هشام صفي الدين (تحرير)، أنجيلا جيورداني (ترجمة)
(بريل للنشر، 2020)
جدلية (ج): ما الذي دفعك إلى تحرير هذا الكتاب؟
هشام صفي الدين (هـ. ص.): عندما تواصل معي مركز مهدي عامل الثقافي، ومقرّه بيروت، للإشراف على ترجمة وتحرير أعمال مختارة لمهدي عامل، وافقت فورًا. كانت فرصة فريدة لإضاءة المساهمة الفكرية لماركسي عربي بارز حتّى يستعيد مكانته المستحقّة في مدوّنة الفكر السياسي في القرن العشرين.
كما أدركت الجدوى المعرفية للترجمة من العربية للإنجليزية، عوضًا عن العكس. فالتأثير الفكري يجب ألّا يكون أحادي الاتجاه، وكلمات مثل كلمات عامل تتحدى النماذج النمطيّة الثابتة بأن الإنتاج الفكري العربي هو في أفضل الأحوال مشتق أو متفرّع (عن غيره). وأملي هو أن تحفّز هذه الترجمة على بذل جهد أوسع لترجمة الفكر العربي للإنجليزيّة.
(ج): ما هي الموضوعات والمسائل والأدبيات التي يتناولها الكتاب؟
(هـ. ص.): كان عامل (1936-1987) عضوًا قديمًا في الحزب الشيوعي اللبناني، ومنظّرًا مرموقًا في قضايا الاستعمار والتخلّف الإنمائي على الصعيد العربي خلال فترة التحرّر الوطني. وبالإضافة إلى نظرياته حول العلاقة الاستعمارية، كتب عن مجموعة من القضايا وثيقة الصلة بالنقاشات التي كانت دائرة حول المنطقة العربية. وطبّق التحليل الطبقي على موضوعات مثل الطائفيّة، والإسلام السياسي والاستشراق، والثقافة والثورة، وعلاقة التراث الثقافي بالحداثة. ومن خلال كتاباته، كان يسعى لإنتاج نظريّة عن الماركسيّة تتخّذ من الواقع الاجتماعي الاستعماري، عوضًا عن الرأسمالي، ركيزة موضوعيّة للتحليل. كما فسّر التخلّف الإنمائي بحسب حقيقة الاستعمار نفسه.
يتناول الجزء الأوّل من الكتاب مقدّمة تلخّص فكر عامل المناهض للاستعمار، ومذكّرة مختصرة عن سيرته الذاتيّة وهو المفكّر الشهيد. أما الجزء الثاني فينقل إلى قراء الإنجليزية، وللمرة الأولى، مقتطفات طويلة من ستة نصوص أساسيّة من مؤلّفاته. في البداية، هناك نصّان تأسيسيان عن الاستعمار والتخلّف الإنمائي بدأ عامل من خلالهما يتعامل مع قضيّة التبعيّة. النصان الثالث والرابع هما مقتطفات من أطروحته عن الطائفية والدولة ونقده لتحليل إدوارد سعيد لماركس. أمّا في النصّين الأخيرين فهو يكشف عن ميل فكري برجوازي متأسلم ناشئ يأتي ضمن نقد أوسع للفكر اليومي، كما يعرض نظريته حول المشكلة المزعومة للتراث الثقافي معتبرًا أنّه مشكلة بالنسبة للفكر البرجوازي العربي المعاصر، وليس للحضارة العربيّة.
(ج): كيف يرتبط هذا الكتاب أو يبتعد عن عملك السابق؟
(هـ. ص.): إن حقليّ دراستي هما الاقتصاد السياسي والتاريخ الفكري، ولقد عملت كمترجم ومحرر ترجمة لسنوات. وكان كتابي السابق دراسة عن تاريخ لبنان المالي، وكتابي الأولّ كان دراسة وترجمة كتاب "نفير سوريّا" لبطرس البستاني (مع ينس هانسن). استندت في دراستي، ولو باختصار، على مفهوم عامل حول التبعيّة البنيوية في مواجهة التبعية الطبقية كي أحسّن من فهمي للتبعية المالية.
أمّا هذا الكتاب فيتناول النظرية وليس التاريخ، وفي النهاية، أرى نفسي في هذه الحالة كمن يؤدّي دور الوسيط والمفسّر والمترجم، أكثر من كوني كاتبًا أو مؤلّفًا، لمدوّنة معرفية أنتجها شخص آخر.
