2005: من يتذكّر سعيد حورانيّة؟
فيءٌ في مدينة شمس البادية. فردوس في جحيم الحرّ القاتل. لم يُبهرني مجاز بورخس عن الفردوس-المكتبة حين قرأته بعد أعوام لأنّي عايشتُ ذلك المجاز مرارًا. كانت مكتبة المركز الثقافيّ في دير الزور (وكان المركز الثقافيّ في ذاته) حالةً غريبةً ضمن المؤسّسات الحكوميّة. لم تبخل الحكومة في تجهيز المبنى الجديد: حجر باذخ، تصميم جميل، تنظيم غير مسبوق، مساحة فارغة كبيرة في صالات عديدة، مثل قصر بعمّال معدودين. حين أدخلُ من شمس الشّوارع إلى فيء المكتبة تغمرني سَكِينةٌ منعشة البرودة («تُثْلِجُ الصّدر» عبارة ملائمة هنا؛ يا لمجازاتنا الصحراويّة!) لن تتكرّر لاحقًا حتّى حين دخلتُ إلى أبنية أفخم. أرتقي الدَّرجات الباردة وصولًا إلى المكتبة التي تطلُّ على صالةٍ ضخمة. لا يجدر بالمكتبة أن تكون في الطابق الأرضيّ، السفليّ: ذاك الطابق لمكاتب الإدارة، للمسؤولين الحكوميّين، لصخب الدّولة التي تتماهى مع أبّهة خاوية. المكتبة في الأعلى، حيث الهدوء والعلوّ. كنتُ في تلك الأيّام البعيدة في العشرين، وكانت رحلتي من الشّمس إلى الفيء، من الجحيم إلى الفردوس، رحلةً شبه يوميّة. أدخل مثقَلًا بالكتب التي أنهيتُ قراءتها، وأخرج مثقَلًا بالكتب التي لا بدّ من قراءتها. أستعير ما أشاء، وأقرأ بعشوائيّة لذيذة لن تتكرّر هي الأخرى. أدينُ لتلك المكتبة بقسطٍ كبيرٍ من ذخيرة قراءاتي إلى اليوم، أما القسط الباقي فأدينُ به للمشاريع الثقافيّة العربيّة الكبرى التي انقرضتْ اليوم، وتكاد تبدو محض ذكرى وهميّة. لن يصدّقنا جيلا الألفيّة الثّالثة لو قلنا إنّ الكتاب كان متوفرًا كما الهواء، متوفرًا ورقيًا لا إلكترونيًا، غير أنّ آثار تلك المشاريع ما تزال محفورةً في ذاكرتنا وذاكرة الأجيال الأقدم، وكلّ ذكرى بعيدة حسرةٌ. هنا عرفتُ سعيد حورانيّة للمرة الأولى. هنا، بالأحرى، أمسى سعيد حورانيّة حقيقةً ملموسةً، لا محض اسم في مقالةٍ قرأتُها مصادفةً في جريدة سوريّة بعنوان بدا لي سمجًا: «من يتذكّر سعيد حورانيّة؟» لعلّي أخطأتُ في العام: هل كان 2005 أم 2006؟ 2005 على الأرجح، لأنّي متأكّد من أنّه ليس 2004. كان 2004 عام عبد الرحمن مُنيف، إذ أنهيتُ قراءة أعماله كاملةً قبل أن أبلغ العشرين. مجددًا، أدين لمكتبة المركز الثقافيّ بعام منيف، كما أدين لها بقراءتي لأعمال حورانيّة. أين كان لابن دير الزور أن يقرأ سعيد حورانيّة لولا تلك المكتبة؟ أذكر مجموعاته القصصيّة الثّلاث بطبعتها الجديدة في دار «المدى»: أغلفة بلون أخضر عفنيّ، وهو اللون الذي ميَّز كتبًا كثيرة أصدرتها «المدى» أواسط التّسعينيّات. أذكر منها أيضًا روايةً لسعدي يوسف لم يستهوني عنوانها آنذاك: «مثلّث الدائرة»، ولم أقرأها إلى اليوم. لم أعثر عليها لاحقًا، بل لم أصادفه حتّى في المقالات التي تناولت أعماله، وكأنّ ترافقها مع مجموعات سعيد حورانيّة حكمَ عليها بالنّسيان، أو ربّما كانت هي الأخرى وهمًا اختلط بالذّاكرة. وإلى جانب مجموعات حورانيّة الثّلاث النّحيلة، ثمة كتابٌ سميك من إصدارات وزارة الثّقافة السوريّة بعنوان مغرٍ: «عزف منفرد لزمّار الحيّ». هل قرأتُ المجموعات أولًا ثمّ الكتاب أم العكس؟ أرجّح أنّي قرأتُ الكتاب الذي ضمَّ أجمل حوارٍ عربيّ قرأته إلى اليوم. مرةً أخرى، ليست الأسئلة موطن الجمال في الحوارات الثقافيّة العربيّة، بل الإجابات، حتّى وإنْ كانت إجابات حورانيّة غير معتادة، حتّى وإنْ كانت إجابةً وحيدة في واقع الحال. ما كانت ردوده ردودًا معتادة، بل إنّه تجاهل معظم الأسئلة أو تناساها، ليبدأ عزفه المنفرد في الفضفضة؛ استطراد يولّد استطرادًا، والحكي يجرّ الحكي كما يقول العجائز. أجل، بدا حورانيّة في ذلك الحوار عجوزًا وجد فرصته للبوح أخيرًا. بدت الأسئلة مثل علامات ترقيم في غير مكانها، مطبّات تكبح قافلة الكلام، يمكن لنا التخلّي عنها ببساطة، ومن دون أن تتأثّر الإجابات. لا أعرف مثيلًا لتدفُّق كلام حورانيّة هناك، لتدفُّق ذاكرته، إلا عند إبراهيم أصلان. ولكنّ أصلان يضبط الكلام أحيانًا، ويختزل، فيما يُفلتُ حوارنيّة خيوط الذاكرة على هواه، أو على هواها، فتلطمه الأسئلة مجددًا فيعتذر بخجل طفل، ويتركنا في الحسرة لأنّه أبطأ وانعطف. ما كنتُ لأدرك سحر السّرد بكلّيّته آنذاك، إذ تعاملتُ مع حورانيّة ببراگماتيّة ابن العشرين وتعطّشه لقراءة كلّ ما هو مطبوع. كان حورانيّة دليلي الجديد إلى ما تجب قراءته لأرقّع مواطن الضّعف والنّقص في أرشيف قراءاتي في الأدب السوريّ على الأخص. عرفتُ أسماء لم أسمع بها من قبل: مواهب كيّالي مثلًا، وهو سيصبح الاسم الذي سيترافق مع اسم تورگنيف لاحقًا في ذاكرتي، إذ كان أعظم مترجميه إلى العربيّة؛ وعرفتُ جوانب خفيّة لأسماء أشهر آنذاك: نعرف لوحات فاتح المدرّس، وقصائد شوقي بغدادي، ولكن ماذا عن قصصهما؟ ظننتُ حينها أنّني استنفدتُ سعيد حورانيّة وحواره العظيم ذاك، غير عارفٍ أنّ ذلك الحوار لا يمكن، ولا ينبغي، له أن ينتهي. قرّرتُ آنذاك خطّةً سأرجئها إلى وقتٍ لاحق: سأكتب عن حورانيّة مقالةً أستعير عنوانها السّمج من تلك المقالة القديمة: «من يتذكّر سعيد حورانيّة؟»
2011: من يتذكّر سعيد حورانيّة؟
ما عادَ العنوان سمجًا إلى هذه الدّرجة. بات ملائمًا، بل ضروريًا في ذلك العام الذي شهد انفجار الصوت بعد عقود طويلة من الصمت. بات العنوان ضروريًا حقًا، وإنْ لأسباب مختلفة هذه المرة أيضًا. باتت قراءة حوار حورانيّة فرض عين، وإنْ ليس للتلذّذ بفضفضة حورانيّة المذهلة. بدا حورانيّة عام 2011 أكثر من محض ذكرى بعيدة، بات حاضرًا ومستقبلًا للبلاد التي توشك على نسيان خارطتها. يمتدّ الحوار جغرافيًا من الشّمال الشرقيّ في الحسكة، شرقًا إلى دير الزور، شمالًا إلى حلب، جنوبًا إلى دمشق بطبيعة الحال، مرورًا بحمص، وصولًا إلى السويداء. أكتشف فجأةً أنّ الجغرافيا - التي أمست أقرب إلى ذكرى في عام الانفجار ذاك وما سيليه من أعوام - حاضرةٌ حقًا ببهاءٍ غير مسبوق. تحضر الجغرافيا بمكوّناتها كلّها، حجرًا وبشرًا وطبيعةً، بحساسيّة رهيفة من عين حورانيّة