تونس، “لحظة قيصرية” دون قيصر

تونس، “لحظة قيصرية” دون قيصر

تونس، “لحظة قيصرية” دون قيصر

By : Arabic Editors

تيري بريزيون

في الخامس والعشرين من يوليو/تموز 2021 الذي شهد مظاهرات شعبية ضد الحكومة تعرضت خلالها عدة مقرات لحزب النهضة إلى الهجوم، قرّر رئيس الجمهورية قيس سعيّد تجميد عمل مجلس الشعب وإعفاء رئيس الحكومة وترأس السلطة التنفيذية. وقد اغتنم سعيّد وصول الأزمة التي تعيشها البلاد إلى ذروتها كي يقدم نفسه كقائد منقذ. وهي خطوة تطرح أكثر من سؤال، كما حلّلنا ذلك مؤخرا في هذا المقال الذي ننشر ترجمته.

شبح ينتاب تونس، وهو شبح “القيصرية”، وفرضية بروز قائد قوي يكون محبوبا أو مُهابا ليعيد ترتيب دولة أنهكتها الفوضى، تتخلل باستمرار الحوارات السياسية في تونس. منذ سقوط زين العابدين بن علي في 14 يناير/كانون الثاني 2011، وجد الكثيرون في تونس أنفسهم يتامى، مفتقدين صورة الأب الوصي والحازم والمتبصّر، أو بعبارة أخرى، يفتقدون “الزعيم” على طريقة الحبيب بورقيبة، الذي كان بن علي صورة مشوّهة بعض الشيء منه. لكن منذ بضعة شهور، تتضاعف عناصر أزمة متعددة الأبعاد وتتجمع مكوناتها الدرامية لتستدعي بأكثر إلحاح سيناريو قيصر جديد في الحكم.

عقبة الديون

غمرت الموجة الرابعة لجائحة كورونا قطاعا صحيا مستنزفا، مما يشي بأن الصائفة ستكون أكثر فتكا. وقد كشفت الجائحة جليا قصر نظر الدولة وعجزها على إنفاذ قرارات استعجالية في مجتمع ممزق وبخدمات عامة متداعية.

تتلقى تونس ارتدادات هذه الصدمة في ذات الوقت الذي تواجه فيه عقبة مديونية حادّة بعد عشر سنوات من التدهور المالي. فقد تطوّر حجم الدين من 45 بالمائة من الناتج القومي العام سنة 2010 إلى حوالي 100 بالمائة الآن. هذا وتفاوض البلاد بشأن قرض رابع من صندوق النقد الدولي، ويبدو اقتصادها عالقا في دوامة أزمة قاتلة في غياب إصلاحات ليبرالية أو نموذج اقتصادي بديل، إذ لا يُرى سوى احتضار بطيء لمرحلة لم بعد تُحتمل. إذ لم يعد بإمكان الدولة شراء السلم الاجتماعية، كما بدأ “الريع الديمقراطي” يُستنفد لدى الشركاء الأجانب، إضافة إلى أن الترقيم السيادي لتونس قد انخفض ثماني مرات بعد عشر سنوات لتصنفّه وكالة “موديز” في فبراير/شباط الماضي تحت علامة “بي3” مع نظرة مستقبلية سلبية، وكذا بالنسبة إلى وكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني التي وضعت تونس في المرحلة الأخيرة قبل التخلف عن سداد الدين في 8 يوليو/تموز الجاري.

هذا إضافة إلى أن تونس ملزمة خلال هذه الصائفة بسداد قسطين من دين يُقدّر كلّ منهما بـ500 مليون دولار، وهي تحاول إذن الحصول على مبلغ 12 مليار دينار (4.26 مليار دولار) لسداد الدين الملزم وخلاص الأجور خلال الأشهر الثلاثة القادمة. قد تستطيع هذه المرّة الإفلات من العجز عن سداد الدين ومن فرضية المرور أمام نادي باريس لإعادة جدولة ديونها، ولكن ذلك سيكون على حساب مزيد التداين وتجفيف الموارد، والسؤال هو: إلى متى سيستمر هذا الوضع؟

