لويز غليكّ، ترجمة لمى سخنيني
(العائدون للنشر، عمّان، 2021)
جدلية (ج): لماذا لويز غليكّ تحديدًا، ما الذي قادك نحوها؟
لمى سخنيني (ل. س.): عندما انتشر خبر فوز لويز غليك بجائزة نوبل في الأدب عام 2020، ابتهج الشعراء، وبالأخص الشاعرات، فهي المرأة السادسة عشرة فقط التي تحصل على الجائزة (وأول شاعرة أميركية تحظى بها)، "تكتب غليك قصائد تبدو بسيطة بشكل مخادع". يشيد الاقتباس من لجنة نوبل بـ"صوتها الواضح الذي يجعل الوجود الفردي عالميًّا بجمالها الصارم". على سبيل المثال، اثنان من سطورها التي كثيرًا ما تُقتَبس تقول: "ننظر إلى العالم مرة واحدة، في الطفولة/ الباقي هو الذاكرة".
هذا شدني كثيرًا للتعمق بقراءة شاعرة أشاد بها العالم. ولكن عندما بدأت أقرأ لها بعمق كما هو المعتاد لي عند بدء ترجمة أي نص لم أترجم منه من قبل، دخلت في عوالم غليك شديدة الواقعية، وفي الوقت ذاته هي عوالم مسحورة أسطورية شدتني بشِباك من شوق إلى الأبطال الأسطوريّين للإلياذة، إذ أعادت الشاعرة بناء قصصهم بما يتوافق مع خيالها الخصب وتجربتها الحياتية الغنية. فهي توظف تجربة هذه الشخصيات في مواجهة حقائق ينكرها معظم الناس، كالشيخوخة والطفولة المبكرة والموت، والحياة في ظلال الموت. فهذا العمل الفذ الهادئ ولكنه الفولاذي لإعادة التكيف مع التجربة الحياتية الحية جعلني أقارن حياتي بحياتها وأقيس تجاربي بتجاربها، لأستنتج بأن حياة النساء المبدعات متقاربة بالشكل والمحتوى.
تقول غليك "بمجرد أن أصنع نفسي وأصف نفسي، أريد أن أفعل الشيء المعاكس في التو". فهي الرغبة الدائمة في تدمير الذات والانسحاب من الحياة، وفي الوقت ذاته فأكثر ما يرعبها هو بلاء الصمت، الغياب عن الإبداع، تكرار الذات، فهي تحثّ على التغيير في الإنجاز. التجدد الدائم، هو أكثر ما يعجبني بها، فهي تقول "إذا كان لديك رسالة فلتكتب". عندما تتناول موضوع الموت، فهي لا تعرف الخوف، وتقترب منه بدون مقاومة أو نضال. فهذا الإحساس بالحرية يمنعها من التثاقل في اقترابها وممارستها للحياة، فتخيّم حرية النشوة في كتبها مثل أي رحلة يمكن لها القيام بها.
ويتنوع خيال غليك على نطاق واسع، وتخلق أحلامًا سريالية، حلّقتُ وغنيت معها على مجموعة واسعة من النغمات؛ الاستسلام وخيبات الأمل، وأيضًا الفرح والنزوات وروح الدعابة، امتدادٌ طبيعي لعقل الشاعرة المتعرج في دروب الحياة. لقد قضيت شهورًا في ترجمة هذه المختارات وكأنني قد أدمنت الشعر، فالآن أنا أشتاق إلى تلك التجربة الغنية الساحرة. ولكني وبالرغم من لحظات الفرح العميق التي طرقتْ قلبي، فأنا هنا أتفق مع معظم النقاد الذين تناولوا شعرها، فغليك ليست شاعرة تقرأها لترفّه عن نفسك.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية لدى الشاعرة؟ ما هو العالم الذي تأخذنا إليه قصائدها؟
(ل. س.): عندما نقرأ للويز غليك، لا يمكن أن ،قرأ أعمالها كقصائد منفردة، يجب على القارئ أن يقرأ الديوان دفعة واحدة، فقصائدها من الصعب أن تقف بمفردها، فالديوان هو عبارة عن قصة متكاملة، والقصائد تكمل بعضها البعض. وهكذا نجد أن كل قصيدة لها روحها الخاصة، لكنها تسهم أيضًا في تعميق التأمل الفلسفي للعلاقة بين الإنسان والطبيعة، والذي يتراكم في جميع أنحاء كل مجموعة من مجموعاتها. وبدلًا من استخدام كتل نصية جامدة في كل قصيدة لتحقيق العمق الأدبي، تعتمد على خطابات متوازية - إذ تجسّد كل قصيدة صوتًا لشخص ما أو زهرة أو شجرة - حوارات عديدة بين زهور حديقة ومزارعين وأشخاص عرفتهم في حياتها، أو لأشخاص أسطوريّين يعبرون عن أفكار وتساؤلات لا إجابة لها، فهي تصف إلهًا غير مسمى. وثمّة حوارات مستمرة في الحدوث، مع قصائد فردية تأخذ دورها في الكلام. تستخدم لغة بسيطة مخادعة للتعبير عن الأفكار المكثفة، لكن التمعّن بالنظر في الكيفية التي اختيرت فيها القصائد بدقة في دواوينها المختلفة يوجه القارئ إلى تأمل أعمق. عندما أقرأ القصائد أشعر أيضًا أن كل قصيدة، والتي تتكون من صفحتين على الأكثر، لها أهمية أكبر عندما ترتبط القصيدة التالية مباشرة بالموضوع.
