رافيا زكريا*
"أنا بخير"، هذا ما قالتهُ جيسيكا تشاستين الشاحبة وذات الشعر الأحمر وهي تنزع بذلة قفزها السوداء وقناعها. المشهد هو من فيلم كاثرين بيغلو لعام 2011 «الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل»، الذي رغم تفاهة حواره الواضحة فإنه يقول الكثير عن صفة جديدة للنسوية تطورتْ في العالم الغربي والأبيض منذ 9\11، وبداية الحرب على الإرهاب. تلعب تشاستين في الفيلم دور امرأة مسؤولة عن "اختيار الأهداف" في السي آي إيه تُدْعى مايا، وهي تبدو رقيقة لكنها قاسية كالأظافر في جميع المناحي الأخرى، مما يعني في هذا السياق أيضًا أنها ترغب بممارسة التعذيب. وفي الحقيقة هذا ما كانت تفعله هي وزميلها في السي آي إيه داخل مراكز محصنة ومؤقتة تحت الأرض استخدمت أيضًا كغرف للتعذيب. "لنعد إلى الداخل"، قالت للرجال بعد أن استراحوا للحظة من الجهود التي بذلوها في إيقاع ألم شديد بكائنات بشرية أخرى.
لدينا هنا مساواة بين الجنسين في أشد حالاتها انحرافًا، امرأة بيضاء تبذل ما في وسعها كي تُظْهر لرجل أبيض أنها تمتلك شهية للقسوة تعادل شهيته. ويبدو كأن الرجال البيض المقتضبين في كلامهم يوافقون. "إنها قاتلة"، قال رئيسها وراءها وهي تختفي في نهاية الردهة. لو كان هذا فيلمًا روائيًّا بشكل كامل لسَهُل تصنيفه كفنتازيا هوسية لمخرج ما من هوليود، بيد أنه من الواضح أن شخصية مايا مبنية على شخصية عميلة سرية للسي آي آيه، لم تكشف الوكالة أبدًا عن هويتها والتي لمّح كثيرون إلى شجاعتها العظيمة. كانت مايا (مع آخرين معظمهم نساء أيضًا كما قالت مصادر السي آي إيه) مسؤولة عن أسر وقتل أسامة بن لادن في أيار 2011.
ربما كان فيلم «زيرو دارك ثيرتي» (الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل) فيلمًا ناجحًا سينمائيًّا ومؤدىً ببراعة ومليئًا بالحركة ويصوّر ما نجحت مايا الحقيقية في فعله غير أنه يستند إلى حقائق. ذلك أن مايا الحقيقية قُلّدت وسام الاستخبارات المتميزة من أجل بطولتها التي يُحتفى بها الآن وكان هذا شرفًا أسعدها أن تتباهى به أمام جميع زملائها في السي آي إيه من خلال رسالة إلكترونية جماعية.
شاهدتُ فيلم "الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل" في سينما ممتلئة بالمشاهدين تقريبًا في ولاية إنديانا. ربما كانت مايا التي أدت دورها جيسيكا تشاستين "بخير" في غرف التعذيب المؤقتة لكنني لم أكن بخير. خلف السينما كان مول التسوق يتوهج بتزيينات العطلة وحولي بدا رواد السينما مرتاحين في الظلمة الدافئة ومسرورين من هذا التمجيد للنساء البيضاوات كسلاح حاسم في سحق الإرهابيين السمر.
هلّل الحشد بصورة متكررة، مرة أثناء مشهد ظهر فيه رجل أسمر أُخضع لتعذيب يُدعى «الإيهام بالغرق»، ومرة أخرى حين أوشكت أن تقبض على رجل كان الأميركيون يطاردونه لعقد طويل، وبالطبع في النهاية حين أُشيد بها كبطلة قضت على أخطر رجل شرير في العالم. كانت التجربة كلها إعادة طرح متقنة لعظمة مُصممة حتى يتلهّى بها الوطنيون. ولم تكن نهاية الفيلم لغزًا أبدًا، لقد ربحت أميركا، وعلى الأقل من أجل أهداف الفيلم، قامت "قاتلة" نحيلة، حمراء الشعر، ناعمة الملامح، بالتجسس وشقت طريقها ممارسةً التعذيب لضمان قتل المطلوب الأسمر الأول في العالم كله.
