هند الديوان
(دائرة الثقافة في حكومة الشارقة، الإمارات العربية المتحدة، 2021)
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النص، ما هي منابعه وروافده، ومراحل تطوّره؟
هند الديوان (هـ. د.): فكرة النص المنجزة لم تكن نفسها فكرة النص الأول، إذ مرت بمراحل عدة من التفكر، خاصة أنني أفضّل إعادة ترشيق وتقليم الأفكار، دائمًا، حتى بعد اكتمال العمل.
المقربون مني يشيرون دومًا إلى أن فكرة النص سينمائية، وأجد أحيانًا صوابًا في هذه الإشارة لتعلقي بالأعمال السينمائية ومتابعتي إياها منذ الطفولة، لم تكن هنالك إشارة ضوء لبدء شرارة الفكرة الأخيرة، فقد جاءت بعد مسودات عدة وعامين منذ الشروع بكتابة العمل، والشخصية الرئيسة "وطن" هي التي قادتني بوضوح لثيمتها التي ترغب بالظهور بها، وطاوعتها تمامًا بذلك، حتى عندما انتقلت الأحداث للشخصية الرئيسة الثانية "نجمة" فرضت وطن عليها ثيمتها ذاتها لكن بشكل آخر.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(هـ. د.): الجانب الآخر المخفي من العالم، العالم غير المرئي الذي يرتكز عليه العالم المرئي، "أصحاب الأدوار الأخيرة"، القابعون خلف ستار مسرح الحياة، المستعدون لبتر أطرافهم إذا كان في ذلك وسيلة تقي المستندين إليهم من السقوط، الأفكار التي لا نعيرها أهمية لأنها مهمة وتعيرنا خوفًا من شدة أهميتها، الناس الذين يأخذون بيدنا ظاهريًّا نحو طوق النجاة لكننا نلمح في اللحظات الأخيرة أن طوق النجاة كان بيدهم منذ البداية.
(ج): كتابُك عبارة عن رواية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًّا بذاته تأثير فيما تريدين أن تقولي، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(هـ. د.): نعم، لا أجد أن فكرتي يمكن عرضها عبر جنس أدبي آخر، لأنني دائمًا أجيد الإمساك بالأحداث من تفاصيلها وصياغتها مرارًا وتكرارًا. لا أجيد عرض الأفكار باختزال، حتى القصة الطويلة -التي كنت أكتبها في السابق- تخليت عنها لأنها لا تمنحني ما أحتاج من مساحة، ولدي بال طويل يتسع لما هو أكبر منها. مقاسات الرواية جاءت تمامًا كما آمل.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(هـ. د.): كنت أرغب بشدة في الذهاب إلى محافظة ذي قار حيث تقع المقبرة الملكية الأثرية، وأخاطر بدخولها، على الرغم من أنها آيلة للسقوط، وأسير في صحراء أور لأتمكن من وصفها بدقة في الجزء الخاص بها من الرواية، لكن لم تتح لي الظروف ذلك، فاستعنت بمشاهدة كثير من الأفلام الوثائقية والتقارير المتلفزة والمكتوبة عن المكان وتاريخه، كما تواصلت مع علماء آثار عدة قريبين وبعيدين عن المشهد المنشود وقدموا لي المساعدة المطلوبة.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(هـ. د.): هو بوصلتي والمادة الخام التي سأنتزع منها، في أعمالي المستقبلية، ما أريد كتابته بشكل مغاير تمامًا. "السائرون بظلّين" وجهت بصيرتي نحو قدر كاف من الثقة الشخصية بالكتابة، ووضعت قدمي على أول خطوة في هذا الطريق المديد.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(هـ. د.): جميع الكتب التي قرأتها بمختلف أنواعها كان لها تأثير في ما كتبت، تأثير نسبي في صقل شخصيتي، استثمرته في صقل ونحت شخصية هند الديوان الكاتبة. اختلاف الكتب منحني رؤية لصياغة المشاعر بأسلوب أدبي، يجب أن يقلل الحزن هنا من حدته، ويجب إظهار الفرح بشكل غير مبتذل هناك، مثلًا.
