بعد خبرتها الطويلة في كتابة القصّة القصيرة وتقصّي شؤونها وتطوّراتها، تقول الكاتبة والناقدة الأميركيّة هالي بيرنت: "لا يمكن، بالطبع، أن تكون القصّة التي تكتبها أصيلة تمامًا، فالطبيعة البشريّة تقدّم لنا سنة بعد أخرى، أحداثًا حقيقيّة وأساسيّة متماثلة، ولكن إذا كتب المرء قصّته بتعبيراته الخاصّة، ووجهة نظره، وأسلوبه الخاص، ففي الغالب ستكون قصّة جيّدة وفريدة". ولكنّها تعترف أيضًا بأنّ القصّة القصيرة فنّ مراوغ! وهذا ما ينطبق إلى حدّ كبير على القاص الشابّ نور دركلي في مراوغته وفرادته لصناعة قصص مجموعته "انتحار رجل سخيف" الصادرة عن دار الغاية، الأردن، 2016، أيْ في خضمّ الحرب السوريّة. لتكون الحرب الزمن الفنّي الموحّد، وخلفيّة للنصوص عامّة.
ولعلّ غرائبيّة الحرب السوريّة وتعدّد مساراتها المأساويّة وتأثيراتها المدمّرة الهائلة على كلّ ما ينبض بالحياة، دفعت بالقاص نور دركلي للكتابة عنها بنهم لا يُخفى، سواء على الصعيد الموضوعي أو الفنّي، وكأنّما يعزّ عليه إغفال أي حدث أو ظاهرة مرّت بالبلاد، وعمّا آلت إليه مدينته حمص بشكل خاصّ: الحيّ الذي عاش فيه وترعرع؛ عائلته؛ جيرانه نساء وأطفالًا ورجالًا، الأشجار والكلاب، وما كابدوه في نزوحهم وشتاتهم! قصص نهمة لم يروها شكل فنّيّ واحد، بل أشكال عديدة، معها يختلف السرد ويتلوّن، وبلغة مقتصدة تتباين بحمولتها المثقلة بالمقولات والدلالات، وتتأرجح بين البساطة وشفافية الشاعرية حدّ الشعريّة أحيانًا، عبرها يجترح نور ما تستحقّ هذه البلاد الجريحة الضائعة من حياة وكرامة ومن بلسم فنّي نجيع، وما يليق بها من فنّ جادّ جميل!
شخصيّات كثيرة العدد بحكاياتها الواقعيّة بلحمها ودمائها، بأحاسيسها ومشاعرها، خيباتها وتشرذماتها، بمواتها وموت بعضها، عبرت في أمكنة عديدة في الداخل السوري أو خارجه، أبرزها حيّ السارد/القاص الحمصيّ. حكايات يقود السرد فيها سارد عليم واحد، يتحدّث بضمير المفرد المتكلّم الـ"أنا" الذي يضفي على الأحداث مصداقيّة وإقناع. هذا الأنا نعرف منذ البداية أنّه الكاتب ذاته، فمثلًا في قصة "أريد أن أكون بلا شكل" ترفض شخصيّة السارد اسمها (البنّاتي) من دون ذكر له، فهو إذًا نور ذاته الذي يحدّثنا أيضًا عائلته وتشتتها، فمنهم من هو في مخيم الزعتري ثمّ انتقل إلى عمّان، وآخرون في مصر، وتركيا، والسعودية، وحمص، ونور ذاته اتجه في أوّل نزوحه إلى لبنان. فهي حكايات من خبر الهجرة أو المنفى، الأسى والحنين.
لا يوحّد القصص الزمان والمكان فقط، وإنّما الطابع العام للأسلوب الذي يكاد يطال النصوص برمّتها، هو طابع السخرية، لتندرج المجموعة ضمن إطار الأدب الساخر بجدارة. هنا لا يتقاطع هدف السخرية من الحرب مع السخرية التي اعتمدها، مثلًا إميل حبيبي في روايته "المتشائل" حيث السخرية تجسّد ضربًا من ضروب التحدّي ومقاومة الاحتلال الصهيوني لفلسطين، فبلاد دركلي السوريّ يقتلها أبناؤها في اقتتالهم، كما في قصة "أم سالم" تلك المرأة الحديديّة التي كانت تحرص على سلامة الحيّ من أيّ عبث يحدث فيه أو قد يحدث، وقيل إنّها أسقطت طائرة إسرائيليّة بحجر، وقد أطلق اسمها على شارع في الحي، لكنّ الحرب كسرتها، فلديها ابن مجنّد في الجيش النظامي وآخر في الجيش الحر. ولم تعد تنطق إلّا بعبارة واحدة: "ما بدّي غير آخد ولادي، وروح أنا ويّاهن ع محل بعيد ما فيه حرب". بلاد يحار أهلها في تمييز الكتلة الحديديّة، مثل تلك التي "سقطت فوق غرفتنا، وقضت على أخي الكبير.." أهي قذيفة من نوع هاون، أم صاروخ؟ وذلك لمعرفة مصدرها! قصّة "كنّا ستّة".