شعرتُ بالضيق، ليس فقط لأن بحث مايا عن المساواة مع الرجال شمل الشتائم المقذعة والتعذيب أو حتى لأنها قالت عن باكستان "إنها حقًّا مكان حقير" في الدقائق القليلة الأولى من الفيلم، بل أيضًا لأنه بدا وكأنني كنت الشخص الوحيد الذي شاهد الفيلم كانحراف كامل عن المشروع العام للمساواة بين الجنسين. بكيتُ في نهايته لأن الجمهور وقف كي يصفق للفيلم. بعد بضعة أشهر تم إحياء الفيلم في حفلات الأوسكار. فازت جيسيكا تشاستين بجائزة أفضل ممثلة. سادت المرأتان البيضاوان الحقيقية والخيالية، صارتا مساويتين للرجال البيض في قدرتهما على إخضاع الرجال السمر.
في فيلم "الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل" (وفي القصة الحقيقية الكامنة خلفه)، أعيدت صياغة النسوية الأميركية (التي كانت في زمن ما حركة مناهضة للدولة وناقدة لمؤسساتها وأعرافها) كحركة تخدم مصالح الدولة من خلال أية وسائل قابلة للتخيل. وبدا كأن هذا التماهي مع مصالح الدولة وفكرة الانطلاق لغزو العالم بنفس التركيبة الذهنية من الخضوع والهيمنة التي يمتلكها الرجال البيض، أصبح هدفًا نسويًّا. وكي نعبّر عن الأمر بطريقة مختلفة، أرادت النساء البيضاوات المساواة مع الرجال البيض بأية تكلفة، بما فيها القيام بالهيمنة على البشر السود والسمر بحماس كبير. وفيما بدأت النسويات البيضاوات يتقدمن داخل مجتمعاتهن ويشغلن مواقع مهمة بصورة متزايدة، شرعن ببناء نسوية تستخدم حيوات السود والسمر كمجالات يستطعن أن يبرهن فيها للرجال البيض على مؤهلاتهن.
قالت جوانا كوك في كتابها الصادر في 2019 بعنوان "مكان للمرأة: حرب مكافحة الإرهاب منذ 9\11" إن النسوية، خاصة في علاقتها مع الدولة، اعتادت أن تركز على الترويج للسلام واللاعنف. كان الانضمام إلى الحركة النسوية يعبر سابقًا عن إحساس بالأخوّة بين النساء ومواجهة الأفعال التي تقوم بها امرأة واحدة كي تؤذي حياة ومعيشة نساء أخريات. وفُهمت الدولة على أنها تؤسس المعايير الأبويّة وتنشرها واعتُبرت مقاومة هذه المعايير (بدلًا من تبنيها) فعلًا نسويًّا. ولكن في حرب أميركا على الإرهاب أدرجت الدولة الصراع من أجل المساواة في سياساتها، ومنحت النساء البيضاوات مساواة ظاهرية مع الرجال البيض لسحق الرجال السمر المسلمين الذين أصبحوا العدو المطلق في الخيال الأبيض.
