيات المياه”، مستنداً إلى تقارير “صوناد” ووزارة الفلاحة، فإن نسبة المياه المهدورة هي في حدود 30 في المئة بالنسبة لشبكات “صوناد”، وتتجاوز 40 في المئة في قنوات المياه الفلاحية. ويعدد الباحث أهم أسباب ضياع الماء: “تقادم شبكات توزيع المياه وقلة الصيانة، حيث يزيد طول شبكة صوناد عن 55 ألف كم، 40 في المئة منها يتجاوز عمرها 29 عاماً، و17 في المئة منها يتجاوز عمرها 49 سنة. وبطء التدخل لإصلاح القطع المكسورة في الشبكة (حوالي 20 ألفاً سنة 2019) وأعطاب تسرب المياه، والتي بلغت 201519 سنة 2019 في شبكة الصوناد، وغياب الشبكات الذكية”. يؤكد ناجح بوقرة هذا التقييم معتبراً أن الإهدار يحصل بشكل رئيسي في المنشآت، وليس عند الاستهلاك، أي “في مستوى الأنظمة المائية وخاصةً في شبكات إنتاج ونقل المياه، أي أنها في أعلى الشبكة وليس في أسفلها”. يتفاقم هذا التدهور كل سنة مع تقادم المنشآت والعتاد والتجهيزات، وكذلك تقلص الميزانيات المرصودة للصيانة والتجديد والتوسع. فشركة الصوناد تعاني من عجز مالي ولا يمكنها التعويل إلا على مواردها الذاتية، وتتركها الدولة لوحدها - التي تدعم الكثير من السلع والمنتجات، وتشجع “الاستثمار” في عدة مجالات بامتيازات ضريبية - تتخبط في مشاكلها.
“الأغنياء” يهدرون الماء.. فلنعاقب “الفقراء”
“خلال الصيف الثالث الذي أقضيه في تونس، كان هناك عدد غير عادي من المظاهرات الكبرى في جميع أنحاء البلاد (...) كان موضوع معظم هذه الحركات الاجتماعية هو نقص المياه”. هكذا كتب مدير “البنك الدولي” في تونس توني فيرهيجن، في نيسان/ أبريل 2019 على موقع “مدونات البنك الدولي”. ثم يستطرد ليحلل بعمق شديد: “السبب الرئيسي وراء ذلك هو أغنى خُمُسَين من السكان (...) الذين يستخدمون مياه الشرب لغسل السيارات وسقي الحدائق (...). ثانياً، تفرض الزيادة الكبيرة في أعداد السياح ضغطاً إضافياً على الحاجة إلى المياه، حيث أنه لا يبدو أن الفنادق تهتم بتقليل استخدام المياه (ولا حتى الملاحظات التقليدية التي تحُثّ على إعادة استخدام المناشف)”. نعم، بكل بساطة، الأمر يرتبط بالسيارات والمناشف! لا يتركنا السيد فيرهيجن تائهين فيكشف لنا سر الإهدار: “الماء هو أحد أثمن الموارد الطبيعية وأكثرها نُدرة في تونس، ولكن يتم بيعه بمقابل ضئيل جداً (...) المياه بقيت السلعة الوحيدة التي لا تزال رخيصةً جداً، وهو ما لا يُحفّز المواطنين على الاقتصاد في استهلاكها”. والوصفة السحرية معروفة: “تعديل التعريفة إلى مستويات استرداد التكاليف”. طبعاً هذا الأمر “سيكون له تأثير لا يكاد يُذكر على الفقراء” يطمئنا الكاتب مستنداً إلى أرقام وإحصائيات وردت في دراسة نشرها.. البنك الدولي.
ليس السيد فيرهيجن ومنظمته الوحيدين القلقين على الثروة المائية في تونس. في كانون الاول/ ديسمبر 2018 وقعت المؤسسة الألمانية للقروض من أجل إعادة التعمير (kfw) مع الحكومة التونسية اتفاقية قرض قيمته 100 مليون يورو وذلك لتمويل “برنامج دعم الإصلاحات في قطاع المياه - المرحلة الثانية”. وتتضمن الاتفاقية تنفيذ 13 “إصلاحاً” من بينها: المصادقة على “مجلة المياه” الجديدة، الترفيع في تسعيرة الماء الصالح للشراب ب150 مليم للمتر المكعب، تحسين نسبة استخلاص فواتير المياه، الترفيع في فاتورة تطهير المياه بنسبة 8 في المئة، صياغة مقترحات حول الترفيع في تسعيرة مياه الري.
حتى الوكالة الفرنسية للتنمية وقّعت اتفاقية قرض مع تونس، قيمته 33 مليون يورو، لدعم “البرنامج القطاعي للمياه”PISEAU II“وأهم أهدافه تطوير شبكات المياه في المناطق الريفية. ولضمان” استدامة آثار المشروع “نوهت الوكالة بضرورة” استكمال مسار نقل مسؤولية الدولة إلى المستعملين، وكذلك اعتماد تسعيرات متناسبة".
ويبدو أن الدولة التونسية تحرص على التفاعل الإيجابي مع مشاغل شركائها الدوليين.. أكثر من المتوقع أحياناً. فلقد رفعت الحكومة من تسعيرة الماء الصالح للشراب مرتين لا مرةً واحدة: الأولى في 2016 والثانية في 2020 .
