كيف أصبحت الحرب على الإرهاب حرب أمريكا 'النسوية' الأولى

[المصدر: TBC] [المصدر: TBC]

كيف أصبحت الحرب على الإرهاب حرب أمريكا "النسوية" الأولى

By : Osama Esber أسامة إسبر

رافيا زكريا*

"أنا بخير"، هذا ما قالتهُ جيسيكا تشاستين الشاحبة وذات الشعر الأحمر وهي تنزع بذلة قفزها السوداء وقناعها. المشهد هو من فيلم كاثرين بيغلو لعام 2011 «الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل»، الذي رغم تفاهة حواره الواضحة فإنه يقول الكثير عن صفة جديدة للنسوية تطورتْ في العالم الغربي والأبيض منذ 9\11، وبداية الحرب على الإرهاب. تلعب تشاستين في الفيلم دور امرأة مسؤولة عن "اختيار الأهداف" في السي آي إيه تُدْعى مايا، وهي تبدو رقيقة لكنها قاسية كالأظافر في جميع المناحي الأخرى، مما يعني في هذا السياق أيضًا أنها ترغب بممارسة التعذيب. وفي الحقيقة هذا ما كانت تفعله هي وزميلها في السي آي إيه داخل مراكز محصنة ومؤقتة تحت الأرض استخدمت أيضًا كغرف للتعذيب. "لنعد إلى الداخل"، قالت للرجال بعد أن استراحوا للحظة من الجهود التي بذلوها في إيقاع ألم شديد بكائنات بشرية أخرى.

لدينا هنا مساواة بين الجنسين في أشد حالاتها انحرافًا، امرأة بيضاء تبذل ما في وسعها كي تُظْهر لرجل أبيض أنها تمتلك شهية للقسوة تعادل شهيته. ويبدو كأن الرجال البيض المقتضبين في كلامهم يوافقون. "إنها قاتلة"، قال رئيسها وراءها وهي تختفي في نهاية الردهة. لو كان هذا فيلمًا روائيًّا بشكل كامل لسَهُل تصنيفه كفنتازيا هوسية لمخرج ما من هوليود، بيد أنه من الواضح أن شخصية مايا مبنية على شخصية عميلة سرية للسي آي آيه، لم تكشف الوكالة أبدًا عن هويتها والتي لمّح كثيرون إلى شجاعتها العظيمة. كانت مايا (مع آخرين معظمهم نساء أيضًا كما قالت مصادر السي آي إيه) مسؤولة عن أسر وقتل أسامة بن لادن في أيار 2011.

ربما كان فيلم «زيرو دارك ثيرتي» (الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل) فيلمًا ناجحًا سينمائيًّا ومؤدىً ببراعة ومليئًا بالحركة ويصوّر ما نجحت مايا الحقيقية في فعله غير أنه يستند إلى حقائق. ذلك أن مايا الحقيقية قُلّدت وسام الاستخبارات المتميزة من أجل بطولتها التي يُحتفى بها الآن وكان هذا شرفًا أسعدها أن تتباهى به أمام جميع زملائها في السي آي إيه من خلال رسالة إلكترونية جماعية.

شاهدتُ فيلم "الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل" في سينما ممتلئة بالمشاهدين تقريبًا في ولاية إنديانا. ربما كانت مايا التي أدت دورها جيسيكا تشاستين "بخير" في غرف التعذيب المؤقتة لكنني لم أكن بخير. خلف السينما كان مول التسوق يتوهج بتزيينات العطلة وحولي بدا رواد السينما مرتاحين في الظلمة الدافئة ومسرورين من هذا التمجيد للنساء البيضاوات كسلاح حاسم في سحق الإرهابيين السمر.