والبساطة هنا لا تعني بساطة الموضوع والمعنى؛ فقد تحتوي قصيدة واحدة على وجه من الكل، لكن تماسك المجموعة المتكاملة يعزز رحلة القارئ أكثر من أي قصيدة بمفردها. على سبيل المثال في ديوان "السوسنة البرية"، هناك ثلاثة حوارات مختلفة على الأقل - واحدة من أزهار مختلفة، واحدة بين المتحدث (المتحدثين) البشريين، والحوارات غير المباشرة للزهور والبشر من خلال تجاور القصائد الفردية.
تدور أحداث الديوان في الغالب داخل حديقة. فالزهور، مثل البرقوق الأحمر والسوسن البري، تلعب دور مكبرات صوت، ولكل من البستاني والإله مناوشات حول عدم قدرتهم على التواصل بوضوح مع بعضهم البعض. ومن المثير للاهتمام أن العنوان يمكن أن يشير إلى صلاة الصباح المسيحية (كجزء من الممارسة التقليدية) وكذلك ترنيمة الصباح للطيور، وبالتالي تشير إلى كل من العالم الإلهي والعالم الطبيعي باختيارها الدقيق. يقول البستاني، في إحدى القصائد المسماة "ماتينس" والتي جاءت في هذه المجموعة المترجمة:
هل تريد أن تعرف كيف أقضي وقتي؟
أمشي في الحديقة الأمامية متظاهرة
بأني أُعشّب.
ينبغي لك أن تعرف
بأنني أبدًا لا أعشب، على ركبتي، أخلع
كتل البرسيم من أحواض الزهور: في الواقع
أنا أبحث عن الشَّجاعة، عن بعض الأدلّة
بأن حياتي ستتغير، وهذا
الأمر يستغرق إلى الأبد، والتحقق
كل كتلة ترمز
لورقة، وسرعان ما ينتهي الصيف، بالفعل
الأوراق تتحول، دائمًا الأشجار المريضة
ترحل أولًا، الاحتضار يصير
أصفر لامعًا، بينما بعض الطيور الداكنة تقوم
برحلة عودتها من الموسيقى.
أتريد أن ترى يديّ؟
فارغة الآن كالنغمة الأولى.
أم هي النقطة دائمًا
تستمرّ بلا علامة؟
عمل لويز غليك الأقوى هو عندما تتجه إلى الميثولوجيا أو الأدب الكلاسيكي لإلقاء الضوء على الحياة المعاصرة، أو إذا نظرت عن كثب في الطرق التي نتواصل بها في التجربة الإنسانية. وسألقي الضوء هنا على ديوان (أفيرنو، 2006) وبالأخص قصيدة "خرافة التفاني"، وقصة الحب المستحيل بين هاديس ملك العالَم السفلي، عالَم الموتى في الميثولوجيا اليونانية، وبرسفوني ابنة ربة الزراعة ديميتر. ولأنها لم توافق أن تعيش معه في عالمه السفلي خطفها إلى عالمه. هنا تسرد غليك القصة من منظورها المعاصر المتحرر الأنثوي، فأحيانًا تكون بيرسفوني فتاة عادية تمرح في المرج ويشاهدها المحب هاديس من وراء اختفائه، ويتساءل عن حاجاتها فيبني لها عالمًا شبيهًا بالأرض، وأيضًا تتساءل غليك "ألا يريد الجميع الحب" ونصل إلى:
ضوء خافت يُشرق من فوق سطح المرج،
خلف السرير. يأخذها بين ذراعيه.