(ج): من تأمل أن يقرأ هذا الكتاب، وما نوع التأثير الذي ترغب أن يخلّفه؟
(هـ. ص.): أحيت الانتفاضات العربية الاهتمام بعامل بين جيل من اليساريين. واحتفت الجداريات بإرثه فيما ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي باقتباسات منسوبة إليه. وقد أدى ذلك بدوره إلى إثارة اهتمام العالم الناطق بالإنجليزية بأعماله. إلّا أن معظم هذا الاهتمام، على أهمّيته، بقي رمزيًّا بدرجة كبيرة. وضاعت حجج عامل العميقة في حرارة اللحظة السياسية الآنيّة، أو أنّها لم تصل بسبب عقبة اللغة. وفشل عدد قليل من المقالات في إيفائه حقه، أو أنّه حرّف فلسفته بسبب اللجوء إلى تفسيرات ما بعد الحداثة. ومن خلال جعل أعمال عامل متاحة بكلماته هو، وبالإنجليزية، آمل أن يتمكّن الآن الناشطون، والأكاديميون، وطلّاب الدراسات الاستعمارية والماركسية، بالإضافة إلى الجمهور العام المهتم بفلسفة عامل، من استكشاف مساهمته مباشرة من مصدرها الأصلي وأن يحكموا بأنفسهم على جدواها، أو عدمه، أو على نظرياته وآرائه.
أمّا في ما يتعلّق بالتأثير، فآمل أن تحظى مؤلّفات عامل بأهمية تاريخية وأيضًا نظريّة. نظريًّا، تقوّض ماركسيته أهميّة النقاشات المتواصلة التي تلت الاستعمار والتي تختزل الماركسيّة إلى مجرّد نظريّة إقليميّة ذات جدوى أوروبيّة فقط، كما أنّها تتحدّى العقيدة الماركسية المنغمسة في الفكر الغربي.
فقد دعا عامل إلى ثورة منهجيّة عبر الإصرار على تطوير أساليب وتصنيفات تحليلية ماركسية جديدة لفهم الوقائع الجديدة. ويجادل عامل أن تطوير هذه الأدوات النظريّة يتطلّب الاستناد إلى كل من التنقّل باستمرار بين النظريّة والممارسة. بالإضافة إلى ذلك، تتداخل ماركسيّة عامل مع نظريّة التبعيّة، إلّا أنها تحيد عنها في سبل الإنتاج والابتكار. ويثري ذلك، ولا يقوّض، المقاربات الماركسيّة المناهضة للاستعمار. وتاريخيًّا، فإن أعمال عامل هي تذكير بأن الماركسيّة كانت تيارًا رئيسيًّا في العمل السياسي والنشاط الفكري في العالم العربي. وإعادة إحياء فكره هي ضرورة لفهم الظرف التاريخي للتحرر الوطني في التاريخ العربي والذي غالبًا ما يتم التقليل من شأنه على أساس أنّه لحظة مارّة من الإصلاح التقدّمي، أو يصار إلى السخرية منه على أساس أنّه مشروع تحديث فاشل.
(ج): ما هي المشاريع الأخرى التي تعمل على إنجازها الآن؟
(هـ. ص.): لقد نشرت حديثًا مقالة في مجلّة بحثيّة (ميدل إيست كريتيك، 2021) ترسي تفسيري لصياغة عامل للهيمنة في سياق استعماري وطائفي. كما أنني أشارك في كتابة فصل في كتاب (مع عبد الرزّاق التكريتي) حول الاشتراكيّة العربيّة يُنشر في العدد المقبل من "تاريخ الاشتراكية" عن كامبردج. وبموازاة ذلك، أواصل تطوير مشروعين آخرين عن الاقتصاد السياسي. الأول هو دراسة عن الفكر الاقتصادي العربي في منتصف القرن العشرين، والثاني، طموح بشكل مرعب، وهو تاريخ نقدي للاستعمار المالي للعالم العربي وربما ما يتجاوزه.
(ج): ما هي أهميّة مهدي عامل اليوم؟
(هـ. ص.): أهميّة الفكر الماركسي غير الأوروبي مثل فكر عامل تبقى ذات جدوى للتذكير بالحاجة لتجديد الفكر الماركسي بناء على حقائق اليوم الاجتماعيّة الملموسة والخاصّة وعلى متطلبات الصراعات السياسيّة القائمة. وقد شدّد عامل على الطبيعة الموحّدة للصراع السياسي. وبالنسبة له، كان النشاط الهادف إلى التغيير، وليس النشاط النظري، ومن ضمنه إنتاج نظريّة عن التخلّف الإنمائي، جزءًا لا يتجزّأ من نضاله السياسي. والتجربة التي عاشها، تماما كما اغتياله كانا تعبيرًا عن صراع مناهض للاستعمار. وهما أيضًا بمثابة تذكير بما يعنيه أن يكون المرء مفكرًا تأسيسيًّا مجبولًا بتجارب مجتمعه ومحنه، أو بالأشخاص الذين يتجاوزون الحدود الصارمة للصفّ المدرسي، أو حتى، في أيامنا هذه، عالم النشاط (السياسي) الافتراضي.