هلّل الحشد بصورة متكررة، مرة أثناء مشهد ظهر فيه رجل أسمر أُخضع لتعذيب يُدعى «الإيهام بالغرق»، ومرة أخرى حين أوشكت أن تقبض على رجل كان الأميركيون يطاردونه لعقد طويل، وبالطبع في النهاية حين أُشيد بها كبطلة قضت على أخطر رجل شرير في العالم. كانت التجربة كلها إعادة طرح متقنة لعظمة مُصممة حتى يتلهّى بها الوطنيون. ولم تكن نهاية الفيلم لغزًا أبدًا، لقد ربحت أميركا، وعلى الأقل من أجل أهداف الفيلم، قامت "قاتلة" نحيلة، حمراء الشعر، ناعمة الملامح، بالتجسس وشقت طريقها ممارسةً التعذيب لضمان قتل المطلوب الأسمر الأول في العالم كله.

شعرتُ بالضيق، ليس فقط لأن بحث مايا عن المساواة مع الرجال شمل الشتائم المقذعة والتعذيب أو حتى لأنها قالت عن باكستان "إنها حقًّا مكان حقير" في الدقائق القليلة الأولى من الفيلم، بل أيضًا لأنه بدا وكأنني كنت الشخص الوحيد الذي شاهد الفيلم كانحراف كامل عن المشروع العام للمساواة بين الجنسين. بكيتُ في نهايته لأن الجمهور وقف كي يصفق للفيلم. بعد بضعة أشهر تم إحياء الفيلم في حفلات الأوسكار. فازت جيسيكا تشاستين بجائزة أفضل ممثلة. سادت المرأتان البيضاوان الحقيقية والخيالية، صارتا مساويتين للرجال البيض في قدرتهما على إخضاع الرجال السمر.

في فيلم "الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل" (وفي القصة الحقيقية الكامنة خلفه)، أعيدت صياغة النسوية الأميركية (التي كانت في زمن ما حركة مناهضة للدولة وناقدة لمؤسساتها وأعرافها) كحركة تخدم مصالح الدولة من خلال أية وسائل قابلة للتخيل. وبدا كأن هذا التماهي مع مصالح الدولة وفكرة الانطلاق لغزو العالم بنفس التركيبة الذهنية من الخضوع والهيمنة التي يمتلكها الرجال البيض، أصبح هدفًا نسويًّا. وكي نعبّر عن الأمر بطريقة مختلفة، أرادت النساء البيضاوات المساواة مع الرجال البيض بأية تكلفة، بما فيها القيام بالهيمنة على البشر السود والسمر بحماس كبير. وفيما بدأت النسويات البيضاوات يتقدمن داخل مجتمعاتهن ويشغلن مواقع مهمة بصورة متزايدة، شرعن ببناء نسوية تستخدم حيوات السود والسمر كمجالات يستطعن أن يبرهن فيها للرجال البيض على مؤهلاتهن.

قالت جوانا كوك في كتابها الصادر في 2019 بعنوان "مكان للمرأة: حرب مكافحة الإرهاب منذ 9\11" إن النسوية، خاصة في علاقتها مع الدولة، اعتادت أن تركز على الترويج للسلام واللاعنف. كان الانضمام إلى الحركة النسوية يعبر سابقًا عن إحساس بالأخوّة بين النساء ومواجهة الأفعال التي تقوم بها امرأة واحدة كي تؤذي حياة ومعيشة نساء أخريات. وفُهمت الدولة على أنها تؤسس المعايير الأبويّة وتنشرها واعتُبرت مقاومة هذه المعايير (بدلًا من تبنيها) فعلًا نسويًّا. ولكن في حرب أميركا على الإرهاب أدرجت الدولة الصراع من أجل المساواة في سياساتها، ومنحت النساء البيضاوات مساواة ظاهرية مع الرجال البيض لسحق الرجال السمر المسلمين الذين أصبحوا العدو المطلق في الخيال الأبيض.

ما له أهمية جوهرية هو أنه سُمح للنساء البيضاوات بأن يتّسمْن بالخصائص "اللا-أنثوية" للعنف والحرب التي كانت تهدد عادة النظام الأبوي المهيمن الذي يعشْن في ظله، ولم يُسمح لهن بفعل هذا إلا حين مارسْن هذه السلطة ضد شخص ما أدنى منهن في هرمية التفوق البيضاء، أي الطرف الأسمر. ما هو جلي بوضوح في هذه المقايضة هو نوع السلطة الشَرْطيّة والمحدودة التي مارستها نساء بريطانيا في القرن التاسع عشر حين غامرن بالذهاب إلى ما وراء البحار إلى المستعمرات البريطانية. في كلتا الحالتين كانت الحرية لعبة تعادل لا ربح ولا خسارة فيها فقد كان يُمنح المزيد من الحرية لمجموعة واحدة (النساء البيضاوات) شرط منح حرية أقل لمجموعة أخرى (من غير البيض). وليس الصادم والمضاد للنسوية هو فكرة كون النساء عنيفات فحسب بل أيضًا البعد العنصري المحوري لهذه الفرضية حول قوة أكبر للنساء البيضاوات. وبينما طالبت النسويات الأميركيات البيضاوات في الستينيات وفي مرحلة فيتنام بإنهاء الحرب فإن كل ما تهتم به النسويات الأميركيات الجديدات للقرن الواحد والعشرين الوليد هو خوض الحرب إلى جانب الرجال. فالحرب التي تُعد تقليديًّا أحد الأنشطة الذكورية الصارخة في المجتمع البشري، صارت تفتح ذراعيها للنساء حتى في أكثر لحظاتها بشاعة وعنفًا، واعتُبرت هذه خطوة كبيرة إلى الأمام بالنسبة للجميع.

كانت الحرب على الإرهاب، على مستوى النظرية على الأقل، حرب أميركا "النسوية" الأولى. ولم يكن الذين مُجّدوا هم محلّلو السي آي إيه فحسب، بل أيضًا الجنديات الإناث. إن قصة الجندية جيسيكا لينش مثال آخر. ففي الثالث والعشرين من آذار 2003 وقعتْ الجندية جسيكا لينش، سائقة شاحنة في الثالثة والعشرين من عمرها، في كمين مع وحدة صيانة تابعة للجيش الأميركي وأسرتها القوات العراقية. قُتل ثمانية جنود آخرين ونُقلت لينش إلى المستشفى حيث أساء معاملتها العراقيون كما قال البنتاغون. نفذت القوات الخاصة الأميركية مهمة خاصة لإنقاذ لينش، وزُعم أن الكلمات الأولى التي تفوهت بها حين عُثر عليها هي: "أنا جندية أميركية أيضًا". سُجلت عملية الإنقاذ على مقطع فيديو مدته خمس دقائق أطلقه البنتاغون للإعلام. وفي غضون ساعات صوّرها الإعلام كبطلة واحتفى بشجاعتها، وظهرت على غلاف مجلة «نيوزويك» إزاء علم أميركي عملاق، ودُعيت "رامبو الأنثى" و"بطلة أميركية". لم يبدأ التشكيك بالأعمال البطولية للينش إلا بعد وقت طويل جدًّا. فقد بثت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) فيلمًا وثائقيًّا لاذعًا اتهم الحكومة الأميركية بالمبالغة في الأعمال البطولية لإنقاذها وإساءة معاملتها من قبل العراقيين لتعزيز الدعم العام للحرب. وثبت فيما بعد أن كثيرًا من هذه المزاعم صحيح لكن عملية صناعة الأبطال التي انطلق البنتاغون للقيام بها في أعقاب عملية الإنقاذ مباشرة كانت قد بدأت قبل ذلك. فقد كانت الجندية الأميركية الأنثى كبطلة في حرب العراق هي الصورة التي سيتذكرها الأميركيون. وكان جليًّا أن الفيلم التلفزيوني "إنقاذ جيسيكا لينش" الذي بثته قناة إن بي سي في 2003 روى القصة البطولية نفسها التي شككت بها بي بي سي وآخرون. أرادت أميركا جندية بطلة، وحصلت على واحدة. أُشير أيضًا إلى الحرب كحرب "نسوية" لأن نشر حقوق النساء كان مهمًّا جدًّا كهدف فعلي. فقد حُررت النساء الأميركيات وسيذهبن الآن مع جنود ذكور آخرين إلى أفغانستان كي يستأصلن نظام طالبان الكاره للنساء. بالتالي ليست أميركا قوة عظمى متوحشة تقصف أمة صغيرة وبائسة بل قوة للخير تساعد فعليًّا في تحقيق المساواة بين الجنسين في بلد مزقته الحرب.

