اثنتا عشرة قصة يدرج فيها القاصّ عدي الزعبي رؤيته عن الحرب السوريّة الراهنة، في "كتاب الحكمة والسذاجة"، الصادر عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع بدمشق، 2019.
قصص مختلفة يعود زمن أحداث بعضها لما قبل الحرب. الزعبي المهجّر بسبب الحرب يشرّح بمبضع حادّ الواقع السوري؛ ما كان وما هو كائن، ينبّه إلى ما لا تجب ديمومته. وكأنّما يريد أن يقول بأنّ كلّ هذا الموت والموات الرهيبين، يحتّم علينا، نحن السوريّين، أن ننتبه!
الحرب/الموت والموات، نبّهت عدي الزعبي، هو الآخر، وقد جعل من نفسه ساردًا لبعض القصص، فيذكر اسمه الصريح غير مرّة. في حين أوكل للسارد الحاضر التحدّث بضمير المتكلّم المفرد الـ"أنا"، لسرد قصص أخرى، إمعانًا منه في المصداقيّة والإقناع، فهو يصوّر الحياة الواقعيّة. وكالفنان الخارج من معطف غوغول الروسيّ، يسلّط الضوء على الناس العاديّين عامّة، وعلى "الجماعات المغمورة" بحسب تعبير القاص والناقد "فرانك أوكونور"، فجماعات الزعبي المغمورة هم السذّج، المعذّبون على أرض البلاد، الأفراد المسحوقون من قبل السلطات البطريركيّة المجتمعيّة والدينيّة والسياسيّة، فأرواحهم المقهورة المُهانة وقود الفساد، وأجسادهم المتعبة وقود الحرب! أولئك المقصيّون الملغيون في كتب التاريخ. يكتب عن الجميع، عن بساطتهم وسذاجتهم السلبيّة أغلب الأحيان، السذاجة التي تستدعي الإيجابيّة والوعي والخير، بحسب ما كتب القاص في مقدّمته للكتاب: "(..) قد تكمن المشكلة في مفهوم السذاجة نفسه: مفهوم ملتبس دومًا، ويتراوح بين الغباء والطيبة والخير والبساطة". ولكن: "على السذاجة أن تترافق مع الذكاء والمعرفة والحذر والتبصّر: هذه هي الحكمة. كي تكون حكيمًا عليك أن تعرف الشرّ وتراه بوضوح، وعليك أيضًا أن تكون ساذجًا كفاية تؤمن بقدرتك على مقاومته". وعلى هذا بنى الزعبي قصصه.
يسلك الزعبي مسلك غوغول الفنّي أغلب الأحيان، في تبسيط السرد، وعفويّته بعيدًا عن الزخرفة اللغويّة أو الشكليّة، وبعيدًا عن التجريب، يعلن هنا ويوارب هناك، يقول ولا يقول، وأحيانًا يلجأ إلى الترميز، يتوجّه إلى القارئ العادي والمتخصّص على حدّ سواء. وإن اعتمد تقسيم سرده إلى مقاطع مرقّمة فالأمر لا يتعدّى رصد أزمان مختلفة متشظية في نسيج سرديّ متماسك ومقنع. وإمعانًا في واقعيّته، يورد بعض الحوارات باللهجة العاميّة المفهومة من دون إيغال.
غالبًا ما ينحصر المكان الحدثي للقصص في دمشق، المدينة التي يعرفها القاصّ جيّدًا، دمشق المجتمع الذي بات، منذ أكثر من نصف قرن، يضمّ فئات من المناطق السوريّة كافّة، يظهر عديدًا من أفرادها في القصص. كما يحضر مكان آخر هو عينتاب واسطنبول في تركيّا، حيث أقام الزعبي كغيره من المهجّرين السوريّين. وتحضر دمشق في زمنين؛ ما قبل الحرب، وخلالها، وذلك لإعادة النظر فيما مضى كما في الراهن، ومكاشفة الذات/الخاص، والواقع الموضوعي/العام، وقراءتهما بوعي وجرأة وشجاعة وحكمة، قراءة للمواجهة والمقاومة، بحثًا عن سبل خلاص البلاد، وعلى مستويات عديدة.