يريد أن يقول إنني أحبك، لا شيء يمكن أن يؤذيك
لكنه يفكر
هذه كذبة، هكذا يقول في النهاية
أنت ميتة، لا شيء يمكن أن يؤذيك
وقد بدت له
بدايةً مبشّرة بالخير، وبدايةً أكثر صدقًا.
سأعترف بدهشتي الأولية من إعلان نوبل، لأن شعرها بعيد كل البعد عن السياسة: إن إعطاء الأولوية لتجربة المرأة داخل الأسرة والعلاقات الرومانسية كموضوع للشعر كان عملاً جذريًّا في أواخر الستينيات، عندما بدأت الشاعرة النشر، وفي بعض النواحي، لا يزال كذلك. في بداية كتاب Vita Nova عام 1999، تصف مقدمة غليك كيف يمكن أن يكون تغيير المنظور عملًا ثوريًّا:
قال السيد يجب أن تكتب ما تراه.
لكن ما أرى لا يلهمني.
أجاب السيد، عليك تغيير ما تراه.
في عملها الأخير المنشور، تتأمل غليك في الموت وفي الجسم المتقدم في السن. في ديوان "ليلةٌ وَفيّة فاضلة (2014)"، تقول:
لقد نجونا من الموت -
أم كان هذا هو المنظر من الهاوية؟
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والترجمة؟
(ل. س.): الشاعرة غليك تذكر الكثير من الشخصيات في قصائدها، أسطورية كانت أو معاصرة حقيقية، والكثير أيضًا من الأماكن الأسطورية أو الدينية (اللاهوتية) فكان عليّ البحث عنها، فكانت الترجمة بمثابة تحقيق للشعر، كما أن بعض الحوارات لم تكن جلية بما يكفي لترجمتها، فرجعت إلى أوراق بحثية تحلل تلك القصائد، لتصبح القصيدة جلية للقارئ العربي الذي هو ليس على دراية بشاعرة متفردة عصرية.
والصعوبة الأكبر هو تأثير تلك القصائد على القلب، ففي مسيرتي لترجمة تلك القصائد، بكيت أكثر من مرة، متأثرة بمعنى أو حدث تذكره الشاعرة بشفافية متناهية، حيث وجدت نفسي في الكثير من تلك المواقف، فهي الزوجة المخدوعة والأم المشتاقة والحانية، والابنة والأخت المكلومة بأختها الرضيعة، فكان عليّ أن أوقف الترجمة حتى تهدأ روحي لأعود ليتكرر المشهد.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ل. س.): تتشعب مسيرتي الإبداعية إلى ثلاثة مسارات؛ الأول القصة والرواية، فقد نشرت لي مجموعة قصصية وثلاث روايات؛ "تنويعات على وتر منفرد" مجموعة قصصية (2013)، "دير اللوز تكسر أصفادها وتعانق الحلم" رواية (2014)، "زائر الأبدية المنسي" رواية (2016)، "هكذا صرت ملاكا" رواية (2019).
والمسار االثاني مسار الترجمة فقد ترجمت مجموعة شعرية لمولانا جلال الدين الرومي و"القصائد المحرّمة: مولانا جلال الدين الرومي"، (2017)، كما غُصت في عالم مولانا وترجمت كتابًا عن حياته وفكره للكاتب البريطاني جون بالدوك فكان "جوهر الرومي" (دراسات عن جلال الدين الرومي ومختارات من شعره 2018)، ثم "53 سرًّا من حانة العشاق" (رباعيات لجلال الدين الرومي) (2020). والمسار الثالث التصوير الفوتوغرافي، فأنا Master Story Teller على موقع الفنانين Picsart مع عشرات الآلاف من المتابعين.
