يصعب أن نتصوّر، في المدى المنظور على الأقلّ، يسارًا سوريًّا ثوريًّا ذا وجه مستقل، يقوم بالدور الذي يُنتظَر أن يقوم به يسار يستحقّ هذا الاسم، وذلك لجملة متراكبة من الأسباب. فطوال أكثر من نصف قرن، تعرّض اليسار السوري الجدير بهذا الاسم لحملات قمع وحشي متلاحقة ومتسارعة لم تسمح ببناء جدّي لكوادره أو قواعده أو برامجه. وأتى انهيار "الكتلة الاشتراكية" في أواخر ثمانينيات القرن العشرين وأوائل تسعينياته، لتجري كتل كبيرة من هذا اليسار مع الطَّفو الليبرالي الرائج متنكرةً لأبسط مبادئ تاريخها السابق. وأتت بعد ذلك انتفاضة الشعب السوري، ليرتكب فيها هذا اليسار السوري المتلبرل أشنع الأخطاء، بل الجرائم، السياسية.
عند تناول اليسار السوري بعد العقد الأخير، لا بدّ من التنبيه منذ البداية إلى أمرين ضروريين لن ندخل هنا في نقاشهما: الأول، هو أنّه مهما تكن أخطاء وجرائم اليسار السوري والمعارضة السورية عمومًا، فإنّهما ليسا السبب في ما جرى للبلد. ومشكلتهما، ومشكلتنا معهما، أنّهما لم يكونا حلًّا أو بديلًا أو فاعلًا يحسن الفعل، لا أنهما علّة ما جرى، فالعلّة معروفة لا تستحق أدنى نقاش في كونها العلّة البنيوية الجوهرية. والثاني، هو أنَّ الأساس الاجتماعي أو الطبقي الذي تنهض عليه هشاشة اليسار السوري على مختلف الصّعد إنّما هو هامشية هذا اليسار. والمقصود بالهامشية هو الارتباط الواهي بالطبقات والفئات الاجتماعية ومصالحها والانعزال الاجتماعي الاقتصادي عن السيرورات الجارية، نظرًا لاحتلال الكتلة الأكبر من هذا اليسار مواقع هامشية ضمن بنية البلد، سواء بسبب الأعمار المتقدمة أو الفتيّة (الطلاب خصوصًا)، أو بسبب الوظائف والمواقع، أو بسبب ما تركته اعتقالات سابقة من آثار التخلّع الشخصي والاجتماعي، أو بسبب الارتباط - المستجدّ - ببنى وسياقات خارج البلد.
كانت الانتفاضة التي انطلقت في سوريا في عام 2011 واحدًا من ارتدادات الزلزال البادئ في تونس ثمَّ في مصر وليبيا واليمن وصولًا إلى سوريا، على نحوٍ يذكّر بعض الشيء بثورات عام 1848 التي اكتسحت أوروبا متنقلةً من بلد إلى بلد. لكنَّ سوريا تميّزت عن تلك البلدان بأمور حاسمة، منها: تغييب احتكار السلطة والقمع المديد كلَّ مظهر جدّي من مظاهر المجتمع المدني (أحزاب، نقابات، جمعيات، نوادي، صحافة مستقلة، قضاء مستقل.. إلخ)؛ والتحام الجيش التحامًا وثيقًا بقمّة السلطة؛ وتمكّن قبضة النظام الأمنية على مدى عقود من إسكات الشعب وكسر عظام المعارضة؛ وموقع سوريا الجيوسياسي الإقليمي والدولي وعلاقتها الوثيقة بالقضية الفلسطينية؛ وبنية النظام الصلدة العاجزة عن احتمال أدنى اختلاف.
ساهمت في الانتفاضة بدايةً شتّى الفئات الاجتماعية والتيارات السياسية والفكرية، وغلب على أشهرها الأولى طابع التظاهر السلمي الذي تمكّن، على الرغم من القمع الوحشي، من أن يخلق ما تدعوه سوسيولوجيا الثورات بـ"الوضع الثوري": حيث يرفض المحكومون أن يُحكَموا بالوسائل السابقة، ويعجز الحاكمون بوسائلهم تلك عن إبقاء الوضع على ما كان عليه، وتتزعزع بأفعالٍ على الأرض علاقةُ الإخضاع التي تربط الطرفين، وتتركّز شتى التناقضات في المستوى السياسي على شكل أزمة سياسية يحاول النظام حلّها لا بالقمع وحده، بل أيضًا بالاعتراف بأنّ ما يجري سياسيّ وبالدعوة إلى الحوار أو التفاوض وبتغيير الحكومات والقوانين والدساتير والبرلمانات، بما يخلق احتمال أن تتحوّل مثل هذه التغييرات شيئًا فشيئًا، على وقع انتفاضة الشارع، من مجرّد تغييرات شكليّة زائفة بقصد الانحناء أمام العاصفة إلى لحظة تحوّلٍ حاسمة.