الثّاقبة، وذاكرته العصيّة على الصدأ. قرأتُ الحوار آنذاك وأنا في حالة ذهول مرعب. ثمّة من عاش في هذه البقاع كلّها، وعايش سكّانها، بل وكتب عنها. لا أحسب أنّ ثمّة من كتب عن سوريا كلّها كما كتب حورانيّة في قصصه وفي حواره ذاك. ترافقتْ إعادة قراءتي للحوار مع هوسٍ لم أبرأ منه بعد، هوسٍ بوجوب توثيق المكان الذي سيوشك على التّلاشي. ما كانت سوريا حورانيّة دبلن جيمس جويس، ولن تكون؛ لا لاختلاف التّجارب وحسب، بل أيضًا - وهذا هو الفارق الجوهريّ المؤلم اليوم - لأنّ سوريا تلك تلاشت تمامًا. دبلن جويس ستبقى حتّى في اختلافها، لأنّ «يولسيز» حاضرة، وجويس حاضر، بينما قصص حورانيّة منسيّة، وهو منسيٌّ أكثر منها. المفارقة أنّ إجابة سؤال «من يتذكّر سوريا سعيد حورانيّة؟» باتت أسهل من إجابة السؤال الأساسيّ «من يتذكّر سعيد حورانيّة؟»، لا لأنّ القرّاء والسُّلطة والنّاشرين والصّحافة قد تناسوه (وهي خطيئة لا تُغتفَر)، بل لأنّ حورانيّة نفسه فرض طوق النّسيان على نفسه قبل أن يفرضه الآخرون. في فيلم «Inside Out» تُضيعُ رايلي ذاكرتها، تتوه ذاكرتها فيتخبّط ماضيها وحاضرها، غير أنّ حلًّا ينتأ مصادفةً في منتصف الفيلم كي تستعيد رايلي ذاكرتها، كلّ ذاكرتها، عبر أنبوب «الاستعادة»: طريق مختصرة ما كانت لتخطر على بال أحد إلا مصادفةً، غير أنّها تستلزم أمرًا جوهريًا: لا بدّ من وجود آخرين يدفعون كرات الذاكرة داخل الأنبوب كي تُستعاد؛ لا بدّ من آخرين يعيدون خلق الذاكرة كي تُستعاد، كمن يُشبِّبُ سيّارةً انطفأت بطّاريّتها. ستُستعاد الذاكرة والحياة بأسرها حين استعادة كرات الذاكرة التي تناثرت، ولكنّ رايلي كسرت الأنبوب عن غير قصد حين فقدت قدرة التحكّم بذاكرتها وبحاضرها في آن. حورانيّة كسر أنبوب استعادة الذكريات أيضًا، ولكنْ عامدًا، فبقيت كرات الذاكرة والحاضر والمستقبل متناثرة في انتظار رحمة ذاكرةٍ ضيّعها صاحبها عامدًا، وفي انتظار رحمة ذاكرة الآخرين وهم غير موجودين أصلًا. نتلمّس جرحًا خفيًا أثناء القراءة: هذا نمر جريح لا يجسر أحدٌ على الدنوّ منه، يوزّع لعناته شمالًا ويمينًا نحو الجميع بلا استثناء، ويوزّع اتّهامات وأحكامًا عديدة، معظمها مُجحف. ليس لنا أن نلومه، ولكن لنا أن نحاول فهمه. كان الحوار في نهاية الثمانينيّات، حين باتت نهاية الاشتراكيّة واضحةً قبل حدوثها، حين انهارت أحلام الماركسيّ العتيق وهو يشهد أفول أفق الحلم السياسيّ بعد أن مزّقه أفول الحلم الأدبيّ. ما عاد أحدٌ يتذكّر حورانيّة، لا كاتبًا، ولا صحفيًا، ولا ناقدًا، ولا ماركسيًا. ثمّة سخرية مريرة من الذات قبل الآخر حين يروي ذكرياته الماركسيّة، وكان مكانُ نشر الحوار في مجلّة «دراسات اشتراكيّة» سيعمّق مرارة السخرية. حين أعدتُ قراءة الحوار عام 2011، عاودتني رغبة الكتابة عن حورانيّة، وقد بات العنوان أجمل، ولكنّي لم أفعل، مراهنًا ربّما على أنّ ذاكرتي لن تصدأ قريبًا، وكيف لها أن تصدأ ونحن نعيش الحلم! تلاشى الحلم، وبدأ صدأ الذاكرة، وبقي السؤال بلا إجابة.
