صنعت السينما اليابانية الكثير من العظماء في هذا المجال، أمثال أكيرا كوروساوا، وكينجي ميزوجوتشي، وآخرين. أما هيروكازو كوريدا فهو من الأبطال الجدد في تاريخ السينما اليابانية، ويعدّ من أبرز المخرجين اليابانيين في السنوات العشرين الأخيرة. أنتج كوريدا عددًا من الأفلام الدرامية التي تمحورت حول العائلة والتباين بين الطبقات الاجتماعية ومواضيع أخرى، ويعد فيلم "سارقو المحلات" (Shoplifters) نموذجًا لأفلام كوريدا التقليدية.
يملك كوريدا، الحائز على جوائز عالمية وشهرة واسعة، نمطًا سينمائيًّا مميزًا، من ناحية ألوان الفيلم، وأنواع اللقطات، وحركات الكاميرا. إذ يستطيع من شاهد عددًا من أفلامه تمييز ذلك بوضوح، إذ تعدّ بمثابة توقيعه الخاص بدلًا من كتابة اسمه كمخرج للعمل. يعتمد كوريدا على العائلة دائمًا والعلاقات الأسرية في مواضيع أفلامه، وغالبًا ما تكون قصصًا درامية اجتماعية، عن شخصيات أقل من متوسطة وعادية للغاية، لا يمكن أن نفكر فيها أو في حياتها ليُكتَب عنها أفلام سينمائية إلا عندما نرى روايتها بشكل جميل على يد أمثال كوريدا. لا مبالغة ولا ابتذال، إنما هي علاقة بين المشاهد وشخصيات بات يعرفها وتعلق بها، واقع لا نلاحظه في العادة.
هل يمكن أن نصنع العائلة؟
يبدأ "سارقو المحلات" بمشهد داخل محل بقالة؛ رجل يتبادل إشارات مع طفل حتى نرى الأخير يضع أغراضًا في حقيبة ظهره بينما يلهي الرجل صاحب البقالة. منذ الدقائق الأولى في الفيلم نبدأ بالتسأول عن نمط حياة هذه العائلة ووضعهم الاجتماعي الذي يضطر الطفل لسرقة عشائه. وفي طريق عودتهم للمنزل نرى الطفل يقف أمام عربة طعام وينظر بشهية لقطع كروكيت اللحم من خلف الزجاج. وما يجعل طريق العودة أكثر إثارة أنهم يجدون طفلة محبوسة خارج المنزل في البرد ويبدو عليها التعب والجوع، فيأخذونها معهم للمنزل.
بعد رؤية منزل العائلة، نجزم بأن أوضاعهم الاقتصادية ليست جيدة. ثلاثة أجيال في منزل صغير للغاية مكدس بالكثير من الكراكيب والفواصل القماشية. ومع كل تلك العشوائية في الغرفة الضيقة، تقص الجدة أظافرها بالقرب من الطاولة أثناء العشاء، يفرغ الفتى المسروقات من حقيبته في سلة، وتجلس الفتاة الجديدة مع العائلة على طاولة العشاء.
يمتعنا كوريدا في رحلة التعرف على هذه الشخصيات، إذ ندرك أنهم مقربون من بعضهم، بشكل مادي وعاطفي، مشاعرهم تبدو حقيقية وكأنهم عائلة سعيدة حقًّا. نرى مشاهد مصورة من مسافة قصيرة وفي إطار ضيق فنشعر بأننا نعرفهم، ونشعر بضيق المكان أيضًا. رغم ضيقها، إلا أن اللقطات ليست قريبة للغاية فلا يجعل ذلك المشاهد غير مرتاح لما يراه، لكنّ قربها يتركنا على مسافة جيدة تسمح بمراقبتهم وكأننا نجلس معهم.
هم حقيقيون بالنسبة لنا، نعتقد أننا نستطيع أن نرى عيوبهم ومستعدون لمعرفة المزيد عنهم. خلال الفيلم، في هذه اللقطات الضيقة، نشاهد العائلة وأفرادها وهم يمارسون أمورًا روتينية. لا أحداث جديدة تحصل، وهذا ليس بالأمر المعتاد في الأفلام، إذ لا بد من كشف أسرار وبناء تشويق لحدثٍ ما، لكنّ هذا ليس أسلوب كوريدا. نقضي وقتًا مع كل شخصية على حدة، وكأن هذه الشخصية تعرّفنا بنفسها وتقود القصة. مجددًا بإطاراتٍ ضيقة، نراهم بعيدين عن العائلة هذه المرة، وبفلاتر أقل لشخصياتهم. لكنّ في أغلب الوقت يروي الطفل الصغير القصة ويعرفنا بعائلته. يختبئ الطفل في علبة كرتونية مع ضوء صغير في المنزل، حتى يحظى بوقته الخاص بعيدًا عن عائلته.
في هذه العائلة التي تسكن أجزاء طوكيو الفقيرة، حيث تجتمع التقاليد القديمة والعادات الجديدة. لكل فرد نمط حياة متحضر، ولكن العادات اليابانية حاضرة كذلك. والأهم، في خلطة الفيلم للعائلة السعيدة، فإن الأشياء الصغيرة هي ما تجلب لهم السرور، ولو لفترة قصيرة. اجتماعاتهم حول الطعام، ومشاركتهم القصص، تساعد في خلق ذلك السرور. تنكشف أسرار العائلة بالتدريج، ونعلم مزيدًا من الأمور عن العائلة لم نكن نتوقعها. لكنّ كوريدا لا يلقمنا هذه الأسرار، نتساءل عن تركيبة العائلة الغريبة ونستنتج من حواراتهم أغلب هذه الأسرار ونبدأ بتركيب الإجابات.
ترتكب العائلة جريمتين خلال الفيلم: السرقة، وهي الطاغية أغلب الوقت سواء كانت من المحلات، من عملهم، أو حتى من السيارات. وتبدو العائلة متفقة على أهمية السرقة، وكل فرد يمارس نوعًا منها يناسبه، والأهم من ذلك أن السرقات هي للعائلة وللمشاركة. أما الجريمة الأخرى هي الاحتيال على الدولة، فنرى العائلة تستلم راتب التقاعد لأحد أفرادها المتوفين، الأمر الذي يجعل هذه الجريمة عائلية كذلك، إذ تحتاج إلى رابط قوي مثل رابط العائلة يسمح لشخص آخر بتحصيل راتبك التقاعدي بعد غيابك، وهذه الجريمة أيضًا هدفها خدمة العائلة والمشاركة.
"سارقو المحلات" فيلم أُنتج عام 2018، وحظي باحتفاء من النقاد والمشاهدين في السينما العالمية. حصل على السعفة الذهبية من مهرجان كان السينمائي، بعد أن غابت اليابان عن الجائزة 21 عامًا. وترشح لجوائز الأوسكار وبافتا عن أفضل فيلم أجنبي، وهذا ما أكد على أن اسم هيروكازو كوريدا وُضع مع قائمة المخرجين العالميين وأبطال السينما اليابانية.