كانت جهود القضاء على الإرهاب (الذي يُعتبر إرهابًا إسلاميًّا وليس إرهابًا قوميًّا أبيض رغم الحصيلة الأكبر بكثير للثاني من القتلى الأميريكيين) تتمثل في تقديم المدارس والعيادات الصحية وحتى صالونات التجميل والمساعدة في الإصلاح القانوني وتطوير مراكز حماية النساء وصياغة دساتير تقدمية. أما "المسألة الصغيرة"، وهي عمليات القصف المدمرة التي قتلت الآلاف وسببت عجز عدد أكبر وفرقت بين أفراد العائلة إلى الأبد ودمرت سبل العيش فقد كانت وسائل ضرورية لتلميع تلك الغاية النسوية. وحين ترتكب امرأة أميركية بيضاء (مثل مايا التي أدت دورها تشاستين في فيلم "الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل") فعلًا ما عنيفًا أو وحشيًّا غير قابل للتصور يُعتبر جزءًا من المشروع الأكبر والأنبل لمساعدة أفغانستان أو العراق كي يصبحا بلدين يقدّران النساء كما تقدرهما أميركا. ومن أجل تحقيق تحرير النساء، والذي هو جزء من الحرب على الإرهاب، بُذلت جهود لبناء نسخ يمنية وعراقية وأفغانية من "مايا": نساء يتم تدريبهن على الحرب يُجلبن من خلف خطوط العدو ويعاد تكوينهن كعميلات مزدوجات، وهذا شيء غير عادي، هذا إذا لم يكن غير مسبوق في الشرق الأوسط وجنوب آسيا. وأُنفقت ملايين الدولارات على تدريب النساء على مكافحة الإرهاب، وشمل هذا وحدة مكافحة إرهاب يمنية منتخبة كلها إناث وبرنامجيْ "شقيقات العراق" و"بنات الفلوجة" المصممين لجمع معلومات حول أشقائهن العراقيين وأبناء الفلوجة. واستندت هذه البرامج على فرضية أن النساء السمر يمكن تحويلهن إلى أسلحة ضد الرجال السمر الذين هم أقرباؤهن وأصدقاؤهن، وأن إيمانهن الجوهري بالتعريف الغربي للحرية والنسوية وولاءهنّ له سيحلان محل روابطهن مع جماعتهن. غير أن المفارقة هنا، هي أن بعض الأميركيين يمكن أن يقصفوا قرية في الصباح بينما يقوم أميركيون آخرون بتدشين مدرسة في أخرى بعد الظهر، لم تغب عن انتباه النساء الأفغانيات اللواتي نُقشت عليهن مصالح وتطلعات النسويات الأميركيات البيضاوات. ليست النقطة هنا أن برامج مكافحة التطرف العنيف (التسمية الجديدة التي مُنحت لبرامح مكافحة الإرهاب) كانت فاشلة بل الافتراض النسوي الأبيض المتعجرف بأن النساء الأفغانيات منفصلات عن آبائهن وأخوتهن وأزواجهن (القساة والبرابرة في الخيال الأميركي) وسعيدات للعمل كجاسوسات وجامعات معلومات استخباراتية للأميركيين. إن هذا الإنكار، أو رفض الاعتراف بأن النساء الأفغانيات مرتبطات بشكل غير قابل للفصل مع الرجال الأفغان، وأن قصف الرجال بشكل مباشر أثر في النساء، يشرح فشل برامج كثيرة بدأت في المنطقة.

أدى تشابك أجندة "تحرير النساء" مع حرب أميركا اللانهائية والمتوسعة على الدوام ضد الإرهاب إلى ولادة "النسوية الأمنية" (securo-feminism)، وهو مصطلح نحتته الباحثة الأكاديمية ليلى أبو لغد كي تشير إلى التواطؤ بين مناصري حقوق النساء الدوليين والمشروع الأمني العالمي، المشار إليه بـ"مكافحة العنف المتطرف". وترى "النسوية الأمنية" أن مكافحة الإرهاب هو في حد ذاته نوع من النسوية. ووضعت الصدمة الوطنية والحزن الناجمان عن هجوم الحادي عشر من أيلول هذه الحرب الأجنبية في فئة مختلفة جدًّا عن أي حرب خاضتها أميركا من قبل. ولم يكن التهديد تجريديًّا أو افتراضيًّا أو يحدث في مكان ما بعيد بل شُعر بأنه ملموس ومباشر وشخصي.

