بول بولز
لم يستطيع بول بولز أن يعيش في الولايات المتحدة الأميركية واختار المنفى الطوعي في مدينة طنجة المغربية. كما يعتبر من أهم كتّاب القصة القصيرة في أميركا. وُلد سنة 1911 وعاش في نيويورك ونيوإنجلاند ودرس في جامعة فرجينيا. حين بلغ السابعة عشرة نشر بعض قصائده في المجلة الفرنسية الطليعية ترانزيشن، ثم ذهب إلى باريس حيث اجتمع مع غرترود شتاين وتأثر بالسورياليين. فيما بعد ترك الدراسة كي يصبح كاتبًا. ابتعد عن التقاليد الأدبية الأنجلو-أميركية وتأثر بمصادر أخرى مثل التراث الشفهي المكسيكي والتراث الفلكلوري المغربي. وكان يصغي بقدر ما كان يقرأ.
كان بولز أيضًا موسيقيًا متميزًا لكنه اختار أن يصبح كاتبًا وليس مؤلف مقطوعات موسيقية للأفلام والمسرحيات التي كانت تؤمن له النقود. كان بولز متقنًا لفن القصة القصيرة وتركت السنوات الكثيرة التي عاشها في المغرب تأثيرها الواضح في قصصه. يركز على مشكلات غياب التواصل الإنساني الناجمة عن اختلاف الثقافات وتعكس أعماله تشاؤمًا واضحًا. نشر أكثر من ستين قصة قصيرة، ولكنه ورغم أهميته نادرًا ما أُدرج في المختارات القصصية الأميركية.
في قصصه، يتحدث بولز عن آليات القص واستراتيجياته وهو يجذب انتباهنا إلى طريقة السرد. أحيانًا يضمن قصصًا داخل القصص وينشغل رواة قصصه بجمع وترتيب كل ما حدث ليكتمل الجو. كان بولز مقتنعًا أن العالم الإنساني دخل في حالة من التفكك والدمار مما أدى إلى الجنون والعزلة وغياب التواصل ولهذا تعكس قصصه انحلال الحضارة وتتحدث عن الجنون والعنف والقتل والجانب الشرير في الإنسان. أما بالنسبة لشخصياته العربية فهي لا تفكر بنفسها كعربية وإنما كشخصيات تعيش الحياة التي مُنحت لها. هذه لمحة مختصرة عن بول بولز، أما القصة التالية "عقرب" فهي مختارة من كتاب القصص المجمعة لبولز الصادر عن دار نشر بلاكسبارو بريس عام 1997، وبمقدمة للروائي والمفكر الأميركي جور فيدال.
العقرب
عاشت امرأة عجوز في كهف حفره أبناؤها في جرف طيني قريب من نبع قبل أن يغادروا إلى المدينة حيث يعيش كثير من البشر. لم تكن سعيدة أو حزينة لوجودها هناك لأنها تعرف أن نهاية حياتها وشيكة وأن أولادها لن يعودوا مهما كان الفصل. ثمة أعمالٌ كثيرةٌ يمكن القيام بها في البلدة وستشغلهم هذه الأمور ولن يهتموا بتذكر الفترة التي عاشوها في التلال واعتنوا بالمرأة العجوز. تنسدلُ على مدخل الكهف في أوقات معينة من السنة ستارة من قطرات المياه ينبغي على المرأة العجوز أن تعبرها لتدخل. كان الماء يجري على الضفة من بين النباتات في الأعلى ويتغلغل في الطين الذي في الأسفل.
عودت العجوز نفسها على الجلوس في الكهف فترات طويلة وهي منحنية كي تبقى جافة قدر الإمكان. في الخارج ومن خلال كرات الماء المتحركة كانت ترى الأرض العارية تضيئها سماء رمادية، وأحيانًا تلمح أوراقًا جافة ضخمة تعبر فيما تدفعها الريح التي تهب من الأجزاء العليا للأرض. في الداخل، بدا الضوء جميلًا بلون قرنفلي سببه الطين المحيط. اعتاد بعض البشر أن يمرّوا بين فينة وأخرى في الممر الذي ليس بعيدًا جدًّا إذ كان هناك نبعٌ في الجوار يعلم المسافرون بوجوده ولكنهم يجهلون موقعه ولذلك كانوا يقتربون أحيانًا من الكهف قبل أن يكتشفوا أن النبع ليس في هذا المكان. لم توجه لهم العجوز دعوة مطلقًا. كانت تكتفي بمراقبتهم وهم يقتربون وكانت رؤيتها تفاجئهم. بعد ذلك تتابع المراقبة بينما هم يستديرون ويسلكون اتجاهات أخرى باحثين عن ماء للشرب.
