'يسارات' متناحرة

"يسارات" متناحرة

"يسارات" متناحرة

By : Gamal Said جمال سعيد

أحداث تاريخ قريب

1

استقرت الدكتاتورية العسكرية كصيغة للحكم في سوريا بعد عام 1970، وتمكنت من مصادرة الحياة السياسية بالتدريج، باعتماد القمع العاري من جهة والاستتباع أو التدجين من جهة ثانية. الأمر الذي جعل سوريا تشهد حركة سياسية ضعيفة ومهلهلة ومعاقة؛ بدءًا من النصف الثاني من الثمانينيات وحتى آذار 2011. شلّ القمع العاري مختلف قوى المعارضة من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وغيّب التدجين ملامح الأحزاب والقوى التي التحقت بالنظام أو بشخص (القائد) مهما كانت متكآتها الأيديولوجية، وصُهرت القوى المدجّنة ضمن إكسسوارات تناسب زي الدكتاتورية، ولم يقتصر الاستتباع على ما عرف باسم أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، بما فيها حزب البعث، الذي بات مجرد أداة بيد الأسد الأب، بل تعداها إلى مؤسسات ومنظمات أخرى مثل مجلس الشعب، والنقابات وبعض الشخصيات الفعالة في المجتمع، كرجال الدين، وشيوخ العشائر، وغيرهم من الشخصيات المؤثرة. وقد ورث الأسد الابن، فيما ورث، تلك التركيبة وألحق بإكسسواراتها منظمات دينية، بعد ازدياد نفوذ الأيديولوجيا الدينية في سوريا والمنطقة.

2

لا تتطابق مصطلحات مثل اليمين واليسار الأيديولوجي مع مصطلحات اليمين واليسار السياسي. بل يبدو الاختلاط والتعقيد كبيرًا. فأطراف اليسار الأيديولوجي يرابطون في جبهتين متحاربتين سياسيًّا، إن لم نقل في أكثر من جبهتين. (وينطبق الأمر على القوى التي تتبنى أيديولوجيات أخرى ).

بكلمات أخرى: لم تكن سوريا منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن ساحة يصطف فيها اليسار الأيديولوجي في جهة واليمين الأيديولوجي في الجهة المقابلة، سواء في مضافات وفضاءات الحوار، أو في ساحات القتال الذي شهدته البلاد في الثمانينيات، وفي العقد الثاني من القرن الواحد العشرين، ولا تزال تشهده حتى اليوم.. بل كانت البلاد ساحة انقسم فيها الشيوعيون إلى معارضين للنظام، ومتحالفين بل موالين له. (ينطبق الأمر على العروبيين الاشتراكيين، والإسلاميين، والرموز القومية والدينية والعشائرية الأخرى التي تزخر بها البلاد). وفي حين توافق اليساريون الماركسيون بمختلف مشاربهم (اللينينيون أو اللينينيون الستالينيون أو التروتسكيون أو الماويون أو أنصار الشيوعية الأوروبية، وغيرهم)، على عموميات مثل أهمية العدالة الاجتماعية، أو التعامل مع الدين بصفته معطى موضوعيًّا، وبصفته جزءًا من الموروث التاريخي والحضاري والثقافي، أو النظر إلى ضرورة تحرر المرأة بما يمكّنها من لعب دورها في تطوير المجتمع، والنظر إلى تاريخ البشرية بصفته صراعًا بين الطبقات.. إلخ. ولكنهم اختلفوا إلى حد التخوين في الموقف من النظام. فقد رأى الموالون للنظام في اليساريين الآخرين خدمًا للمشاريع الإمبريالية على نحو مباشر أو غير مباشر، وبالتالي فهم في المحصلة جزء من اليمين العالمي، في حين رأى المعارضون للنظام أن حلفاءه ليسوا أكثر من انتهازيين ومرتزقة يجترون شعارات ميتة مع الفتات الذي ينالونه من النظام، وهم بهذا يخدمون استمرار القديم ويرفضون التجديد الضروري، وهذا خير دليل على كونهم انتهازيين يمينيين.