بالإضافة إلى أني أستاذة جامعية متقاعدة أحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء وقد مارست الفيزياء الطبية في العديد من الجامعات العربية والمستشفيات لمدة ثلاثين عامًا، كان آخرها جامعة البحرين، فلي ما يناهز ثلاثين بحثًا محكّمًا، كما نلت العديد من الجوائز العلمية كان آخرها جائزة أفضل السيدات المؤثرات في الوطن العربي (جائزة المرأة العربية ودورها في التنمية المستدامة) 2019.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز الترجمة؟ ما هي المراجع التي اعتمدت عليها؟
(ل. س.): النص الذي جعل قلبي يرتجف إلى حد جعلني على وشك الاختناق هو قصيدة بيرسيفوني الهائمة من ديوان (أفيرنو 2006) للشاعرة غليك:
في النسخة الأولى، بيرسيفوني
خُطفت من والدتها
وإلهةُ الأرضِ
عاقبت الأرضَ –
هذا متوافق مع ما نعرفه عن السلوك البشريّ،
أن البشر يشعرون برضا عميق
في إلحاق الأذى، على وجه الخصوص
الأذى اللاواعي:
قد نسمّي هذا
الخَلق السلبي.
الحروف الأولى لاسم بيرسيفوني
المكوث في الجحيم ما يزال
رهينة العلماء الذين اختلفوا حول
أحاسيس العذراء:
هل تعاونتْ هي في اغتصابها،
أم تم تخديرها أو انتهاكها رغمًا عنها،
كما يحدث كثيرًا للفتيات المعاصِرات الآن
المقاربة بين الأسطورة والعالم الفيزيائي المحسوس يخطف الأنفاس كما قلت. وبسبب وجود كل هذه الشخصيات الأسطورية اضطررت للرجوع إلى مصادر عدة، لكني لم أرد أن أثقل النص بذكرها جميعًا. كما أضافت النقاشات مع الشاعر عمر شبانة بعدًا شعريًّا جميلًا للنصوص، وهو الذي عملت معه عن قرب؛ نقرأ النصوص كلمة كلمة، ونراجع المراجع مرة بعد مرة حتى تصل النصوص للقارئ بأجمل صورها وأقربها للنص الأصلي.
(ج): من هو الجمهور المتوقع للكتاب وما الذي تأملين أن يصل إليه القراء؟
(ل. س.): الجمهور المتوقع للكتاب هو الأشخاص الذين يستمتعون بقراءة الشعر الحديث، أو طلاب الأدب. آمل بأن يستمتع القراء بهذا المستوى الرفيع من الأدب المعاصر، ليحثهم على البحث عن المزيد. فالذي قدمته هنا هو مجرد جرعة أولى من الجمال المعاصر، الذي ينتقده الكثير من القراء العرب فهم دائمًا يرجعون إلى التراث، ويهملون كل ما هو معاصر.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(ل. س.): سيصدر لي قريبًا ترجمة لكتاب "جوهر الصوفيّة" للكاتب البريطاني جون بالدوك، الترجمة هنا هي بمثابة تحقيق وتعريب إذ كان عليّ البحث عن النصوص الأصلية العربية الواردة في الكتاب، والبحث بعمق في حياة الصوفيين والغوص في الرحلات الصوفية التي خاضوا فيها، رحلة روحية غنية بالشعر والنصوص الأدبية الصوفية. كما أعمل على رواية، تدور أحداثها بين بيروت وعمان وكندا.
مقتطف من الكتاب
قصيدة أفيرنو من ديوان أفيرنو (2006)
وأفيرنو هي فوهة بركان صغيرة في إيطاليا كان الرومان القدماء يعتقدون أنها فتحة في قشرة الأرض تؤدي إلى العالم السفلي.
أفِيرنو
-1-
تموتُ عندما تموت روحُك.
وسِوى ذلك فأنتَ حيّ.
قد لا تؤدي عملَك بشكل جيّد، إلّا أنّك تستمرّ -
هو أمرٌ ليس لديك خيار بشأنه.
عندما أخبرُ أولادي بهذا الأمر
لا يُعيرونني انتباهًا.
فكبار السنّ، كما يعتقدون -
وهذا ما يفعلونه دائمًا:
يتحدثون عن أشياء لا يستطيع أحد إدراكها
لإخفاء جميع خلايا الدماغ التي يفقدونها.
يغمزون لبعضهم البعض.
