عقد على الانتفاضة: اليسار السوري بين انهيار الأيديولوجيا والعبث السياسي

[المصدر: فليكر] [المصدر: فليكر]

عقد على الانتفاضة: اليسار السوري بين انهيار الأيديولوجيا والعبث السياسي

By : Anwar Badr أنور بدر

ليس سرًّا أن اليسار السوري في أزمة، لكنها بالتأكيد ليست نتيجة عقد الانتفاضة أو ثورات الربيع العربي، بقدر ما هي جزء من إشكالية اليسار العالمي الذي دخل في نفق لم يُعرف له نهاية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وكل المنظومة السياسية والعسكرية/الأمنية التي كانت تدور في فلكه، إذ تلاشى التوازن العالمي ثنائي القطب، وانتهت معه حقبة الحرب الباردة، وبدأت الأحزاب الشيوعية المهيمنة سابقًا، ومعها كل القوى والأنظمة الملحقة بالقطب السوفياتي تحت مسمى الأنظمة التقدمية أو حركات التحرر العالمي، والمجموعات اليسارية في العالم تتداعى وبعضها ينهار تباعًا وكأنها أحجار في لعبة "دومينو".

بالطبع لن يعني ذلك بأي حال من الأحوال "نهاية التاريخ" كما نظّر فوكوياما للأمر بشيء من العنجهية والتسرّع، إذ لا توجد في المجتمع أو العلوم الإنسانية، وحتى في الفيزياء، نهايات كاملة أو صفرية، لذلك ما زلنا نرى أنظمة يسارية تتبنى السردية الشيوعية مع بعض البهارات المحلية لكل منها، كالصين وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا، إضافة لبقايا أحزاب شيوعية في مختلف بقاع العالم ومنها أوروبا الرأسمالية، أو بقايا يسار يتكنّى بمسميات شتى وطنية وقومية واجتماعية وثقافية، والمفارقة أن بعض هذه القوى والأحزاب ما زالت ترى في شخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي تولّى عمليًّا دفن بقايا النظام الشيوعي السوفياتي السابق، وريثًا شرعيًّا لإرث الشيوعية العالمية وخليفة لينين في قيادة العداء للإمبريالية الأميركية.

كل هؤلاء الناجين، دولًا وأحزابًا ومجموعات ومثقفين، لم يعرفوا إلى الفطام عن ثدي ماضيهم سبيلًاً، ولم يستطيعوا الاعتراف أو تقبل فكرة النهاية ذاتها، فظلّوا عالقين بشبكة نوستالجيا تربطهم إلى صور وذكريات وشعارات ألفوها سابقًا، على طريقة "الشيوعي الأخير" كما أحب الشاعر العراقي سعدي يوسف أن يُلقّب حتى وفاته! 

بالتأكيد عَززت هذه المؤشرات الموضوعية أو العامة من أزمة اليسار السوري قبل الربيع العربي ومعه، دون أن تحجب خصوصية هذا اليسار في علاقته بالمجتمع والجغرافيا والسكّان والثقافة، في نشأته وتطوره، خياراته ومساراته السياسية، وصولًا إلى عجزه الراهن بالمعنى التنظيمي والحضور والفعّالية، وأبرز أسباب أزمته يعود إلى انقلاب آذار 1963 العسكري، الذي أوصل حزب البعث إلى السلطة، كونه محسوبًا على اليسار القومي، إذ تبنّى الاشتراكية وطبّق الإصلاح الزراعي وأمّم المصارف والشركات الصناعية والتجارية، لكنه في السياق ذاته أمّم الصحافة وحرية التعبير في سوريا وأمّم كل بُنى ومنظمات المجتمع المدني واحتكر الفضاء العام الثقافي والسياسي، في ظلّ ديكتاتورية عسكرية انتقلت لاحقًا إلى استبداد عائلي فاسد شكل المبرر الأساس لخروج السوريين عام 2011، مطالبين بالحرية والكرامة وإسقاط النظام، وربما أحد أهم أسباب أزمة اليسار السوري تكمن في هذا النموذج المشوه لاستبداد فاسد يدّعي اليسار، وفي استمرار قوى يسارية محلية وعربية وعالمية بدعم هذا النظام من منظور يساريّته المزعومة حتى الآن.

