هناك، في برن بسويسرا. في الثَّامن مِنْ سبتمبر 1933، وبعيدًا عن الوطن الذي كافحَ لتشييدهِ حتى النَّفَسِ الأخير، رَحلَ الملك فيصل بن الحسين، مُؤسِّسُ ورمز الدولةِ العراقيةِ الحديثةِ. الدولة التي مضى على تأسيسها مئة عام بالتَّمام، ومع هذا، لم يحتفلْ أبناؤها العراقيون بذكراها المئوية الأولى. إنَّها بلاغة مِنْ صَمْتٍ مُطْبق، مَشْهَدٌ يدعو للتأمُّل، واكتِساب العِبَر. لكنْ للأسف، لا أحد يسأل عنْ المَعْنى في ذلك كُلِّه!
[فيصل الأول ملك العراق 1921 - 1933]
كان فيصل الأول قد توِّجَ مَلِكًا على العراق، في حَفْلٍ بسيطٍ بمَبْنى القُشْلَة في بغداد بتاريخ 23 أغسطس عام 1921. ورُبَّما كان العزاءُ الأخير للملك الهاشميِّ المولود في العام 1883 هو نجاحهُ - قبيل رحيله - بالحصول على استقلال العراق، وانضمامه لعُصْبَة الأًمَم بوصفه دولةً مستقلة، ليضيف دعامةً قويَّةً لما بدأ به لحظة التَّأسيس. كانتْ هذه النتيجة المنشودة قد حُسِمَتْ في مفاوضات شَاقَّةٍ مع بريطانيا بدأتْ في العام 1930. لكنَّ تَعَنُّت هذه الأخيرة أخَّر ذلك الاستحقاق. ولم يَمُر التأخير بسهولةٍ على فيصل. فقد كانتْ نسبة كبيرة من العراقيين على أشدِّ الاستعجال للتَحَرر من الوصاية البريطانية. وما كان ليدور في مُخَيَّلَة أولئكَ أنَّ مَلَكَهم أكثرُ استعجالًا منهم في الحقيقة. لكنَّه، وبمَنْطِق مَنْ خبر السياسة وعرف خفاياها يُفَضِّل التعاطي مع المَهام الكبرى بصَبرٍ وحِكْمَةٍ، بعيدًا عن رومانسية الوطنيين المُتَحَمِّسِين، والباحثين عن الشهرة، وهُواة المُزايداتِ السياسية المُمَهِّدة للمَناصِبِ والمَغَانِم. وبالتأكيد لم يكنْ لِيَصِلَ لبراعته أيُّ واحدٍ مِنَ الذين طُرِحَتْ أسماؤهم مُلُوكًا مُحْتَمَلِين لعَرشِ المَمْلَكَةِ الولِيدة: الشيخ خَزْعل الكَعْبِي، وعبد الرحمن النقيب، وطالب النقيب، والأغا خان، وغلام رضا خان حاكم بشتكوه، وأمير تُرْكِيّ.. قائمة طويلة حقًّا!