استمعْ للعجوز يتحدث عن الرّوح
لأنه لم يعد يتذكر الاسم المُعطَى للكرسي.
إنه لأمر فظيع أن أكون وحيدة.
لا أقصد أن أعيش وحدي -
أن تكون وحيدًا، هو ألّا يسمعك أحد.
أتذكر الاسم المعطى للكرسي.
أريد أن أقول - لم أعد مهتمةً بعد الآن.
أستيقظ وأنا أفكّر
عليكِ أن تستعدّي.
قريبًا سوف تستسلم الروح -
كل الكراسي في العالم لن تساعدكِ.
أعرف ماذا يقولون عندما أكون خارج الغرفة.
هل يجب أن أرى شخصًا ما، هل يجب أن آخذ
أحد أدوية الاكتئاب الجديدة.
يمكنني سماعهم، همسًا، يخططون لكيفية تقاسم التكلفة.
وأريد أن أصرخ
أنتم جميعكم تعيشون في حلم.
سيئ بما يكفي، يعتقدون، مشاهدتي وأنا أتحطّم.
سيّئ بما يكفي دون هذه المحاضرة التي يتلقّونها هذه الأيام
كما لو كان لدى أيّ منهم حق في هذه المعلومات الجديدة.
حسنًا، لديهم الحقّ ذاته.
إنهم يعيشون في حلم، وأنا أستعد
لأكون شبحًا. أريد أن أصرخ
الضباب قد انقشع -
وكأنها حياة جديدة:
ليس لديك أيّ مصلحة في النتيجة؛
أنت تعرف النتيجة.
فكّر في الأمر: ستّون عامًا جالسًا في الكراسي. والآن الروح الفانية
تسعى بوضوح، بلا خوف -
لرفع الحجاب.
لمعرفة الذي تقول له وداعًا.
-2-
لم أعد إلى هناك منذ فترة طويلة.
عندما رأيت الحقل مَرَّة أخرى، كان الخريف قد انتهى.
هنا، ينتهي تقريبًا قبل أن يبدأ -
كبار السن لا يملكون حتى الملابس الصيفية.
كان الحقل مغطّى بالثلج، نظيفًا.
لم يكن هناك ما يشير إلى ما قد حدث هنا.
ليس لك أن تعرف ما إذا كان المُزارع
قد أعاد زرعه أم لا.
ربما قد استسلم وهاجَر.
لم تقبض الشرطة على الفتاة.
بعد فترة قالوا إنها انتقلت إلى بلد آخر،
حيث لا توجد حقول.
كارثة كهذه
لا تترك أيَّ أثر على الأرض.
والناس هكذا - يعتقدون بأنها تمنحهم
بداية جديدة.
وقفتُ لوقت طويل، أحدّق في اللا شيء.
بعد قليل، لاحظتُ مدى شدّة الظلام، مدى البرودة.
وقت طويل قد مرّ - ليس لديّ أيّ فكرة كم من الوقت.
بمجرد أن الأرض قررت بأنها فاقدة الذاكرة
يبدو الوقت بطريقة ما لا معنى له.
لكن ليس في ما يخصّ أولادي. إنهم يلاحقونني
لترك وصية، إنهم قلقون من أن الحكومة
ستأخذ كل شيء.
يجب أن يأتوا معي في وقت ما
لينظروا إلى الحقل تحت غطاء الثلج.
كل شيء مكتوب هناك.
لا شيء: ليس لديّ ما أعطيه لهم.
هذا أولًا.
وثانيًا: لا أريد أن أُحرَق.
-3-
من ناحيةٍ، الروح تهيم.
من ناحيةٍ أخرى، يعيش البشر في خوف.
في ما بين، حفر الاختفاء.
تسألنني بعض الفتيات الصَّغيرات
فيما إذا كُنّ آمِناتٍ بالقرب من أفيرنو
وإذا كن سيشعرن بالبرد، يردنَ الذهاب إلى الجنوب قليلًا
وتقول إحداهن، على سبيل المزاح، سنذهب لكن ليس بعيدًا جدًّا إلى الجنوب -
أقول، هو آمنٌ كما في أي مكان،
مما يجعلهنّ سعيدات.
ما أعنيه هو أن لا مكان آمن.
تصعدين إلى قطار، تختفين أنت.
تكتبين اسمك على النافذة، تختفين أنت.