3 

في حقل المعارضة، تشرذم اليسار الماركسي أيضًا. وأرى أن السبب الجوهري لتشرذم اليسار المعارض هو التحالفات المحلية والإقليمية. ففي حين اتفق اليسار الماركسي المعارض في الثمانينيات على ضرورة الديمقراطية بتبني شعارات مثل "التغيير الديمقراطي" أو "دحر الدكتاتورية والظفر بالحريات السياسية"، اختلف هؤلاء اليساريون المعارضون للنظام على الموقف من الصراع الدموي الذي شهدته البلاد في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي. رأت بعض القوى وبينها الحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي (ما يعرف باسم جماعة رياض الترك) - أن ذلك الصراع قائم بين النظام من جهة والشعب من جهة أخرى. في حين رأى آخرون، وأكثرهم حضورًا حينذاك رابطة العمل الشيوعي، أن الشعب هو ضحية هذا الصراع، وأن التحالف المباشر أو غير المباشر مع الحركة الدينية من قبل الشيوعيين، يعني تنكّر اليسار لبرنامجه السياسي ولمفاهيمه الاقتصادية والاجتماعية ولمنطلقاته الماركسية. فصراع الثمانينيات كما رآه الرابطيون، ليس إلا اقتتالًا بين الدكتاتورية العسكرية التي اعتبروها تعبيرًا عن البرجوازية البيروقراطية والرجعية الدينية التي رأوا فيها تمثيلًا للبرجوازية التقليدية.

ومن بين الخلافات الأخرى بين أطراف اليسار السوري المعارض الموقف من بعض القوى الإقليمية، ففي حين مد البعض أيديهم لدكتاتور مثل صدام حسين، استنكر آخرون ذلك ورأوا فيه ارتهانًا أو خدمة لنظام دكتاتوري لا يقل بشاعة عن الدكتاتورية في سوريا.

أعتقد أن ما أشرت إليه أعلاه يمثل بعضًا من أهم ملامح اليسار السوري الماركسي، بل والعروبي الاشتراكي، ويظهر أهم الخلافات التي ظهرت بلبوس جديد في صفوف اليسار، بعد عام 2011.

اليسارات والانتفاضة

4

شحذت انتفاضة الشعب السوري همم القوى السياسية في المجتمع بما في ذلك اليسار المعارض الذي أنهكه القمع. وترافقت تلك الانتفاضة مع وصول التيار الإسلامي إلى ذروة قوته في المنطقة، وهو الأمر الذي أتاح للإسلاميين أن يكونوا أكثر القوى تنظيمًا وتمويلًا، في سوريا وغيرها من البلدان التي حرم الناس فيها من حقهم في التعبير أو تشكيل الأحزاب.

فشل اليمين، وعلى نحو خاص، أطراف الحركة الدينية، يمنح اليسار فرصة أفضل لزيادة نفوذه، وأظن أن الحوار الجاد، والاتفاق البرنامجي، إن حصل، سيساعدان اليسار على تجاوز حال الضعف الذي يكابده حاليًّا.

لم توحد انتفاضة الشعب السوري القوى السياسية ومنها قوى اليسار في سوريا، بقدر ما كرست الأحداث ما المفاهيم والاصطفافات القائمة في الأصل، وأضافت تلاوين وأسماء جديدة.