المحطة الثانية التي تستدعي التوقف معها، تمثلت بهزيمة/نكسة حزيران 1967، والتي كشفت عجز وخواء تلك الأنظمة التقدمية التي تدّعي اليسار في كل من سوريا ومصر تحديدًا، مما دفعها للبحث عن مشروعيتها المنتهكة تحت وطأة النكسة، فجاء انقلاب وزير الدفاع حافظ الأسد والذي دعاه "الحركة التصحيحية" عام 1970، بهدف إعادة تشكيل السلطة بما يخدم مشروعه الاستبدادي العائلي، على حساب قيادة حزب البعث التي انتهت في السجون والمعتقلات.

لكنّ تداعيات النكسة انداحت أبعد من حدود الأنظمة، إذ شكلت أحد العوامل الكامنة وراء الخلافات داخل "الحزب الشيوعي السوري" قبل ومع المؤتمر الثالث للحزب عام 1969، والتي بدأ بعدها سلسلة انشقاقات طويلة، وضعته في النهاية ملحقًا بسلطة الاستبداد والفساد ضمن إطار "الجبهة الوطنية التقدمية" عام 1972، هو وبعض انشقاقاته أيضًا، إذ ساهموا مع بعض دكاكين اليسار الناصري أو مخلفات حركة "الاشتراكيين العرب" في كذبة أو ديماغوجيا أن السلطة في سوريا تعيش شكلًا من الديمقراطية التشاركية، فيما كان الأسد يُهمّش حقيقة كل القوى السياسية، بما فيها حزب البعث الحاكم نفسه بعد أن صادر الحقل السياسي لصالح مشروعه العائلي فقط كطغمة فاسدة ومستبدة.

بالمقابل عرفت سوريا والمنطقة تداعيات أخرى مختلفة لنكسة حزيران 1967، تداعيات في مستوى المجتمع ولدى بعض النخب الشبابية، إذ عزّزت مشروعية اليسار الفلسطيني المقاوم بدءًا من الفصائل اليسارية التي خرجت من رحم الجناح الفلسطيني لـ"حركة القوميين العرب"، وصولًا إلى تعزيز شرعية "منظمة التحرير الفلسطينية" كمظلة وطنية للشعب الفلسطيني، رفعت شعار تحرير فلسطين.

أبعد من ذلك، شكّلت هذه النكسة وتأثيرات الثورة الطلابية في فرنسا وألمانيا 1968، مُحرضًا في أوساط الشباب السوري والفلسطيني، وتحديدًا الطلاب، لاكتشاف أشكال من اليسار الجديد، الذي وسمَ سبعينيات القرن الماضي، فظهرت في سوريا تنظيمات وبنى جديدة لليسار الذي سار بعضه بتأثير مشروعية حركات التحرر العالمي والحالة الفلسطينية بشكل خاص باتجاه العنف المسلح، أمثال "المنظمة الشيوعية العربية" التي تمّ تصفيتها إعدامًا وسجنًا عام 1975، ويمكن تصنيف "رابطة الشغيلة" في لبنان ضمن هذا الإطار، مع أن جناحها السوري كان أكثر هشاشة من التفكير بالعمل المسلح، إذ ذهبت المنظمة كلها بعد استشهاد القائد ظافر الخطيب منتصف سبعينيّات القرن الماضي في منحى التحالف مع تيار المقاومة والممانعة بقيادة حزب الله في لبنان وامتدادًا إلى تحالفاته الإقليمية وخصوصًا مع النظام السوري حتى هذه اللحظة.

ربما تكون تجربة "الحلقات الماركسية" أواخر ستينيات القرن الماضي هي الظاهرة الأهم التي استدعت التفكير في العلاقة بين الأيديولوجيا والثقافة وبين حقل السياسة، في محاولة لفهم الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في شرطه العياني قبل الشروع في بناء تنظيم سياسي، وقد ذهبت بعض هذه الحلقات أو تداخلت مع تجارب فلسطينية، فيما تطور بعضها الآخر في منتصف السبعينيات إلى "رابطة العمل الشيوعي"، والتي تابعت نشاطها الدعائي النظري، مع ميول أخذت تنحو تدريجيًّا باتجاه العمل السياسي، وتحديدًا في ظرف المواجهات القمعية الشرسة مع النظام، مما سرع في تحول الرابطة إلى "حزب العمل الشيوعي" في سوريا عام 1981.