لم تكد التظاهرات السلمية تضع قدم النظام على أوّل هذه الطريق حتى أدّى القمع الوحشي والتمويل والتسليح الخارجي (لا سيما الأميركي والتركي والخليجي) وتزايد نفوذ تيارات الإسلام السياسي وحلفائه من اليساريين السابقين المتلبرلين في المعارضة إلى طغيان الطابع المسلّح وتحوّل الانتفاضة إلى حرب مدمرة اختلط فيها المحلي بالإقليمي والدولي، وأفسحت المجال لتسيّد الإرهاب التكفيري من "نصرة" و"داعش" وأشباههما، لتتوارى في الخلف الأقسام الأوسع من الشعب السوري ومطالبه المحقّة المزمنة في الحريات والحقوق الأساسية ودولة القانون. ولم تعد الثورة ثورةً، لا من حيث الطبيعة الاجتماعية والسياسية لفئاتها القائدة، ولا من حيث الأهداف التي تتوخّاها، وهما الأمران اللذان عادةً ما تتعرّف بهما الثورات.
لم يكن اليسار السوري عمومًا بالغائب عن الحراك، على الرغم من الطابع الشعبي غير الحزبي الذي غلب في المراحل السلمية الأولى، وعلى الرغم من الضعف البنيوي الذي يعاني منه هذا اليسار بعد عقود القمع والاعتقال المديدة وتمزّقه الحاسم (بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وحرب الخليج الثانية) بين أربعة تيارات: تيار وطني ديمقراطي ماركسي، سيعبّر عن نفسه بعد الانتفاضة من خلال "هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي"، كما من خلال أشكال جمعية وفردية مستقلة أخرى؛ وتيار ليبرالي جديد، سيعبّر عن نفسه من خلال "المجلس الوطني السوري" ثم "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية"؛ وتيار شيوعي تقليدي مرتبط بالنظام من خلال "الجبهة الوطنية التقدمية"؛ وأعداد كبيرة من اليساريين المستقلين من شتى الآراء. كان لليسار، على الرغم من ضعفه، حضوره في الحراك، كما كان له الوزن المعنوي الذي فرض نفسه على تيارات الإسلام السياسي وداعميه ومموليه وتجلّى في مسائل عديدة أبرزها تعاقب ثلاثة من اليساريين السابقين المتلبرلين على رئاسة "المجلس الوطني" (برهان غليون وعبد الباسط سيدا وجورج صبرا).
شكّلت المراهنة على التصاعد التدريجي لنضالات السوريين وعلى نبذ السلاح والتدخّل الخارجي والطائفية محور سياسات اليسار الوطني الديمقراطي المنضوي في "هيئة التنسيق" والشخصيات المستقلة القريبة منه. ومثّل هؤلاء مشروعًا لـ"التغيير الوطني الديمقراطي" لطالما كان المساهمة النظرية والنضالية الكبرى التي قدّمها الوطنيون الديمقراطيون واليساريون السوريون وأَنْمُوهَا على مدى عقود منذ أواخر ستينيات القرن الماضي إلى الآن. ويجمع هذا المشروع بين التشديد على ضرورة التغيير الجذري الذي ينقل البلد من الاستبداد إلى دولة القانون والحريات السياسية كشرط لا بدّ منه للانتقال من التخلّف الاقتصادي الاجتماعي إلى التقدّم والعدل، وبين معرفةٍ ببنية البلد ونظامه وموقعه الجيوسياسي تسبغ على ذلك التغيير الجذري صفات الوعي بالمخاطر المحتملة، وبين إدراك لأهمية المسألة الوطنية والقومية وعدم انفكاكها عن المسألتين الديمقراطية والاجتماعية في بلد مثل سوريا.
تمثّلت هذه الرؤية خلال الحراك في التشديد على أنَّ الخلاص من الاستبداد الفاسد إمّا أن يكون خلاصًا وطنيًّا ديمقراطيًّا أو لا يكون؛ وأنّ ميزان القوى وطبيعة النظام يقتضيان أن يكون هذا الخلاص سيرورة متصاعدة تتلاقى فيها المقاومة المدنية السلمية والعمل السياسي، والعفوية والوعي، وحماس الشباب وخبرة الشيوخ، في جولات متلاحقة تحتمل الفشل والتراجع، لا بسبب قوة الطرف الآخر فحسب، بل أيضًا درءًا للمخاطر الأسوأ التي رأينا بالفعل كيف دُفِعَت سوريا على سكّتها بكلّ توحّش وفقدان للبصيرة.