حتى العام 2015، كانت “صوناد” تعتمد تسعيرة تدريجية للاستهلاك: الـ 20 متر مكعب الأولى بسعر “منخفض” والـ 20 التالية بسعر أعلى وهكذا. المستهلك يدفع حسب تسعيرات مختلفة، فمثلاً لو استهلك 30 متراً مكعبا فإنه سيسدد ثمن الـ 20 الأولى بسعر منخفض، والـ 10 الإضافية بسعر أعلى. لكن بداية من 2016 تم أولاً رفع تسعيرة كل مستوى استهلاك بنسبة تناهز 30 في المئة، وثانياً اعتماد تسعيرة مستوى الاستهلاك الأعلى.
لا يرى علاء المرزوقي فائدةً لهذه الزيادات، بل يحذر من أثر عكسي: “عندما تعلم أنك سواء استهلكت 21 أو 39 متراً مكعباً فستدفع حسب التسعيرة الأعلى فهذا لا يحفزك كثيراً على الاقتصاد في الماء وربما تستهلك أكثر من العادة”. ويقترح بدلاً من ذلك أن “يتم توفير كمية حياتية من الماء الصالح للشراب مجاناً لكل إنسان، ثم اعتماد تسعيرة مرتفعة لبقية الاستهلاك”.
“مجلة المياه” الجديدة.. خطوة في الاتجاه الصحيح؟
صدرت “مجلة المياه” الأولى سنة 1975. وبعد ثورة 2011 تزايد الحديث (تزامناً مع تواتر خطاب الفقر المائي) عن ضرورة تطوير تشريعات إدارة الموارد المائية. في تموز/يوليو 2019 صادق مجلس الحكومة على القانون الأساسي لمشروع المجلة وأرسله إلى البرلمان، لكن لم تتم المصادقة عليه في البرلمان بعد.
يطالب الكثيرون بمراجعة المشروع وحتى بالتخلي عنه. وحتى نفهم أسباب التوجس، طرحنا السؤال على الخبراء والناشطين الذين تواصلنا معهم. يرى ح. العايب أن “مجلة المياه الحكومية لا تعترف بالحق غير المشروط في الماء. يجب أن يكون حقاً واجب النفاذ تُحاسب السلطات في حالة التقصير فيه. وهي لا تضمن فعلاً حماية الموارد المائية والحفاظ عليها للأجيال القادمة”. ويفصل علاء المرزوقي الأمور أكثر قائلاً: “طالبنا بتثبيت مبدأ الحق في الماء، وتنقيح الفصول التي تستعمل عبارة ”في حدود الإمكانيات المتاحة“، حذف الفصول التي تدعو صراحةً أو ضمنياً إلى خصخصة الماء، وتعويض المجامع المائية بوكالة وطنية لمياه الشرب والصرف الصحي في الوسط الريفي، واعتماد البصمة المائية كمعيار ضد السياسات الفلاحية المستنزِفة، وإقرار مبدأ العهدة على الملوث”. في حين يركز ناجح بوقرة على مسألة ملكية وإدارة المياه: “مشروع المجلة بُني على فلسفة الملك العمومي بمعنى أن الدولة هي التي تملك القرار كاملاً، وهذا معاكس تماماً لمبدأ”الماء منفعة مشتركة“، وفيه تغييبٌ كامل للمجتمع المدني والمنتفعين بالمياه. هذا المشروع يختصر دور الدولة في إسناد عقود الامتياز التي ستقوّي نفوذ اللوبيات”. أما د. حمزة الفيل فاختار التطرق إلى النوعية: “غياب ثقافة الجودة وثقافة ترشيد الاستهلاك في مشروع المجلة. لم يعط أهميةً لجودة المياه، ولم يذكر كلمة الجودة إلا عند التطرق الكلاسيكي إلى المطابقة مع المواصفات. في المقابل فرض الفصل 64 نشر نتائج تحاليل مياه الشرب من طرف الموزع ومراقبته، ولم ينص على مراقبة المياه المعلبة. كما تغافل عن مصير المياه المستعملة المعالجة عندما لا تكون مطابقة للمواصفات (أو ملوثة كلياً) والتي تلقى في الطبيعة، ولم يتعرض إلا للدراسة النظرية الأولية حول الأثر البيئي”.
يذكر هنا أن عدة منظمات من المجتمع المدني قررت بعد لقاء تباحثي، تحت عنوان “التقييم المواطني للماء وإطاره التشريعي”، عقد بمدينة سوسة في تشرين الثاني / نوفمبر 2019، العمل المشترك من أجل صياغة “مجلة مواطنية للماء” اقتُرحت بمبادرة من المرصد التونسي للمياه (جمعية نوماد 08).
لا يمكن تناول مسألة المياه من وجهة نظر تقنية بحتة، ولا يجب التعامل مع الأرقام والنسب كحقائق علمية مطلقة. إدارة المياه والثروات الطبيعية هي شأن سياسي واجتماعي أيضاً: رؤى واختيارات وسلوكات واستثمارات. كما أن استحواذ السلطات العمومية والمنظمات الدولية على الملف المائي مقابل إقصاء الرأي العام والمجتمعات المحلية والمجتمع المدني من دائرة النقاش الفعلي والإدارة التشاركية، لا يمكن إلا أن يعمق مشاكل المياه في تونس. وكذلك فإن سياسات الهروب إلى الأمام عوضاً عن مراجعة السياسات القائمة، ستفاقم الأمور في السنوات القادمة.
[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورنيت]