تعليم الاستبداد: إخضاعٌ وتدجين

[المصدر: رويترز] [المصدر: رويترز]

تعليم الاستبداد: إخضاعٌ وتدجين

By : Ahmad Abdel Halim and Abdelrahman Adel أحمد عبد الحليم وعبد الرحمن عادل

يمكن لقارئ التاريخ المصري الحديث والمعاصر، أن يلحظ ملمحًا هامًّا فيما يخص مسألة التعليم منذ عهد محمد علي باشا، وهو أن التعليم الحديث الذي أنشأته الدولة ورعته وجعلته تحت تصرفها منفردة، كان الهدف الرئيسي منه، هو خدمة مصالح الدولة في المقام الأول وتحقيق متطلبات تحديثها وهيمنتها على المجتمع. سواءً كان ذلك بما تمتلكه من جهاز بيروقراطي ضخم يتحكم في تصريف شؤون الناس العامة، أو بما تضمنه من وجود تمايز طبقي بين النخبة المثقفة والمتعلمة والتي تتولى القيادة في جهاز الدولة، وبقية الشعب ذي التعليم التقليدي، والذي ينظر إليه على أنه أُمّي وقاصر عن التفكير السليم. ومن هنا تنطلق هذه المقالة من مقولة المفكر الراحل علي عزت بيجوفيتش، والتي نصها: "أن المجتمعات الشمولية تنزع إلى نظام تربية واحد في تربية وتعليم البشر، لأن سلوك المجندين "المدجنين" يسهل إدارته بسهولة، ويمكن التنبؤ به". والدولة الحديثة في مصر منذ نشأتها هي دولة شمولية، تنطبق عليها هذه المقولة كغيرها من الدول الشمولية، ويمكن من خلالها فهم نظام التعليم الخاص بمصر.

تعليم المقهورين

إن قصة التعليم الحديث بدأت مع محمد علي الباشا، وكان غرضه الرئيسي من إدخال نظام تعليمي حديث ومتطور، هو تقوية الجيش الذي كان يمثل عمود دولته في ذلك الوقت. ولذلك ارتكزت غالبية البعثات العلمية التي أرسلها محمد علي للخارج، على علوم الصنائع والعلوم الحديثة والفنية اللازمة للسلاح والذخيرة وملبس الجند ورعايتهم الصحية ورعاية الخيول البيطرية، بوصف ذلك كله من عناصر التكوين الحربي[1]. ومن ثم يمكن القول: إن التعليم الحديث كان من أجل تمكين الدولة من بسط هيمنتها وسيطرتها من خلال القوة العسكرية الحديثة المتطورة.

تحول التعليم في عهد إسماعيل من الهدف الذي تغيّاه محمد علي (وهو إنتاج جيش قوي ومُسيطر) إلى إنتاج المواطن الخاضع، فَهدف النسق التعليمي الجديد الذي أدخله الخديوي إسماعيل كان تنشئة اجتماعية لشعب يتبنى رؤية السلطة ويخدم أغراضها، بتفعيل مقولة تليماك فينلون التي ترجمها الطهطاوي: "ولتبديل أذواق وعادات شعب بأكمله، كان على السياسة أن تستولي على الفرد وأن تحوله عن طريق وسائل التعليم الجديدة، إلى ذات سياسية حديثة مقتصدة وبريئة، وبالأخص منكبة عن العمل"[2]. كان مشروع إسماعيل هو إدخال مصر في أحضان الرأسمالية الأوروبية، فقد كان إسماعيل نفسه من طبقة ملاك الأراضي وكانت هذه الطبقة تبغي إدخال العنصر الإنتاجي إلى مصر، ومن ثم احتاج هذا التحول إلى إنشاء نسق تعليمي جديد للتعليم المدرسي. ويُلاحظ أيضًا أن البعثات التي كانت تخرج من مصر، شهدت تحولًا كبيرًا في نوعية العلوم التي تتلقاها، فركزت على المعارف الفكرية والفلسفية والاقتصادية والإدارية.

وهكذا بدأت ثنائية التعليم، ووجد في مصر سِلكان تعليميان غير مرتبطين ولا متصلين ببعضهما البعض. نظام جديد شق المجتمع المصري إلى شطرين، مدارس حديثة ابتدائية وتجهيزية وخصوصية وعالية تُعبر عن نسق حديث للسلطة وتوصل إلى المناصب والنفوذ والثروة، ونمط تعليم قديم مُتمثلًا في الأزهر والكتاتيب، تقليديّ يمثل صورة المجتمع المصري القائم ولا يوصل إلى شيء.