مقتطف من الكتاب
(من القسم السابع: التيّار البرجوازي المتأسلم ص 111 - ص 114)
عنوان الكتاب: نقد الفكر اليومي (صادر عن "دار الفرابي"، بيروت، 2011، الطبعة الأولى 1988)
الجزء الرابع التيار البرجوازي المتأسلم
التناقض في الإسلام هو بين أتباع السلطة وبين الخارجين عنها
إن استخدام تهمة الإلحاد كسلاح ضد المعارضين للسلطة لا يعني أن التناقض الرئيسي في الإسلام كان قائمًا بين الإيمان وبين الإلحاد، كما يحلو لأتباع السلطة وخدّامها من الفقهاء تأكيده. كما أنّه لا يعني أن الإيمان، أو الدين، هو للسلطة في حين أن الإلحاد هو للخارجين عليها. ففي هذا تبسيط للأمور يرفضه الواقع والواقع، فضلًا عن أنّه قول لا يستقيم -إذا استقام- إلّا من موقع نظر السلطة وطبقاتها المسيطرة. لكنّ بعضًا من الباحثين في تاريخ الفكر الإسلامي نحا هذا النحو، أو استهواه هذا النحو، ربما لبساطته، فأقام التناقض رئيسيًّا في الفكر الإسلامي بين الدين وبين العقل، ورأى في تغليب الأول على الثاني -في في فكر الغزالي مثلًا- منحى رجعيًّا، ورأى المنحى التقدّمي للفكر في تغليب العقل، بما هو العقل بالمطلق، كأنّه واحد لا يخترقه تناقض بين عقل هو المسيطر في نظام الاستبداد، مثلًا، وهو الذي يجد في الفقه، أي في عقل الشرع، نموذجه، وعقل آخر منهاض له.
ربّما يصعب الكلام، في نظام الاستبداد، على مثل هذا العقل النقيض، متميزًا من العقل المسيطر تميّز العقل البروليتاري، مثلًا، من العقل البرجوازي في النظام الرأسمالي. وفي حال الفكر الإسلامي، ربّما نجد ذلك التناقض بين شكلين نقيضين من العقل في فكر المفكّر الواحد، مثلًا في فكر ابن رشد، أو بوضوح أكبر في فكر ابن خلدون، وبالتحديد في التناقض القائم فيه بين شكل من العقل جديد على جميع تيارات الفكر الإسلامي، وهو العقل العلمي نفسه، وشكل آخر من العقل هو السائد في سياسة العقل الفقهي السلفي في الفكر الإسلامي (الّذي مارسه ابن خلدون أيضًا).
وأحد الأسباب التي كانت تحول دون تكوّن ذلك العقل المتميّز المستقلّ الذي هو نقيض العقل المسيطر، ربما يكون أن الديني كان العنصر المشترك بين أطراف التناقض جميعًا، من حيث هو قائم، كما سبق القول، على أرض واحدة هي أرض الفكر الديني في فكر الإسلام. وسبب آخر وثيق العلاقة بالسابق هو أن النقيض المباشر للعقل المسيطر في نظام الاستبداد لم يكن شكلًا آخر من العقل، بل كان فكرًا إشراقيًّا صوفيًّا هو نقض للعقل ورفض له بالمطلق، من دون التمييز فيه بين عقل مسيطر وآخر هو نقيضه، ذلك أنّ الشروط المادّية لنقض هذا العقل المسيطر، وهي ذاتها شروط الثورة على نظام الاستبداد وتغييره، ربما لم تكن متوفّرة بعد، فتجسَّد رفضُ هذا النظام ونقضه في فكر مناهض للعقل، لا في فكر قادر على انتتاج شكل آخر من العقل هو نقيض العقل المسيطر. في ضوء هذا التعقّد من التناقض (في الفكر الإسلامي) يجب النظر في الفكر الصوفي ونقده.
