حين يجيء الموت، يفرد جناحيه على المدينة محتلًّا أزقتها وحدائق الأطفال والغابة. أين يذهب من لا يشمله الموت الجمعي، جرّاء لحظة منحرفة عن التوقيت، ورصاصة أرادت التحرر من قيود السّلاح؟ هل يحيا مَن لا يشمله رداء الموت؟ هل يموت؟ ثم ماذا يعني انتهاء الحرب؟ بداية حرب أخرى، حرب بين الصورة الواقعية التي تحاول استبيان حقيقتها، والصورة المحفوظة سلفًا في زاوية يحيط بها الخراب من الذاكرة؟ لا أعرف عن حرب أحد، أعرف عن حربي أنا. أعرف كل حجرٍ تعاون مع حجر آخر لبناء هذه البيوت المهدمة. أعرف شجرة قبّلت نور الشمس ورقصت مع نسمات الهواء، واحتضنت مراجيح الأطفال، وأهدت الثمار، وضحكت بوجه الأرض واحتضنتها، ثم احتضرت وشاخت ذابلة في حرب لا ترحم أحدًا.
أعرف كل رجل كبر هنا، يواكب على ترتيب أحلامه، ويفكر منذ الصغر بخدمة الوطن. لكن بعد الحرب، لشدة بساطة أحلامه، لا تتجاوز جمع أشلاء عائلته. لا يمكن لأحدٍ أن يخدم وطنًا أضحى مقبرة لموتى مجهولين.
أعرف كل امرأة سقت بستان الحياة، كل امرأة كانت (أمّ الربيعين)، حتى ذبلت في مخيمات النازحين.
أعرف كل ابن عاهرة تسلّم منصبًا للحماية، وهرب غير مكترث، أعرف جنديًا كان في السيارة التي هربنا فيها، يرتعد خوفًا، يكاد يصرخ كابن كلب.
لا أعرف شيئًا، سوى أن ذاكرتي تصرخ، أترقبها بقلقٍ لتستيقظ من كابوسها، غير أن هذه المدينة تقضي حياتها في كابوس.
ثم ماذا؟ ماذا تعني عودتي؟ هل أحاول أن أثبت شيئًا لأحد؟ أنني أملك مدينة، أو وطنًا، أو أي هوية؟
***
صورة لموتى غرباء، فبيت مهدم، فصورة، فقمامة، فصورة.
أستشعر النبض في صدغي، أشعة الشمس العمودية تنفذ خلال زجاج النافذة، الراكب إلى جانبي لم يغسل أسنانه منذ قرن، رائحة فمه تشعرني برغبة في التقيؤ، غير أني لا أفعل. وددت لو بأمكاني الهرب، ليس مما تركه المكان فيّ، بل مما تركته في المكان. أي لعنة أصابتني وأعادتني إلى حيث أنا؟ كان قلبي جبلًا جليديًا، تموت كل المشاعر ما أن لبثت فيه للحظة، ما الّذي أذاب هذا الجبل، ليضحي بركانًا يحرق صدري، يصعب علي التنفس وأنا أتخيّلني في حالتي هذه، أحاول إخراج لاقطتي من تحت مؤخرة هذا الراكب اللعين، أُسرع بأدخالها في أذني، وأسمع سليمة مراد تحفر الماء بصوتها حتى تبلغ اللاأدري "هذا مو إنصاف مِنّك/غيبتك هلكد تطول/ الناس لو تسألني عنك/شأرد أجاوبهم شأكول؟ ألف حيف وألف وسفه/مثلك يخون وي ولفه/لا تظن كليبي يشفى/والألم منه يزول."
أتذكر سيّدة أحببتها، أطلقت عليها اسم هذه المدينة، سيدة تركتني لأنني مخيب للآمال. أحاول تكوين كلمات تليق برسالة عتب"متمددة على سريرٍ غريبٍ تجهلين ما الوطن، لا ترتجف يدكِ المتجهة نحو الموت، الموت يخذل، كما أنا والوطن موت. السماء تبحلق فيّ، هل تعرفني، هل يعرفك السرير؟ تبغ سيكارتي يصارع البقاء، جديلتك التي كانت هدية أول لقاء بيننا رائحتها شاعرية. رائحة قصيدة لم ترض بشاعر مشرد، لا تنمو جديلتك على الأرض، كيف حسبتكِ نخلة؟ كيف أحني ظهر الريح لأمتطيها فتأخذني نحو ماذا؟ نحو مدينة لا تكون بيوتها قبورًا لموتى غرباء، نحو وطن لا يطلب الروح، هل يطلب وطنك؟
أنا كل ما لا أعرف، وأنتِ كل ما أعرف، هل يصارع رجل فقد وطنه وحبيبته؟ ربما، وربما ولدت بلا وطنٍ وحبيبة."