بعد الاحتلال الإنجليزي عام 1882، دخل التعليم طورًا جديدًا وشهد غاية جديدة، وهى خدمة المحتل إلى جانب خدمة الدولة، فَارتكزت السياسة التعليمية البريطانية في مصر على أسس كان أهمها: نجلزة الإدارة المصرية -التقتير في تعليم المصريين- ونشر الثقافة الإنجليزية في مصر وتشكيل المناهج التعليمية لتلائم هذا الغرض[3].

وقد شجع الاحتلال على ثنائية التعليم لخلق تميز طبقي بين المواطنين وتعميق الفروق بين الصفين، لإبعاد الشقة بينهما في الثقافة والميول والاتجاهات ليجعل من إحداهما حاكمة والسبل أمامها إلى الصدارة مُفتّحة، ومن الثانية مَحكومة تلتمس رزقها في الفلاحة أو الصناعة الخفيفة أو حقير الأعمال، فلقد كان يهدف من وراء ذلك إلى تأصيل بقائه وخلق طبقة تسانده ويختبئ وراءها لإرغام المواطنين على استساغة وضعه، ولم يكن يجعل التمييز بين من يسلك سبيل التعليم الشعبي (التقليدي) ومن يسلك سبيل التعليم الحديث قائمًا على نضج فكري أو استعداد فطري، بل قائمًا على الفقر والغنى، فأصبحت هنا أغراض تعليمية تستهدف الفقراء وأخرى للأغنياء وتفاوتت حظوظ المواطنين في التعليم تفاوتها بين الإقطاعيين والأجراء: فباب الجامعة مفتوح للأولين الذين سلكوا طريق المدرسة الابتدائية لأنهم قادرون، موصد في وجوه الباقين الذين حشدوا في المدرسة الإلزامية لأنهم عاجزون [4].

وعقب ثورة 1919 ودستور 1923، شهد التعليم في مصر محاولة إصلاح جادة، وإن كانت لم تكتمل أو تحقق إصلاحًا فعالًا، بسبب أن مقاليد الحكم الحقيقية وتسيير شؤون الدولة كان في يد الاحتلال الذي يمتلك القوة الحقيقية (الجيش والبوليس ومؤسسات الدولة) لحكم الدولة. ومن جملة الإصلاحات أو المحاولات التي حاولت وزارة المعارف بعد دستور 1923 تحقيقها [5]، نذكر: 

1- في سنة 1938 استطاعت وزارة المعارف تقريب شقة الخلاف بين التعليم الأولي والابتدائي، فألغت تدريس اللغة الأجنبية من منهج السنة الأولى الابتدائية.

2- توحيد التعليم الإلزامي (1940) والتعليم الابتدائي.

3-قررت الوزارة في 1944 إلغاء المصروفات الدراسية من التعليم الابتدائي تطبيقًا لمبدأ تكافؤ الفرص. 

4- في عام 1945 ألغيت اللغة الأجنبية من السنة الثانية، فأتاح ذلك للتلاميذ في المدارس الأولية أن يلتحقوا بالتعليم الابتدائي حتى سن العاشرة.

إلا أن هذه المحاولات والإصلاحات، لم تستطع القضاء على الأهداف والسياسة التعليمية التي فرضها الاحتلال الإنجليزي على مصر والتي استمرت حتى عام 1952، وتمثلت في: التمييز الطبقي، وربط التعليم بالوظيفة، والازدواجية التعليمية، والتغريب الثقافي، وإهمال الهوية في التعليم.

التعليم في عهدة الجيش

وعن هذه السمات والأهداف لم يختلف الوضع كثيرًا بعد ثورة يوليو وبداية عهد "دولة الجيش" التي بدأت في 1952 وتستمر حتى وقتنا الحاضر، حيث يمكن إجمال أهداف التعليم في دولة الجيش في ثلاثة أهداف:

الأول: تخريج مُوظفين لجهاز الدولة الإداري.

الثاني: التمييز الطبقي من خلال التعليم العام والخاص، مع التوسع والتنوع في النوع الثاني وتكلس الأول وبقائه بلا تحديث ولا نهضة حقيقية.

الثالث: التعليم باعتباره أداة للقهر الاجتماعي والتدجين.