لم تعن القاص الحرب في شؤونها العسكريّة والسياسيّة، أو توثيق جرائرها الفظيعة، فهو منشغل بالفنّ وجلّ ما يهمّه تصوير أوضاع أهل البلاد المأساويّة تحت وطأة الدمار الكارثيّ. وإن يطرح وجهة نظره فإنّه يطرحها بموضوعيّة وإنصاف، يحمّل المسؤوليّة على كلا طرفي الصراع، وبعينيه الاثنتين يرى تشرذم وطن ضيّع أهاليه فأضاعوه، سواء بالفساد والظلم أو الاقتتال. وطن أقصيت فيه الثقافة الجادّة والفن الرفيع، وبطّلت دور أصحابهما وحرمتهم حتى من خبزهم اليوميّ، كما في قصة "فرصة عمل". وفي قصّة "لعبة السكاكين"، تغيّب الحرب العقول، وتبرز الزعران واللصوص، فتستبيح السكاكين الداشرة رقاب الآخرين، إلى أن باتت البلاد تضيق على القبور كما في قصّة "موتى".
بلاد يحلّ فيها الخوف من الآخرين محلّ التآخي والعيش المشترك، فيلجأ كل فرد فيها إلى حفر نفقه الخاص، ترميزًا للانعزال والتقوقع، وذلك في القصة الفنتازيّة المدهشة "أنفاق". بلاد، في قصّة "جارنا الميت"، لم يمت فيها العجوز في طوابير الذل للحصول على خبزه، ولم يقتله رصاص الحرب، بل مات فور أوقفه شابّ أصغر من أنفه صارخًا به: "هات هويتك ولااااك". بلاد تشرذم مجتمعها في الداخل، وفتك العوز بأبنائها في الخارج لينقتل فيهم الإحساس بالهويّة. ففي القصّة المرعبة والرمزيّة والساحرة "هويّة" أضاع السارد النازح هويّته مع محفظة نقوده فحزن على النقود. وسرعان ما كسر أخوه هويّته في الحيّ مع اندلاع صرخة: "حريّة، حريّة". ليندم بعد خمس دقائق فقط. وترك أخوه الكبير هويّته في البيت إثر النزوح، وفقدت أخته هويّتها في مخيّم الزعتري. فاتفق الأخوة على إعادة تشكيل هويّاتهم كلّ على هواه متجنّبًا في تشكيلها ما لم يكن يرضيه في هويّته الأصليّة، وبعد الانتهاء يلتقون لكن أحدهم لم يعرف الآخر!
في قصّة "نزوح مفاجئ"، تتجلّى السخرية في مشهديّة أقرب إلى السرياليّة، تراوغ حتى تكاد تقنعنا بواقعيتها، وفيها يحتشد أهل القرية في سرفيس، "أبو علي" حاملًا طنجرة المحشي بعد رفعها عن النار قبل نضجها، وأم سمير التي كانت تصرخ بأنّها رأت القتلة بأم العين في حين كانت تغرق بالنوم حين أيقظوها لتنضمّ إلى الجمع النازح. يفتح السارد ألبوم الصور، فيسخر الجار المحامي بسذاجة الجاهل من صورة للسارد وهو يؤدّي دورًا مسرحيًّا مع أحد المشاهير. وأم السارد تسبّح بمبسحتها وتشتم بين حين وآخر! وفي هذه القصة، يعتمد الكاتب لعبة الهوامش، هامش يبدو مثل فخ قصصي يترك تخييله للقارئ.
