طرأت تبدلات صارخة وجلية على سوق العمل في سوريا خلال السنوات العشر الماضية. يمضي البعض في توصيف حال السوريين والسوريات بأسلوب مكرر تبدو معه وكأنها نتيجة طبيعية لكل نزاع؛ بطالة شبه مطلقة وخاصة لفئة الشباب من خريجي وخريجات الجامعات الجدد، وهجرة لذوي الاختصاصات، وعجز عن تأمين الحد الأدنى من مقومات العيش، وضرائب جائرة تحت عناوين إضافية، والمحصلة توقف تام لعجلة الاقتصاد العام والخاص بسبب تدمير الجغرافيا أو التعثر الاقتصادي أو الهجرة أو الموت.
في ظل هذا الانهيار الكبير، ينصرف المحللون للتوصيف العام فقط، في حين هناك حاجة إلى تحليل الواقع وربط العامل الاقتصادي بالعامل الاجتماعي لفهم تغير سوق العمل في سوريا وتأثيره على الأدوار الجندرية. هناك إشارات كثيرة إلى تحوّل النساء السوريات إلى معيلات، وهذه إشارات حقيقية، لكن هل انخراط النساء في الإعالة هو قضية أحادية الجانب؟ هل هو عملية سلبية وضاغطة فقط وكما يروج لها؟ وهل طالت عملية التبدل في أنماط العمل المدرّ للدخل النساء فقط؟ أم أنها طالت النساء والرجال معًا؟ هذه بعض من الأسئلة التي برسم الإجابة، من خلال نظرة تحليلية وبشفافية واقعية من قلب الحدث، ومن مشاهداتي للواقع السوري.
شبكة علاقات جديدة
في قرية صغيرة من قرى ريف حمص الغربي، يعمل (س) مع زوجته وأطفاله الثلاثة في تنظيف البيوت، هو نازح من الريف الحلبي، ولا أحد يعرف شيئًا عن عمله السابق. يملك (س) سيارة خاصة ويستأجر بيتًا لائقًا. إذن، تنعدم هنا صفة الفقر المدقع عنه وعن عائلته، لكن ظروف النزوح والبعد الجغرافي عن مصادر دخله الأصلية ونفاذ مدخراته دفعته للبحث عن عمل في قرية يفتقد أهلها لفرص عمل إضافية غير وظائفهم أو رواتبهم التقاعدية. ويجدر الإشارة إلى أن القرية لا تنتج ولا تبيع محاصيل زراعية بسبب تضاؤل المساحات الزراعية في غالبية مناطق ريف حمص الغربي، وطغيان امتداد الإسمنت على شكل بيوت أعدت للاستثمار السياحي لكنها فقدت جدوى بنائها وأفرغت جيوب أصحابها من أية مدخرات احتياطية للأزمات التي تعصف بالجميع.
برزت الحاجة إلى خدمات (س) وعائلته بسبب نقص اليد العاملة في الخدمة المنزلية، واللافت أن عمله مع عائلته يوازي عمل شركة خاصة وصغيرة، تتوزع على أفرادها كافة الأعمال المطلوبة، كل حسب قوته الجسمانية أو حسب ضرورة وجود نساء للترتيب والمسح. وينصرف الأبناء الثلاثة لمساعدة والديهما في كافة الأعمال المطلوبة. وكما يقول السيد (س)، فإن عملهم يتضمن مهامًّا من الباب للمحراب، فمن تنظيف الجدران وفك الستائر وتركيبها وجرّ ونقل الأثاث إلى تنظيف الأرضيات والسطوح ومسح الزجاج وترتيب الأثاث المنزلي.
القيمة في هذه الأعمال الناشئة تنتج عن بناء شبكة علاقات اقتصادية جديدة، طارئة في بداياتها، تتحول إلى أساسية في مسارها الزمني والخدمي والمجتمعي، وتُبنى على تبادل الحاجات المجتمعية وعلى حقيقة التغيير الجديد في بنية المجتمع الأصلي مهما كان ضيقًا ومنطويًا على ذاته.
انقلاب رأسًا على عقب
بدّل السوريون مهنهم، فمن كان يملك محلًّا للخياطة صار سائقًا لسيارة أجرة، استأجرها من جاره، بعد أن هُدم محله وفُقدت بضاعته وتفرق زبائنه في أصقاع الأرض. يقول (ر) عن تجربته إن أمه كانت قد اختارت له مهنة الخياطة الرجالية بعد أن ترك الدراسة تيمنًا بخاله الذي سبقه إلى هذه المهنة. كان (ر) راغبًا بالخياطة النسائية إلا أن إصرار ورجاء أمه أقنعاه بالخياطة الرجالية خاصة بعد أن باعت أمه ذهبها البسيط لتأمين ماكينة الخياطة وعدة المحل.
إلا أن الأحوال بسبب الحرب تغيرت وأفكاره الأصيلة عن رضا الأم ورفض العمل مع النساء تبدلت. فحاليًّا يعمل (ر) بنقل امرأتين تعملان في ملهى ليلي في ضاحية ملتصقة بدمشق، إذ ينتظرهما أمام باب الملهى. أولويات (ر) الحالية هي تأمين دخل لعائلته ولأمه ومساندة شقيقتيه الأرملتين وأولادهما. تُمثل قصته ترابط الدافع الاقتصادي مع البعد الاجتماعي الذي يتبدى بازدهار العمل في الملاهي الليلية ضمن واقع تسوده نسبة البطالة العالية حتى لخريجي الجامعة.