حرب المواقع وازمة الهيمنة

لقد غذّت هذه الصدمة الصحية والمالية الصراع المفتوح بين رئيس الجمهورية قيس سعيّد من جهة والأغلبية البرلمانية وأساسا حركة النهضة -اللّذان يرأسهما راشد الغنوشي- ومعه رئيس الحكومة من جهة أخرى، حيث حاول قيس سعيد جاهدا منذ يناير/كانون الثاني الماضي بسط يده على رئاسة السلطة التنفيذية. لكن هشام المشيشي الذي عيّنه سعيّد نفسه خلفا لإلياس الفخفاخ في يوليو/تموز 2020، كان قد وجد الدعم والسند الكافيين من الأغلبية البرلمانية.

وقد انطلق الطرفان في حرب مواقع، فالهجوم الذي شنّه المشيشي في أواخر شهر يناير/كانون الثاني بتحوير وزاري من أجل توسيع صلاحياته (خاصة في وزارة الداخلية) أحبطه قيس سعيد، قائلا إنه بم يقع احترام الإجراءات الدستورية وإن الوزراء الجدد تحوم حولهم شبهات فساد، لذلك رفض قبولهم لأداء القسم، وهو أمر ضروري لتنصيبهم. وكانت النتيجة أن الحكومة الأخيرة كانت تعدّ خمسة وزراء بالنيابة، منها وزارتي سيادة وهما الداخلية والعدل.

في المدة الأخيرة، رفض قيس سعيد إصدار تعديلات على القانون الأساسي المتعلّق بتشكيل المحكمة الدستورية والذي يسمح بخفض عدد الأغلبية الضرورية لتعيين أعضائها من قبل البرلمان، ذلك لأن رئيس الدولة يرتاب من استغلال الأحزاب السياسية لهذه الهيئة القضائية العليا، فضلا عن تجاوز التاريخ المقرر لتشكيل هذه الهيئة الدستورية بخمس سنوات.

وفي 7 يونيو/حزيران الماضي، أقال رئيس الحكومة رئيس الهيئة الوطنية لمقاومة الفساد عماد بوخريص، فاستقبله رئيس الدولة في اليوم الموالي، شاجبا إعفاء “أولئك الذين يحاربون الفساد” من مناصبهم.

هذا وتحصّن كلا الطرفين دون أن ينجز أي منهما اختراقا حاسما. ولم يتوصل أي منهما إلى اتفاق حول متطلبات الحوار (من سيكون حول الطاولة وجدول الأعمال). وفي الأثناء، تنهار مؤسسات الدولة أمام مرأى الجميع.

شبح ينتاب تونس، وهو شبح “القيصرية”، وفرضية بروز قائد قوي يكون محبوبا أو مُهابا ليعيد ترتيب دولة أنهكتها الفوضى، تتخلل باستمرار الحوارات السياسية في تونس.

وفي الواقع، فإن الأزمة الحالية هي نتاج لانتخابات 2019، التي أسفرت عن أغلبية برلمانية مبتورة ورئيس دولة في قطيعة تامة مع الأحزاب. كما أنها أيضا تعبير عن رفض للطبقة السياسية ولمأزق “التوافق” الذي لم يأت بحلول. يجمع هكذا وضع كل مكونات ما يسميه المفكر الإيطالي انطونيو غرامشي “أزمة الهيمنة” أو “أزمة عضوية”: انهيار الاقتصاد، انقسام النخبة السياسية وتآكل شرعيتها حتى أنها باتت عاجزة عن المحافظة على الظروف السياسية التي تسمح باستمرار أجهزتها، انهيار المؤسسات، تكلّس الأحزاب السياسية “المفرغة من كل محتوى اجتماعي” و “المحلّقة بعيدا عن الواقع” وطبقات اجتماعية “تابعة” دون تمثيلية تنظيمية تخوّل وصولها إلى الحكم.

هيّأ هذا “التوازن الكارثي للسلطة” الظروف “للحظة القيصرية”. ويستدعي الوضع إعادة التأسيس عبر شخصية كاريزمية.