يمثّل النداء الخفيّ للتحرّر على الصعيد الاجتماعي في قصص عدّة، حيث الأنثى مهمشة، يحدّد مصيرها محيطها، رجالًا ونساءً، وحيث الطبقيّة مدعومة بالتقاليد المجتمعيّة والموروثات البائدة، والريبة في الآخر المختلف! الأنثى هي أمّ النور خالة السارد عامر، التي صُيّرت عانسًا، فسابقًا، رفض أبوها الغنيّ تزويجها لأحد الفقراء الطيّبين الذي أحبّها وأحبّته. ولم يخطر ببال الخالة أمّ النور أن ترفض أو تثور، لأنّها على قناعة مثل الجميع في النهاية؛ فالأمر لا يتعدّى القسمة والنصيب، إلى أن صارت عانسًا تعمل على خدمة الجميع المتعالين عليها من إخوة وأخوات، ولخدمة أمّها المريضة العاجزة، وقد ورثت العائلة دونها مكانة الأب المقرّر المستبدّ بعد رحيله. وبعد وفاة الأمّ العجوز، وأمّ النور في سن الخامسة وأربعين تعود العائلة ثانية لرسم مصيرها، يخفون مقصدهم الأساسي/مصالحهم الشخصيّة، في بيع بيت العائلة، خلف ما يظهرونه من ضرورة ستر الخالة أمّ النور من فضيحة قد تسبب لهم كارثة، بعد أن عرفوا بعلاقتها الخفيّة والبريئة مع عبد الرحمن الفلسطيني، وهنا تبرز الإثنيّة، والنفاق السافر، فالعائلة جميعها تحبّ الفلسطينيّين، لكن أن يزوّجوا ابنتهم الدمشقيّة من فلسطيني، فالأمر يختلف! كما تبرز الطبقيّة حتّى بين أفراد العائلة ذاتها، فالقرار كان للصهر الأغنى، كما أنّ العريس عبد الرحمن بسنواته الخمس والستين، ليس غنيًّا، وهو مهندس أرمل. لكنّ القرار في تزويج الخالة قد تمّ، وذلك بعد اجتماع انعقد بعيدًا عنها، وانقسمت فيه العائلة إلى حزبين "الحزب المحافظ" و"الحزب التقدّمي"! ويُباعُ بيت العائلة بالملايين، لينتصر رأس المال لاغيًا المعايير الأخرى كلّها! وذلك في القصة الجميلة الساخرة "قسمة ونصيب". وعبارة "قسمة ونصيب" تردّدها نساء العائلة بمن فيهنّ أمّ النور، تأكيدًا على أنّ استبداد الثقافة البطريركيّة الذكوريّة يطغى على عقول كثير من الإناث كما عند الذكور! يكرّر القاص فكرته هذه تلميحًا، يلقيها بفنيّة عبر عبارة هنا أو حوار هناك، فمثلًا في قصّة "الفيديو الذي أبكى الملايين" العابقة بالسخرية السوداء والموجعة، يقول محمد المعنّف والمهجّر لضيوفه: "مو معقول هدول النسوان ما بيفهمو بشي، حتى عصير ما بيعرفو يعملو".
وعن التحرّر السياسي، سترسخ في النفس طويلًا صورة الصبيّ تلميذ المدرسة في الصباح، وبقيّة اليوم، يعمل لدى الكومجي أبي محمود قريبًا من الحدود، الصبيّ الذي لا ندري إلى أيّة جهة أخذه ثلاثة عابثين من أمن الحدود، فاسدين جباة لصوص، رهينة ريثما يقبضون المال من أحدهم، لكنّهم أرجعوه، فيدخل صامتًا، يختفي عن العيون، ليصل بكاؤه من الداخل! وذلك في القصّة المؤثّرة "اليهود يحكمون العالم". فاليهود هنا مشجب يعلّق عليه السذّج عديمو الحيلة وغيرهم أسباب استلابهم! كما يصوّر، في هذه القصّة وفي غيرها، التشرذم الاجتماعي الطائفي الأليم الذي أحدثته الحرب، كما في القصّة الموجعة "قضاء وقدر".