وقد حافظ هذا الحزب الوليد على خطه الناقد لتجربة اليسار الماركسي التقليدي في جموده النظري، وفي تبعيته للمركز الأممي في موسكو، وفي غياب الاجتهاد والممارسة الديمقراطية في صفوفه، لذلك سعى حزب العمل إلى شكل من التنظيم المغاير انطلاقًا من رفض فكرة الأمين العام للحزب والتمسك بمبدأ القيادة الجماعية للمكتب السياسي، كما أصرّ على مبدأ الديمقراطية والاعتراف بحق الاختلاف داخل صفوفه، إذ مُنحت الأقلية التروتسكية في الحزب حق الإشراف على مجلة "البروليتاري" الداخلية، وحق ممارسة النقد الفكري والسياسي وحتى التحريض تنظيميًّا ضد خط الحزب، وأعتقد أنها التجربة اليتيمة في كل اليسار السوري ضمن حدود معرفتي.

كل هؤلاء الناجين، دولًا وأحزابًا ومجموعات ومثقفين، لم يعرفوا إلى الفطام عن ثدي ماضيهم سبيلًاً، ولم يستطيعوا الاعتراف أو تقبل فكرة النهاية ذاتها، فظلّوا عالقين بشبكة نوستالجيا تربطهم إلى صور وذكريات وشعارات ألفوها سابقًا، على طريقة "الشيوعي الأخير" كما أحب الشاعر العراقي سعدي يوسف أن يُلقّب حتى وفاته!

يُمكننا أن نلاحظ تداخل اليسار السوري بقوة في تلك الفترة مع نظرائه في الساحات اللبنانية والفلسطينية، وفي عموم المنطقة إذا ذهبنا مع تناقضات وصراعات حزب البعث في كل من سوريا والعراق، أو علاقات الفصائل والأحزاب الناصرية المتشظّية في تلك الساحات المتشابكة، مع التنويه بأن سوريا كانت في تلك الحقبة أرضًا موّارة بالمعنى السياسي والفكري، فبعيدًا عن انشقاقات الحزب الشيوعي الرسمي وفصائل اليسار الجديد، وجِدَتْ في ذلك الوقت مجموعات شيوعية كثيرة داخل الترسيمة "السوفيتية/اللينينية"، وخارجها أيضًا، كالتروتسكية والماوية وحتى المجالسية من جماعة العفيف الأخضر، ومجموعات أخرى كثيرة نجد من الصعوبة بمكان اعتبارها أحزابًا سياسية بالمعنى التنظيمي، بقدر ما كانت تجمعات واتجاهات أو حلقات صغيرة، الجامع المشترك بينها جميعا وبين التجارب التي أشرنا لها بتفصيل أكبر يكمن في الهوية الشبابية، إذ انتمى غالبية كوادر وأعضاء هذه الحركات لجيل الشباب والطلاب تحديدًا، هذا الجيل الذي اندفع إلى العمل السياسي، حاملًا راية اليسار في كل تجلياته الثقافية والقومية والاجتماعية والثورية.

مع التأكيد أن هذا اليسار شكّل بكل تنويعاته حاملًا للنشاطات الثقافية والاجتماعية منذ الاستقلال في سوريا، على مستوى الأدب والمسرح والجمعيات الأهلية والمنتديات الثقافية الكثيرة، حتى في لحظات الحذر الديمقراطي لزمن الانقلابات العسكرية، إضافة لامتلاكه منابر إعلامية وثقافية في سوريا والأهم في لبنان، دون أن ننسى الدور الريادي لهذا اليسار بشقيه الماركسي ويسار البعث قبل أن يتردى الأخير في مستنقع الانقلابات العسكرية، إذ ساهما في تأسيس "رابطة الكتاب السوريين" عام 1951، التي استمرت لاحقًا باسم "رابطة الكتاب العرب" إلى زمن الوحدة بين سوريا ومصر حين صدر قرار بحلها عام 1959، في إطار الخلافات بين عبد الناصر والشيوعيين عمومًا.