كمّ كبير من الشخصيّات والأحداث والمقولات تكثّفت ببراعة في اثنتين وخمسين نصًّا انسردت على (140) صفحة. إزاء هذا الاحتشاد، يشعر القارئ أن الكاتب يبتغي لقصصه النهمة أن تكون حضنًا يتسع لجميع من عرفهم وعاش بينهم، وكأنّه مسؤول عن مداواة جراحهم وهدهدة قهرهم ومؤاساتهم. يلتقط حكاياتهم مثل خرزات لصنع مسبحة طويلة أنيقة. وبحبّ هائل وحنان باذخ ومقدرة فنّيّة لافتة وخيال خصب ثرّ، يصوّر الشخصيّات حتى نخال أنّنا نعرفهم فردًا فردًا، ونتعاطف معهم جميعًا، مستندًا إلى مختلف التقنيّات الفنيّة؛ الواقعيّة؛ الفنتازيا؛ السرياليّة، الحلم، حتّى أنّه لا يوفّر قصيدة النثر يزجّ في نصوصها القليلة صورًا جادّة موجعة، وبشاعريّة مؤثّرة. يراوغ في الخواتيم الصادمة في أغلبها والتي تشكّل بؤرة تنوير تارة، وتارة أخرى تخاتل القارئ فتومئ إليه بقصص أخرى لم تُكتب! يتطبّع ذلك كلّه بالسخرية السوداء أو بالطرافة وخفّة الروح، عبرها ينضّد الحكايات خرزة خرزة في خيط واحد، يزخرف الألم ويزركش القهر ويخفي الفجائع بلوحات مضحكة، يصوّرها بصدق بالغ، وكأنّما في جمعها محاولة لمداراة العجز في رأب صدع البلاد وإعادة وحدتها ولمّ الشمل بالطريقة الوحيدة التي يجيدها دركلي، وهي الفنّ! فهو كما يذكر في قصّة "عائلتي": "كأنّما كُتب عليه أن يأخذ دور الكاميرا". كاميرا قصصيّة يتراشق فيها سرد مكثّف بإدهاش، مشوّق يمسك بتلابيب القارئ. تتخلّله حوارات تلائم الشخصيّات، ولمزيد من المصداقيّة، يدرج بعضها باللهجة العاميّة إنّما من دون إثقال أو مغالاة.
وإذًا تجسّد السخرية هنا المعادل الموضوعيّ للخوف والرعب، للفقد وضياع البلاد، رهاب المعتقلات، الموت، الهزيمة وقتل الأمل، ولغرس حالة من الترويح عن الأرواح المفجوعة، وتعزيز أمل المهجّرين بالعودة إلى الديار وذلك في القصّة المؤسية "عودة". لكنّ دركلي لا يتخيّل الفقد والحنين إنّما ذاق مرارته بنفسه، وكابد لوعته منذ أن هاجر وعائلته إلى شتاتهم.
يدرك الكاتب أنّ سبب تلك الهزائم وهذا العجز لا يعود إلى الحرب الراهنة فقط. إنّما إلى قبل ذلك بقرون، وذلك في القصّة الرمزية الساخرة الساحرة "علبة الحمّص"، العلبة التي يعود تاريخ تعليبها إلى العام 1254، وبذلك تشير القصّة إلى منتصف القرن الحادي عشر بداية تدهور الحضارة العربيّة والغزو الصليبي، لتصل علبة الحمّص تلك خلال عهود وتنقلات غريبة عجيبة إلى إحدى قرى حمص، حيث وجدت في أثناء حفر قبرٍ لأوّل شهداء الثورة! ثمّ لتتجاوز الحدود اللبنانيّة على يد عجوز لم يشارك في الحرب هجر القرية، لتصل أخيرًا إلى السارد النازح المقيم في بيروت! وما إن تناول هذا الحمّص حتى تقيّأ كلّ ما أكله منذ كان في الصفّ السادس الابتدائي، من منغّصات! مرارًا وتكرارًا يعود القاص إلى الطفولة، كأنّما ليوثّق ذاكرة تتبدّد!
مع ذلك كلّه، تبدو الرغبة في محاولات الانتحار مبرّرة، رغم أنّ خاتمة قصّة "انتحار هزلي" بمشهديّتها السرياليّة المدهشة تربك القارئ وتقلقه، إذ يتساءل عمّا إذا بقي السارد، بعد استيقاظه من حلمه الانتحاريّ، على قيد الحياة!
وبعد طي الصفحة الأخيرة، يعود القارئ برغبة واستمتاع إلى القصّة الأولى: "انتحار رجل سخيف" التي بدت مثل لغز، ليكتشف أنّها مقدّمة استنتاجيّة سابقة للنصوص التالية برمّتها هذه التي أُدرجت لتبرير ما خلص إليه حال الكاتب وتعليله، فنلمس إحساسه المرير بالعبثيّة إزاء إبطال دور الوعي البنّاء وقتله، لتشكّل السخافة والتفاهة، حين انحطاط المجتمع، الحصنَ الذي يلغي الإحساس المدمّر بالكارثة. تبدأ القصة بـ: "لم يكن من السهل عليّ أن أصير سخيفًا، بل كلّفني ذلك الكثير من التدريب والصبر.. ولا أنكر فضل التربية وأبي الذي كان يجمعنا كلّ صباح ليردّد على مسامعنا حكمته الذهبيّة: كونوا سخفاء لتنجوا". ثمّ يختمها بمخاطبة القرّاء قائلًا: "إلى كلّ السخفاء في هذا العالم السخيف: هذه بعض سخافاتي".
حاول نور دركلي بإدراكه ووعيه وبحساسيّته العالية وفرادته الفنّيّة أن يلوذ بحكمة أبيه الذهبيّة، لكنّه لم ينج!