ما له أهمية جوهرية هو أنه سُمح للنساء البيضاوات بأن يتّسمْن بالخصائص "اللا-أنثوية" للعنف والحرب التي كانت تهدد عادة النظام الأبوي المهيمن الذي يعشْن في ظله، ولم يُسمح لهن بفعل هذا إلا حين مارسْن هذه السلطة ضد شخص ما أدنى منهن في هرمية التفوق البيضاء، أي الطرف الأسمر. ما هو جلي بوضوح في هذه المقايضة هو نوع السلطة الشَرْطيّة والمحدودة التي مارستها نساء بريطانيا في القرن التاسع عشر حين غامرن بالذهاب إلى ما وراء البحار إلى المستعمرات البريطانية. في كلتا الحالتين كانت الحرية لعبة تعادل لا ربح ولا خسارة فيها فقد كان يُمنح المزيد من الحرية لمجموعة واحدة (النساء البيضاوات) شرط منح حرية أقل لمجموعة أخرى (من غير البيض). وليس الصادم والمضاد للنسوية هو فكرة كون النساء عنيفات فحسب بل أيضًا البعد العنصري المحوري لهذه الفرضية حول قوة أكبر للنساء البيضاوات. وبينما طالبت النسويات الأميركيات البيضاوات في الستينيات وفي مرحلة فيتنام بإنهاء الحرب فإن كل ما تهتم به النسويات الأميركيات الجديدات للقرن الواحد والعشرين الوليد هو خوض الحرب إلى جانب الرجال. فالحرب التي تُعد تقليديًّا أحد الأنشطة الذكورية الصارخة في المجتمع البشري، صارت تفتح ذراعيها للنساء حتى في أكثر لحظاتها بشاعة وعنفًا، واعتُبرت هذه خطوة كبيرة إلى الأمام بالنسبة للجميع.
كانت الحرب على الإرهاب، على مستوى النظرية على الأقل، حرب أميركا "النسوية" الأولى. ولم يكن الذين مُجّدوا هم محلّلو السي آي إيه فحسب، بل أيضًا الجنديات الإناث. إن قصة الجندية جيسيكا لينش مثال آخر. ففي الثالث والعشرين من آذار 2003 وقعتْ الجندية جسيكا لينش، سائقة شاحنة في الثالثة والعشرين من عمرها، في كمين مع وحدة صيانة تابعة للجيش الأميركي وأسرتها القوات العراقية. قُتل ثمانية جنود آخرين ونُقلت لينش إلى المستشفى حيث أساء معاملتها العراقيون كما قال البنتاغون. نفذت القوات الخاصة الأميركية مهمة خاصة لإنقاذ لينش، وزُعم أن الكلمات الأولى التي تفوهت بها حين عُثر عليها هي: "أنا جندية أميركية أيضًا". سُجلت عملية الإنقاذ على مقطع فيديو مدته خمس دقائق أطلقه البنتاغون للإعلام. وفي غضون ساعات صوّرها الإعلام كبطلة واحتفى بشجاعتها، وظهرت على غلاف مجلة «نيوزويك» إزاء علم أميركي عملاق، ودُعيت "رامبو الأنثى" و"بطلة أميركية". لم يبدأ التشكيك بالأعمال البطولية للينش إلا بعد وقت طويل جدًّا. فقد بثت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) فيلمًا وثائقيًّا لاذعًا اتهم الحكومة الأميركية بالمبالغة في الأعمال البطولية لإنقاذها وإساءة معاملتها من قبل العراقيين لتعزيز الدعم العام للحرب. وثبت فيما بعد أن كثيرًا من هذه المزاعم صحيح لكن عملية صناعة الأبطال التي انطلق البنتاغون للقيام بها في أعقاب عملية الإنقاذ مباشرة كانت قد بدأت قبل ذلك. فقد كانت الجندية الأميركية الأنثى كبطلة في حرب العراق هي الصورة التي سيتذكرها الأميركيون. وكان جليًّا أن الفيلم التلفزيوني "إنقاذ جيسيكا لينش" الذي بثته قناة إن بي سي في 2003 روى القصة البطولية نفسها التي شككت بها بي بي سي وآخرون. أرادت أميركا جندية بطلة، وحصلت على واحدة. أُشير أيضًا إلى الحرب كحرب "نسوية" لأن نشر حقوق النساء كان مهمًّا جدًّا كهدف فعلي. فقد حُررت النساء الأميركيات وسيذهبن الآن مع جنود ذكور آخرين إلى أفغانستان كي يستأصلن نظام طالبان الكاره للنساء. بالتالي ليست أميركا قوة عظمى متوحشة تقصف أمة صغيرة وبائسة بل قوة للخير تساعد فعليًّا في تحقيق المساواة بين الجنسين في بلد مزقته الحرب.