قيس سعيد يدفع باتجاه نظام حكم جديد

يعتبر رئيس الجمهورية نفسه مهيئا لهذا الدور، ويرى نفسه منذ انتخابه حصنا منيعا للدولة وللسيادة الشعبية لصدّ “أعداء” لم يحددهم حتى وقت قصير، ومفسدين يعملون سرّا ضد مصلحة الوطن، وقد كانت حركة النهضة من بين المعنيين ضمنيا بهذه الهجومات.

ويستغل سعيّد بعض الغموض الموجود في الدستور لدعم صلاحياته. فقد طالب أخيرا عبر قراءة مبالغ فيها للفصل 77 من الدستور الذي يحدد مهامه1 بجعل قوات الأمن الداخلي تحت سلطته، على حساب رئيس الحكومة طبعا.

بالإضافة إلى أن مواقفه المتصلبة والانعزالية تثير الغموض والحيرة، وتدفع بالدوائر السياسية والدبلوماسية التي تعودت على مسؤولين يبحثون عن التحالفات والتوافقات، إلى سؤال دائم: “ما هو هدفه؟” ذلك أن تصريحاته المبهمة كانت تثير الغموض حول نواياه.

ثم قد يكون عبّر خلال لقائه بالأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية) عن رغبته في العودة إلى صيغة معدلة من دستور 1959، دون تفصيل لطبيعة هذا التعديل، رُغم اعتباره في وقت سابق أن “تلك النسخة كانت صُممت على مقاس شخص وحزب”، ثم اعتبر أن “نواب المجلس الوطني التأسيسي (2014) اعتمدوا ذات النهج، لكنهم صمموا أكثر من بدلة لتظلّ على مقاس التوازنات التي أفرزتها انتخابات 2011”. وفي هذا الإطار، تكهن سعيّد منذ يناير/كانون الثاني 2014 بوقوع “تجاذبات خلال الانتخابات القادمة وذلك في ضوء تغيير التوازنات السياسية التي تحدث في غضون ذلك”. مضيفا أن “غياب الإرادة السياسية لمراجعة حقيقية للنظام من أجل مشروع بديل يقطع مع الماضي قد ظهر جليا”.

ولا يبدو أن قيس سعيد قد تخلّى عن المشروع الذي بنى حوله حملته الانتخابية، أي “قلب هرم السلطة” والتأسيس لتمثيل شعبي جديد يستوجب بناؤه تجاوز الأحزاب السياسية وإلغاء التمثيل النيابي الحالي، وهو مشروع ينطلق من التمثيل المحلي إلى الوطني من أجل تجسيد السيادة الشعبية. وقد كان أعلن عن ذلك عند اجتماعه برؤساء حكومات سابقين يوم 15 يونيو/حزيران حين قال: “إن مهمتي تتمثل أساسا في مواصلة الانفجار الثوري مع التقيّد الصارم بالمؤسسات”. وقد كان أكثر وضوحا خلال هذا اللقاء، حيث أشار إلى المآلات التي يريد إعطاءها إلى الأزمة: “أنا مستعدّ للحوار، لكن الحوار الحقيقي لا يجب أن يكون محاولة يائسة وبائسة لإضفاء مشروعية كاذبة للخونة واللصوص. (...) كما يجب أن يكون الفصل الأكثر أهمية للحوار حول مسألة النظام السياسي ونظام انتخابي جديد يصبح بمقتضاه كل نائب مسؤولا أمام ناخبيه. كما يجب أن يفضي الحوار إلى الانتقال من الوضع الحالي إلى وضع جديد، بعيدا عن كل صفقة مع الداخل أو الخارج”.