أرفع بصري لتتلاقى عيناي مع عيني طفل يبيع الماء في نقطة تفتيش، يطرق على النافذة، العرق يتقطر من جبينه، أسمر الوجه قهوائي العينين، وجهه صارم يتقدم عمره كما يظهر، وجه غسلت السنوات خرابها بملامحه حتّى غدا صورة للخراب، أضغط الزر، تنفتح النافذة أناوله ألف دينار وأختار قنينة ماء معدنية مشيرًا برأسي ليذهب. يطلب المنتسب الهويّات، أعطيه هويتي، عراقي الجنسية، وطن المنبوذين، وطن المنسيين تحت عجلات الحرب، وقمامة البلاد البعيدة والقريبة، شجرة يتأرجح على أغصانها موت صغير لا يكفي الجميع، أفكِّر بالصامتين، الذين تعلّموا من قتل المتحدثين، أن الصراخ جريمة، "الصمت من ذهب" أي ذهب؟ هذا الذهب هو ثمن حريتك.
يسأل المنتسب عن سبب الزيارة، أقول إنني أزور بيتي، يطلب مني الترجل، أتوقف قليلًا حتّى أفتح الباب، يطلب مني رفع يدي، يتحسس جيوبي وحزامي، ثم يسحب حقيبتي فأمنعه، يسحبها بقوة أكبر، يفتح السحاب ويُخرج رواية أعدت قراءتها ليلة أمس" هممم (يا مريم) الاخ مسيحي، جايب شرب وياك؟ أبو العرك" ترتفع ضحكاته تليها استجابة من رفيقه، أسحبها من يديه دون محاولة للتصحيح، أهمُّ بالركوب، يوقفني:"من اسمح لك تروح" أتوقف مزفرًا، فيسمح لي، أصفق الباب بقوتي، يشير للسائق بالعبور.
الحرب تعكّر نهر الروح السرمدي، غيمة تلوث سماء الصيف، لا تمطر ولا.....
من يموت فأن قطار ألمه يتوقف في محطة محددة، لكن الأحياء، تغدو أيامهم سكة لقطار الألم حين يباغتهم الموت وتنتهي السكك. آهٍ كم هذه المدينة بائسة، أشفق على غباء من ينجبون الاطفال وسط هذا الخراب، هذه جريمة أو مشاركة بها، ماذا ستكون إجابتهم لو سُئلوا غدًا من أطفالهم "لماذا أنجبتمونا؟" وأشفق على من تولد أنثى، أشفق عليّ لأنني من هذا الجنس، البشر جنسان، أحدهم يستعبد الآخر، وهذا الوطن يؤلمني، كأنه سكين تدور في قلبي، لا ينتهي ولا أنا أنتهي.
أكتفي بإلقاء نظرة على البيت من الخارج، ثم أقفل نحو الكراج لأعود. إلى أين؟ إلى يوم أمس، أو أي مكان غير هذه اللحظة، غير هذه المدينة التي تجثم شظايا حربها على صدري، تخنقني.
***
أحسبت أنّك بمجرد التخيل قادر على استعادة بيتك؟ بالعودة بعد الحرب سترمم جراح مدينة لم يبقَ في شوارعها سوى الخراب؟
صورتها في صباح ربيعي بينما تهب الريح الشمالية الباردة، ورقصة الأشجار مع دلالات الحياة، تتكور على نفسها خوفًا ورعبًا في زاوية ذاكرتك. بساتين التين والرمان صارت مقبرة للريح ونور الشمس أضحى ليلًا تائهًا في غياهبه، الحرب لا تقتلع بيوت البشر فحسب، تقتلع بيوت العصافير، أغصانها وأعشاشها وأشجارها، وتصبح لاجئة في سماء غريبة، لا تعرفها، رغم ذلك، تطير، فهل أنا أفعل؟ هل أتأقلم مع واقعي راضيًا به؟
صور الموتى تحتل الشوارع، إنما تدل على مكوث الموت طويلًاً هنا، ما يؤلمك إهمال الغابات، وتعليق صور رجل ميت من بلد آخر، يغطي وجه المدينة، هي ليست لك، هي للموتى الغرباء.
تشحذ في صباح المدينة الكبيرة، عن وجوه ليست للأشباح، الحياة غير كريمة، لا توهب مزاياها لأهل المدينة، في وجوههم شحوب السكارى، الفاقدين لموسم الحياة، صدفة تختبئ حياتهم في سراديب مختبئة تحت أعماق الموت.