إن الحديث عن اليسار عمومًا، يمنحني شخصيًّا بعض العزاء، وشيئًا من الحنين إلى زمن مضى، أعتقد أنه لن يعود، فهل اليسار لا يزال موجودًا بعد أن سلمنا بمقولة: "عصر ما بعد اليسار واليمين"؟ من جهتي أتمنى أن يكون اليسار حاضرًا على الأقل ثقافيًّا، من أجل كسر الخط البياني لانتصار الفكر اليميني الصلف والمتمادي، واستعادة نكهة النقد والجدل والأمل بالتغيير وروح العدالة الاجتماعية، وأعتقد أيضًا أن اليسار ضرورة وجودية من أجل الإنسان وثقافة الإنسان ومن أجل الطبيعة والتوازن على كافة المستويات.
مصير اليسار السوري، جزء من المصير المأساوي لليسار العربي والعالمي. مرَّ اليسار السوري تكوينيًّا في مراحل؛ البدايات كانت في مطلع العشرينيات من القرن الماضي، ثم مرحلة ازدهار نسبي، ثم انشقاقات عمودية وأفقية، ثمَّ أفول، وهذا المسار يشبه مسارات معظم الأحزاب الماركسية العربية.
تأسس الحزب الشيوعي السوري واللبناني تاريخيًّا، كحزب واحد، عام 1924 تأسيسًا علنيًّا، من صحفيين ومثقفين وعمال، ومن المؤسسين: النقابي اللبناني فؤاد الشمالي، والصحفي يوسف إبراهيم يزبك صاحب جريدة "الإنسانية" والشاعر الشهير إلياس أبو شبكة، وأرتين مادويان، وسليم خياطة. وكان مانشيت التأسيس يقول: "يا صعاليك العالم اتحدوا" يقول يوسف إبراهيم يزبك في كتاب "حكاية أول نوار" أي أول أيار، يوم إعلان التأسيس: "أسسنا حزبًا شيوعيًّا ولم نكن نعرف من الماركسية اللينينية سوى الاسم، وبعض الشعارات". أي كان نوعًا من النزوع الاشتراكي وتفاعلًا مع الثورات المعاصرة، لا سيما الثورة البلشفية، وبعض أدبيات الثورة الفرنسية. ثم ازدهر اليسار الماركسي تنظيميًّا بعد الحرب العالمية الثانية والانتصار على الفاشية والنازية. تاريخ اليسار الشيوعي حافل بالملاحقة والاضطهاد والتشويه، ولكن بنسب متفاوتة، حسب شدة الدكتاتوريات ورخاوتها! و على الرغم من ذلك استطاع الشيوعيون السوريون أن ينتشروا في صفوف الفقراء والمثقفين في القرى والمدن، وكان لهم دور نهضوي تنويري تحديثي، ربط مجتمعهم المعزول بالحالة الدولية وبالحراك الثوري العالمي.
كان أول صدع تعرض له الشيوعيون في زمن الوحدة حيث فرضت الوحدة حل الأحزاب، وقاوم الشيوعيون حل حزبهم، وتلقوا المطاردة والاعتقال، وخسروا أحد أبرز قادتهم فرج الله الحلو تحت التعذيب، في أول رضوخ للواقع الذي فرضته الوحدة، انقسم الحزب الشيوعي إلى حزبين في سورية ولبنان.. ثم في مطلع السبعينيات من القرن الماضي انشق الحزب الشيوعي السوري انشقاقاً دراماتيكيًّا، وصار حزبين متباغضين، ينفي أحدهما الآخر، وسبق ذلك انشقاقات صغيرة وفصل قيادات وأفراد بارزين بتهمة الماوية والتيتوية والتحريفية وغير ذلك، ثم تتالت الانشقاقات إلى أن انطوت صفحة الشيوعية عالمياً في مطلع التسعينات..
في اعتقادي لم يبق من اليسار السوري تنظيمياً سوى بقايا متناثرة خالية من أي فاعلية. ومع ذلك يمكن الرهان على وجود نزعة يسارية عند المثقفين العلمانيين السوريين، فأغلبهم ينحازون إلى الفقراء ويعارضون الفساد والاستبداد، واليمين الرجعي المحلي والإقليمي والدولي، وبعضهم يتمتع بنزعة نقدية تحليلية، تجعل منه بمنزلة بقع ضوء مهددة بالانطفاء. ولكن الميزة التي يجب أن تؤخذ بالحسبان أن اليسار السوري بشكل خاص هو يسار أدبي، ثقافته أدبية، تتمحور حول الأدب من شعر وقصة ومسرح، ويوجد فراغ كبير في التحليل الاجتماعي والسياسي والاستراتيجي، وتغلب عليه الإنشائية والانفعال العاطفي، وهذه من سلبيات اليسار ومن أمراضه، أعتقد لينين انتقد هذا النوع من اليسار الطفولي الذي يكثر فيه التناحر والتاقض والتذبذب، ويكون مؤهلاً للانشقاقات الدائمة.