يلفت الكاتب الانتباه إلى الفئات المضطهدة الأخرى في المجتمع، والتي تعاني من تنمّر دائم يودي بها إلى الاستسلام وانعدام الثقة، وكره الذات والمجتمع كلّه، بسبب بدانتها! ويخصّص القاص الإناث البدينات فهنّ اللواتي تدفعن الضريبة الأعلى دومًا! كما في القصّة ذات العنوان الطويل اللافت "قصّة بحث كرة الشحم عن ذاتها والتغييرات التي تعرّضت لها في سنوات الحرب الأهليّة السوريّة"، ويهديها الزعبي للكاتب موباسّان، وقد أخذ عنه اسم إحدى الشخصيّات الشهيرة "كرة الشحم"، لكنّه أخضعها لانزياح موضوعي يتطلّبه رصده لواقع المجتمع السوريّ إبّان الحرب. فقد بدأت الحرب بثورة حمّلها الناس آمالًا كبيرة، ولكن! فجرّاء ما تعانيه من تجاهل لمأساتها والسخرية التي تطالها يوميًّا لبدانتها، تقول بطلة القصة غالية، لصديقتها: "أيّة ثورة هذه، يا ندى؟ ها، أيّة ثورة؟ الثورة والناس لا تسأل عن بعضها البعض". يضع الزعبي البدينين في خانة الجماعات المغمورة بفعل اجتماعيّ بحت، في مجتمع بائس يمعن في قسوته وظلمه على أبنائه الضعفاء!
يبرز هاجس الصراع في دواخل الشخصيّات العلمانيّة التي تعيش في بيئة محافظة، فتتبدّى مأزومة ومتناقضة. فالشأن الدينيّ لا يقلّ شأنًا عن السياسيّ، في واقع يتّهم فيه المؤمنُ المتحرّرَ بالفسق والإلحاد، والمتحرّرُ يتأفّف ضجرًا من المؤمن الذي يتدخّل في شؤونه وينتقده من ناحية، كما في قصّة "قوانين رياضيّة"، ومن ناحية أخرى تتشرذم الذات نفسها وتتمزّق في نزوعها للتحرّر، تنوء تحت الثقل الديني عرّاب العادات والتقاليد البالية، حارس البطريركيّة الأمين، هذا الذي يمعن في كبت المجتمع جنسيًّا على نحو خاصّ، مجتمع محبط مستسلم منذ ما قبل الحرب، ومتفسّخٍ عفن إثرها. مجتمع مكبوت يطلق أحكامه، تهديده ووعيده، وبشكل خاصّ في وجه عدوّه الأخطر؛ وجه المثقف، والعلماني، هذا الذي ما يزال في (الطريق) لتحقيق الحلم في بناء الذات الحرّة. كما ورد في القصة اللافتة: "هوتيل كاليفورنيا"، قصّة جميلة بسردها الجاذب الهادئ المقنع الذي يصوّر دواخل العاشقين المتصارعة. سلمى وزيد على علاقة جادّة منذ أربع سنوات، يعجزهما الوضع المادّي عن الزواج، فيقرّران، للمرّة الأولى، الالتقاء في أحد فنادق اسطنبول. لكنّ القاص لسبب ما أقحم في المقطع الثاني منها، حديثه عن الطريق وعرضه لقصيدة طويلة للمتصوّف للشهرزوري، فقطع سلاسة السرد وشتّت وحدة انطباع القارئ.
تطالعنا قصّة "سامر الوحش"، بعدم إقناعها، فالأقوال المسبقة والقصديّة، طغت على الفنّيّة. وفي قصص "ضريبة الشهرة"، و"مدرسة المشاغبين"، و"قوانين رياضيّة" يباغتنا الترهّل السردي لإثقالها بحشد من الأحداث والمقولات! في حين بدا القاصّ فنّانًا متمكّنًا حاذقًا في بقيّة القصص الممتعة.