[حفل تتويج فيصل الأول ملكاً للعراق في 23 أغسطس 1921]
مَلِكٌ حَقِيقِيٌّ
ما الذي سيحتاج إليه المَرءُ ليُصْبَحَ مَلِكًا مُؤسِّسًا قبلَ مئةِ عام. هنا، في الهلال الخَصِيب، أو شُبْهِ جزيرةِ العربِ أكثرَ مِمَّا تَمَيَّزَ به فَيصَلُ الأوَّل؟ لقد كان حفيدَ الرَّسُول، وابن شَريفِ مَكَّةَ الحُسين بن علي باعثِ النهضة العربية. وبرغم أرستقراطيةِ الأُسرة، ووفقًا لإرادةِ والدهِ عاشَ وهو طفلٌ صغيرٌ حياةَ عرب الصحراء، بينَ مَضَارِبِ قبيلة عِتيبَة، ليتعلمَ الصبرَ على شَظَف العيش وقساوة البيئة، وقضى سنواتٍ من حياته في الأستانة عاصمة البلاد العثمانية، وفيها استكمل تعليمه الذي بدأ في الحجاز. حفظ القرآن والتاريخ وأُعجب بالشعر العربي. وأجاد من اللغات التركية والإنكليزية والفرنسيَّة. كما أصبح نائبًا في مجلس المبعوثان، وقُدِّرَ له أنْ يسافر ليحضر المؤتمرات الدولية مُمَثِّلًا للقضية العربية، وأنْ يجالسَ كبار ملوك وأمراء العالم، ويجلس على عرش سوريا. لقد حصل كلُّ ذلك قبلَ أنْ يصبح ملكًا للعراق. وقبل ذلك أيضًا، وحين أطلق والده المُتَحَالِفُ مع بريطانيا لطردِ العثمانيين من المنطقة الرصاصة الأولى للثورة العربية الكبرى في 1916، كان الملك فيصل - الأمير وقتها - يقود المقاتلين العرب بنفسه مُطارِدًا الجيش العثماني، ومُحَقِّقًا سلسةً من الانتصارات، من الحجاز حتى العقبة وسوريا، مُخْتبِرًا في أثناء ذلك لحظاتِ الجوع والعطش، ومواجهة خطر الموت قَتّلًا أكثرَ مِنْ مرة. ولولا ذلك كُلِّه ِلمَا رَشَّحَتْه بريطانيا لِعَرْشِ العِراق، ونشط في بَثِّ الدعاية له أكْثر مَنْ يَمْتَلِكونَ الدهاءَ مِنْ رجالها/ نسائها (توماس إدوار لورنس "لورنس العرب" وغيرترود بيل "المس بيل"). إن من يقرأ ما كتبه لورنس في كتابه الشهير "أعمدة الحكمة السبعة" سيخرج بانطباع مَفادُهُ أنَّ فيصل كان هو الكلُّ بالكلِّ في الثورة العربية، بحسن تَفَهُّمِه لمتغيرات السياسة العالمية التي أوجدتها الحرب العالمية الأولى. ليس بالضرورة أنْ تتطابق حساباتُ الأمير الشاب مع قناعاتِ والدهِ. فيصل يحارب ويفاوض ويناور واضعًا في اعتباره مِثالًا عصْريًّا للدولة الوطنية مُمْكِنَة التَّحَقق، بينما يسعى أبوه لحلم أكبر بكثير، وصلَ به إلى حدِّ التفْكِير بالخلافةِ الإسلاميِّة. إنَّه الفارق بين حلم الأمس الذي مضى، واليوم الذي نحيا فيه. حلم ستكون تكلفته باهظة جدًّا، فكان أنْ نُفِيَ الأب إلى قبرص، بينما نجح الابن بتأسيس دولة عصرية، بدأتْ صغيرةً متواضعةً لا دور لها، لتصبحَ بسرعةٍ أبرزَ وأشهر دولةٍ عربيةٍ يُحْسَبُ لها حِسَاب، ويُشَارُ لها بالبَنان، كُلَّمَا جرى الحديث عن الاستقرار، وحُسْن العلاقاتِ مع دُولِ الجوار والمجتمع الدولي، وبدء مَشْروعِ النَّهضةِ التَّحْدِيثيِّةِ، وتوظيف الموارد بشَكلٍ يخدم مصلحة البلاد، ويُؤمِّنُ للناس فُرصًا واعدةً للعيش الكريم. ولسنواتٍ طويلةٍ لاحقةٍ، لم تكنْ ثمة دولة عربية أخرى تنافس العراقَ في تلك المكانة سوى مصر فقط.
بَغْداد: عاصِمَةُ مَمْلَكَةٍ بشَارعٍ واحِد!