وبذلك يكون قيس سعيّد قد تباين بوضوح مع الحوار الوطني لسنة 2013 “التوافقي” الفوقي، للتوليف بين النخب القديمة الساعية لإعادة “الرسكلة” ونخب النهضة الصاعدة الباحثة عن الاندماج. ولئن ساهم ذلك الحوار في تهدئة الساحة السياسية، فإنه ضبط أيضا إيقاع الانتخابات التشريعية الأولى (2014-2019) التي عوقبت بانتخابات 2019 بسبب عدم قدرتها على الإصلاح وفشلها في استيعاب الانتظارات الشعبية. وبعبارة أخرى، يسعى قيس سعيد إلى وضع حدّ لهذه الصيغة التوافقية للانتقال الديمقراطي. وبصفة أعم، يبرز إصراره على الحديث عن الفساد رغبته في قطع علاقة الدولة بدوائر الأعمال والتدخلات الأجنبية.

رئيس في عزلة

يراهن قيس سعيد لبلوغ أهدافه على ديناميكيتين: شرعيته الشعبية المباشرة واهتراء شرعية البرلمان، وهو يسعى بذلك لفرض نفسه في اللحظة الحاسمة كبديل أوحد لسلطة فاشلة، لكن “مسار التاريخ” قد لا يكون كافيا لتعبيد الطريق أمامه.

فالشركاء الأجانب الذين لهم نفور طبيعي من المغامرة السياسية يرتابون منه. أما النخب التونسية، فتعتبره متهورا، ذا نزعات معادية للحرية، وما من وسيلة إعلام أو حزب سياسي أو مثقف يدعم مشروعه، كما ليس هناك من شخص في موضع مهم من مفاصل الدولة يمكن أن يدفع في لحظة تسريع عجلة التاريخ باتجاه مشروعه.

في أواسط مايو/أيار، نشرت “ميدل ايست آي” وثيقة وصفتها بالمسربة من رئاسة الجمهورية تعرض تفاصيل خطة، لا بغاية “انقلاب عسكري” بالمعنى الدقيق للكلمة بما أنه لا يفترض عزل أية سلطة، ولكن بغاية تفعيل الفصل 80 من الدستور الذي يمنح لرئيس الدولة كل السلطات عند مواجهة “خطر داهم”، “يتعذّر معه السير العادي لدواليب الدولة” وهو ما يُعتبر قفزة إلى المجهول بالنظر إلى أن المحكمة الدستورية التي يمكن اللجوء إليها خلال ثلاثين يوما للتأكد من مدى صحة “الظروف الاستثنائية” غير موجودة الآن.

ولا يوجد في الوثيقة غير الممضاة ما يسمح بتقييم وضعها: هل جاءت بمثابة نصيحة طلبها رئيس الدولة؟ وعلى أي مستوى وقعت مناقشتها؟ أما الرئيس، فقد أكد علمه بها ولكنه أشار أنها لا تلزمه.

وتبقى عملية التسريب هي الأهم، حيث لم تنتهز حركة النهضة الفرصة لإطلاق حملة دعائية علنية ضد قيس سعيّد والتذكير بحرصها على حل تفاوضي. لكن الحزب أعرب عن قلقه لدى السفارات الأجنبية حيث يُعتبر نشر مشروع انقلاب دستوري بذلك الوضوح تأكيدا للمخاوف التي تطفو على السطح منذ أشهر عديدة. وقد سحبت عملية النشر خاصة البساط من تحت أقدام قيس سعيد الذي أُجبر على التباين مع هذه الفرضية.

الجيش، استثمار آمن

دعما لرغبته في تجسيد الدولة ووحدتها، يسعى قيس سعيد للظهور باستمرار مع الجيش، باحثا دون شك عن السند للوقوف صدّا منيعا في مواجهة “سلطة الأحزاب” ولكن يظل الجيش على حياده وتبقى فرضية تدخل عسكري مباشر في الساحة السياسية غير محتملة، إذ خلافا للجزائر أو مصر، حيث إن بقاء النظام حيوي بالنسبة للجيش، يحبذ الجيش التونسي في زمن الأزمات الحادّة تحفيز السياسيين على العمل من أجل تثبيت استقرار المؤسسات. وعلى سبيل المثال، وجّه جنرالات متقاعدون، أواخر مايو الماضي، رسالة مفتوحة الى قيس سعيد يدعونه فيها الى تقديم تنازلات.