يكاد (ر) أن يكون جازمًا بأن مهنة بيع الخدمات الجنسية هي العمل الوحيد الذي لم يتعرض لخسارات. وحين أخالفه الرأي يؤكد لي تراجع هذا العمل في الفترة الأولى من الحرب السورية لكنه العمل الوحيد الذي يرمم نفسه ويعوض خساراته بسرعة كبيرة.
يقضي (ر) نهاره نائمًا لأن عمله الليلي يحرمه من النوم ليلًا، وتتولى زوجته كل أعباء المنزل التي كان يقوم بها سابقًا من تأمين الخبز والخضار ودفع الفواتير والوقوف على طوابير الغاز والمواد المقننة، حتى أن زوجته هي من ترافق والدته إلى الطبيب وهي من تأخذ القرارات العائلية التي تخص الأبناء في المدرسة والعلاقات مع الجيران والأقارب، قرارات كانت ممنوعة من اتخاذها بصرامة وحدّة غير قابلة للنقاش.
كسر الصورة النمطية
يسعى البعض إلى تصوير خروج النساء إلى سوق العمل وتحولهن إلى معيلات لأسرهن وكأنه ظلم بالغ واقع على النساء. وأدى كسر الصورة النمطية لفكرة الإعالة والتصاقها بالرجل حصرًا إلى ترويج البعض لفكرة أن النساء المعيلات حديثًا هن ضحايا ينتظرن تبدل الوضع الاقتصادي نحو الأفضل وإيجاد معيل رجل للعودة سريعًا إلى وظيفتهن الرعائية التقليدية تحت شعار: "بيتي مملكتي وكرامتي". لكن الحقيقة في أغلب جوانبها تنافي هذه الصورة الأصولية والمتجنية على رغبة السوريات ومقدرتهن في أن يكنّ معيلات. ورغم أن الكثير من النساء السوريات خلال السنوات العشر الماضية أصبحن معيلات فجأة تحت ضغط الحاجة القاهرة، إلا أنه يجب عدم الركون إلى تصريحات بعض النساء بالرغبة بالتخلي عن العمل بمجرد توفر مصدر دخل كقاعدة وحيدة للبناء عليها. فهناك بالمقابل، وبنسب مضاعفة، كثيرات ممن عبّرنَ عن عدم تخليهن عن وجودهن في سوق العمل تحت أية ذريعة في المستقبل.
إن كسر الصورة النمطية بما يخص الإعالة وعمل النساء خارج المنزل لم يتغير فقط بخروج النساء إلى العمل، بل بأنواع المهن التي انخرطن بها، مثل العمل في مجالات ميكانيك السيارات والسباكة وأعمال الكهرباء والنجارة وتجارة المفرق والبيع في أسواق الخضار والمخابز والمحال التجارية والخدمة في المطاعم. وكمثال عن تغير الأدوار الجندرية توجد قصة (ن) التي فتحت في ضاحية قريبة من دمشق محلًّا خاصًّا بها لتصليح ميكانيك السيارات وزبائنها من الرجال والنساء أيضًا. أما (ف) فقد استلمت محلًّا لتوزيع الألواح الخشبية وتجارة كل ما يخص مستلزمات النجارة، وتشتهر (ف) بالوقوف على باب محلها وهي تحدد لموزع الجملة ما تريده من أنواع ومقاسات وألوان للألواح الخشبية المعدة للتصنيع.
تفكيك هيمنة القرارات الأبوية
إن خروج النساء إلى سوق العمل لم يعوض غياب الرجال فقط ولا ساهم في إدرار الدخل للعائلات التي فقدت رجالها أو عجزوا عن العمل فحسب، بل إنه فكك هيمنة القرار الذي كان يستفرد فيه الرجل صاحب السلطة الأبوية أولًا وبسبب كونه المنفق ثانيًا. وعندما صارت النساء هن العاملات والمنفقات الوحيدات، وصاحبات الدخل الذي يعاد ضخه في البيوت من أجل تأمين الحياة لأفراد الأسرة رجالًا ونساءً، صرن صاحبات قرار ولو بصورة جزئية، وإن لم يملكن فرصة القيادة المجتمعية والتحكم المباشر، لكنّ حجم التدخل بحيواتهن وبتفاصيلهن الشخصية قد تراجع بصورة كبيرة.
تقول (خ) عن تجربتها: "قبل أن أعمل، حتى ابن عمي كان يحق له التدخل بنمط لباسي وساعات خروجي ووجهته، الآن ينتظرني صامتًا عند عودتي إلى البيت بعد عملي الطويل، ينتظرني لأمنحه علبة السجائر التي بات عاجزًا عن شرائها بسبب عجزه جراء إصابة بليغة في الظهر". وتضيف (خ) عن بعض أوجه الحرية الشخصية التي اكتسبتها بسبب تغير دورها الاجتماعي إلى معيلة اقتصادية للعائلة: "لقد غيرت شكل لباسي ولم يعترض أحد حتى والدي".
خارطة جديدة برسم التثبيت
يبدو حجم التبدلات في الأدوار الاجتماعية الجندرية في سوريا أكبر من أية عملية إحصائية، وآثار هذه التبدلات معلنة وخفية ولمّا تؤطر بعد في مسارها التنموي المختص. إن خارطة جديدة للعمل رسمت في سورية، لا رجوع إلى الوراء ولا عناوين عصية على الملاحظة، لا هوامش تحتاج التفسير، بل وقائع برسم التثبيت والبناء عليها بصياغة مجتمعية جديدة، يرسم العمل ملامحها، والخارطة متجددة ومتنوعة، تنتظر رسم المسار الجديد لا الحدود.