[شارع الرشيد في بداياته، ويظهر في الصورة جنود هنود تابعين للقوات البريطانية]
يومَ تَمَّ تتويج فيصل الأول مَلِكًا على عرش العراق كانتْ مدينة بغداد لا تملك من هَالةِ مَجْدِها التاريخيِّ سوى اسمها المُمَيَّز. كانتْ باستثناء مبنى القشلة الذي يضمُّ بيت الوالي العثماني ومقرَّ حُكْمِهِ عِبَارَةً عن خرائب، ومَحلَّاتٍ متهالكة، صغيرة ومتراصة، تخترقها دَرَابين (جمع دَرْبُونَة: مَمَر ضَيِّق بالعامية العراقية) تشبه المتاهة، يهددها فيضان نهر دجلة على الدوام، وتغطيها النفايات والأوحال. وتُعَشش فها شتَّى الأوبِئة (قضى الطاعون على أكثر من نصف أهلها في العام 1831). ومع بضعة بيوت على ضفاف النهر يسمى أغلبها مجازًا بالقصور تَجَسَّدَ الاستثناء الوحيد لِمَا يُمكن أنْ يلمَسَهُ المَرْءُ من جمال فيما بقِيَ سالمًا من أضرحةٍ وقِبابٍ ذهبيَّةٍ ومساجدَ تحتفظ بأُبَّهَةِ القاشاني ورونق الرِّيازة الإسلامية القديمة. وهي قليلة، ومُتًوارية خَلْفَ المَشْهَدِ العام. إنِّها عاصمةٌ تبدو صغيرةً لا في حساباتِ مَلِكًها المؤسِّسِ الذي حلم أبوه بمملكةً عربيةً كبرى، بل في عُرْفِ الكثيرين من نُخْبَتِها المُتَعلِّمة، تلك التي ستساهم في بناء الدولة الجديدة. وسَيُقَدَّر لبعض رجالاتِها أنْ يرووا لنا سِيَرَهُم الذَّاتية. كانتْ بغداد تبدأ من باب المُعَظَّم وتنتهي عند الباب الشرقيِّ، حيث منطقة السِّنَك (كلمة تركية تعني الذباب). وما يَصِل بين هاتين المنطقتين تَمَثَّل بشارعٍ وحيدٍ، لم يكنْ ليفكرَ بتأسيسه في العام 1916خليل باشا آخر حاكم تُرْكِيٍّ على بغداد، إلا استجابةً لأسبابِ عسكرية، أوجبتها الحرب العالمية الأولى. فالقوات البريطانية التي بدأتْ باحتلال البصرة في العام 1914 كانتْ تَحِثًّ الخُطَى باتجاه بغداد. ومع هذا، لم ينسَ ذلك الوالي أنً يجودَ على البغداديين، فأسمى الشارع باسمه، وليُعْرَفَ بـ(خليل باشا جادَّة سي). بعد عام واحد فقط، وفي الحادي عشر من مارس تحديدًا، فَرِّ العثمانيون، ودخلتْ القوات البريطانية لاحتلال بغداد من الشارع نفسه.