كانت جهود القضاء على الإرهاب (الذي يُعتبر إرهابًا إسلاميًّا وليس إرهابًا قوميًّا أبيض رغم الحصيلة الأكبر بكثير للثاني من القتلى الأميريكيين) تتمثل في تقديم المدارس والعيادات الصحية وحتى صالونات التجميل والمساعدة في الإصلاح القانوني وتطوير مراكز حماية النساء وصياغة دساتير تقدمية. أما "المسألة الصغيرة"، وهي عمليات القصف المدمرة التي قتلت الآلاف وسببت عجز عدد أكبر وفرقت بين أفراد العائلة إلى الأبد ودمرت سبل العيش فقد كانت وسائل ضرورية لتلميع تلك الغاية النسوية. وحين ترتكب امرأة أميركية بيضاء (مثل مايا التي أدت دورها تشاستين في فيلم "الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل") فعلًا ما عنيفًا أو وحشيًّا غير قابل للتصور يُعتبر جزءًا من المشروع الأكبر والأنبل لمساعدة أفغانستان أو العراق كي يصبحا بلدين يقدّران النساء كما تقدرهما أميركا. ومن أجل تحقيق تحرير النساء، والذي هو جزء من الحرب على الإرهاب، بُذلت جهود لبناء نسخ يمنية وعراقية وأفغانية من "مايا": نساء يتم تدريبهن على الحرب يُجلبن من خلف خطوط العدو ويعاد تكوينهن كعميلات مزدوجات، وهذا شيء غير عادي، هذا إذا لم يكن غير مسبوق في الشرق الأوسط وجنوب آسيا. وأُنفقت ملايين الدولارات على تدريب النساء على مكافحة الإرهاب، وشمل هذا وحدة مكافحة إرهاب يمنية منتخبة كلها إناث وبرنامجيْ "شقيقات العراق" و"بنات الفلوجة" المصممين لجمع معلومات حول أشقائهن العراقيين وأبناء الفلوجة. واستندت هذه البرامج على فرضية أن النساء السمر يمكن تحويلهن إلى أسلحة ضد الرجال السمر الذين هم أقرباؤهن وأصدقاؤهن، وأن إيمانهن الجوهري بالتعريف الغربي للحرية والنسوية وولاءهنّ له سيحلان محل روابطهن مع جماعتهن. غير أن المفارقة هنا، هي أن بعض الأميركيين يمكن أن يقصفوا قرية في الصباح بينما يقوم أميركيون آخرون بتدشين مدرسة في أخرى بعد الظهر، لم تغب عن انتباه النساء الأفغانيات اللواتي نُقشت عليهن مصالح وتطلعات النسويات الأميركيات البيضاوات. ليست النقطة هنا أن برامج مكافحة التطرف العنيف (التسمية الجديدة التي مُنحت لبرامح مكافحة الإرهاب) كانت فاشلة بل الافتراض النسوي الأبيض المتعجرف بأن النساء الأفغانيات منفصلات عن آبائهن وأخوتهن وأزواجهن (القساة والبرابرة في الخيال الأميركي) وسعيدات للعمل كجاسوسات وجامعات معلومات استخباراتية للأميركيين. إن هذا الإنكار، أو رفض الاعتراف بأن النساء الأفغانيات مرتبطات بشكل غير قابل للفصل مع الرجال الأفغان، وأن قصف الرجال بشكل مباشر أثر في النساء، يشرح فشل برامج كثيرة بدأت في المنطقة.