(ج): هل تُفكّرين بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفيه لنا؟
(هـ. د.): لم أجد نفسي يومًا، علنًا أو خلسة، أفكر بما سيكون عليه رأي القارئ بعد قراءته ما أكتب، أنا أفكر بالنص فقط، ما ينقصه وما يزيده وماذا علي أن أفعل أكثر للوصول به إلى أقل عدد من الأخطاء. حتى هذا الأمر تحديدًا شكّل لي عقبة عندما أنجزت العمل ودفعته للنشر فجاء الرد "نعتذر، ليس في الرواية مشكلة، لكننا لن نجد قراء لهذا النوع من الأدب"، وكأن كتّاب اليوم ملزمون بأن يهبوا دور النشر جمهورًا مع أعمالهم! ورغم التداعيات التي تركها هذا الأمر في داخلي، رغبت بأن تكون فكرتي المقبلة متفردة أيضًا، فلن أمنعها ولن أدع التجربة الأولى تقضي على رغباتي بشكل القصة ورغبات الجمهور أبدًا.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(هـ. د.): رواية مكتملة تمامًا داخل رأسي منذ أكثر من سنتين، لكنني حتى اليوم لم أكتب غير فصل واحد منها، لأنني متأنية وبطيئة وأستقبل النص متى ما جاء إلي، أخلقه عندما يظهر طيف منه، ولكن لا أخلقه من العدم.
مقتطف من الرواية
(شارع حيفا.. 2030)
أمضيتُ الليل بكامله، وأنا مذهولة مما قرأتُ واكتشفت، أكاد أجن من كل الأمور التي حدثت منذ سنوات ولم أعلم بها إلا اليوم.. كانت أمي لا تمل الجملة ذاتها.. ومفادها بأن أبي كثير الشرب والتدخين، ما أدى إلى إصابته بجلطة دماغية. اعتدتُ ألا أصدق شيئًا إلا بعد رؤيتي إحدى حقائقه، لكنني صدقتُها، وصدقتُ أيضًا كذبة والدي بأنه كان يملك أسرة فقدها إثر انفجار وسط بغداد.
كيف استسهلتْ والدتي إخفاء هكذا أمر عني؟!
كيف قدمت كل تلك الكذبات والتعامل معها على أنها حقائق ولم يساورني الشعور بالشك يومًا حيال كل ما تقوله؟
كيف يمكن للأبناء تكذيب أمهاتهم؟
أشعر بالغبن؛ لخداعهم لي، حتى جدتي احتفظت بهذه المكتبة من دون إعلامي يومًا بكل تلك الخفايا.. ربما أخفت عنها والدتي، لكن لا يعقل أن تخفي حقيقة انتحار أبي أيضًا، كل من أملك خدعني بحجة حمايتي، تلك الحجج الواهية لا تصبح مقنعة حينما يقرها فردٌ دون الآخر.
من خلف نافذة الغرفة.. وعند الصباح، حلّق حمامات كثر، وحطت الواحدة منهن تلو الأخرى، ورحن ينقرن النافذة بحثًا عن قطرات الماء المتبقية من أمطار الليلة الماضية.. واحدة منهن حدّقت بي طويلًا، وفي عينيها كلامٌ يولد، وآخرُ يتلاشى.
لن أقرّ بالهزيمة وأمضي قدمًا، هممتُ بتغيير ملابسي.. البحثُ عن منزل عمي عبد الله للتحدث مع زوجته "أزهار" حول كل ما حدث سابقًا هو هدفي؛ فهي على ما يبدو لي غير مجنونة خلاف اتهامهم لها بالجنون. هناك مجانين من فرط الحقيقة.. هناك مجانين من فرط الدهشة.. وهناك مجانين من نوع آخر، كمن لا يعذر جرح الآخر وصدمته وانكسار كيانه، وهم الأغلبية من الذين لا يعطون مبررًا لاتهاماتهم.
أثناء طريقي إلى شارع الربيعي، تذكرتُ من خلال قراءتي طوال ليلة البارحة أن منزلهم يقع خلف الشارع من جهته اليمنى، حيث تتوسط المنزل شجرة تين.
كانت الساعة قريبة من السابعة صباحًا، وبعد وصولي إلى منطقتهم، وبينما كنتُ أسير في بداية شارعهم، تردد في الأجواء اسمي بالعربية من صوت لم أسمعه من قبل، وهو ترجمة اسم نجمة ابنة عمي. كان الصوت صادرًا من أمامي، وكلما تقدمتُ أكثر، تقرّب الصوت نحوي.. لا أعلم من منا كان يتجه نحو الآخر، على الأغلب كلانا، هو كان يشدني حتى وصلتُ أمام المنزل وظهرتْ لي قبلها شجرة التين عالية جدًّا في الأفق.