[قوات بريطانية تمُرُّ في شارع الرشيد]
بخلافِ جميعِ الذين حَكَموا العراقَ مِنْ بعدهِ، بدأ الملكُ فيصل الأول مشروعَ بناءِ الدولةِ من نقطة الصفر. مَهَمَّةٌ مثلُ هذه تشكِّل تحديًا كبيرًا، قبلَ به، وتصدَّى له بشجاعة. صار هو المسؤولُ الأوَّلُ عنْ تأسيس دولة لم تكنْ تملك مواردَ ولا جيشًا ولا مدارسَ ولا مستشفياتٍ ولا عُملة ولا طرقَ مواصلاتٍ حديثة، تربط أجزاءها التي وزَّعتها الإدارة العثمانية لتتصل إداريًّا بثلاثِ ولاياتٍ (بغداد والبصرة والموصل). بل لم يكنْ هناك إحساسٌ فاعلٌ بهويَّةٍ وطنيةٍ واضحةِ المعالمٍ، تجمع بين مكوناتها المتباينة في الأعراق والأديان والمذاهب. نعم، وبلا شكٍّ، كان ثمة مَنْ يعتزُّ ويفخر بانتمائه للإسلام أو العروبة، ولَقيمِ الدَّفاعِ عن الأرض والعِرْض. وتحتَ هذه العناوين تحديدًا قاتل العراقيون بشجاعةِ مع الجيش العثمانيٍّ ضد بريطانيا العظمى، يومَ نزلتْ قواتُها لتحتلَ البصرة. ثمَّ ثاروا ضدَّ سلطتها في العام 1920، فيما سيُعرف لاحقًا بثورة العشرين. ولولا مواقفهم هذه، لَمَا فَضَّل البريطانيون التَّعجيلَ بمنحهم دولة يحكمها مَلِكٌ عربيٌّ. لكنْ في الواقع، بقِيَ العراقُ خارجَ حيِّز المُفَكَّر فيه. فالعراق، بمعناه القديم المُتَداول في كتبِ التاريخِ والبُلْدان، لم يُنتجْ وعيًا بهويةٍ جامعةٍ، ولا دولةً مِنْ نوعٍ وحجمٍ ما. وهو - في الأقلِّ - لم يَعدْ حاضرًا بقوةٍ في النفوس. لا سيما بعد هيمنةٍ شديدة الوطأة من احتلال عثمانيٍّ مَرير، استمرَّ جاثمًا فوقَ صدور الناس طوال أربعةِ قرون. حتى الاصلاحات اليتيمة التي يُمكن أنْ تُذكرَ لمدحت باشا، أيامَ تعيينه واليًا على بغداد في العام 1869، جاءتْ متأخرة، وتًفَكِّرُ بإيقاف التَرَدِّي في أحوال "الرجل المريض" قبل كلِّ شيء. فلم تكنْ كافية ولا حاسمة. لِنقلْ إنَّ الهوية الوطنية للعراق الجديد كانتْ قد بدأتْ لحظتها في طور التشكُّل. وسيكون فيصل رمزها الأول، وأبرز المساهمين بصياغتها، والحريصين على إنجاح صيرورتها. ومِنْ أجل هذه الغاية وظَّف ذكاءَه ومواهبَه. ونجح باستثمار مَشَاربِه الثقافية العربية والتركية والغربية. فهو سليل الدَّوحَةِ المُحَمَّديَّة الذي سيجلسُ مُتواضعًا مع رجال الدين السنة والشيعة، في بغداد والنجف وكربلاء، بالحماس نفسه الذي سيزور فيه الكنائس والمعابد المسيحية واليهودية. وهو العربيُّ العارف بقوانين العشائر حين سيزور مضاربها شمالًا وجنوبًا. مثلما إنَّه الخبير بنمط القواعد العثمانية التي استمر لها وجود هنا وهناك. سواء من خلال وزن بعض الأُسَر النافذة، ذات الأصل التركيِّ. أو في الإرث الثقافيِّ العام، كما في استصحاب أساليبها البيروقراطية في الجهاز الإداري الناشئ.
إنّ رجلًا واقعيًّا مثل فيصل الأول لنْ يجدَ حرجًا أيضًا في أنْ يبدو بأناقة إفرنجية باذِخة، مُتطلعًا لاستثمار أيَّةِ فُرصةٍ مُمْكنةٍ للجلوس مع ساسة العالم، بُغْيَةِ الإفادة مِنْ حليفٍ غربيٍّ انتصر في حربٍ عالميةٍ، فامْتِلكَ مفاتيحَ المنطقة بالكامل. وها هو يُعيد رسمَ خرائِطها وفْقًا لمَنْطِقِه الكولونيالي. وكان فيصل الأوّل يعرفُ كيفَ يعملُ ذلكَ الحليف، وفِيمَ يُفكِّر، حليفٌ لم يجدْ بَدِيلًا واقعيًّا ومناسبًا سواه، رغم أنَّه خذلَ أبَاه، وخذلَهُ في مَراتِ عديدة.