ارتبط حضور ودينامية اليسار السوري في سبعينيات القرن الماضي بمناخات صعود اليسار الأوربي الجديد وحركات التحرر العالمي، ولاهوت التحرير في أميركا اللاتينية، التي انتظمت كلها في إطار الهوية الشبابية لهذا اليسار، فمن خلال مقاربة حسابية بسيطة نجد أن ظافر الخطيب استشهد على خطوط التماس في الحرب الأهلية اللبنانية قبل أن يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، ولم يكن رفاقه في رابطة الشغيلة بجناحيها اللبناني والسوري، أو باقي الرفاق في المنظمة الشيوعية العربية أو رابطة العمل الشيوعي/الحزب لاحقًا، بعيدين عن هذا المتوسط العمري إن لم يكن الأمر دون ذلك، مما يسمح لنا بمقارنة هذا الجيل ومن بقي منهم على قيد الحياة في بداية انتفاضات الربيع العربي 2011، لنكتشف أنهم وسطيًّا ولجوا إلى منتصف العقد السادس وبدايات العقد السابع من العمر، فيما يساريّو الأحزاب الشيوعية والقومية الرسمية وانشقاقاتهم السابقة قد تجاوز أغلبهم الثمانين من عمره، وقد يكون هذا أحد أسباب عجز تلك القوى اليسارية الكلاسيكية والجديدة عن تجديد بنيتها الفكرية والتنظيمية خلال العقود السابقة، كما عجزت عن تجديد دمائها الشبابية التي جفت حتى بين سلالات هؤلاء اليساريين، وكأنه العقم الأيديولوجي.

رغم العديد من المبادرات السياسية والديمقراطية التي انتشرت في العقد الأول من القرن الجديد، بعد توريث الأسد الابن عام 2000، كانتشار ظاهرة المنتديات الحوارية في دمشق وبعض المدن السورية، والتي وسمت ربيع دمشق القصير، إضافة لبيان الـ99 ثم بيان الألف وصولًا إلى "بيان دمشق/بيروت" عام 2006، وفي السياق ذاته بدأ العمل مع تشكيل "لجان إحياء المجتمع المدني" و"الجمعية السورية لحقوق الإنسان" وصولًا إلى تشكيل "إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي" عام 2005، والذي فشل في مأسسة ذاته كمحصلة، ليس بسبب الاعتقالات المتلاحقة لنشطاء هذه المرحلة فقط، بل وبسبب الخلافات الشخصية والحزبية ومسألة المحاصصة في قوى هرمة لم تفلح بتجديد ذاتها أو تطوير أدواتها، واستمرأت العبث السياسي الذي أضحى سمة لهذه القوى استمرّت في أوساط المعارضة السورية الديمقراطية واليسارية حتى تاريخه.

فاليسار السوري كان لحظة اندلاع انتفاضات الربيع العربي، في حالة عجز أو كهولة فيزيولوجية وأيديولوجية إن صحّ التعبير، أو أنه كان مجرد يافطات لدكاكين أضحت خالية من أي محتوى، دون أن يؤثر في هذه الحقيقة معرفتنا أن أسباب هذا العجز في معظمها تعود إلى عقود من العسف والاضطهاد الذي مارسه نظام الاستبداد البعثي في ظل قانون الطوارئ، حتى استتب له الأمر بوأد تلك الحياة السياسية والفكرية الموّارة في سوريا حتى تصحّرت.