لم يكن التناقض الرئيسي في الإسلام قائمًا بين إيمان وإلحاد، بلّ بين إسلام روحي وإسلام زمني. لم يكن قائمًا بين الدين والدنيا، بلّ بين فهمين مختلفين للدين نفسه: واحد يطغى فيه الروحي على الزمني، وآخر يطغى فيه الزمني طغيانًا كاملًا. الأوّل هو إشراقي، الصوفي. الثاني هو الفقهي، الشرعي. هذا ما أشرنا إليه آنفًا، واستفضنا في تحليل بعض جوانبه. لكنّ ما نريد تأكيده الآن، (في استخلاص لما سبق)، هو أن الإسلام كان كلّما مرّ الزمن، انحاز إلى الطبقات المسيطرة، فكان سلاحًا لها ضدّ المشكّكين في شرعية سلطتها، الثائرين على سلطتها، الطامحين إلى تقويض أركان نظامها وتغييره. نقول هذا على العموم، كأن في هذا القول صياغة لقانون هو اجتماعي أكثر منه ديني. والقانون في الاجتماع أو في التاريخ له دومًا طابع ميليّ (تعميمي). هذا يعني أن الطابع الميلي (التعميمي) للقانون لا ينفي، بل بالعكس يؤكّد، إمكانية وجود ظاهرات أو تولّد أحداث وواقعات تناقض القانون هذا في تحقّقه. فهي، في تناقضها معه، لا تلغيه بل ترسم حدوده التي هو فيها يتحقّق، في شروطه التاريخيّة الماديّة، دوما تناقضيًّا. لذا، يجب التدقيق في صوغ الأحكام حتّى لا تقول عكس ما تقول (تعني). ويمكن الاعتراض على ما سلف والاستحضار من التاريخ المعاصر، أو الماضي، أكثر من مثال به يشهد أم الإسلام قد كان يتغيّر بالفعل عبر الزمن، لكن دون أن ينحاز إلى الطبقات المسيطرة ونظامها، بل انحاز ضدّها مع الثائرين عليها، في الجزائر إبّان حرب التحرير الوطني مثلًا، أو في لبنان ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. وهذا صحيح، وبالإمكان الاستشهاد بأمثلة أخرى تؤيّد هذا القول. لكنّ هذا لا ينفي صحّة ما نقول، ولا ينقض، بل يؤكّد أن للقانون دومًا طابعًا تعميميًّا، ويؤكّد أيضًا ببساطة، أنّ الإسلام -والدين عامّة- ليس بذاته وفي ذاته "رجعيًّا" أو "تقدّميًّا" ثوريًّا أو مناهضًا للثّورة. ليس لأنّ مثل هذا التصنيف، أو التحديد، لا ينطبق عليه، من حيث هو تصنيف أو تحديد سياسي. وليس لأنّه يستوي فوق كلّ صراع، وله موقع في الغيب أو في المطلق هو من خارج المواقع كلّها. بلّ لأنّه، وبحسب الزمن وحده يتحدّد وفق هذا الاتّجاه أو ذاك من الاتجاهات المتناقضة للصراع الاجتماعي. فتموضع الإسلام الزمني يدخله، بالضرورة، في حقل الصراع السياسي الطبقي المحتدم في نظام قائم في زمن معيّن، وفي شروط تاريخيّة معيّنة، فيكون له، حينئذ، طابع القوّة الاجتماعيّة المحدّدة التي تستخدمه في هذا الحقل. وتموضعه الزمني هو، بالضبط، وجوده التاريخي المادي الذي هو فيه، أيضًا، حقل صراع طبقي يتجدّد بتجدّد شروطه.
فوجوده المادي هذا، لا وجوده الغيبي، هو الذي يحدّد، إذن، طابعه الثوري أو المناهض للثورة ذاك الذي هو هو، بالتالي، طابعه الطبقي. ولا مفرّ من هذا التموضع الزمني، ولا إفلات له من ضرورة أن يحتلّ في حقل الصراع الطبقي موقعًا به يتحدّد طابعه الطبقي. وطبيعي ألّا يكون هذا الموقع واحدًا، وضروري أن يكون متعدّدًا لا بتعدّده -وهو في الغيب واحد- بل بتعدّد مواقع القوى الاجتماعيّة المتصارعة التي تستخدمه، وأن يكون متناقضًا بتناقضها. وهي ليست واحدة، وما كانت يومًا في التاريخ واحدة، حتّى حين كانت الأمّة.
وكانت الأمّة بحسب تأويل معيّن من تأويلات الإسلام، هو التأويل الفقهي المسيطر. كانت، إذن، بالفقه، الأمّة، لا بالتاريخ الاجتماعي المادّي الذي كانت فيه، بالعكس، جماعات وأحزابًا (طبقات) متخالفة، متصارعة. ومسيء للعلم، ومبطل للمعرفة، أن يكون الفقه، لا التاريخ المادّي، مقياس الوجود الفعلي، وأن يكون بالتالي مقياس الكلام على الأمّة. وسيئ للعلم أيضًا، مبطل للمعرفة أن يُسقط على التاريخ الفعلي مفهوم الأمّة الفقهي (أي كما بلوره الفقه وتبنّاه)، فيستحيل التاريخ فقهًا، والفقه تاريخًا، ويكون التاريخ في واقعه المادي كما هو في الفقه، بحسب الفقه. هكذا يراه الفقهاء، وهكذا يراه مقلّدوهم من أتباع الفكر المتأسلم في حقل الصراع الطبقي الراهن.
[ترجمة هنادي سلمان. نشر النص على «جدلية»]