وشيئًا فشيئًا، بدأ فيصل الأول ينجحُ بإقناعِ العراقيينَ أنَّهم أبناءُ وطنٍ واحدٍ، وأنَّ مصالحَهم ستتحققُ عِبْرَ الإيمان بذلك، مهما كان شكلُ هويَّاتِهم الفرعية. تلكَ هي أولى وأهمُّ خطوات بناء الدولة. أمَّا المرتكزاتُ الأسَاسيَّةُ الأخرى "الدستور والقوانين والأنظمة والمؤسسات والتعليم.. إلخ" فهي السبيل لبلوغِ ذلكَ الهدف. نعم. تمَّ انجاز تلك المرتكزات أيضًا. ولم تكنْ خاليةً من أخطاء، ونواقص أثَّرتْ سلبًا بلا شكٍّ. وحينَ يتعلقُ الأمرُ ببناءِ دولةٍ مِنْ نقطةِ الصِّفْرِ فلا شيءَ يمكنُ أنْ يبدو مِثالياً لحظةَ تأسيسهِ، أو حتى مُناسباً في عرفِ مَنْ يرقبهُ بعدَ مئةِ سنةٍ مِنْ حصوله. لا سيما وقد جرتْ في النهر مياه/ دماءٌ جديدةٌ أثَّرتْ بالسَّلبِ أكثر ممَّا سبق. لنحاول تخيَّل اللحظة، فمثلًا، هل كان الأفضل البدء بكتابةِ الدستور، أمْ تأمين الحدود الخارجيَّة للدولة؟ تأسيس دار العدل قبلَ السِّجن، أمْ هيئة الأوقاف الدينية قبلَ جهاز الشُّرطة؟ أليسَ الأفضلُ أنْ تؤسِّسَ جميعَ المؤسَّسات دفعةً واحدة، وبصورةٍ ممتازة؟ واهِمٌ مَنْ سيختار الإجابةَ بنعم عن السُّؤالِ الأخير، فالدولةُ - كَمَا الهوية - تبقى مشروعًا قابلًا للتطويرِ والتحديثِ، وفقًا لحاجاتٍ وظروفٍ ومتطلباتٍ يعرفها المُتتبعون. وإذا كانت الدولة كيانًا معنويًّا في الأساس، فسَتُمَثِّله المؤسَّساتُ المعروفةُ للجميع، ولا مناص مِنْ أنْ تَجِدَ لها الكادر الإداريّ والتنفيذيّ الكَفوء. وهكذا عمل فيصل الأول بالممكن المُتاح، كيما تبدأ عَجَلةُ الدولة بالدوران، فكانَ الضُّبَاطُ الشَّريفيون مِنَ الذينَ قاتلوا تحت قيادتهِ ضِدّ القواتِ العثمانيةِ خيارَهُ الأول. ولأسبابٍ تعود للحقبة العثمانية كانوا من لونٍ واحدِ، وهُم، لا فيصل، مَنْ سيكون الطَّرف المُسْتفيد مِنْ استمرار ذلك. وإلا فالشواهدُ الكثيرةُ تؤكِّد سعيه الجاد، وخطواته الواقعية لتمكين جميع مكونات الشعب العراقي من أخذ استحقاقها الوطني، إلى الحدِّ الذي واجه فيه جهازَه التنفيذيّ، وتجاوز بعضَ اللوائح القانونية، في سبيل تحقيق ذلكَ الهدف. ولم يكنْ الأمرُ بتلكَ السهولة التي تَخَيَّلها كثير ممَّنْ كتبوا عن تلكَ الحِقْبَة. ومَنْ لا يُفَضِّلُ الوقوفَ عندَ سَطحِ الأحداثِ سَيعرِفُ أنَّ الوثيقة/الرسالة الموغِلَةُ في فهمها لإشكالية الدولة في العراق، والتي كتبها الملكُ بنفسهِ، وأراد أنْ تبقى سريِّة ليستْ سوى مثالٍ منْ شواهدَ كثيرةٍ على ما نَذْهّب إليه. وفي الواقعِ، فَإنَّ مَنْ يُفَكِّر بإصلاحِ كلُّ الأمورِ بجرَّةِ قلم، دون أنْ يحسِبَ حِسابًا للتوازنات والمصالح الداخليَّة والخارجيَّة، ومِنْ غير أنْ يمتلكَ مِنْ أسبابِ القوّةِ ما يكفي لفعلِ ذلكَ إنَّما يغامرُ بضياعِ كلِّ شَيء، وفي الحال التي نتحدثُ عنها بتعطيلِ بناء المُؤسَّسات، وتعريض مصالح وأمن الناس لأخطار حقيقيَّة، وهذ ما لنْ يَمُدَّ مشروعَ الدولةِ بمُقوَّماتِ النَّجاح.