واقع الحال أن أمراض اليسار الرسمي والراديكالي كلها أصابت اليسار السوري، وعبر عقود من زمن اليسار، كانت عبادة الفرد، و الجمود العقائدي وشبح الشيخوخة يسود تياراً كبيراً من الشيوعيين السوريين، ومن جهة أخرى ساد النزوع القومي والراديكالي والشعبوي (ذيلية الشارع) على التيار الآخر.
لم يبق من اليساريين إلا أفراد وبقايا من شيوخ طاعنين في السن، وبعض التشكيلات الصغيرة قليلة التأثير.
ضعف اليسار السوري له مقدمات ذاتية وموضوعية، الذاتية تتعلق بالبنية التنظيمية لهذا اليسار، الذي تشكل من مثقفين ومتعلمين من أبناء العائلات الإقطاعية والبرجوازية التجارية، وبعض النقابيين والأدباء، ومن بعض أبناء الأقليات، وهي تشكيلة متنوعة وانشقاقية، يضاف إليها الظروف الصعبة التي نشأ ونما فيها هذا اليسار، والتنكيل الذي لحق بعناصره وكوادره عبر تاريخه. أما المقدمات الموضوعية فهي مرتبطة بحالة المد والجزر الذي أصابت اليسار العربي والدولي، واليسار حالة عالمية، يصعب أن تكون منعزلة أو محلية، أو مجرد حالة وطنية منفصلة.. وهو في هذه الظروف حالة ثقافية فردية أكثر مما هو حالة عقائدية. والعالم اليوم، أكثر من أي وقت مضى، يعاني من انشقاقات أشبه بالتفكك على المستوى الفكري والثقافي، فنحن اليوم أمام تيارات وانزياحات كبرى في في النظريات، وتبدلات وارتدادات في التفكير، يصح فيه قول الشاعر الإيرلندي بتلر ييتس: "المركز يتفتت، والخيرون يفتقرون إلى أي يقين" فهل من "مجيء ثان لليسار"؟ نحن نحتاج إلى شحنة من الأمل لكي نتوقع ذلك، والأمل كما التشاؤم من طبيعة اليساريين التقليديين. وإذا كان لابد من استنهاض الحالات المتناثرة من اليسار لتكون حاضرة من أجل خلق توازن ما وكسر المنحى التصاعدي لليمين المنتصر، علينا أن نعترف أن اليسار موجود ويمكن أن يُحسّن أداءه ويُنشط فاعليته، ويطلق أنصاره خيالهم وعقلهم نحو اجتراح حلول عميقة ومؤثرة، ليس كتنظيم يقود التغيير من حال إلى حال أفضل، بل كفكر نقدي تنويري يقوم على استعادة الزمن التقدمي، زمن هيرقليطس الدائم الجريان والتجدد، وإعلاء المنطق الجدلي الذي ينتقد = الدين أولاً كقوة رجعية، و ذروة من ذرى الفكر اليميني التصادمي، وعدم المهادنة أو التحالف مع الدين، فالمفكرون، كأفراد، ينتقدون وينقضون ولا يتحالفون، كما اعتادت الأحزاب، وغير ذلك هي انتهازية وذيلية للشارع أو انسياق ورضوخ للواقع دون تحليل محتوى هذا الواقع، فعلى اليساري أن يعرف أين يقف، ومتى يفك ارتباطه مع قوى الهيمنة والاستغلال، ويبتعد عن التبرير والتسويغ والاكتفاء بالوصف والتفسير الحيادي. فاليساري منحاز لصوت العدالة الخافت اليوم وللفقراء والمضطهدين والمعذبين في الأرض، وعلى اليساري أن يتذكر أنه صاحب إرث كبير من النضال والمواقف الصلبة، وألا يخشى من الاتهامات التي يطلقها المرتدون أصحاب الألفاظ المبتذلة أو المنمقة، ومن المفارقات أن يساري اليوم يتحاشى كلمة يمين أو رجعية أو إمبريالية، أو أي شيء يمت إلى الصراع الاجتماعي أوالفساد المالي والإداري والسياسي، خشية أن يتهم بأنه ذو خطاب خشبي أو يوصف بالشمولية. إن اليمين أكثر شمولية من اليسار وأكثر خشبية وانحطاطاً وتزييفاً للحقائق، وانتصارته زائفة، مهما بدت قوية ظاهرياً، و ما كانت لتكون لولا هذه الروافد الكبرى من اليسار المرتد والمتحول.. إن الإرث اليساري يذكرنا بالحيطة والحذر من الاغتراب والتشيؤ ومن تقديس الملكية بكل أنواعها وتوجيه النقد لهذه الأقانيم التي تفرزها الرأسمالية تحت اسم ثقافة الاستهلاك.