بقي اليسار الملحق بالنظام في مواقعه، فالحزب الشيوعي السوري - جناح بكداش (لا يزال يحمل اسم بكداش فمنصب الأمين العام بقي محصورًا بأفراد عائلة خالد بكداش بعد موته) - حليف للنظام، وكذا الأمر بالنسبة لجناح يوسف فيصل (مات يوسف فيصل ولا يزال الحزب ينسب إليه)، وحاول تيار قاسيون (عرف باسم جماعة قدري جميل) الذي تحول لاحقًا إلى حزب الإرادة الشعبية، أن يكسب ميزات المتحالف مع النظام والمعارض له، وانقسم المكتب السياسي أو جناح رياض الترك إلى جناح حمل اسم حزب الشعب الديمقراطي، الذي غادر الماركسية نحو موقع شعبوي ليبرالي، وجناح حافظ على التسمية القديمة للحزب وانتقد سياسة الحزب السابقة وتحالفاته وانتقد أيضًا هيمنة رياض الترك حتى بعد مغادرته لموقع الأمين العام. وحاول حزب العمل الشيوعي أن يلعب دورًا في إسقاط الدكتاتورية العسكرية وفي الحد من سطوة الحركة الدينية، وعوامل تفتت المجتمع السوري. وظهرت بعد آذار 2011 منظمات اصطفت في خانة اليسار أو تحدرت منه، وكانت أقرب إلى تيار العقلانية والحداثة والديمقراطية، وحملت تسميات جديدة مثل تجمع نبض للشباب المدني السوري، وحركة شمس (شباب من سوريا) وحركة (معًا من أجل سوريا)، و(أحفاد الكواكبي) وغيرها. وتعرضت تلك القوى إلى قمع مزدوج من قبل السلطة والمعارضة الأمر الذي أدى إلى شل فعاليتها وغيابها عن ساحة الفعل لا سيما بعد أن اشتدت حدة العنف والقمع العاري.

5

في أتون الانتفاضة السورية التي شملت البلاد، اختلف يساريو المعارضة وعلمانيوها على مسائل عديدة أهمها: الموقف من الحركة الإسلامية المسلحة في البلاد، ومسألة التسلح، والاعتماد على التدخل الخارجي.

في السنوات الأولى التي تلت حالة التظاهر ضد النظام، تشكّل تياران يساريان أساسيان هما:

تيار متحالف مع الحركة الإسلامية، انضم إلى جسد تنظيمي هو: "المجلس الوطني السوري" وهو ما تم تطويره إلى"الائتلاف الوطني لقوى المعارضة والثورة السورية". أوضحت مجريات الصراع هيمنة القوى الإسلامية على ذلك المجلس/الائتلاف. ناصرَ اليساريون في الائتلاف التسلّح، سواء كأفراد أو كقوى انتقلت من الموقع الماركسي إلى موقع ليبرالي، تحت عنوان مشروعية الدفاع عن المتظاهرين، حين بدأ شبيحة النظام ومناصروه المسلحون بإطلاق الرصاص الحي وقتل المتظاهرين. وتطور الأمر، بعد توفر المال والسلاح لأنصار فكرة التسلح إلى الانتقال من الدفاع عن المتظاهرين إلى بسط النفوذ على بعض المناطق تحت مسمى "تحرير" تلك المناطق. خضعت المناطق المحررة إلى سلطة فصائل مسلحة إسلامية الطابع بوجه عام، لا سيما غوطة دمشق الشرقية وإدلب وحلب والرقة ودير الزور. أرست القوى الإسلامية أسسًا لسلطات دينية فاشية في شكلها ومحتواها، وارتهن العديد من الفصائل إلى المساعدات الخارجية التي قدمتها بعض الدول الإقليمية مثل السعودية، وقطر وتركيا. من بين المفارقات أن التيار اليساري الملحق بالحركة الدينية، فقد حساسيته الديمقراطية تجاه السلوك الفاشي لحلفائه من القوى الدينية، ولا يقف الأمر عند سن قرارات تحدد الزي المسموح للنساء في مناطق سيطرتهم، وترغم تلاميذ المدارس على ترديد شعارات البعث بلبوس إسلامي، بل تعدى الأمر ذلك إلى ارتكاب مجازر جماعية وجرائم قتل فردية بحق مدنيين عزل. ورأى هذا التيار أن التدخل الخارجي هو الذي سيخلص سوريا من الدكتاتورية، وغُضّ البصر، بل تزكية روح الصراع بصفته صراعًا بين طوائف، لا بصفته صراعًا بين علمانيين مدنيين ديمقراطيين ينشدون دولة المواطنة من جهة وقوى دكتاتورية مستبدة أو قوى تريد إعادة إنتاج الاستبداد من جهة أخرى. وفي أتون الحماس اندفع مفكرو اليسار إلى اجتراح مصطلحات مثل (العلوية السياسية)، وقد غض هؤلاء اليساريون والعلمانيون النظر عن جرائم الفصائل الإسلامية، في حق الشعب السوري وفي حق الديمقراطية لزمن طويل تحت عناوين مختلفة، مثل الثورة لا ترسم على مسطرة، بل وصفت جرائم تلك الفصائل بأنها مجرد رد فعل مشروع على جرائم النظام. وفي مقامات ومقالات عديدة تم تجميل صورة جبهة النصرة، التي أعلن قائدها بيعته للقاعدة، ثم طلاقه معها بالتراضي! وكانت واحدة من المفارقات أن دعاة الديمقراطية أولئك واجهوا إعلانات صريحة وواضحة من حلفائهم يكفرون فيها الديمقراطيين بصراحة مطلقة، على قارعة الطريق وفي وضح النهار إذ نشروا يافطات لا لبس في الجمل التي كتبت عليها. فقدت القبلة التي تحدث عنها الراحل ميشيل كيلو من عناصر النصرة قيمتها أمام الإعلانات الواضحة المعادية بشدة للديمقراطية من قبل العديد من قادة الفصائل الاسلامية أبرزهم زهران علوش والجولاني (لنترك داعش جانبًا). واعتبر آخرون أن أي انتقاد لجرائم مسلحي المعارضة بما في ذلك المجازر بحق المدنيين العزل لا يعني إلا دكتاتورية اليسار الذي يريد إقصاء القوى الفاعلة بينما يجلس عاجزًا عن الفعل) ولم يقل هؤلاء كلمة واحدة حول الإقصاء الذي مارسته الحركة الدينية إلا بعد أن وصل البلل إلى ذقونهم. سلك المتحالفون مع الحركة الدينية سلوك المتحالفين مع النظام، فقد أدانوا انتقادات هيئة التنسيق الوطنية في سورية لجرائم الفصائل المعارضة ولاستقدام الجهاديين من شتى أصقاع الأرض، معتبرين أن هذه الانتقادات تقدم خدمة مجانية للنظام. وهذا هو الوجه الآخر لرؤية البكداشيين، الذين اعتبروا الإشارة إلى الجرائم الشنيعة التي ارتكبها النظام خدمة لمصالح الإمبريالية.

