يثير إعلان الولايات المتحدة الانسحاب من أفغانستان وما تلاه من الانحدار السريع للبلاد باتجاه قبضة حركة طالبان الكثير من السجال حول الإنجازات الأميركية الفعلية في أفغانستان خلال العقدين الأخيرين. ولإن غدت معظم تلك السجالات التي تملأ الصحافة الغربية كليشيهات تذكّر أو تحذّر من المصير المشؤوم لمشاريع "إحلال الديمقراطية" التي تقوم بها الولايات المتحدة في الخارج. إلا أن الأمر الأهم والمثير الذي كشفه هذا الانسحاب، وبهذا الشكل، هو اعتراف المسؤولين الأميركيين الذين يصرحّون لأول مرة، وبشكل لا مواربة فيه، أنهم غير ملزمين ببناء دولة للأفغان، وأن البيئة والمجتمع الأفغانيين غير مؤهلين لعملية مثل تلك، وإن أرادوا فعليهم أن يفعلوا ذلك بأنفسهم.
وجه أهمية هذه التصريحات، على خفتها ورعونتها، هي أنها تنقض سجلًّا كاملًا من المرتكزات الأميركية في تدخلاتها الممتدة منذ الحرب الإسبانية-الأميركية، والحرب الفليبينية-الأمريكية في نهايات القرن التاسع عشر، مرورًا بحروب الولايات المتحدة في حقبة الحرب الباردة في فيتنام إلى جانب تدخلاتها ودعمها الانقلابات العسكرية في أميركا اللاتينية في النصف الثاني من القرن العشرين، ومن ثم حربها العالمية على الإرهاب، والتي انطلقت كلها من فرضية الالتزام الأميركي في بناء "الدّول الفاشلة" وإحلال الديمقراطية في العالم، وهو خطاب استمر حتى مع انتهاء حقبة الحرب الباردة من خلال تدخلات أميركا العسكرية في الصومال عام 1992-1993، في أعقاب نجاح التحالف الذي قادته بطرد صدام حسين من احتلال الكويت. وكذا من خلال تدخلها العسكري في هايتي عام 1994.
وفي بداية الألفية الجديدة أصبحت مزاعم "بناء الدّول" سمة أساسية من سمات حرب واشنطن الكونية على الإرهاب؛ فبعد هجمات 11/9، دافعت تيارات متنوعة من خبراء السياسة الخارجية على ضرورة قيام الولايات المتحدة بتوليف مسألة بناء الدّول الفاشلة في استراتيجيتها القومية لتحقيق الأمن الوطني الأميركي ومكافحة الإرهاب. وتمظهر هذا بالتحديد في غزو أفغانستان بعد 11 سبتمبر، حيث قدمت الولايات المتحدة أشكالًا خطابية إمبريالية متمازجة مع الخطابات الحقوقية لبناء أفغانستان جديدة؛ من خلال انتشالها من يد الإرهاب وإنقاذ المرأة الأفغانية وتعليمها، وما إلى ذلك من تلك الكليشيهات التي احترف المحافظون الجدد لوكها.
واتخذت المسألة في دوائر التفكير الاستراتيجي الأميركي منطقًا ضمنيًّا يفيد بأن أي دولة فاشلة في العالم تشكل مصدر تهديد على أمن أميركا؛ ففي عام 2001 أوصى الباحثان إيفو دالدر وجيمس ليندسي، من معهد بروكينغز بـ"تكثيف دعم الديمقراطية وتعزيز التنمية الاقتصادية خصوصًا في مناطق مثل الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا لحماية أمن أميركا". واعتمد جو بايدن الذي كان يشغل في ذلك الوقت رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ تلك التوصيات. وقال إن إحدى أولويات الولايات المتحدة القصوى هي مجابهة الإرهاب، وأن الجهود ينبغي أن تتركز على تغيير المناخ الاقتصادي والاجتماعي في أفغانستان والدول المجاورة لها. وتكررت نفس المزاعم إبان احتلال العراق؛ ففي أوائل عام 2005 حاجح باحثان في مركز التقدم الأميركي، هما لورانس كورب وروبرت بورستين بأن "الدول الضعيفة والفاشلة تشكل خطرًا كبيرًا على الشعب الأميركي وتقوّض الاستقرار والأمن الدولي".