تعطيل ديناميات اليسار السوري تزامن مع سعي نظام الأسد لتحويل الدولة ومؤسساتها، وتحديدًا المؤسستين العسكرية والأمنية، إلى دولة ومؤسسات عقائدية يقوم ولاؤها للأسد بديلًا عن الولاء للوطن. إضافة لتزامنها مع غض الطرف عن نشاطات الإسلام المعتدل والتيارات الصوفية في الجوامع وعبر منابرها المفتوحة، ومن خلال الجمعيات الخيرية والأهلية بحجة مواجهة الإسلام السياسي وتعبيراته الإخوانية، مما ساعد في نموّ وتكريس البنى الاجتماعية ما قبل الدولة المدنية، وهذا شجّع الانقسامات العمودية في المجتمع مع ظهور هويات صغرى مذهبية وطائفية وقومية وعشائرية وقبلية وحتى مناطقية أو جغرافية متنابذة ومتصارعة، طغت على سطح الأحداث منذ السنوات الأولى لانتفاضة السوريين، وبتشجيع كبير من القوى الإقليمية والدولية التي ساهمت بحرف الصراع داخل سوريا إلى اتجاهات غير وطنية.

بعد خروج معتقلي حزب العمل وباقي معتقلي القوى اليسارية من السجن، "خرجتُ أنا بتاريخ 7 يناير 1999، بعد أن أمضيتُ 12 عامًا و 32 يومًا"، كانت قد جرت خلالها الكثير من المياه تحت جسور الأيديولوجيا واليسار في العالم، وأهمها انهيار الاتحاد السوفياتي أواخر ثمانينيات القرن المنصرم، دون أن تتوقف أغلب قوى اليسار في سوريا عند هذه المجريات أو ارتداداتها، مراجعةً أو ناقدةً لها، باستثناء مراجعة الحزب الشيوعي السوري/المكتب السياسي في مؤتمره السادس عام 2005، حين غير اسمه من "الحزب الشيوعي/المكتب السياسي" إلى "حزب الشعب الديمقراطي" والذي اعتبر مؤشرًا للانتقال من الخط الإيديولوجي الماركسي اللينيني باتجاه الاشتراكية الديمقراطية وظلالها الليبرالية.

بالنسبة لي كمعتقل في حزب العمل الشيوعي/الرابطة سابقًا، رأيت مع أغلبية الرفاق الخارجين من السجن، أن تلك المرحلة انتهت، وأنه فيما لو أراد أحدنا العمل السياسي فعليه التفكير بطريقة جديدة، إذ بات من غير المقبول التمسك بشعار ديكتاتورية البروليتاريا مثلًا، في بلد يسيطر فيه نظام كلياني شمولي على كل الجمعيات المدنية والنقابات بما فيها النقابات العمالية، وهذا ما دفع أغلبنا لتثمين المراجعة التي أنجزها الأصدقاء في حزب الشعب، والتي وئدت سريعًا مع استقالة الأمين العام المنتخب عبد الله هوشة، احتجاجًا على إغلاق نوافذ الحرية والديمقراطية في الحزب.

فيما نشط بعض رفاقنا في حزب العمل على استعادة الحزب فور خروجهم من السجن، ولمآرب مختلفة من شخص لآخر، إذ نشط بهذا الاتجاه رفيقنا السابق فاتح جاموس الذي سبق وخاض معارك نظرية داخل حزب العمل وفي السجن دفاعًا عن أولوية المسألة الوطنية على المسألة الديمقراطية، كما عمل على إصدار مطبوعة باسم "الآن" ما زالت حتى تاريخه تصدر باسم من بقي من هذه المجموعة في هيئة التنسيق، إضافة للرفيق منيف ملحم المنتمي لاتجاه الأممية الرابعة أو التروتسكية، وسبق له في فترة ربيع دمشق تأسيس "منتدى اليسار للحوار" مع بعض رفاقه، كما أسس عام 2002 حركة "مناهضة العولمة".

بينما الرفيق عبد العزيز الخير الذي تأخر إطلاق سراحه، تأخر أيضًا انضمامه إلى جهود استعادة الحزب ولم يبرز بشكل واضح إلا بُعيد انتفاضة السوريين، بدليل أنه عندما شارك بتأسيس تجمع اليسار الماركسي في سوريا "تيم" بتاريخ 24 أبريل 2007، وقّع باسمه الشخصي رغم مشاركة حزب العمل بالتأسيس والتوقيع، وظلّ لفترة بُعيد الانتفاضة يُنسق مع فاتح جاموس، حتى غادر هذا الأخير حزب العمل الشيوعي إلى حاضنة قدري جميل في "جبهة التغيير والتحرير"، وبقي الرفيق عبد العزيز الخير ومعه قسم من رفاق الحزب داخل هيئة التنسيق، حتى اختطافه وتغييبه قسريًّا في 16 أكتوبر 2012، من قبل أجهزة الأمن السورية على طريق المطار حين كان عائدًا من زيارة للصين.