لذلك لم ينبهر أصحاب هذا المشروع ببعض الأساطير التي راجت وتقدّست مع انطلاق الانتفاضات العربية مثل "العفوية" و"الشباب" و"ضرر التنظيم والسياسة". وانتبهوا إلى أنّ أقسامًا من المعارضة ليست معنيّة بالحرية والكرامة بقدر عنايتها بتغيير تحالفات سورية الإقليمية والدولية. ووعوا أهمية توحّد المعارضة على خطّ وطني ديمقراطي، الأمر الذي تجلّى في ما دُعي "اتفاق القاهرة" في أواخر عام 2011 الذي ساهم في صوغه القيادي اليساري البارز عبد العزيز الخيّر ووقّعه كلّ من هيثم منّاع عن "الهيئة" وبرهان غليون عن "المجلس الوطني"، لكن غليون ما لبث أن سحب توقيعه بأمر من ممولي "المجلس" ورعاته.
بيد أنّ "الهيئة" ذاتها - في ظلّ اختطاف قيادييها البارزين عبد العزيز الخيّر ورجاء الناصر ونزوح كثير من عناصرها باتجاه من حسبوه منتصرًا - لم تبق على تمسّكها السابق بخطّها الوطني الديمقراطي، الأمر الذي تجلّى في مشاركتها الخانعة في "الهيئة العليا للتفاوض" إلى جانب "الائتلاف" ومسؤولين سابقين في النظام منشقّين وفصائل مسلحة عديدة، ما أضعف كثيرًا تمثيلها الخط الوطني الديمقراطي.
تَمَثَّلَ الجناح "اليساري" الآخر بعدد من القوى والشخصيات التي كانت يسارية وتحولت إلى الليبرالية و/أو الشعبوية ودخلت "المجلس الوطني" وخليفته "الائتلاف" إلى جانب، بل تحت، الإسلام السياسي (ممثلًا بالإخوان المسلمين بصورة أساسية). ويكاد هذا "اليسار" أن يكون مقلوب "يسار النّظام" ووجه عملته الآخر. ويكفي أن نعرف أعداء النّظام في كلّ فترة، كائنًا من كان هؤلاء الأعداء، كي نعلم من هم محطّ إعجاب هذا "اليسار" في تلك الفترة، وصولًا إلى إعجابه بالجيوش الأميركية المحتلة أو المستعدة للاحتلال، كما نجد في أطروحة "الصفر الاستعماري" التي طلع بها في تسعينيات القرن الماضي اليساري السابق رياض الترك (القائد التاريخي للحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي الذي غيّر اسمه إلى "حزب الشعب الديمقراطي السوري"). ومفاد هذه الأطروحة أنّ الاستعمار يعيد بلداننا إلى الصفر الذي أنزلها الاستبداد تحته، وأنَّ الخلاص من الاحتلال الخارجي الاستعماري أسهل من الخلاص من الاستعمار الداخلي الذي تمثّله الأنظمة المستبدة.
لم يُلاق هذا "اليسار" الأخير الحراكَ العفوي في 2011 بأيّ برامج أو تصورات تحسب حساب توازن القوى والأخطار المحتملة، بل لاقاه بأردأ أنواع الشعبوية التي تعزف على آلام القتل الوحشي وجراحه. بدا الأمر آنذاك كأنّه فرصة لا تتكرر، يقتنصها هؤلاء ولو خرب العالم. وحين صعب اقتناص الفرصة، حبّذ هذا "اليسار" لا العنف المعارض فحسب، بل قسمة الجيش والعلَم والبلد، والتدخل الخارجي، والطائفية. ومع ازدياد القمع وتسيّد حركات إرهابية تكفيرية ليست "داعش" و"النصرة" سوى مثاليها الأبرز، كشف هذا "اليسار" عن وجه ظلاميّ عبثي رهيب لا يتردد في تبرير الإرهاب التكفيري وفي اعتبار ما يستولي عليه من أرض أرضًا "محررة"، من دون أن يجرؤ على دخولها. يقول عضو "حزب الشعب" جورج صبرا في محضر اجتماع "المجلس الوطني" بتاريخ 20 و21 آب 2013: "إننا في المجلس الوطني لم نعلن لا تصريحًا ولا تلميحًا ضد جبهة النصرة أو غيرها، وقد دافعنا في اجتماعنا مع الأميركان دفاعًا قويًّا عن جبهة النصرة، كما لم تدافع هي عن نفسها". ويقول ياسين الحاج صالح، العضو السابق في الحزب ذاته والذي اشتهر بلقب "حكيم الثورة"، في مقابلة معه في جريدة المستقبل اللبنانية في 6 تشرين الأول 2013: "لا أزال على موقفي الأول: لا لتبنّي الموقف الأميركي من النصرة، ولا لفتح جبهة صراع معها، طالما كان هذا ممكنًا.. الصراع مع النصرة ثانوي ويعالج بالسياسة، والصراع مع النظام وجودي.. تخوض الثورة معركة صعبة مع النظام، بينما النصرة لا تفتح جبهة ضد أحد في الثورة". وقوله هنا لا يقتصر، بالطبع، على موقف هذا الكاتب من "النصرة"، ولا على ثمرة صراعاته الثانوية والوجودية التي نراها أمامنا، بل تتعدّاهما إلى فكرته عن الجبهات وحسبانه أنّه وأمثاله كان يمكن، في اللحظة والسياق المعنيين، أن تكون لهم جبهتهم بين الجبهات.