بدا المنزلُ داكنًا، وخربًا، يُحيط به القِدم، لم يسعفه شروق أشعة الشمس بتخفيف ظلامه، كان مؤلفًا من طابقين وشرفتين متهالكتين في الأعلى، في الواقع يبدو شبيهًا على نحو مدهش بنموذج البيوت العراقية القديمة التي لم تعمر عن قصد لغرض الحفاظ على الملامح الموروثة في البناء.
كان المنزل آسرًا على نحو غريب، ربما السبب يعود إلى حالته السيئة، نثره الجداري القديم الذي تحول من اللون الأبيض إلى اللون البني غير المنتظم، تصاحبه بقع زيتية على الجدار الأمامي، وعلى بابه يرتفعُ الصدأ. تعجبتُ كيف لامرأة عجوز أن تؤمّن على نفسها تحته، ويصل الأمر إلى السكن فيه.
لا تبدو حديقته الأمامية قد حظيت باهتمام أبدًا، على عكس شجرة التين العالية، كان العشب يابسًا، وأصفر، وكان هنالك أثر لساقية لم يجر فيها الماء لمدة ليست بالقصيرة، لا شيء في المنزل ولا في الحديقة يغري بدخولهما؛ لكنني شعرتُ خلاف ذلك، ولا سيما عندما طرقت الباب وانتظرت الجواب.. طرقته مرتين وثلاثًا، ولم يفتح إلا عند طرقتي السادسة، أقول السادسة تحديدًا!
كان شعرها بنيًّا شأنه شأن شعر نجمة في الصورة، لكنه أقل ميلًا منه إلى البني المحمر، كما كان قصيرًا جدًّا، أما العينان الخضراوان فكانتا عيني والدتها، أغمق بكثير من درجة لون عيني نجمة. الذي يمتلك معرفة مسبقة بهما سيدرك بعد إمعان النظر إليهما أنه على الرغم من اختلاف كل ما سبق، إلاّ أنهما يتشاركان بالكثير في تقاسيم الوجه وحتى الجسد.
جبين نجمة عريض محدد أطراف الشعر بشكل ملحوظ، وجبين أمها عريض أيضًا لكن غير محدد؛ وقد يعزى ذلك إلى قصة شعرها المتدلية أطرافه على الجانب الأيسر.
خرجتْ امرأة مسنة، تحمل من الجمال كما هائلًا لم أشاهده في حياتي مسبقًا، وقبل أن ألقي عليها التحية قالت لي بنشوة لقاء كانت تظنه بعيد الأمد:
- نجمة! وأخيرًا عدتِ. لكم قلقت عليكِ طوال تلك السنين، لقد اضطررتُ لقبول فعل ذلك الأمر مع عصام، كنتِ تعانين من ارتجاج في الدماغ بسبب ذلك الانفجار، وحتى الغيبوبة التي دخلتِ فيها نتيجة آخر عملية قد خرجتِ منها بنزعات لتدمير الذات، ولم أملك غير إرسالكِ لغرض شفائكِ النفسي والجسدي، ففي نهاية المطاف أنتِ كل ما تبقى لي في هذا العالم، ولم أشأ المخاطرة بخسرانكِ عند التقليل من شأن ما عانيته. تبدين هادئة، وأكثر نضجًا من ذي قبل، وعلى ما يبدو أن خطوات الشفاء قد حملتكِ على نحو بالمسؤولية يشار إليه.
وباستغراب شديد أضافت، وهي تمعن النظر حولي:
- لكن، أين الآخرين؟
هبت ريح قوية مهددة بإسقاط أوراق شجرة التين.. زال انتباهي حين ضغطت العجوز بقوة على ذراعي لتسحبني إلى داخل المنزل؛ إذ لم يعد بوسعي رفعها وتسوية شعري الذي تطاير.
رددتُ باستسلام، كما لو أن أطيافًا مرّت بجوارنا.. كما لو أن هناك ستيرن أخرى تتحدث بالإنابة عني.
- أي آخرون؟ أنا الآخرون جميعهم..