توجد أماكن مثل هذه في كل مكان،
أماكن تدخلينها كفتاة صغيرة
حيث لا تعودين منها أبدًا.
مثل الحقل، ذلك الذي احترق.
بعد ذلك، اختفت الفتاة.
ربّما لم تكن موجودة أصلًا
ليس لدينا أيّ دليل في كلتا الحالتين.
كل ما نعرفه هو:
احتراق الحقل.
لقد شاهدنا ذلك.
لذا علينا أن نؤمن بالفتاة،
بما فعلته. غير ذلك
إنها مجرد قوى لا نفهمها
تحكُم الأرض.
الفتيات سعيدات، يفكّرن في إجازتهنّ.
لا يستقلِلن القطار، أقول.
يكتبن أسماءهنَّ في غِشاوة الضباب على نافذة القطار.
أريد أن أقول، أنتنّ فتيات صالحات،
تحاولن ترك أسمائكنّ وراءكنّ.
-4-
قضينا اليوم كله
في الإبحار خلال الأرخبيل،
الجزر الصغيرة التي كانت
جزءًا من شبه الجزيرة
حتى تفتّتت إلى
أجزاء كما تراها الآن
تطفو في مياه البحر الشمالية.
بدت لي أمينة،
أعتقد لأنه لا أحد يستطيع العيش هناك.
في وقت لاحق جلسنا في المطبخ
نشاهد بداية المساء ثم الثلج.
الأولى، ثم الآخر.
صامتين، مأخوذين بالثلج
كما لو كان نوعًا من اضطراب
كان مخبّأً قبل أن
يصبح محسوسًا،
شيء ما في الليل
قد كُشف عنه الآن –
من خلال صمتنا، نسأل
تلك الأسئلة، التي يسألها الأصدقاء الذين يثق بعضهم ببعض
من التعب الشديد،
كل واحد يأمل من الآخر أن يعرف المزيد
وعندما لا يكون الأمر كذلك، يأملون
أن تكون انطباعاتهم المشتركة بمثابة البصيرة.
وهل هناك أي فائدة من إكراه النفس
على أن تدرك أن المرء يجب أن يموت؟
هل من الممكن أن يفوّت المرء فرصة الحياة؟
أسئلة من هذا القبيل.
كان الثلج كثيفًا. الليلة السّوداء
تحولت إلى هواء أبيض نشط.
كُشف شيء لم ندركه.
وحده المعنى لم يُكشف.
-5-
بعد أول الأمطار، بدأ الحقل بالنموّ مَرَّة أخرى.
لكن لم يكن هناك المزيد من الأخاديد المنتظمة.
استمرت رائحة الحنطة كنوع من النكهة العشوائية
مختلطة مع الحشائش المختلفة، والتي
لم يتم ابتكار أي استخدام بشريّ لها حتى الآن.
كان الأمر محيّرًا - لم يعرف أحد
أين ذهب المزارع.
يعتقد بعض الناس أنه مات.
قال أحدهم إن لديه ابنةً في نيوزيلندا،
وإنه ذهب إلى هناك لتربية
الأحفاد بدلًا من القمح.
الطبيعة، وقد اتّضح لنا، أنها ليست مثلنا.
ليس لديها مخزن للذاكرة.
الحقل لم يعد يخاف من المباريات،
ولا من الفتيات الصغيرات. لا يتذكر
حتى الأخاديد. قُتلت، حُرقت،
وبعد عام عادت إلى الحياة مَرَّة أخرى
كما لو أنه لم يحدث شيء استثنائيّ.
المُزارع يحدّق من النافذة.
ربّما في نيوزيلندا، ربما في مكان آخر.
ويفكر: انتهت حياتي.
حياته عبّرت عن ذاتها في هذا الحقل.
لم يعد يؤمن بصنع أي شيء
من الأرض، يعتقد أن الأرض
تغلّبت عليه.
يتذكر اليوم الذي احترق فيه الحقل،
وكما يعتقد، فهو ليس مصادفةً.
شيء عميق في داخله قال: أستطيع أن أحيا مع هذا،
يمكنني محاربته بعد فترة.
كانت اللحظة الرهيبة عندما محا الربيعُ عملَه،
عندها أدرك أن الأرض
لا تعرف الحِدادَ، بل تتغير بدلًا من ذلك.
ثم تستمر في الوجود بدونه.