ولكن ما الذي سيحدث لو ظل الوضع بهذا الانسداد الخطير؟ أي المواقف ستسندها الكوادر العليا للجيش إذا ما قررت التدخل؟ هذا غير معلوم الآن.

في الأثناء، يظل الجيش رأس مال رمزي واستثمارا آمنا فعلا. وقد حاول مترشحون آخرون لدور القيصر استمالته لصالحهم. فخلال حملة الانتخابات الرئاسية لسنة 2019، أصرّ عبد الكريم الزبيدي، آخر وزير دفاع للباجي قائد السبسي، على عقد اجتماعه الانتخابي الأهم أمام الصور الضخمة لأبرز قيادات أركان الجيش العليا. ولكن هذه الرمزية لم تحقق له نجاحا ملموسا، حيث كان ترتيبه الرابع بنسبة 10.7 بالمائة من الأصوات.

حاليا لا يخفي الأميرال المتقاعد كمال العكروت، المستشار العسكري للباجي قائد السبسي، طموحاته السياسية. ويطرح نفسه بديلا احتياطيا ممكنا في الانتخابات الرئاسية القادمة، لكنه اكتفى إلى حد الآن هو الآخر بمطالبة قيس سعيد باستعمال صلاحياته خاصة ضمن مجلس الأمن القومي من أجل إيجاد حلاّ للأزمة.

وعبر طريقة أكثر فلكلورية، لا تتردد عبير موسي، رئيسة كتلة الحزب الدستوري الحر، في الاستعراض بثياب تشبه تلك التي تستعمل في التمويه العسكري خلال تظاهرها في الشارع. وتستفيد موسي التي كانت الأمينة العامة المساعدة للتجمع الدستوري الديمقراطي، الحزب الحاكم قبل 2011، من تردّي الاوضاع الاجتماعية والحنين إلى الشعور بالأمن تحت رعاية نظام بوليسي، وهي تستند إلى ركيزتين: كراهية عميقة لجزء من الرأي العام تجاه حركة النهضة، ومساندة بعض النقابات الأمنية. ومنذ بداية الدورة التشريعية، تخصص موسي مع بقية نواب حزبها -وهم 16- نشاطهم لإعاقة عمل البرلمان. وقد ظهرت طوال أسابيع بمقر المجلس معتمرة خوذة ومرتدية سترة واقية من الرصاص، وكانت تقطع باستمرار سير الجلسات عبر مكبر صوت. هذه التصرفات الفوضوية تمنحها بعض الشهرة (سبر الآراء الأخير يضعها في المرتبة الاولى خلال الانتخابات التشريعية القادمة)، لكن لا يمنحها بالضرورة مصداقية كبيرة، حتى ضمن الكثير من الدستوريين القدامى الذين يعتبرونها وصولية.

إذا كانت اللحظة تستدعي قيصرا، فلا يبدو أن أيا من المرشحين قادرا على فرض نفسه كبديل للجمود الحالي. على المدى المتوسط، ترتفع أصوات منذ 2015 منادية بنظام رئاسي ليس على الطريقة الأمريكية، حيث يواجه الرئيس الكونغرس الذي يتمتع بوسائل مراقبة قويّة، ولكن لإعادة قصر قرطاج كمكان للإدارة الرسمية للدولة وغير الرسمية للتحكيم السياسي والاقتصادي، حتى تستعيد البلاد السلطة والنجاعة، مع أن الجائحة أثبتت أن النظام الرئاسي يضاعف من أخطاء القائد أكثر من ضمانه لفاعلية السياسات العامة.

[ترجم المقال من الفرنسية مسعود الرمضاني.]

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورنيت] 

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • جدلية في شهر (أيار 2025)

      جدلية في شهر (أيار 2025)

      نستعرض أدناه المواد التي نشرت في جدلية الشهر الماضي.

    • ترشيحات مسموعة (19)

      ترشيحات مسموعة (19)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

    • ترشيحات مسموعة (18)

      ترشيحات مسموعة (18)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