وفي سَبيلِ بَثِّ الوعيِّ الوطنيِّ في هويةِ العراقِ الجديد، وتقديمهِ قبلَ أيِّ انتماءٍ آخر، ولأنَّ فيصل الأول كان يسْتَشْعِرُ أهميةَ البُعد الرَّمزيِّ في تأسيسِ هويَّةِ الدولة فقد شَهد عهدُهُ أمثلةً ناجحةً على الذكاء السياسيِّ وحُسْنِ التخطيط. فحينَ تّمَ البدءُ بتأسيسِ الجيشِ الجديد، سَجَّل نفسَه أول جنديِّ فيه ليُشَجِّعَ العراقيين على الانخراط في صفوفه، وحملَ أوَّلُ أفْواجِهِ (فَوْجُ موسى الكاظم) اسم الإمام السابع من أئمة الشيعة الاثني عشرية. ولاحقًا، وبالعودةِ لمثالِ الشارعِ الوحيدِ في بغداد وقتَها (خليل باشا جادَّة سي/الشارع الجديد)، والذي لمْ يكنْ في أولى سنواتِهِ غير طريقٍ تُرابيٍّ طويلٍ بدا من المُناسب تدعيم الهوية باستحضار ما يُذَكِّرُ العراقيين بأمجادِ تاريخية لعاصمة الدولة، فأُطلِقَ على الشَّارعِ لَقَبُ الخَليفَةِ العباسيَّ (هارون الرشيد) الذي اقترنَ اسمُهُ بصعودِ نجمِ المدينةِ، مثلما صوّرتْ ذلك المصادرُ التاريخيَّةُ، وكثيرٌ مِنَ الحكاياتِ الشَّعبية في نَصِّ ألفِ لَيْلِةٍ ولَيْلَة. وبالفعل، فقد أصبحَ (شارعُ الرَّشِيد) بوابةً كبيرةً للاقتصادِ والفَنِّ والثقافةِ، بما ضَمَّتْهُ أبنيتُهُ الرَّائِعةُ مِنْ دورِ سينما على أحدثِ طِراز، ومكتباتٍ تَتَلَقَّفُ آخرَ ما يصدرُ في العالمِ مِنْ كُتُبٍ ودَورِيَّاتٍ، وبنوكٍ وشركاتِ استيراد، ومتاجرَ حديثةٍ تَتَوَكَّلُ عن كُبرى الشَّركاتُ العالميَّة، وتبيعُ كُلَّ ما يحتاجُ إليه بَلَدٍ عصريَّ حقيقي.