أعيدت صياغة النسوية الأميركية كحركة تخدم مصالح الدولة من خلال أية وسائل قابلة للتخيل. وبدا كأن هذا التماهي مع مصالح الدولة وفكرة الانطلاق لغزو العالم بنفس التركيبة الذهنية من الخضوع والهيمنة التي يمتلكها الرجال البيض، أصبح هدفًا نسويًّا.

في كتابه "المتعصبون التافهون" يروي المؤلف والمؤرخ بانكاج ميشرا تمامًا كيف قبلت حتى طبقة المثقفين بسهولة الحرب على الإرهاب وكل أعمالها الوحشية الأولية، وقد كانت هذه الطبقة تنتقد في الماضي مغامرات أميركا العسكرية في العالم النامي. وعبّرتْ عن النكهة النيو-إمبريالية الخاصة للحظة مقالة من التغطية الصحفية للانتصار لروبرت كابلان من مجلة «أتلانتيك» الذي قال بابتهاج إن عبارة "أهلًا بكم في بلاد الهنود الحمر" كانت اللازمة التي رددها الجنود الأميركيون في كل أنحاء العالم، الذين تخيلوا أن مهمتهم هي لعب دور راعي البقر لقتل الأعداء سمر البشرة والهيمنة عليهم بأية طريقة ممكنة. لكن مهمة إنقاذ النساء الأفغانيات يمكن أن تضفي لمعانًا أكبر على العمل. وكما تشير الأنثروبولوجية ليلى أبو لغد في كتابها "هل تحتاج النساء المسلمات إلى إنقاذ؟" روج الأميركيون "كذبة تحرير" صورتهم كمنقذين للنساء الأفغانيات المضطهدات. من هذا الموقع المتفوق، تخيلت النسويات الليبراليات البيضاوات العنف القائم على الجندر كشيء لا يوجد فقط إلا في الأراضي البعيدة. وأعمت "كذبة التحرير" المعلقين والصحفيين حيال كلٍّ من السياسة الخارجية الأميركية والمشكلات التي تواجهها النساء في العالم النامي.

في 2002 وجّه ائتلافٌ من المنظمات النسوية الغربية رسالة مفتوحة إلى الرئيس جورج دبليو بوش طالبنه فيها بأن "يقوم بعمل طارئ لإنقاذ حياة النساء الأفغانيات وتأمين مستقبلهن". كان بين الموقعين إلينور سميل، رئيسة مؤسسة الأغلبية النسوية في فيرجينيا، مع نسويات بارزات أخريات مثل غلوريا ستاينيم وإيف إنسلير وميريل ستريب وسوزان ساراندون. صرّحنَ أن أغلبية النساء الأميركيات يدعمن الحرب لأنها "ستحرر النساء الأفغانيات من سوء المعاملة والظلم". وأصدرت المنظمة الوطنية للنساء بيانات داعمة للحرب وأهدافها "النسوية" المزعومة. وكان الجميع في مؤسسة التيار الرئيس الأميركي والبريطاني (وضمنهم بطلات نسويات بيضاوات مثل التي صارت أخيرًا وزيرة خارجية، هيلاري كلينتون، ووزيرة الخارجية مادلين ألبرايت) داعمين مخلصين للحرب على الإرهاب بأية وسيلة يعتقد الجيش والسي آي إيه أو الرئيس أنها لازمة. ولم يربط أحد من هؤلاء بين ممارسة الوحشية الأميركية والوعظ بالوعد الإنقاذي الأميركي.