أما الهدف الأول، فقد كان الملمح المُميز للتعليم في عهد عبد الناصر، والذي شهد جهاز الدولة في عهده تضخمًا غير مسبوق. إلا أنه يشهد الآن تراجعًا متزايدًا، مع سيطرة ضباط القوات المسلحة على معظم مفاصل الجهاز الإداري في عهد السيسي. ومع تراجع الدولة عن الحاجة إلى موظفين يخدمون جهازها الإداري المتضخم. غير أن الهدف الثاني، هو هدف مستمر ومتزايد، وقد أشار إليه حسني مبارك في إطار تعبيره عن الرؤية التي تحكم سياساته تجاه الشعب في خطاب وجهه في 10 نوفمبر سنة 2003 إلى الهيئة البرلمانية لحزبه الحاكم، الحزب الوطني الديمقراطي، بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية لسنة 2003-2004، وفي اليوم التالي نشر هذا الخطاب الأمين العام للحزب وقتها السيد صفوت الشريف في صحيفة الأهرام في الصفحتين الأولى والثانية، حيث تحدث الرئيس عن مخاطر الزيادة السكانية في مصر قائلًا: "إننا لا نريد يومًا أن نصل إلى تلك الدول التي لا تهتم سوى بنسبة 10% من سكانها وتترك الآخرين في العشوائيات دون رعاية أو تعليم"[6]. وهذا عين ما كان من سياسة نظام مبارك نحو التعليم، فالاهتمام قد انصب بالفعل على 10% من الشعب، حصلوا على تعليم خاص ومدارس دولية وخاصة ولغات وجامعات من نفس المستوى، بما يحقق أو يعيد استراتيجية الاحتلال الإنجليزي القائمة على التمييز الطبقي والمادي في إمكانية التعليم، فمن يمتلك المال يحصل على تعليم جيد، ومن لا يمتلك عليه أن يرضى بالتعليم الحكومي الرديء.

النظام الحالي استعاد فرضية وجود الجيش والعسكرة مرّةً أُخرى داخل أروقة الحياة المدنية، منها التعليمية بجميع مراحلها، عن طريق عدّة ممارساتٍ يوميّة، فرضت تدجين عسكري لدى الطلاب خاصةً التلاميذ الصغار منهم، مثل وجود هيئات عسكرية رسمية داخل المدارس، بالإضافة إلى ترديد الأناشيد التي أنتجتها هيئة الشؤون المعنوية لتكون بدلًا أو مع تحية العلم الصباحية

ولا نريد التركيز هنا على التعليم الخاص فقط كنوع من التعليم المميز الذي يضمن لصاحبه مكانة اجتماعية ومستقبل آمن، بل هناك نوع آخر يتركز تحديدًا في المرحلة الجامعية. إن أعلى الكليات في مصر من حيث الإقبال والرغبة في الانضمام إليها، هى كليات الجيش والشرطة. والمتابع لحالة الطلاب في مصر بعد انتهائهم من مرحلة الثانوية العامة، يجد أن الغالبية العظمى للطلاب تتجه إلى التقديم في كليات الجيش والشرطة، وفي حين يستجدي الكثير منهم المحسوبيات حتى يضمن النجاح في اختبارات القبول، يتجه آخرون إلى دفع مبالغ مالية كبيرة إلى بعض أصحاب النفوذ لكى يضمنوا لهم القبول بين صفوف الملتحقين بتلك الكليات. ويُفسر هذا الإقبال الشديد على تلك الكليات، تراتبية خريجي الجامعات في مصر، ففي المقام الأول من حيث الأمان الوظيفي والسلطة والمستقبل الجيد، يأتي خريجو الكليات العسكرية والشرطة، ثم الكليات المدنية بترتيبها المعروف لدى المصريين. إن هذه الظاهرة توضح بشكل عام، شكل الدولة والنظام الاجتماعي والتمايز الطبقي والاجتماعي الذي أنشأه النظام التعليمي لدولة يوليو، وكيف تتشكل رغبات المصريين في التعليم وفقًا لهذا النظام.

وأخيرًا يأتي الهدف الثالث للتعليم باعتباره أداة للقهر والتدجين، وهو ما يقوم به النظام عن طريق عدّة مُمارساتٍ، تضمن قولبة الداخل في هذه المنظومة على الشكل الذي تريده الدولة.

ممارسات التدجين

يمثل النظام الحالي امتدادًا لنظام يوليو/تموز من عام 1952، في صبغته المنهجية بشأن دراسة التاريخ للطلاب في جميع مراحلهم التي تتناول حروب الجيش المصري، بدايةً بثورة يوليو مرورًا بالعدوان الثلاثي ووصولًا إلى حروب مصر وإسرائيل فيما بعد. تواجدت بعض مدراس الثانوية العامة في مُسمّاها العسكري، كما أنّها تُدرّس العسكرية والانضباط عن طريق أدوات منهجية وممارسات حركية، تساعد في إبقاء التدجين والفوقية العسكرية المصرية. طيلة حكم مبارك، خَفت نجم هذه العسكرية من حيث الأهمية، وذلك لابتعاد الجيش عن التدخل الطاغي في السياسية المصرية المدنية مُقابل عُلوّ مَجد الحزب الوطني وتابعيه من كبار رجال الأعمال المدنيين، وانتهاء زمن الحروب، وبداية عهد الانفتاح النيوليبرالي، واكتفاء الأول، أي المؤسسة العسكرية بالحفاظ على امتيازاتِها الاقتصادية والاجتماعية.

