شكلت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في التاسع عشر من أغسطس/آب عام 2011 إلى الصومال حين كان رئيسًا للوزراء، تحولًا نوعيًّا في تعاطي العالم مع المسألة الصومالية، وأصبح أردوغان أول زعيم غير أفريقي يزور البلاد في وقتٍ كانت تشهد أزمة إنسانية حادّة، ونالت زيارته تغطية واسعة من قبل وسائل الإعلام العالمية، التي كانت تلقّب الصومال وقتئذ بـ"أخطر مكان في العالم".
وقدم أردوغان أن الدافع الرئيسي وراء زيارته هو إنقاذ الصومال من المجاعة، وحشد فور عودته أكثر من 200 شخصًا من الساسة الأتراك ورجال الأعمال والمشاهير والصحفيين وممثلي الهيئات الإنسانية لتقديم مساعدة عاجلة إلى الصومال، وقدمت حكومته 49 مليون دولارًا، و365 مليون دولارًا أخرى تبرع بها المجتمعون. وفي مقالة نشرها في مجلة فورين بوليسي انتقد أردوغان تجاهل المجتمع الدولي للصومال. بالإضافة إلى ذلك، كرّس نصف خطبته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نفس عام زيارته للحديث عن الأوضاع المأساوية في الصومال، ودعا إلى تدخل دولي إنساني هناك، وأعلن استعداد بلاده قيادة هذا التدخل.
ورغم أن بعض الدول الإقليمية تلمّست من هذا الاهتمام التركي المفاجئ في الصومال بخطر انبعاث "عثمانية جديدة" في القرن الإفريقي، إلا أن الصومال تحول في غضون سنوات قليلة من منطقة لا تكاد تلفت انتباه أحد (باستثناء قراء شريط الأخبار في أسفل الشاشة) إلى ساحة للتنافس الإقليمي والدولي، إذ اعترفت واشنطن بالحكومة الصومالية في العام التالي من زيارة أردوغان، وأعادت منذ ذلك الوقت العديد من دول العالم، بما فيها الصين وروسيا، فتح سفاراتها من جديد.
في خلال العقد الماضي، توسّع الانخراط التركي في الصومال إلى كافة المجالات والمستويات، ودخلت الشركات التركية الحكومية والخاصة في الاستثمار في البنية التحتية الصومالية الثرية بالفرص، حيث تدير بعض تلك الشركات اليوم المرافق الاقتصادية المهمة في البلاد، مثل ميناء مقديشو البحري، التي تديره شركة "ألبيراق" التركية، ومطار آدم عبد الله الدولي الذي تشغله شركة "فافوري" التركية، وهو المطار الوحيد الذي يعمل في العاصمة. فضلًا عن أن البضائع التركية أصبحت المهيمنة في الأسواق الصومالية. كما بدأت الخطوط الجوية تسيير أول رحلات دولية من وإلى مقديشو، وسرعان ما أصبح من أكثر الخطوط ربحية في الخطوط الجوية التركية.
لقد أدى هذا الدور التركي، الذي حمل بطبيعة الحال مكاسب عديدة للطرف التركي، في إحداث تحسين مطرد للاقتصاد الصومالي في العقد الماضي، حيث على سبيل المثال بلغت قيمة المشاريع التركية التي نفذتها في قطاعي الصحة والتعليم مليار دولارًا، كما ارتفع التبادل التجاري بين البلدين من 8 ملايين إلى 280 مليون دولارًا سنويًّا. والميزة التي يجب أن تأخذ في الحسبان بهذا الصدد هو أن الاستثمارات التركية أتت بتقييدات وشروط أقل مقارنة مع المانحين التقليديين الغربيين مثل صندوق النقد الدولي.
لكن ما الذي قاد تركيا إلى التوجه إلى بلد مضطرب ومحفوف بالمخاطر كالصومال؟ إذا تجازونا خطاب التدخل لأجل "الأخوة الدينية" التي كرّسها الرئيس التركي أردوغان في أذهان الصوماليين، فإن الصومال يمثل في حسابات تركيا الاستراتيجية بوابة رئيسية إلى منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، وهي جزء من "استراتيجية تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية مع أفريقيا" التي تم تبنيها لأول مرة بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في عام 2003 وتبلورت لاحقًا في عام 2005 في مبادرة "الانفتاح على إفريقيا". وسجلت التجارة بين تركيا وإفريقيا قفزة من 5.4 مليار دولارًا أمريكيًّا في عام 2003 إلى 25.3 مليار دولارًا أمريكيًّا بحلول عام 2020. وفي هذا الاتجاه، وفي خطوة تجسد هذه الرؤية، افتتح أردوغان في زيارة لاحقة قام بها إلى الصومال في مايو/أيار 2016، أكبر سفارة تركية في الخارج في العاصمة الصومالية مقديشو.
ولم يقتصر الوجود التركي في الصومال على الاعتماد على الدبلوماسية الناعمة والمنح الدراسية التي تقدّم للطلبة الصوماليين بانتظام، بل دشنت تركيا حضورًا عسكريًّا لها في الصومال، وانطلق هذا الاتجاه التركي من خلال التفاهمات التي توصلتها حكومتي البلدين في عام 2012، بتدريب الجيش الصومالي وبناء كفاءته القتالية بهدف الاستغناء عن وجود البعثة الأفريقية (أميصوم)، وتُوّج الحضور العسكري التركي الرّسمي في الصومال بإنشاء قاعدة التدريب التركية (توركسوم) في العام 2017، والتي تُعدّ أكبر قاعدة عسكرية تركية خارج البلاد، وبلغت تكلفة إقامتها 50 مليون دولارًا. وحتى الآن، دربت تركيا قرابة 15 إلى 16 ألف جندي صومالي، أي ثلث الجيش الصومالي تقريبًا. وبالإضافة إلى أن تسليح الجيش الصومالي صناعة تركية، مثل المركبات العسكرية القتالية والسيارات المضادة للألغام والكمائن، والبنادق الهجومية والدبابات، إلا أن الأخطر ما في الاستراتيجية العسكرية التركية في بناء الجيش الصومالي هو أن الضباط الصوماليين يتلقون التدريب باللغة التركية، ويؤدون اليمين العسكرية باللغة التركية بجانب اللغة الأم، ويُحيِّون في حفل تخرجهم، ذكرى الجنود الذين سقطوا في حملة جاليبولي (معركة جناق قلعة)، حسب التقليد العسكري الأكاديمي التركي، وهو ما يضع شكوكًا حول العقيدة الوطنية للجيش الصومالي الذي تدربه تركيا.
وبالنسبة للصوماليين، أصبحت تركيا في العقد الأخيرة الوجهة الرئيسية لهم في مجالات التعليم والسياحة الصحية وفرص الأعمال. ويوجد حاليًّا ما يقدر بـ80-100 ألف صومالي، ما بين طلاب وعائلات انتقلت من الشتات الصومالي في أميركا الشمالية والدول الأوربية والعالم العربي وبعض من أجزاء أفريقيا للاستقرار في تركيا. نظرًا لجودة الحياة هناك، والقرب الثقافي الذي يجدونه، وكذلك أصبحت المدن التركية الموطن الجديد لظاهرة[1] الـdhaqan celis، وينظر غالبية الصوماليون بإيجابية كبيرة إلى الحكومة والشعب التركيين.
وفي مناسبة مرور عقد من زيارة أردوغان المفصلية، نظمت مؤسسة أفريكا فاونديشن التركية، ومعهد هيريتيج للدراسات السياسية (معهد تفكير صومالي) ندوة دولية في مدينة أنقرة التركية في هذا الشهر، استعرض فيها أزيد من عشرين باحث، أتراك وصوماليون من حول العالم، أوراقًا بحثية جرى استكتابها لتقييم العلاقات الصومالية التركية في العقد الماضي، وشملت المواضيع التي نوقشت في الندوة: العلاقات التركية الصومالية: التاريخ، المصالح، التصورات؛ وتقييم السياسة الخارجية التركية بشأن الصومال؛ المساهمة التركية في تنمية رأس المال البشري في الصومال: حالة التعليم العالي؛ تقييم فرص وتحديات الشراكة العسكرية التركية الصومالية؛ والدور التركي في المحادثات الصومالية-الصوماليلاندية؛ والعلاقات التجارية بين تركيا والصومال؛ والتنمية الريفية: إمكانيات وتحديات التعاون الزراعي؛ الدبلوماسية الثقافية وحراك الشتات؛ الشعبية المتزايدة للدراما التركية بين الشباب الصومالي؛ تعلم اللغة التركية بين الصوماليين؛ السياحة الصحية من الصومال إلى تركيا. يتضح من خلال تلك العناوين، أن علاقات البلدين تمس كافة المجالات تقريبًا، وهي مرشحة للاستمرار في المستقبل المنظور. والأمر الإيجابي الأهم في هذا الصدد، هو أن العلاقة مع تركيا، نقلت الصومال من أرض للمعونات الإنسانية إلى شريك استراتيجي لها، وهو ما فرض واقعًا جيواستراتيجيًّا جديدًا في القرن الإفريقي والبحر الأحمر.
لا شك أن تركيا حققت من خلال انخراطها المتعدد المستويات في الصومال مكانة إقليمية بارزة، نظرًا لموقع الصومال الاستراتيجي واحتياطاته النفطية الكبيرة، التي حصلت تركيا على عقود التنقيب عنه، كما في هذا الإطار، تخطط أنقرة للقيام بهبوط صعب على سطح القمر باستخدام صاروخ سيُطلق في المدار عام 2023، في الذكرى المئوية للجمهورية التركية، واختارت الصومال لبناء موقع إطلاق الصواريخ لقربه من خط الاستواء. وتشير مسودة حسابات الحكومة إلى أن إنشاء وصيانة ميناء فضائي في الصومال سيكلفان أكثر من 350 مليون دولارًا.
بينما في المقابل، يجد الصومال في علاقته مع تركيا شريكًا إقليميًّا يساعده للخروج من مأزق الدول الفاشلة، في الوقت الذي تركه المجتمع الدولي ليواجه مصيره، وبفضل الحضور التركي حقّق الصومال بالفعل في السنوات الأخيرة تنمية في البنية التحتية وبناء القدرات الصومالية في الجيش والشرطة وقطاعات حكومية أخرى. لكن يجب أن يكون الانسحاب الأميركي من الصومال في بداية هذا العام، والانسحاب المقرر لبعثة "أميصوم" في الشهور المقبلة، وكذا التطورات الأخيرة في أفغانستان، بمثابة درس للصومال على أن الدعم الخارجي لا يمكن الاعتماد عليه في عملية بناء الدولة، ومن هنا فعلى الحكومات الصومالية التركيز على استكمال بناء مؤسساتها وأن تتولى تشغيل وإدارة مرافق ومؤسسات الدولة بنفسها، بما فيها عملية بناء الجيش وفق عقيدة قتالية وطنية، وهذا هو التحدي الملح أمام الحكومات الصومالية في السنوات المقبلة.
الهوامش
[1]: المصطلح الصومالي dhaqan celin (ويعني حرفيًّا العودة إلى الثقافة) يشير إلى ظاهرة منتشرة بين الجيل الأول من الآباء الصوماليين المهاجرين إلى الدول الغربية، والذين يعمدون إلى إرسال أولادهم إلى الوطن من أجل اكتساب اللغة الأم، أو أخذ دورات دينية، للمزيد ينظر إلى هذه الورقة الدراسية.