في تموز/يوليو 2004، وبعد ثلاث سنوات من غزو أفغانستان أعلن بوش النصر: "منذ ثلاث سنوات كانت التعبيرات الأدنى عن الفرح تعتبر خارجة عن القانون. ضُربت النساء لأنهن يرتدين أحذية بألوان براقة. لكننا اليوم نشهد انبعاث ثقافة أفغانية نابضة بالحياة". وفي الآونة الأخيرة، حاول عنوان رئيس في «نيويورك تايمز» أن يحتفي بالنصر حتى فيما كان يشير إلى أن النساء أنفسهن يمتلكن تجربة مختلفة: "لقد أنقذت مراكز الحماية أعدادًا لا تحصى من النساء الأفغانيات، إذًا لماذا هنّ خائفات؟" لم تشر المقالة إلى أن "الذين لا يحصين" هن جزء من 32 ألف مدني قتلتهم القوات الأميركية والغربية أثناء الاحتلال.

بهذه الطريقة وُلدت نكهة جديدة من النسوية الأميركية البيضاء مدعومة بتاريخ التفوق الأبيض داخل النسوية، وأحيت موضوعات وطنية وجعلت النشر العالمي للقيم النسوية، كالمساواة بين الجنسين، عنصرًا ضروريًّا من النسوية الأميركية نفسها. ويعبر مصطلح "النسوية الأمنية"، الذي نحتته ليلى أبو لغد عن التواطؤ بين مبادرات مكافحة التطرف العنيف والمناصرة العالمية للحقوق الجندرية. لم تُستثمر النسويات الأمنيات في خوض الحرب على الإرهاب فحسب بل كن ملتزمات أيضًا باستخدام القوة العسكرية الأميركية لتعزيز القيم الأميركية في كل أنحاء العالم. وتمامًا كما أقنعت النسويات الإمبراطوريات أثناء المرحلة الاستعمارية البريطانية أنفسهن بنزعتهن الخيرية في تحسين حيوات نساء السكان الأصليين، اعتقدت النسويات الأمنيات بالطريقة نفسها أنهن "ينقذن الأفغان والعراقيين من أنفسهم".

لم تكن ولادة النسوية الأمنية حادثًا أو مصادفة. فقد نشر خطاب إدارة بوش حول الحرب العالمية على الإرهاب فكرة أن الإيمان بكرامة النساء ومساواة النساء تتطلب دعم الحرب على الإرهاب. لكن تاريخ الامتياز العرقي الذي جعل النساء البيضاوات مرتاحات هكذا في زعم السلطة الأخلاقية وفي ممارسة السلطة على الرجال السمر مرّ إلى حد كبير من دون فحص. وحين أصبح العراق المسرح الثاني بعد أفغانستان للتجربة الأميركية الكبرى في الترويج للديمقراطية صار من الضروري تأسيس نسويات أمنيات هناك أيضًا. وكما عبّر الرئيس بوش عن الأمر، كان يجب أن تحصل النساء العراقيات على الحقوق لأن "أمن مواطنينا يعتمد على ذلك". وزعم بوش أن المسيرة الأميركية المتواصلة "لتعزيز الحرية في الشرق الأوسط الأكبر، منحت حقوقًا جديدة وآمالًا جديدة للنساء العراقيات" اللواتي "سيلعبن دورًا جوهريًّا في إعادة بناء الأمة". وكان التمسك "بكرامة النساء" من هذا المنظار، مرتبطًا بشكل مباشر بمكافحة الإرهاب بما أن "الرجال والنساء الذين لهم كرامة لا يلبسون أحزمة ناسفة ويقتلون الأبرياء".