يبقى الإنجاز الفريد لهؤلاء تطويرهم أطروحة "الصفر الاستعماري" إلى تحالف فعلي مع ضواري العالم الاستعماري (لا سيما أميركا وإنكلترا وفرنسا ونواطير نفطهم في الخليج)، ودعوة هؤلاء إلى التدخل العسكري وإنزال ضربات عنيفة بالبلد (الذي يطابقون بينه وبين النظام). وفي حين كان وهم الحريات والديمقراطية والتنمية لا يزال يظهر مع الطبعة الأصلية لأطروحة "الصفر الاستعماري" مثل ورقة توت تغطي عورتها، سقطت هذه الورقة تماماً عن النسخة المطورة لتبدو على حقيقتها العارية من أيّ مطامح ما عدا الانتقام وإرواء الغليل، الأمر الذي يتجلى في عدم تفريق هؤلاء بين مطار أو مركز للبحوث وبين النظام، كما يتجلّي في افتقارهم إلى كلّ خطاب ما عدا خطاب التضرّع إلى رؤساء أميركا (بل وإلى إسرائيل) وتوسّل ضرباتهما ولومهما على التقصير فيها.
في مطلع العام 2017، بعد 6 سنوات من طوفان الدم والخراب، اعترف عدد كبير من أبناء هذا التيّار، في وثيقة موسومة "نداء إلى شعبنا السوري: من أجل الحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية، وجهة نظر نقدية لتصحيح مسارات الثورة السورية"، بأنهم اقترفوا "أخطاءً" و"أوهامًا" جسيمة، كما دعوها، من بينها وهم المراهنة على "أن نوعًا من التدخّل الدولي سيحصل"، و"التعويل على الخارج والارتهان لأجنداته"، و"وهم المراهنة على "جبهة النصرة.. وأخواتها"؛ و"وهم المناطق المحرّرة"؛ و"وهم المراهنة على الكيانات والخطابات الأيديولوجية والطائفية"؛ وسواها من الأوهام التي "ثبت أنها كلها تصدر عن عقليات قدرية ورغبوية لا علاقة لها بالسياسة ولا بموازين القوى، ولا تبدي أي حساسية للأرواح والتضحيات ولا للأثمان الباهظة المدفوعة ولا لعذابات شعبنا". لكن حبر هذا البيان الذي كُتب في ظلّ نوع من العزوف الأميركي والغربي عن الاهتمام بالوضع السوري، لم يكد يجفّ حتى عاد هؤلاء إلى التطبيل لا لضرب ترامب مطار الشعيرات ثم مركز البحوث فحسب، بل لضربات إسرائيل المتكررة أيضًا.