أدى تشابك أجندة "تحرير النساء" مع حرب أميركا اللانهائية والمتوسعة على الدوام ضد الإرهاب إلى ولادة "النسوية الأمنية" (securo-feminism)، وهو مصطلح نحتته الباحثة الأكاديمية ليلى أبو لغد كي تشير إلى التواطؤ بين مناصري حقوق النساء الدوليين والمشروع الأمني العالمي، المشار إليه بـ"مكافحة العنف المتطرف". وترى "النسوية الأمنية" أن مكافحة الإرهاب هو في حد ذاته نوع من النسوية. ووضعت الصدمة الوطنية والحزن الناجمان عن هجوم الحادي عشر من أيلول هذه الحرب الأجنبية في فئة مختلفة جدًّا عن أي حرب خاضتها أميركا من قبل. ولم يكن التهديد تجريديًّا أو افتراضيًّا أو يحدث في مكان ما بعيد بل شُعر بأنه ملموس ومباشر وشخصي.
في كتابه "المتعصبون التافهون" يروي المؤلف والمؤرخ بانكاج ميشرا تمامًا كيف قبلت حتى طبقة المثقفين بسهولة الحرب على الإرهاب وكل أعمالها الوحشية الأولية، وقد كانت هذه الطبقة تنتقد في الماضي مغامرات أميركا العسكرية في العالم النامي. وعبّرتْ عن النكهة النيو-إمبريالية الخاصة للحظة مقالة من التغطية الصحفية للانتصار لروبرت كابلان من مجلة «أتلانتيك» الذي قال بابتهاج إن عبارة "أهلًا بكم في بلاد الهنود الحمر" كانت اللازمة التي رددها الجنود الأميركيون في كل أنحاء العالم، الذين تخيلوا أن مهمتهم هي لعب دور راعي البقر لقتل الأعداء سمر البشرة والهيمنة عليهم بأية طريقة ممكنة. لكن مهمة إنقاذ النساء الأفغانيات يمكن أن تضفي لمعانًا أكبر على العمل. وكما تشير الأنثروبولوجية ليلى أبو لغد في كتابها "هل تحتاج النساء المسلمات إلى إنقاذ؟" روج الأميركيون "كذبة تحرير" صورتهم كمنقذين للنساء الأفغانيات المضطهدات. من هذا الموقع المتفوق، تخيلت النسويات الليبراليات البيضاوات العنف القائم على الجندر كشيء لا يوجد فقط إلا في الأراضي البعيدة. وأعمت "كذبة التحرير" المعلقين والصحفيين حيال كلٍّ من السياسة الخارجية الأميركية والمشكلات التي تواجهها النساء في العالم النامي.
في 2002 وجّه ائتلافٌ من المنظمات النسوية الغربية رسالة مفتوحة إلى الرئيس جورج دبليو بوش طالبنه فيها بأن "يقوم بعمل طارئ لإنقاذ حياة النساء الأفغانيات وتأمين مستقبلهن". كان بين الموقعين إلينور سميل، رئيسة مؤسسة الأغلبية النسوية في فيرجينيا، مع نسويات بارزات أخريات مثل غلوريا ستاينيم وإيف إنسلير وميريل ستريب وسوزان ساراندون. صرّحنَ أن أغلبية النساء الأميركيات يدعمن الحرب لأنها "ستحرر النساء الأفغانيات من سوء المعاملة والظلم". وأصدرت المنظمة الوطنية للنساء بيانات داعمة للحرب وأهدافها "النسوية" المزعومة. وكان الجميع في مؤسسة التيار الرئيس الأميركي والبريطاني (وضمنهم بطلات نسويات بيضاوات مثل التي صارت أخيرًا وزيرة خارجية، هيلاري كلينتون، ووزيرة الخارجية مادلين ألبرايت) داعمين مخلصين للحرب على الإرهاب بأية وسيلة يعتقد الجيش والسي آي إيه أو الرئيس أنها لازمة. ولم يربط أحد من هؤلاء بين ممارسة الوحشية الأميركية والوعظ بالوعد الإنقاذي الأميركي.