لكنّ النظام الحالي استعاد فرضية وجود الجيش والعسكرة مرّةً أُخرى داخل أروقة الحياة المدنية، منها التعليمية بجميع مراحلها، عن طريق عدّة ممارساتٍ يوميّة، فرضت تدجين عسكري لدى الطلاب خاصةً التلاميذ الصغار منهم، مثل وجود هيئات عسكرية رسمية داخل المدارس، بالإضافة إلى ترديد الأناشيد التي أنتجتها هيئة الشؤون المعنوية لتكون بدلًا أو مع تحية العلم الصباحية في مدارس مثل أغنية "قالوا أي علينا" التي استمرّ ترديدها لأشهر كثيرة في طوابير الصباح في فناءات مدارس مصر، فضلًا عن الأنشطة الترفيهية، مثل فرق التمثيل، المسارح، الألعاب، الغناء، التي لم يخرج محتواها عن تمجيد الحياة العسكرية وتفضيل المؤسسة العسكرية عن باقي مؤسسات الدولة. وعلى المستوى الجامعي، نجد مادة "التربية العسكرية" وهى مادة إجبارية تفرض على جميع طلاب الجامعات، ولا يمكن للخريج الجامعي الحصول على شهادته إلا باجتياز مادة التربية العسكرية، والمادة تقوم على شقين؛ عملي ونظري، الأول يحضر فيه الطلاب تدريبات عسكرية كَالطابور والهتافات والحركات العسكرية المعروفة (صف/انتباه) ويلتزمون بزي موحد، وإلى جانب هذا يدرسون مقررًا نظريًّا، يُدرسه لهم ضابط من القوات المسلحة ويعاونه مجندين يقضون خدمتهم العسكرية الإجبارية.

اقتحمت السلطة تلك الأروقة المدنية وعملت على عسكرتها وذلك تماشيًا مع تعزيز حالة الاستثناء، المفروضة من قبل سيادة السلطة منذ وجودها بعد يوليو/تموز 2013، وتوغلها منذ مَايو/آيار 2014، أي بعد استقرارها بوجود دستور ورئيس جديد منتخب، لتعمل هذه الممارسات وكأنها تفضّل من المؤسسة العسكرية، في تربية الناشئة، وحماية الطلاب، بل والحياة بأكملها من أهل الشر أو الخطر المُحتمل في أي وقت كما تروّج السلطة دائمًا. فيتجسّد وجودهم في صورة كرم إنساني يقدم نفسه كتعليم صالح للمقهورين، غير أن هذه الممارسات تنطلق من دوافع أنانية للسلطة تستهدف جعل القاهر متفضلًا إنسانيًّا[7] [8].

مع كلّ هذا، قُننت أيضًا بعض الممارسات المنهجية، مثل حذف تدريس ثورة يناير/كانون ثاني عام 2011، ومعها احتجاجات 30 يونيو/حزيران عام 2013 من المقررات الدراسية، بعدما كان الحدثان محلّ فخر واعتزاز منهجي، أصبحا محلّ طيٍّ من الذاكرة التاريخية للأجيال الجديدة، التي لم تتعرف على احتجاجات المصريين التي قامت منذ سنواتٍ قليلة، والاقتصار على الملاحم الوطنية التي خاضها الجيش المصري وقادته بغضّ النظر عن دور المصريين كذوات مدنيّة لا عسكريّة[9].

أيضًا سنّ قانون فصل الموظّفين -بما فيهم موظّفي وزارتيّ التربية والتعليم والتعليم العالي- المُنتمين إلى أي تنظيمات فكرية محظورة، أبرزها الإخوان المسلمين من وظائفهم، ما يدعم انتشار حالة الخوف الجماعي لدى أي موظفٍ مصري يحاول الاعتراض على سياسات التعليم، مهددًا بالفصل من عمله، بل والسجن كما هو حال مئات الموظفين المعتقلين سياسيًّا في مصر، كما الحال في تأميم المدارس الخاصة التابعة للإخوان المسلمين، وإدراجها تحت إشراف الدولة، ليس اعتراضًا من الدولة على المناهج التعليمية، فَالمناهج بالأساس تحت إشراف الوزارة، لكن ضمن محاولات محو الجماعة وأنشطتها داخل المجتمع المصري[10].