"ملكة الأبراج" فاتحة القصص، فاتحة الانتباه، ويحكي فيها السارد بضمير "الأنا"، بعذوبة وألم عن حبيبته القديمة "غدير"، عذوبة مثقلة بالإحساس بالذنب والندم، كأنّما يطلب السارد خفيةً المغفرة من غدير حبيبته الدمشقيّة السابقة، للإساءة البالغة التي أحدثها لها، وذلك قبل وقوع الحرب. قرّرت "غدير" الانفصال عنه إلى الأبد، وذلك بعد أن عرفت أنّه جعلها موضعًا للتندّر والسخرية وسط المعارف والزملاء الجامعيّين، بينهم مثقفون تقدّميّون! بسبب أنّها "تؤمن بالأبراج"، وقد أطلق عليها حبيبها اسم "ملكة الأبراج" الذي التصق بها، إلى الأبد. وهذا الحبيب/السارد غنيّ، متعلّم، علمانيّ ونصف متحرّر، مثقف تقدّمي، محبوب وسط بيئته لذكائه وخفّة دمه التي يستحضرها أحيانًا عبر السخرية من الآخرين الأضعف! لم ينتبه السارد يومها إلى سذاجته في عدم التعرّف إلى الأنثى النقيّة الجميلة الطيبة في "غدير" وإلى قسوته معها، إلّا بعد أن هجّرته الحرب وعجنته التجارب الشخصيّة المتعبة. انتبه، ورأى، فكما كان قاصرًا بالحكم على شخصيّة "غدير"، كان قاصرًا مدّعيًا في معرفته لنفسه! لقد اكتشف أنّه، هو الآخر، يؤمن بالحسد والتعويذات! ليجسّد السارد ظاهرة المثقّف الملتبس، المثقّف الساذج السطحي.
سيعود النفاق مرّة أخرى بتجلٍّ آخر، وعلى مستوى أشدّ خطورة، وهو النفاق الثقافي، وذلك في القصّة الذكيّة والآسرة "كافكا في الهافانا". هناك في المقهى الشهير بدمشق، نلقى في الداخل بعيدًا عن صالة الزبائن غرفة العاملين، الندل وغيرهم، أسماهم القصّ بالمسوخ! مسوخ، لا نشهد طور تحوّلهم مثل غريغوري مسخ كافكا! فقد تمّ أمر مسخهم وانقضى، جماعة مغمورة من يأبه بها؟! يعيشون حالة اغتراب مجتمعيّة حقيقيّة، اغتراب طبقيّ أُحدث بقوّة الظلم الاجتماعي. بيد أنّ الأشدّ خطورة اغترابها عن الطبقة المثقفة؛ حيث أدباء سذّج، ثلاثة من المثقفين في الصالة، حلبي وكردي، على رأسهم شاعر فلسطيني، يتناقشون في الفنّ والكتب والأدب مرورًا بكافكا الذي يستخفّ به الشاعر الفلسطيني العقائدي بتطرّفه الساذج! وبينما كان الشاعر يتلو عليهم قصيدته، توقّف النادل قليلًا ليستمع إليها، فيطرده الشاعر بحركة من يده، ويستاء الآخران. لقد شتّت حضوره تركيزهما! فينسحب. وخلفه يسحبنا القاص إلى غرفة بقيّة المسوخ: قزم وآخر مارد، وثلاثة نُدُلٍ. نعرف بعض أزماتهم وهمومهم. وليس عبثًا أنّ القاص صاغ ببراعة خاتمة القصّة المدهشة في تلك الغرفة. فبعد أن أبعد الشاعر بحركة أنيقة ذبابة وقفت على يده، مغلقًا عينيه مع نهاية القصيدة. حدث ما يحفّز انتباهنا بشدّة، علّنا نستجدي حكمة ما لمقاومة الخطر: "تطير الذبابة حاملة أفكارًا وقاذورات ودياليكتيكًا إلى غرفة المسوخ، فتسحقها يد المارد بحركة سريعة، ويمسح الدم الداكن على بنطاله سريعًا، ثمّ يتابع إعداد السندويش الساخن"!