6

تكون تيار آخر، من يساريين سوريين، أبرزهم حزب العمل الشيوعي في سورية، الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي، تجمع اليسار الماركسي، حركة معًا من أجل سوريا، الحزب اليساري الكردي في سوريا، إضافة إلى يسار الأحزاب القومية في تكوين جبهة مختلفة، أطلق عليها اسم "هيئة التنسيق الوطنية في سورية". واختلفت هذه الهيئة مع يساريي المجلس الوطني ومن ثم الائتلاف وذلك في رفضها الشديد للتدخل الأجنبي، وإصرارها على سلمية الانتفاضة في وجه النظام ورفضها للتحريض الطائفي وأعلنت بوضوح: تدعو هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي بشكل أساسي إلى إسقاط النظام بكل رموزه وبناء نظام ديمقراطي وتعزيز الوحدة الوطنية.

وقد حوربت من قبل مخابرات النظام التي اعتقلت شخصيات فاعلة في الجبهة لا يزال بعضهم يرزح في سجون النظام (عبد العزيز الخير ورجاء الناصر) وسعى إعلام المعارضة، بما في ذلك إعلام اليسار الملتحق بالحركة الدينية، إلى تشويه صورة هيئة التنسيق والافتراء والاعتداء على أعضائها البارزين. وكان من شأن القمع العاري المباشر أن يحد من نشاط الهيئة، التي لم تتصالح مع فكرة غض النظر عن القوى الجهادية. بل طالبت برحيلهم سواء كانوا يدعمون النظام أو يحاربونه. ولكن الحرب الجهنمية جعلت للقوة العسكرية القول الفصل. وأضعفت، إذا لم نقل ألغت، الدور الذي يمكن أن يلعبه المناضلون السلميون، بل حتى دور المنظمات الإنسانية المدنية التي تعمل في ميادين الإغاثة.