تعيش سوريا اليوم وضعًا رهيبًا تعوم فيه على خراب هائل وعلى مئات آلاف الضحايا وملايين المشردين من دون أن تتقدّم قيد أنملة على طريق التحول الديمقراطي الذي كان من المفترض باليسار أن يكون حامله الأبرز الذي ينتزعه من أيدي دعاته الزائفين من الضواري الإمبرياليين بجمعه مع المطلبين الوطني والاجتماعي، وبإضفاء طابع العدالة الاجتماعية والاقتصادية والاستقلال الوطني على الصراع من أجل الحرية والديمقراطية. غير أنّنا لو دققنا فسنجد أنّه ليس لدى اليسار السوري الحالي، بكتلته الغالبة، بل وليس لدى الإنتيليجنسيا السورية والمثقفين السوريين عمومًا، أيّ مشاريع نظرية وفكرية جادّة ومفصّلة، فما بالك بالمشاريع السياسية والعملية، على هذا الصعيد. بل إننا لا نكاد نجد دراسات ذات قيمة عن بنية البلد الاجتماعية الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية وتاريخ تكوّنها. ولا نكاد نجد حتى أعمالًا أدبية عليها القيمة عن سوريا ومحنتها. جلّ ما نجده شعارات ومطالب سياسية تُحسَب خطأً أنّها رؤى فكرية. حتى الأطروحة السياسية الأهمّ لدى هذا التيار، "التغيير الوطني الديمقراطي"، ببعد نظرها وإدراكها تكوين البلد وتناقضاته وتوازن قواه، سرعان ما كانت تُرمى جانبًا كلّما لوّح لهؤلاء أحد، سواء كان النظام نفسه أم خصومه.
إذا ما كان معروفًا عن اليسار وعن الإنتيليجنسيا عمومًا أنّهما بعيدان عن شعبوية عموم المثقفين، لا يتنازلان عن معرفتهما العلمية برغم انحيازهما للقيم الديمقراطية ومصالح الناس، فإنّ اليسار السوري والمثقفين السوريين يبدون انتقالًا سريعًا ومفاجئًا من احتقار الشعب الصامت إلى تقديس الشعب الصارخ، من الدعوة العجيبة إلى العمل الثقافي البعيد عن السياسة حينًا إلى الانخراط السياسي التام لإسقاط النظام ثم إلى الفرار حتى من المناطق التي سقط فيها حينًا آخر. هكذا انتقل هؤلاء من مديح الأنظمة البرجوازية الصغيرة القومية غير النقدي حتى أواسط سبعينيات القرن العشرين إلى اعتبار التمرد الإسلامي المحدود عليها أوائل الثمانينيات حركة شعبية تلفّ سورية من أقصاها إلى أقصاها. وبدوا في 2011 كأنّهم يحولون "الشباب" إلى أسطورة. والتحقوا بمشروع الإخوان المسلمين وامتدحوا حتى "النصرة" و"داعش" من دون أي انتقاد إلا بعد فوات الأوان ومن منطلق الخندق الواحد. وطالبوا بتدخّل حلفائهم الخارجيين (أميركا وأوروبا والخليج وتركيا) من دون أيّ تبرير نظري يتعدّى مظالم النظام وخزعبلات شعبوية مفادها أنّهم لا يسمحون لأنفسهم بأن يتعالوا على "الحراك" أو بأن يطالبوا "الشعب" بغير ما يفعله.
يكمن تفسير جزء كبير من الدور الذي لعبه المثقفون السوريون واليسار السوري في تاريخ سوريا الاجتماعي الثقافي وموقعهم فيه على أساس الانشقاق غير الحاد بينهم وبين النظام السياسي لفترة طويلة، وحصوله، حين حصل، على نحو مترع بالأخطاء وأسواء الفهم، وعلى أساس الالتحاق بعد ذلك بمشاريع سياسية مناقضة لمشروعهم الديمقراطي، إسلامية غالبًا، والانخراط في تصوير هذه المشاريع على أنّها مشاريع شعبية بغية تغييب كلّ نقد جدي لها على غرار تغييب كلّ نقد جدي للشعب الثائر.
هذه التبعية لمشاريع أخرى، سلطوية وإسلامية، تفاقمت في العقود الأخيرة بتحوّل عالمي أطاح بدور المثقفين النقدي والأخلاقي لمصلحة فكر ليبرالي ضامر يركّز تركيزًا قاصرًا على حقوق الإنسان، ويفهم العدالة فهمًا ضحلًا وفوضويًّا، ويُحِلُّ الناشطَ محلّ المناضل، والمنظمات غير الحكومية المتمولة والمرتبطة محلّ أحزاب المناضلين ونقاباتهم، ويحتفي بصعود التيارات الهوياتية الطائفية والقوموية الشعبوية ذلك الاحتفاء المجرم.
هذه هي الظروف الكارثية العامة والخاصة التي يتعيّن فيها على يسار سوري أن ينهض إذا ما أراد النهوض واستطاع إلى ذلك سبيلًا، بتصورات جديدة، وآليات عمل جديدة، وربما ببنى جديدة، بل وبأجساد وعقول جديدة بالمعنى الحرفي للكلمة.
[هذه المقالة جزء من طاولة مستديرة خصّصتها جدلية لتناول موضوع اليسار في سوريا، وهي مقالة رأي ولا تعبّر بالضرورة عن آراء جدلية].