بالمقابل، أحصي في سوريا خلال السنتين الأوليين من زمن الانتفاضة وجود ما ينوف عن 300 مجموعة صغيرة، ينشط أغلبها في المجالات الإغاثية والمدنية والطبية والإعلامية، كما اشتغل بعضها على تقديم مساعدات لوجستية وجمع تبرعات للمنتفضين إضافة إلى المشاركة في التظاهرات التي كانت علامة فارقة لتلك المرحلة، ولوحظ انخراط أغلب رفاق تجربة حزب العمل، وبعيدًا عن إطار الحزب السابق، ضمن بعض المجموعات ذات الطابع اليساري الداعمة لانتفاضة السوريين، مع حذر شديد من موضوعة العمل العسكري أو التسليح، باستثناء نوايا لبعض الأشخاص أجهضت باكرًا.

ما يميّز ديناميات رفاق حزب العمل السابقين تجلى بقدرتهم على التفكير خارج الصندوق إن صح التعبير، أي دون البحث عن شرعية الحزب السابق، لذلك رأيناهم يتوزعون في مجموعات كثيرة بعيدًا عن الرابط الحزبي أو البرنامجي، من لؤي حسين وتيار بناء الدولة إلى تيار مواطنة وحركة معًا واليسار الثوري وتجمع نبض وحركة شمس وغيرها من المسميات، وكنت مشاركًا في تأسيس تيار مواطنة، والذي شارك في تشكيل "ائتلاف وطن" الذي ضمّ 17 منظمة صغيرة ذات طابع يساري عمومًا، كما وُجِدتْ منظمات أخرى كثيرة بنفس الاتجاه وإن لم تنخرط في هذا المسمى، وقد حققت أغلب هذه المجموعات الصغيرة نجاحات مهمة ضمن حدود بيئتها ولصالح تجسير الهوة بين مكونات المجتمع السوري ضمن إطار النشاطات الداعمة للانتفاضة، وكذلك نجاح هذه المجموعات ضمن حدود أهدافها أو برامجها العملية، لكنها لم تحقق أي نجاح يذكر حين اقتربت من العمل السياسي المباشر، وتحديدًا عندما ذهبت إلى التشكيلات السياسية الكبرى لاحقًا، أو احتكت بها.

وكانت تجربتنا الأولى حين شارك "تيار مواطنة" في مؤتمر القاهرة الذي رعته جامعة الدول العربية، وأنتج أول صيغة توافقية عرفت باسم "وثائق القاهرة" التي صدرت بتاريخ 3 يوليو 2012، وقد توزعت بين "العهد الوطني" وبين "الرؤية السياسية المشتركة"، وكانت الأرقى والأفضل حتى تاريخه وباعتراف الجميع، رغم العبث الذي مارسه الجميع بدءًا ممن أراد أن يحجز عبر الهاتف لصالحه نصف أسماء لجنة الصياغة كونه يمثل معارضة الداخل، إضافة لانعدام الثقة بين الجميع، والفوضى العارمة التي سادت في الجلسة الختامية، إذ تناوب أربعة أو خمسة أشخاص على رئاسة الجلسة، دون أن يفلحوا في التقليل من غوغائية البعض وانسحاب البعض وتراجع البعض عن انسحابهم حين قرروا في اليوم التالي توقيع الوثائق مع التحفظ.