7

بقيت ساحة الصراع السياسي في سورية تفتقر إلى الحوار لوضع أسس برنامجية يتفق عليها دعاة الدولة المدنية الديمقراطية من ليبراليين ويساريين معارضين لدكتاتورية النظام وطغيانه، ولا يدعون فيها إلى تشكيل دولة ثيوقراطية، ولعل أهم الأسباب هو أن اليسار لم يشكل قطبًا أساسيًّا في الصراع بعد أن ارتفعت أسهم الحركات الدينية في منطقتنا، كنتيجة لعوامل مثل انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وانتصار حركة طالبان في أفغانستان، وسقوط المنظومة الاشتراكية، واستثمار فائض أموال النفط في إيران ودول الخليج لدعم تلك الحركات والاستفادة من النقمة التي خلقها استبداد الدكتاتوريات العسكرية، وفشل الحركات القومية واليسارية في تجاوز العقبات، من أجل سيادة العقلانية والديمقراطية والحداثة.

رجحت كفة النظام وحلفائه في المعارك العسكرية، وذاق السوريون الأمرين في مرحلتي "التحرير" أي سيطرة المعارضة المسلحة أو "التطهير" أي سيطرة النظام من جديد. أصبحت بعض صور اليساريين، التي روجت لتكون للدلالة على التلاحم مع الشعب موضع تندر، من بينها صورة برهان غليون يرتدي جلابية بيضاء ويعتمر كوفية ويدخل البلاد متنكرًا، ومع أن غليون قدم لاحقًا رؤية نقدية للتحالف مع الحركة الدينية (وهذا ما فعله رياض الترك أيضًا) إلا أن ذلك كله لم يتح تحول التناحر بين أطراف اليسار إلى حوار يضع أسسًا برنامجية يتحالف فيها دعاة الديمقراطية ودعاة العدالة أو من يرون أن الحفاظ على سوريا يتم إلا بإقامة دولة مواطنة مدنية ديمقراطية. 

لم يتقدم يسار الائتلاف الخطوة الضرورية أخلاقيًّا، وهي الاعتذار من الشعب السوري الذي كابد أهوال الحرب. الاعتذار والمكاشفة بالأخطاء في الالتحاق بالقوى الدينية المسلحة والذي يمكن أن يجسر المسافة بين أطراف اليسار كانت بعض البرامج اليسارية، ولا تزال، هي الأصلح للحفاظ على وحدة البلاد وتجنب سفك الدماء وعدم التبعية لأي أجنبي، والانتقال إلى دولة مدنية ديمقراطية حيث يتم تداول السلطة. ولا أعتقد أن اليسار المتكلس، الذي التحق بالنظام منذ سبعينيات القرن الماضي، والذي بات حضوره في الحياة السياسية يشبه حضور المستحاثات في متاحف العلوم الطبيعية، يطرح على نفسه أي دور يتجاوز تكرار معزوفاته.

8

ثمة محاولات قد لا تجدي ولكنها تمثل بعض ما يمكن فعله سواء داخل سوريا وأقصد بذلك ما يحاول اليسار فعله من داخل تحالف جود، أو من خارج سورية كما يحاول العديد من المفكرين والمثقفين فعله بالسبل المتاحة لهم، سواء في سياق البحث لمعرفة كيفية تجاوز الحال المزري الذي وصل إليه المجتمع، أو لفعل ما يمكن فعله على صعيد تجاوز الاستبداد. ورغم إخفاق القوى الدينية أخلاقيًّا وإنسانيًّا، بل حتى بالمعنى السياسي، لن يتمكن أي يسار تابع من لعب دور، ومع أن اليسار، الذي أنهكه طرفا الصراع، لن يتمكن من لعب دور محوري في المدى القريب، لكنه قادر على أن يستمر. أعتقد أن فشل اليمين، وعلى نحو خاص، أطراف الحركة الدينية، يمنح اليسار فرصة أفضل لزيادة نفوذه، وأظن أن الحوار الجاد، والاتفاق البرنامجي، إن حصل، سيساعدان اليسار على تجاوز حال الضعف الذي يكابده حاليًّا.

[هذه المقالة جزء من طاولة مستديرة خصّصتها جدلية لتناول موضوع اليسار في سوريا].

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