[شارع الرشيد. الصورة إلى اليمين لمبنى البنك المركزي، وإلى اليسار المدخل إلى الشارع من جهة ساحة حافظ القاضي]
لقد بدأتْ الحِرَفُ اليدويَّةُ البسيطةُ تصبحُ مَشَاريعَ صناعيةً واعدة. أمّا (عصا المُلَّا) في الكَتَاتِيبِ، تلكَ التي كانَ صاحبُها يفكِّرُ بتَأديبِ الصغارِ بـ"الفَلَقَة" (ضربُ باطِن القدمين بالعصا) أكثرَ مِنَ اهتمامه بتعليمِهم حُرُوفَ الهِجَاءِ فصارتْ مدارسَ ومعاهدَ وكُليِّات، وبدأتْ تستقبل الطلبة، والأهم والأكثر مغزى تِمَثَّل باحتضانها للطالباتِ أيضًا، حتى في الأرياف، أو المُدِنِ ذاتِ الصِبْغَةِ الدينيَّة. وفي وقت مُبَكِّرٍ من عمر مؤسَّسات الدولة أُرسِلَ الطلبةُ المُتَفوِّقون في بعثاتٍ إلى جامعاتٍ عالميةٍ رصينة، فأكملوا دراستَهم العليا، وبينهم نسبةٌ كبيرةٌ من أبناءِ العوائلِ الفقيرة. وقد عادوا ليُسهموا بفاعليةٍ في تطويرِ مؤسساتِ الدولة، وليصبحوا من خِيرةِ الكفاءاتِ المُبدعة، والتي لم يتكرر لها مثيلٌ في الحقبِ اللَّاحقةِ مِنْ عمر العراق، بسببِ تِدخُّل أهواءٍ ومصالح، وتَسْييسِ كلِّ المَلَفَّات، بما فيها البعثاتُ الدراسية، فَلَمْ يعدْ مِعيارُ تفوّقِ الطالب هو العامل الحاسِم في اختيارِه، ولا رصانةُ الجامعاتِ العالميةِ بذاتِ أهميةٍ بقدرِ الموقفِ السياسيِّ من بلدانِها.
وَلَعَلَّ مِنَ الطريفِ أنَّ فيصل الأول أسَّسَ لِرمزيةٍ جديدةٍ لها صِلِةٌ بالزَّيِّ هذهِ المرة. لِنَقُل إنَّها كانتْ محاولة منه لترسيمِ سيمياء الهويَّةِ الجديدة، لتبدو مرجعياتها التي تُحِيلُ عليها أكثرَ اندماجًا مِنْ جِهَةٍ، وأقربَ لروحِ العصْرَنَةِ مِنْ جِهَةٍ ثانية. يومَهَا كان مِنَ المَعِيبِ أنْ يظْهَر الرجال أمَامَ النَّاسِ بلِا أغْطِيَةٍ للرأس. وكانَ لدى العراقيين مهرجانٌ عجيبٌ منها، يبدأُ مِنَ العمامةِ والعِقالِ والكَشيدَة، ولا ينتهي بالكلاو والطَّاقِيَّةِ والجَرِّاويَّةِ، ولكلِّ واحدةٍ مِنها لونٌ وحجمٌ يختلفُ بحسبِ البيئةِ والطَبَقَةِ والمِهْنَة. وهنا راحَ الملكُ يُركِّزُ على أهمِّيةِ أنْ يرتدي العراقيون غطاءَ رأسٍ جديد، فكانت (السِدارَة) بمثابَةِ لَمسَةٍ وطنيَّةٍ خاصَّةٍ. فيصل الأول لمْ يُجْبِرْ أحَدًا مِنَ العراقيين على ارْتِدَائِها، كما فعل رضا بَهْلَوي في إيران. ببساطةٍ، هو يُفَضِّلُ أسلوبًا أكثر بساطةً، فمِثْلَما سجَّلَ نفسَه أوَّل جُنديٍّ في الجيشِ العراقيِّ الجديدِ، بدأ بنفسه فارتدى ما سَتُعرفُ لاحقًا بـ(السَّدارةِ الفيصليَّة)، ثم قلّده في لِبْسِها الكثيرون، وفي مقَدِّمَتِهِم نُخْبَةُ الجِّهازِ الحاكِم. وأصبحتْ لها شعبيةٌ كبيرةٌ بين أوساطِ البغداديين والعراقيين كافة، حتى بعد العام 1958.
[الملك فيصل معتمراً السدارة]