ما جرى تلك الليلة ينتمي حقًّا إلى مسرح العبث أكثر مما ينتمي إلى العمل السياسي والفكري الوطني، ولا أستثني أحدًا من العبث الذي استمر بعد صدور الوثائق التي تركت أصداء جيدة عند السوريين عمومًا ولدى أغلب الأطراف الدولية الفاعلة أو المعنية في ذلك الوقت بالملف السوري، إلا أن الطرفين الأساسيين في المعادلة المجلس الوطني وهيئة التنسيق ساهموا بوأد هذا المنجز، المجلس الوطني/وامتداده الائتلاف لاحقًا اعترضوا على اعتماد شرعة حقوق الإنسان مصدرًا للتشريع، فيما استمرت هيئة التنسيق في مواقفها المُعطِلة وتمترسها وراء المحاصصة، البعيدة عن أي إحساس بالمسؤولية السياسية والوطنية.

ورغم إصرارنا في تيار مواطنة على رفض المشاركة في المجلس الوطني أو هيئة التنسيق، إلا أننا راهنّا على لحظة ولادة الائتلاف، وشاركنا بها منذ البداية، ثم دَخلتُ في المرحلة اللاحقة ضمن التوسعة التي جرت نهاية أيار/مايو 2013، إذ خَبِرتُ سوء وضع هذه المكونات، وأذكر أنني خلال عامين كنت أقاتل في "تيار مواطنة" على فكرة الخروج من الائتلاف، وبعد لأيِ أعلنت انسحابي دون موافقة التيار، واعتذرت من أصدقائي ومن كل السوريين عن فشلنا في بيان علني بعنوان "بُنى غير قابلة للإصلاح"، إذ كان الائتلاف وما زال يسير ضمن المحور التركي الإخواني، فيما ممثلو اليسار ضمن الائتلاف كانوا يمارسون العبث السياسي بكل معنى الكلمة في مستوى تحالفاتهم وفي مستوى مواقفهم السياسية، حتى من كان منهم شركاء لنا في تجربة السجن، وانسحبت لاحقًا من "تيار مواطنة" أيضًا.

هنا سأعود إلى تجربة "حزب الشعب" التي خرجت من رحم المراجعة النقدية للحزب الشيوعي السوري/المكتب السياسي، التي أشرنا إليها، وسأكتفي بما أورده الصديق مازن عدي في دراسة مهمة بعنوان "الربيع العربي والأحزاب السياسية: سوريا مثالًا" في العدد الثالث من "رواق ميسلون، تموز/يوليو، 2021". يتحدث الصديق المهندس عدي القيادي في "حزب الشعب-الهيئة القيادية" عن تجربة حزبه الأم "حزب الشعب" في زمن الثورة وداخل مؤسسات المعارضة، قائلًا:

"تعـرض حـزب الشـعب لانتقادات واسعة علـى سـوء الأداء، وعلـى تأخيـر عقد مؤتمره الـذي يضمن المراجعـة وتجديد الطاقات. لـم تعمـل قيادته كي يكـون فاعلًا كمؤسسة، وتُـرك أعضاؤه لمبادراتهم الفردية خلال الثـورة، فــي الوقــت الــذي لعبــت بعــض التصريحات السياسية لأحــد مسؤوليه غطاء للإسلاميين المتشددين مثل جبهة النصرة (جورج صبرا)، يُضاف إلى ذلك عدم الرضى عن أداء الحزب في المجلس الوطني والائتلاف الوطني الذي جُيّر لمصلحة جماعة الإخوان المسلمين وحلفائهم من التيارات الإسلامية. تفاقمت أزمة الحزب تنظيميًّا، إذ صدرت قرارات فصل داخلية لمجموعة كوادر كانت تسعى لإنشاء منبر ديمقراطي داخلي بحسب النظام الداخلي، إلا أن القيادة رأت أنه تكتل بغرض الانقسام. احتكم المعترضون إلى هيئة التحكيم الوطنية داخل الحزب برئاسة عمر قشاش التي أنصفتهم، لكن القيادة المركزية لم تحترم قــرارات هيئة التحكيم، وأعلنت حالة الطوارئ، ولجأت إلـى قـرارات الفصل التي طالـت أعضـاء فـي المركزيـة وكوادر أساسية. كذلك، لم تحدث استجابة لدعوة ثلث أعضاء المؤتمر السـادس إلـى عقـد مؤتمـر سابع، ولا يـزال الأمـر معلقًا حتى اللحظة الراهنة. انتهى الحزب واقعيًّا إلى جسمين تنظيمين يحملان الاسم نفسه مع تميّز الطرف الجديد بإضافة عبارة الهيئة القيادية إلى الاسم".