احترمت القيم الأميركية حق النساء بالمساواة، وبالتالي كان فرض القيم الأميركية جوهريًّا لتعليم الناس في هذه الدول الأدنى احترام حقوق النساء. وكان هناك في قواعد الحرب على الإرهاب طريقة واحدة فقط لتحقيق المساواة بين الجنسين وهي إنشاء مؤسسات ديمقراطية ليبرالية على الطريقة الأميركية. وهكذا ربطت النسويةُ الأمنيةُ النسويةَ الأميركيةَ البيضاء بالمشروع النيورأسمالي والنيوليبرالي لبناء الأمة في أنحاء العالم، وهو مشروع عبر عنه الأستاذ والمؤرخ في هارفارد نيال فيرجسون في نظريته ”الأنجلو-عولمة“ (Anglobalization) داعيًا إلى تعليم الشبان الأميركيين أن يسافروا وراء البحار ويبنوا الأمم الأخرى على صورتهم كما فعلت بريطانيا. وفي هذا الجو المحموم الذي علقْن فيه لم تشكك النسويات الأميركيات بصوت مرتفع بما يكفي بحكمة تصدير النسوية من خلال القنابل والطائرات المسيرة. وافترض الجميع أن النسوية النخبوية القابلة للنشر ستحقق بسرعة وعلى نحو إعجازيّ عالمًا يُبْنى على صورة أميركا تسوده المساواة بين الجنسين والسوق الحرة.

كسبت النسوية الأمنية نفوذًا أكبر في 2012 بعد أن صارت الأساس لانخراط الولايات المتحدة مع نساء أخريات في أنحاء العالم. وكما قالت جين موسباكر موريس التي صاغت أول استراتيجية لـ"النساء الأميركيات ومكافحة الإرهاب"، وخطة مكتب مكافحة الإرهاب الأميركي حول النساء والسلام والأمن: "لقد بدأنا في الحقيقة بإرساء الطرق المختلفة التي نستطيع بها خرط النساء في مسائل الإرهاب ومكافحة الإرهاب وما نستطيع فعله كوزارة لجعل النساء ينخرطن". أرادت الخطة من النساء في البلدان المشاركة في الحرب على الإرهاب أن يشاركن في "رسائل مضادة وأمثلة أخرى من القتال ضد الإرهاب". وصرح تقرير أصدره معهد السلام الأميركي في 2016 أن "حقوق النساء ومكانتهن في المجتمع محورية لسرديات الجماعات المتطرفة العنيفة، وهذه السرديات هي المجال التي تكافح فيه النساء في أفغانستان للحصول على حقوقهن". إن الحجة هي أنه بما أن الجماعات الإرهابية تريد أن تحد من حقوق النساء يجب أن تتطوع النساء لقتالها. بهذه الطريقة تكافح النسوية الإرهاب. وعنى هذا بشكل واضح أن "مكافحة التطرف العنيف ومنع التطرف العنيف يجب أن يضما النساء كجماعات هدف". والملاحظ هنا أنه ما من ذكر لدعم مشاركة النساء الأفغانيات السياسية، ربما لأنه لو حصلت النساء الأفغانيات على الحرية السياسية فإنهن سيجعلن أولوية لهن إنهاء الاحتلال الأميركي. بدلًا من ذلك، كان الهدف هو تدريب النساء الأفغانيات كي يصبحن دمى تكرر كالببغاوات أي شيء يعلمه لهن أساتذة مكافحة التطرف العنيف أو منع التطرف العنيف.

في النموذج الذي تحدده هذه الاستراتيجية إذا كانت النساء غير راغبات بقبول الفرضية الأميركية بأن معظم شباب بلادهن إرهابيون، أو بالتعاون مع القوات الأميركية في استجوابهم وسجنهم أو قتلهم، يجب أن يُفترض إذًا أنهن أيضًا ضد تمكين النساء. بهذه الطريقة صار دعم مصالح السياسة الخارجية الأميركية مترادفًا مع النسوية.

*رافيا زكريا مؤلفة كتاب "زوجة الطابق العلوي: التاريخ الحميم لباكستان" (بيكون، 2015)، الكتاب الذي اختارته مجلة «نيوزويك» بين قائمة الكتب العشرة الأكثر أهمية في 2015. وهي كاتبة عمود منتظمة لصحيفة "دون باكستان"، كما تقوم بكتابة سلسلة "قراءة نساء أخريات" لمجلة "بوسطن ريفيو". نشرت في "الغارديان" و"النيويورك تايمز" و"الجزيرة أميركا" و"ديسنت" و"غيرنيكا"، بالإضافة إلى منابر أخرى. صدر لها أيضًا كتاب بعنوان "حجاب" عن بلومسبري في 2017.

[ترجمة أسامة إسبر].

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