في تموز/يوليو 2004، وبعد ثلاث سنوات من غزو أفغانستان أعلن بوش النصر: "منذ ثلاث سنوات كانت التعبيرات الأدنى عن الفرح تعتبر خارجة عن القانون. ضُربت النساء لأنهن يرتدين أحذية بألوان براقة. لكننا اليوم نشهد انبعاث ثقافة أفغانية نابضة بالحياة". وفي الآونة الأخيرة، حاول عنوان رئيس في «نيويورك تايمز» أن يحتفي بالنصر حتى فيما كان يشير إلى أن النساء أنفسهن يمتلكن تجربة مختلفة: "لقد أنقذت مراكز الحماية أعدادًا لا تحصى من النساء الأفغانيات، إذًا لماذا هنّ خائفات؟" لم تشر المقالة إلى أن "الذين لا يحصين" هن جزء من 32 ألف مدني قتلتهم القوات الأميركية والغربية أثناء الاحتلال.
بهذه الطريقة وُلدت نكهة جديدة من النسوية الأميركية البيضاء مدعومة بتاريخ التفوق الأبيض داخل النسوية، وأحيت موضوعات وطنية وجعلت النشر العالمي للقيم النسوية، كالمساواة بين الجنسين، عنصرًا ضروريًّا من النسوية الأميركية نفسها. ويعبر مصطلح "النسوية الأمنية"، الذي نحتته ليلى أبو لغد عن التواطؤ بين مبادرات مكافحة التطرف العنيف والمناصرة العالمية للحقوق الجندرية. لم تُستثمر النسويات الأمنيات في خوض الحرب على الإرهاب فحسب بل كن ملتزمات أيضًا باستخدام القوة العسكرية الأميركية لتعزيز القيم الأميركية في كل أنحاء العالم. وتمامًا كما أقنعت النسويات الإمبراطوريات أثناء المرحلة الاستعمارية البريطانية أنفسهن بنزعتهن الخيرية في تحسين حيوات نساء السكان الأصليين، اعتقدت النسويات الأمنيات بالطريقة نفسها أنهن "ينقذن الأفغان والعراقيين من أنفسهم".
لم تكن ولادة النسوية الأمنية حادثًا أو مصادفة. فقد نشر خطاب إدارة بوش حول الحرب العالمية على الإرهاب فكرة أن الإيمان بكرامة النساء ومساواة النساء تتطلب دعم الحرب على الإرهاب. لكن تاريخ الامتياز العرقي الذي جعل النساء البيضاوات مرتاحات هكذا في زعم السلطة الأخلاقية وفي ممارسة السلطة على الرجال السمر مرّ إلى حد كبير من دون فحص. وحين أصبح العراق المسرح الثاني بعد أفغانستان للتجربة الأميركية الكبرى في الترويج للديمقراطية صار من الضروري تأسيس نسويات أمنيات هناك أيضًا. وكما عبّر الرئيس بوش عن الأمر، كان يجب أن تحصل النساء العراقيات على الحقوق لأن "أمن مواطنينا يعتمد على ذلك". وزعم بوش أن المسيرة الأميركية المتواصلة "لتعزيز الحرية في الشرق الأوسط الأكبر، منحت حقوقًا جديدة وآمالًا جديدة للنساء العراقيات" اللواتي "سيلعبن دورًا جوهريًّا في إعادة بناء الأمة". وكان التمسك "بكرامة النساء" من هذا المنظار، مرتبطًا بشكل مباشر بمكافحة الإرهاب بما أن "الرجال والنساء الذين لهم كرامة لا يلبسون أحزمة ناسفة ويقتلون الأبرياء".
احترمت القيم الأميركية حق النساء بالمساواة، وبالتالي كان فرض القيم الأميركية جوهريًّا لتعليم الناس في هذه الدول الأدنى احترام حقوق النساء. وكان هناك في قواعد الحرب على الإرهاب طريقة واحدة فقط لتحقيق المساواة بين الجنسين وهي إنشاء مؤسسات ديمقراطية ليبرالية على الطريقة الأميركية. وهكذا ربطت النسويةُ الأمنيةُ النسويةَ الأميركيةَ البيضاء بالمشروع النيورأسمالي والنيوليبرالي لبناء الأمة في أنحاء العالم، وهو مشروع عبر عنه الأستاذ والمؤرخ في هارفارد نيال فيرجسون في نظريته ”الأنجلو-عولمة“ (Anglobalization) داعيًا إلى تعليم الشبان الأميركيين أن يسافروا وراء البحار ويبنوا الأمم الأخرى على صورتهم كما فعلت بريطانيا. وفي هذا الجو المحموم الذي علقْن فيه لم تشكك النسويات الأميركيات بصوت مرتفع بما يكفي بحكمة تصدير النسوية من خلال القنابل والطائرات المسيرة. وافترض الجميع أن النسوية النخبوية القابلة للنشر ستحقق بسرعة وعلى نحو إعجازيّ عالمًا يُبْنى على صورة أميركا تسوده المساواة بين الجنسين والسوق الحرة.