إن الواقع يفرز لنا كثيراً من المستجدات التي تتطلب فهماً جديداً وتحليلاً ونقداً عميقاً، وتستوجب خطاباً جديداً بمصطلحات ومفاهيم جديدة مستوحاة من التراث الكلاسيكي لليسار، أي استنباط يسار جديد ينطلق من ثوابت اليسار التاريخية ويرفض تزييفها وتشويهها. إن الثورة التقنية الجديدة فرضت إيقاعها على العالم، ويقوم اليمين بدهاء شديد في توظيفها ضمن علاقات القوة والهيمنة، وهذه الحالة تستدعي خطاباً يسارياً مضاداً أشد حنكة وضد البلادة على كافة المستويات والإنتاج الثقافي والفني والأدبي، وبالتالي إن ديناميكية اليسار تستدعي الإعلاء من حالة التهكم ومن تأكيد ثقافة الحياة والمرح ضد الكآبة والعدمية التي يبثها الفكر اليميني المتعصب وطنياً وقومياً ودينياً وعقائدياً. إن اليمين لم يكتف بانتصاراته ولا يزال يمعن في خلق الأزمات والحروب ويتصرف بروح انتقامية شامتة.
كان اليساري التقليدي سابقاً يرى أن التقدم هو روح العصر وقانون الطبيعة! ونحن اليوم في ظل تبدل في المفاهيم وخروج عن أي إحساس بالعدالة الاجتماعية، وغياب الوعي الاشتراكي، نجد أنفسنا وسط متاهة فرضتها هزيمة أيديولوجيا العدالة الإنسانية، وانتصار عقيدة الملكية والربح وهيمنة القوة الإمبريالية (المظفرة).. و لم يعد العالم منقسماً بين يمين ويسار، بل يكاد يكون، رغم تفككه الظاهر، متناغماً تناغماً كاذباً على التصالح مع علاقات القوة والهيمنة!
وبما أننا نتحدث عن يسار ثقافي، لابد من عودة إلى معنى كلمة يسار تاريخياً، وماذا تعني اليوم، ومن هو اليساري، وما الحاجة إلى اليسار؟
إن الفكر اليساري تاريخياً، هو ميراث إنساني لا يمكن طيَّه في النسيان.. والإنسان اليساري هو الذي يناضل من أجل تغيير العالم وتغيير الواقع، ويسعى إلى مجتمع جديد يسود فيه العقل والحرية والعدالة الشاملة. . هذا تعريف تقليدي لليساري فيه سمات وملامح ثابتة يمكن أن تحتوي مستجدات الواقع الجديدة. وفي وعي اليساري دائماً ثمة وحدة في صيرورة العالم، وهو في ذلك يتعارض مع اليمين الذي لا يؤمن بالصيرورة ولا بالصراع الذي يفضي إلى صيرورة، إن فكر اليمين خال من الديناميكية، هو فكر هزيمة، وعدمية، وقدرية، وخداع، وخرافات.. والإنسان ليس فاعلاً بل هو موضع شفقة وتلقي صدقات من الأثرياء والأقوياء دينياً ودنيوياً! إن اليمين يريد أن يُسوّق مقولة إن الواقع كله لي، ولي أيضاً الأرض والسماء! وهذا لا يقبله اليساري الحقيقي حتى وهو في الرمق الأخير.
يوجد تعريف لليسار وضعه اليساري السوري إحسان مراش يعود إلى عام 1963 يقول: " اليسار حركة عبر الزمن يترافق فيها النظر مع العمل، يكفي أن تتوقف هذه الحركة، كي يتحول الشيء اليساري (فكراً وعملاً) إلى شيء يميني.."
إننا في سورية وفي العالم بحاجة للخروج من حالة الذعر الثقافي ومن البيروقراطية أو التكنوقراط الثقافي الموظف بقوة ضد اليسار الحقيقي.. وأن تنبعث تلك الروح النقدية الجديدة التي تتناغم مع روح العدالة والحرية للخروج من الظلام.
[هذه المقالة جزء من طاولة مستديرة خصّصتها جدلية لتناول موضوع اليسار في سوريا].