ثمة أشياء كثيرة في هذه الحياة أحبتها العجوز. لم تعد مرغمة على الجدل والخصام مع أبنائها لتجعلهم يحملون الحطب إلى فرن الفحم. كانت حرة في التجول ليلًا والبحث عن الطعام. بوسعها أن تأكل أي شيء تعثر عليه دون أن تتقاسمه مع آخرين. وليست مدينة لأي شخص بالفضل من أجل الأشياء التي تمتلكها في حياتها.
اعتاد رجلٌ عجوز أن يأتي من القرية في طريقه إلى الوادي في الأسفل ويجلس على صخرة بعيدة عن الكهف فلا تقدر أن تتبين ملامحه. تعرف أنه يعي حضورها في الكهف ورغم أنها لم تتأكد من ذلك كرهته لأنه لم يصدر أية إشارة تدل على أنه يعرف أنها موجودة. بدا لها كأنه يمتلك ميزة غير عادلة يستخدمها بطريقة سيئة. تخيلت طرقًا عدة لمضايقته إذا حدث واقترب منها لكنه دائمًا يعبر من بعيد ويتوقف كي يجلس على الصخرة لبعض الوقت وغالبًا ما يحدّق مباشرةً إلى الكهف. بعد ذلك يتابع طريقه ببطء بعد استراحته على عكس سيره قبل الاستراحة.
تدبّ عقارب في الكهف طيلة العام، وخاصة قبل أن تبدأ النباتات بالسماح للمياه بالتغلغل والعبور. وكانت العجوز تمتلك حزمة كبيرة من الأسمال تكنس بها الجدران والسقف للتخلص من العقارب وتسحقها بسرعة بكعبها القاسي والعاري. أحيانًا يضل طائر بري صغير أو حيوان طريقه إلى المدخل لكنها لم تكن سريعة كي تقتله وتخلّت عن محاولة ذلك. في أحد الأيام المعتمة نظرت إلى الأعلى فشاهدت أحد أبنائها يقف عند المدخل. لم تستطع تمييزه عن الأبناء الآخرين لكنها ظنت أنه الابن الذي امتطى الحصان في حوض النهر الجاف وكان على وشك أن يُقتل. نظرت إلى يده. لم يكن ذلك الابن.
بدأ الحديث: "هل هذه أنت؟"
"نعم."
"هل أنت على ما يرام؟"
"نعم."
"هل كل شيء على ما يرام؟"
"كل شيء".
"لقد مكثت هنا؟"
"كما ترى".
"نعم".
خيّم الصمت. نظرت المرأة العجوز حولها في الكهف وساءها أن ترى أن الرجل الذي يقف في المدخل جعله مظلمًا. شغلت نفسها محاولةً النظر إلى الأشياء المتنوعة: عصاها، القرع، صحنها، قطعة الحبل الخاصة بها. كانت تقطب وهي تبذل ذلك الجهد.
تحدث الرجل مرة أخرى.
"هل أدخل؟"
لم تجب.
تراجع عن المدخل، نافضًا قطرات المياه عن ثيابه. كان على وشك أن يتفوه بكلام فاحش، كما اعتقدت العجوز، التي رغم أنها لم تعرف من هو، فإنها تذكرت ما الذي سيفعله.
قررت أن تتحدث.
قالت: "ماذا؟"
انحنى إلى الأمام عبر ستارة المياه وكرّر سؤاله.
"هل أدخل؟"
"كلا".
"ما الذي حدث لك؟"
"لا شيء".
ثم أضافت: "ليس هناك متسعٌ".
تراجع مرة أخرى ومسح جبهته. اعتقدت العجوز أنه سيرحل، ولم تكن متأكدة من أنها تريده أن يذهب. على أي حال، سمعته يجلس خارج الكهف، ثم شمت رائحة دخان التبغ. لم يكن هناك صوتٌ سوى جريان الماء على الطين.
بعد وهلة سمعته ينهض. وقف خارج المدخل مرة أخرى.
قال: "سأدخل".
لم تجب.