ذلك التوغل الذي بثّ تماهيات عقلية وحركية في عقول وأجساد الطلاب المصريين، لتأسيس مخيال ذهني لهم، سياسي وعسكري يحاول خلق ذوات تعليمية ذات فاعلية سياسيّة مُطيعة وخاضعة لوجود السلطة وقراراتها، كما كانت في الحالة الأولى لنشأة المدارس منذ سيطرة محمد علي ونسله على حكم مصر. [11].

ختامًا، يمكن القول، بأن النظام التعليمي في مصر منذ عهد محمد علي باشا، لم يشهد مشروعًا وطنيًّا حقيقيًّا يتغيا النهوض والترقي بالمجتمع المصري وأبنائه. بل انصبت الاستراتيجيات التي طورت التعليم على خدمة أهداف النظام الحاكم والدولة. ولعل هذا ما يُفسر الواقع الحالي للمصريين والحالة العامة من الجهل أو الأمّية التي تضرب في أعماق المجتمع، يقابلها حالة من الاغتراب والانفصام لدى نخبة قليلة هي التي نالت تعليمًا متميزًا وجيدًا. وهو ما يفسر أيضًا ذلك التحالف الدائم بين تلك النخبة والدولة والنظرة الأبوية التي ينظر بها كلاهما إلى المجتمع باعتباره طفلًا قاصرًا يحتاج من يسيّر أموره، ومن ناحية أخرى، يُمكّن من فهم قدرة الدولة الدائمة على التحكم في الشعب وتسييره وفقًا لمصالحها، ولا مبالاتها -كما عبر السيسي عن هذه النظرة بقوله: "يعمل إيه التعليم في وطن ضايع"- بأي نهضة حقيقية بالإنسان والتي لا بد وأن تبدأ بالتعليم.

الهوامش:

1- انظر تفصيل ذلك في طارق البشري، محمد على ونظام حكمه، ط1 دار الشروق، القاهرة 2013.

2- تيموثي ميتشل، استعمار مصر، مدارات للأبحاث والنشر، الطبعة الثالثة، ط1 القاهرة 2014، ص147.

3- انظر لمزيد من التفصيل، سلامة جرجس، أثر الاحتلال البريطاني في التعليم القومي في مصر، مكتبة الأنجلو المصرية، ط1 القاهرة 1966.

4- السيد محمد يوسف، في مقدمة كتاب، أثر الاحتلال البريطاني في التعليم القومي في مصر، مكتبة الأنجلو المصرية، ط1 القاهرة 1966، ص 6.

5- حسان عبدالله، تطور التعليم في مصر تحت الاستقلال المنقوص (1919- 1952) الفلسفة والمضامين، فصلية قضايا ونظرات، مركز الحضارة، العدد 13، أبريل 2019 القاهرة، ص3.

6- طارق البشري، الأمن القومي المصري بعد مائة عام من وعد بلفور، فصلية قضايا ونظرات، مركز الحضارة، العدد 7، أكتوبر 2017 القاهرة، ص 27.

7- حالة الاستثناء: هي الحالة التي يُعطل فيها القانون من صاحب السيادة، في حالات بعينها تمر بها البلاد. يرجع أول تعريف لما يعرف بحالة الاستثناء للمفكر الألماني كارل شميث، وهو ما عرّفه أنه بيد السلطة السيادية تطبيق حالة الاستثناء عند مخاطر بعينها في كتابه اللاهوت السياسي. وقد نُوقش هذا المفهوم على أمثلةٍ وأحداث تاريخية وقعت بواسطة المفكر الإيطالي جورجو أغامبين في كتابه حالة الاستثناء في مجموعته المعنونة بـ"الإنسان الحرام". انظر: جورجو أغامبين، حالة الاستثناء، ترجمة ناصر إسماعيل، مدارات للنشر والأبحاث، ط1 – 2015، ص 39.

8- باولو فريري، تعليم المقهورين، ترجمة يوسف نور عوض، دار القلم، ط1 بيروت 2013، ص 35.

9- مصدر بـ«التعليم»: حذف 25 يناير و30 يونيو من منهج التاريخ بالثانوية، المصري اليوم، نشر في 17 يونيو 2017.

10- أحمد عبد الحليم، كيف تحوكم الدولة في مصر موظّفيها؟، موقع ضفة ثالثة، نشر في أبريل 2021. 

11- أحمد عبد الحليم، ترسيخ الاستبداد بين أطفال المدارس في مصر، المعهد المصري للدراسات، نشر في 10 يناير 2020.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