2021: من يتذكّر سعيد حورانيّة؟
تلاشى الحُلم، خَبَت الذّاكرة، وظلّت وطأة السؤال بعد أزيدَ من ربع قرن على رحيل حورانيّة: «من يتذكّر سعيد حورانيّة؟» كان هذا الرّجل أشبه ببضاعةٍ سوريّة كاسدة لا تصلح للتّصدير خارج الحدود، لا يُنْفّض عنها الغبار إلا في مناسبات عابرة تُجترّ فيها الكلمات ذاتها. هو ساهمَ حتمًا في هذا التّناسي حين دفن نفسه حيًا، بيدّ أنّ للأنظمة البوليسيّة المتعاقبة ولأجيال القرّاء المتلاحقة دورٌ ساحقٌ في تغييبه. ماذا لو لم تُحرِق الشّرطة 52 قصّة من قصصه؟ ماذا لو نجتْ عشرون منها، أو عشرة؟ كنّا سنظفر بمجموعة رابعة؛ أو هذا ما سيبدو عليه الردّ البسيط. ولكنْ من قال إنّ البساطة عاملٌ حاسمٌ أو مشاركٌ في فهم عالم حورانيّة وأعماله؟ ما كانت الحال لتتبدّل كثيرًا حتّى لو نجت القصص كلّها. مجموعاته الثّلاث أمامنا، مجموعاته الثّلاث حاضرةٌ منذ أواسط الستينيّات، بل إنّ التّناسخ الجديد للنّظام البوليسيّ قد أعاد طبع أعماله الكاملة؛ أمست أعماله متوفّرة في ملفّات إلكترونيّة لا تحتاج إلى أكثر من ضغطة زر، فما الذي اختلف حقًا، وما الذي سيختلف لو نجا ما لم ينجُ؟ لنا أن نبرّئ القرّاء العاديّين الذين لا ذنب لهم في تلاشي أعمال لم يذكّرهم بها أحد، ولكن ماذا عن النقّاد؟ اللغة الرّتيبة هي هي منذ الخمسينيّات، التوصيفات النقديّة هي هي منذ عقود: سعيد حورانيّة «رائد من روّاد القصّة»؛ سعيد حورانيّة «معلّم الواقعيّة الأعظم في القصّة السوريّة». توصيفات أشبه بلعنة لا فكاك منها. التّبجيل وجهٌ آخر للطّمس. توصيفات تبجيليّة لا معنى ملموسًا لها إلا في إسباغ غلالةٍ تدفن تلك الأعمال وصاحبها أكثر. صارت القصص البارعة المتجدّدة بتجدُّد القراءات قصصًا عتيقة لا تمنح إلا الغبار كلّما عاودنا قراءتها بعدسة النقّاد المدرسيّين، كما لو كانت أرشيفًا حكوميًا ينتظر قرار الإتلاف. تسبَّبت القراءات (النّادرة أساسًا) في جعل حورانيّة أشبه بسَلَفٍ بعيدٍ لا سبيل إلى تبيُّن علاقةٍ واضحةٍ بيننا وبينه. هو سَلَفٌ حقًا، غير أنّه ليس نائيًا كما ظنّه النقّاد، بل كان حاضرًا بدرجاتٍ متفاوتةٍ في أعمال جميع القصّاصين السوريّين الأهم. يقول بورخس إنّ الكاتب «يخلق أسلافه»، على أنّ مقصد بورخس يفترض بالضرورة تغييبًا لهؤلاء الأسلاف المُفترَضين، أو - على الأقل - إعادة خلق لهم عبر عدسة الأخلاف حصرًا، بمعنى عجزنا عن قراءة أولئك الأسلاف من دون قراءة الأخلاف؛ لا وجود للأسلاف من دون الأخلاف. الفكرة جميلة، غير أنّ الجمال لا يعني الصحّة دومًا. لعلّ الصيغة الأدقّ هي أنّ الكاتب «يختلق» أسلافه؛ يفترض - مصيبًا أو مخطئًا - أنّه ابن عُرفٍ بعينه، مدرسةٍ بعينها، سَلَفٍ بعينه، ولكنّ هذه «البنوّة» المُفترَضة لا تكون في الغالب إلا امتدادًا للأسلاف ذوي التأثير الطاغي، السّاحق، الواضح. سيكون زكريّا تامر مثلًا سَلَفًا طبيعيًا لكثيرين لأنّ تأثيره أوضح من أن يخفى، على عكس سعيد حورانيّة الذي لن يَرِد إلا اسمًا خامسًا أو سادسًا لو تُذّكِّر اسمه أصلًا. ولكنّه سَلَفٌ جوهريٌّ لدى معظم الكتّاب الذين قرؤوه، وإنْ لم يتبيّنوا تأثيره. تأثيره هادئ، خفيّ، مُلتبِس. أدرك حورانيّة هذه النقطة حقّ الإدراك حين انتقى عنوان كتابه «عزفٌ منفرد لزمّار الحيّ». لعلّه كان يرى أنّه لا يُطرِب، كأيّ زمّار حيٍّ آخر، غير أنّه فضَّل العزف المنفرد على أن يكون فردًا ضمن جوقة. ليس وحيدًا في هذا، إذ لدينا يحيى حقّي وغالب هلسا وإميل حبيبي، بل ربّما غائب طعمة فرمان ومحمّد زفزاف أيضًا. زمّار الحيّ يُطرِب، لو وجد أُذنًا تُحسِن الإصغاء.