انحنى واندفع إلى الداخل. كان سقف الكهف منخفضًا جدًّا بالنسبة لطوله بحيث لا يستطيع أن يقف فيه. نظر حوله وبصق على الأرض.
قال: "هيا".
"إلى أين؟"
"معي".
"لماذا؟"
"لأنه يجب عليك أن تأتي".
انتظرت لبرهة ثم قالت مرتابة: "إلى أين أنت ذاهب؟"
أشار بلا مبالاة نحو الوادي، وقال: "إلى نهاية ذلك الطريق".
"إلى البلدة".
"أبعد".
"لن أذهب".
"يجب أن تأتي".
"كلا".
التقط عصاها وقدمها لها.
قالت: "غدًا".
"الآن".
قالت بعد أن جلست على حزمة أسمالها: "يجب أن أنام".
أجاب وهو يخرج: "حسنًا، سأنتظر في الخارج".
نامت العجوز على الفور. حلمت أن البلدة كبيرة جدًّا. كانت تتسع بشكل لا نهائي فيما شوارعها تغص بالبشر الذين يرتدون ثيابًا جديدة. للكنيسة برج عال بأجراس عديدة ترن باستمرار. تجولت في الشوارع طوال اليوم، محاطة بالبشر. لم تكن متأكدة فيما إذا كانوا جميعهم أبناءها أم لا. سألت بعضهم: "هل أنتم أولادي؟" لم يستطيعوا الإجابة، لكنها اعتقدت أنهم إذا كانوا قادرين على ذلك فإنهم سيقولون: "نعم". وحين خيم الليل وجدت منزلًا بباب مفتوح. في الداخل ضوء وبعض النسوة يجلسن في زاوية. نهضن حين دخلت وقالت: "هل لديكن متسع هنا؟". لم ترد أن تراه، لكنهن دفعنها حتى صارت فيه، وأغلقن الباب. كانت فتاة صغيرة وكانت تبكي. أجراس الكنيسة صاخبة جدًّا في الخارج وتخيلت أنها ملأت السماء. ثمة ثغرة في الحائط عاليًا جدًّا فوقها، استطاعت أن ترى من خلالها النجوم التي أضاءت غرفتها. انحدرت من القصب الذي يسقف المنزل عقرب زاحفة. انحدرت ببطء على الحائط نحوها. توقفت عن البكاء وراقبتها. كان ذيلها معقوفًا فوق ظهرها وتتحرك قليلًا من جانب إلى آخر وهي تزحف. نظرت حولها بسرعة بحثًا عن شيء تبعدها به. وبما أنه لم يكن هناك شيء في الغرفة استخدمت يدها لكن حركاتها كانت بطيئة، فأمسكت العقرب إصبعها بكماشتها، وتشبّثت بشدة رغم أنها حركت يدها بوحشية. ثم أدركت أنها لن تلدغها. اعتراها شعور عظيم بالسعادة. رفعت إصبعها إلى شفتيها لتقبل العقرب. توقفت الأجراس عن الرنين. ببطء، وفي أثناء الهدوء الذي كان يسود، تحركت العقرب إلى فمها. شعرت بصدفتها القاسية وساقيها الصغيرتين المتشبثتين تتنقلان على شفتيها ولسانها زحفت ببطء منحدرة في حنجرتها وأصبحت لها. استيقظت ونادته.
أجاب ولدها: "ما الأمر؟"
"أنا جاهزة".
"هكذا بسرعة؟"
كان يقف في الخارج حين عبرت ستارة المياه، متكئة على عصاها. ثم سار بضع خطوات نحو الممر.
قال ولدها: "ستمطر".
"هل هي بعيدة؟"
قال ناظرًا إلى ساقيها المكتهلتين:" ثلاثة أيام".
هزت رأسها. ثم رأت العجوز يجلس على الصخرة. كان هناك تعبير دهشة عميقة على وجهه، وكأن معجزة حدثت لتوها. كان فمه مفتوحًا وهو يحدق بالمرأة العجوز. حين صارا قبالة الصخرة نظر بتمعنٍ إلى وجهها. تظاهرت بأنها لم تلاحظ ذلك. وحين سلكا طريقهما بحذر نحو سفح التل، على طول الطريق الحجري، سمعا صوت الرجل العجوز الواهن خلفهما تحمله الريح.
"وداعًا".
قال ولدها: "من هذا؟"
"لا أعرف".
نظر إليها ولدها بغموض وقال:
"أنت تكذبين".
[ترجمة أسامة إسبر].