كسبت النسوية الأمنية نفوذًا أكبر في 2012 بعد أن صارت الأساس لانخراط الولايات المتحدة مع نساء أخريات في أنحاء العالم. وكما قالت جين موسباكر موريس التي صاغت أول استراتيجية لـ"النساء الأميركيات ومكافحة الإرهاب"، وخطة مكتب مكافحة الإرهاب الأميركي حول النساء والسلام والأمن: "لقد بدأنا في الحقيقة بإرساء الطرق المختلفة التي نستطيع بها خرط النساء في مسائل الإرهاب ومكافحة الإرهاب وما نستطيع فعله كوزارة لجعل النساء ينخرطن". أرادت الخطة من النساء في البلدان المشاركة في الحرب على الإرهاب أن يشاركن في "رسائل مضادة وأمثلة أخرى من القتال ضد الإرهاب". وصرح تقرير أصدره معهد السلام الأميركي في 2016 أن "حقوق النساء ومكانتهن في المجتمع محورية لسرديات الجماعات المتطرفة العنيفة، وهذه السرديات هي المجال التي تكافح فيه النساء في أفغانستان للحصول على حقوقهن". إن الحجة هي أنه بما أن الجماعات الإرهابية تريد أن تحد من حقوق النساء يجب أن تتطوع النساء لقتالها. بهذه الطريقة تكافح النسوية الإرهاب. وعنى هذا بشكل واضح أن "مكافحة التطرف العنيف ومنع التطرف العنيف يجب أن يضما النساء كجماعات هدف". والملاحظ هنا أنه ما من ذكر لدعم مشاركة النساء الأفغانيات السياسية، ربما لأنه لو حصلت النساء الأفغانيات على الحرية السياسية فإنهن سيجعلن أولوية لهن إنهاء الاحتلال الأميركي. بدلًا من ذلك، كان الهدف هو تدريب النساء الأفغانيات كي يصبحن دمى تكرر كالببغاوات أي شيء يعلمه لهن أساتذة مكافحة التطرف العنيف أو منع التطرف العنيف.
في النموذج الذي تحدده هذه الاستراتيجية إذا كانت النساء غير راغبات بقبول الفرضية الأميركية بأن معظم شباب بلادهن إرهابيون، أو بالتعاون مع القوات الأميركية في استجوابهم وسجنهم أو قتلهم، يجب أن يُفترض إذًا أنهن أيضًا ضد تمكين النساء. بهذه الطريقة صار دعم مصالح السياسة الخارجية الأميركية مترادفًا مع النسوية.
*رافيا زكريا مؤلفة كتاب "زوجة الطابق العلوي: التاريخ الحميم لباكستان" (بيكون، 2015)، الكتاب الذي اختارته مجلة «نيوزويك» بين قائمة الكتب العشرة الأكثر أهمية في 2015. وهي كاتبة عمود منتظمة لصحيفة "دون باكستان"، كما تقوم بكتابة سلسلة "قراءة نساء أخريات" لمجلة "بوسطن ريفيو". نشرت في "الغارديان" و"النيويورك تايمز" و"الجزيرة أميركا" و"ديسنت" و"غيرنيكا"، بالإضافة إلى منابر أخرى. صدر لها أيضًا كتاب بعنوان "حجاب" عن بلومسبري في 2017.
[ترجمة أسامة إسبر].