إلى ماذا أفضت كل تلك الرؤى؟ استمرت أفغانستان كدولة فاشلة وفقيرة وغير مستقرة حتى بعد عقدين من الاحتلال الأميركي. العراق هو الآخر مثال للدول الفاشلة والعاجزة عن حماية مواطنيها من عنف الميليشيات الطائفية، وأصبح كذلك ساحة جذب للجهاديين الراديكاليين ومنشأ الدولة الإسلامية بصيغتها الداعشية، وكل ذلك يعود جزئيًّا إلى تخلّي الإدارات الأميركية المتعاقبة عن التزاماتها بعد إسقاط النظام السابق في 2003. الصومال كذلك، بعد التدخل الذي قادته الولايات المتحدة في التسعينات، والتدخل الإثيوبي-الأميركي في عام 2006، للقضاء على الإسلاميين، لم يحصد إلا مزيدًا من الفشل، وانتهى إلى نموذج للدولة الكسيحة، التي تعتمد في بقائها على القوات الأجنبية.
ما تشترك به هذه النماذج الثلاثة غير كونها ضحايا فعلية للإرهاب ولحروب الولايات المتحدة على الإرهاب في آن معًا، هي أنها انتهت إلى نتيجة واحدة: وهو الفشل الصارخ في بناء دولة حقيقية، وهذا ما يتضح من مشهد أفغانستان هذه الأيام والأحداث الجارية فيها؛ دولة ينخرها الفساد ولا تتمتع بأي ثقة من شعبها ولا من جيشها، بل إن جنودها الذين استثمرت فيهم الولايات المتحدة قرابة عقدين لا يملكون عقيدة قتالية وطنية، ولا يجدون مبررًا للدفاع عن حكومتهم، وبالتالي يستسلمون بكل سهولة أمام مقاتلي حركة طالبان.
ما يتأكد هنا، هو حجم الغطرسة المركبة التي اتبعتها الولايات المتحدة ودوائر تفكيرها، عندما ألصقت هشاشة أو فشل أو استبدادية الدولة بمشاريع محاربة الإرهاب وغزوها تحت يافطة حماية الأمن الأميركي، ومن ثم تركها تواجه مصيرها دون أي اعتبارات أو التزامات أخلاقية، إذ إن بايدن يقول للأفغانيين الآن: عليكم أن تدافعوا عن أنفسكم. في الوقت ذاته الذي وصلت فيه قوات طالبان إلى العاصمة كابول خلال هذه الأيام. وللمفارقة، تطلب واشنطن من الرئيس الأفغاني أشرف غني التنحي وبناء حكومة انتقالية تشارك فيها طالبان، إلا أنه غادر البلاد دون الإعلان عن وجهته.
بالعودة إلى مقولة بناء الدولة، هنالك اليوم ما لا يقل عن عشرين دولة فاشلة في النظام الدولي. وهو ما يتطلب بحسب التفكير الذي قدمته السياسة الخارجية الأميركية ودوائر التفكير المرتبطة بها إنفاق مئات المليارات من الدولارات سنويًّا، وإٍرسال المزيد من قواتها إلى ساحات حروب جديدة، وهو ما لن تفكر به أميركا. وبالطبع، لا يعني هذا استفاقة أميركية متأخرة على استحالة بناء الدول بالاحتلال والقصف، بقدر ما هو مرتبط بتغير الأولويات الأميركية ومصالحها الاستراتيجية، والتي كانت مرتبطة بمواجهاتها للاتحاد السوفييتي في نهاية الثمانينيات، ومن ثم وجدت الحرب على الإرهاب فرصة لتأكيد مكانتها في النظام الدولي ما بعد السوفييتي، وتتجه الآن صوب مواجهتها الجيوسياسية مع الصين في جنوب شرق آسيا. فتؤكد التوجيهات الاستراتيجية للأمن القومي لإدارة بايدن، والتي صدرت في مارس/آذار الماضي، أن الصين هي المنافس الوحيد الذي يجمع بين الاقتصاد والدبلوماسية والقوة العسكرية والتكنولوجية "لتحدي النظام الدولي الحر والمستقر".
لم تكن، إذن، مقولة "بناء الدولة" إلا استخدامًا تبريريًّا لاحتلال تلك الدول، وبالتالي فعندما نتساءل عن إنجازات أميركا في "بناء الدولة"، و"إحلال الديمقراطية" في أفغانستان، فإننا نضل الطريق، إذ لم يكن في التفكير الأمريكي شيء من هذا القبيل، ولا تفصح واشنطن اليوم عن جديد حين تؤكد أن بناء الدولة الأفغانية لن يتم إلا من قبل الأفغان أنفسهم.. وتلك مسألة أخرى. ولكن إن حقّقت أميركا إنجازًا بهذا الخصوص، فهي مساهمتها في إبعاد الأفغانيين عن بناء دولة حقيقية لسنوات وعقود قادمة، بإنتاجها المزيد من الراديكالية في بلادهم، وتقديمها نماذج ضحلة وفاسدة عن مؤسسات الدولة، عدا عن الضحايا والخسائر البشرية والاقتصادية الهائلة التي سببتها طيلة العقدين الماضيين في حاضر ومستقبل الأفغانيين.