وكل هذه التفاصيل معروفة داخل الوسط المهتم في سوريا، وأنا أتفق مع كامل الملاحظات التي أوردها الصديق مازن عدي، وسبق لي الإشارة إليها في سياق مختلف، مع أنني لست من مؤيدي أي انشقاق تنظيمي، وخاصة في بنى هي مأزومة في الأساس.

سبق للصديق اليساري الفلسطيني الراحل سلامة كيلة، الذي أمضى ثماني سنوات من عمره في سجون الأسد، وبقي مخلصًا ليساريته حتى النهاية، أن كتب عن أزمة هذا اليسار في كتابه المهم "اليسار العربي في أفوله" الذي صدر أواخر عام 2011، عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، حين يقول إنّ "اليسار بات يتلاشى، فيتحول إلى أحزاب هرمة ذات سياسات تميل إلى المهادنة والتكيف مع الأمر الواقع، والقبول بأقل القليل"، دون أن يَحدُّ هذا التشاؤم من إصرار كيلة على بناء يسار جديد، وهو السؤال الذي يبحث عن مشروعيته في إطار الأزمة الراهنة ومقدماتها العديدة؟

حتى هذه اللحظة، لا يوجد أي أفق لولادة يسار سوري حقيقي، طالما لم نزل نفكر بتقسيم الدكاكين الخاوية واليافطات القديمة، مستسلمين لتناقضاتنا السابقة وصراعاتنا القديمة بعد عشر سنوات من السيول الجارفة التي دَمّرت كامل سوريا عمرانًا ومجتمعًا واقتصادًا، وقوضت في طريقها بقايا اليسار السوري الهرم، فبات حريًّا بنا أن نفكر بطريقة مختلفة، مستحضرًا ملاحظتي السابقة حول إمكانية "التفكير خارج الصندوق"، لماذا نحاول التمسك بإرث لم يمنعنا من الخطأ سابقًا؟ ولماذا نسعى إلى القسمة داخل الصندوق ولا نسعى إلى بناء صندوق جديد أرحب؟ وهذا يفترض السؤال حول ضرورة ومشروعية اليسار الجديد؟ وتاليًا أي يسار نريد؟

أعتقد أن فكرة اليسار الشيوعي باتت جزءًا من الماضي، وعلينا أن نعترف بتطور مفهوم اليسار كثيرًا باتجاهات تربط فكرة العدالة الاجتماعية بالديمقراطية وحرية الإنسان وحقوقه، بالتوازي مع ربط مفهوم العدالة بالكثير من القيم الثقافية والاجتماعية التي تشكل حاملًا للفعل السياسي أكثر منها أيديولوجيا ترتبط بدكتاتورية البروليتاريا أو أي دكتاتورية أخرى يسارية أو قومية أو دينية.

علينا أن نفكر الآن مع كارل بوبر في كتابه "المجتمع المفتوح وأعداؤه"، إذ لم يعد مقبولًا تأطير الحياة والتاريخ وعناصرهما المتحركة من مجتمعٍ وثقافةٍ وأفرادٍ في منظور أو إطار محدد أيديولوجيًّا، دون أن ننسى بالطبع أثر الديمقراطيات الغربية التي ذهبت أبعد من ديكتاتوريات البروليتاريا في الأنظمة الشمولية، من حيث تطبيق مفهوم العدالة والتأمينات الصحية والاجتماعية التي تحدث عنها ماركس وبعض تلامذته المجددين.

بالطبع سيرفع كثيرون علينا تهمة الليبرالية، مع أنها في شقها السياسي باتت ضرورة ملحة لاستعادة جيل الشباب السوري إلى حقل العمل السياسي أولًا، وبأقل حمولة أيديولوجية ممكنة، فعصر الأيديولوجيات الكبيرة قد انتهى، كما انتهت معه أحلام التنظيمات الأيديولوجية الكبيرة التي تسيطر على المجتمع، وتستغل قوتها لبناء ديكتاتوريات جديدة.

مع ذلك سأسمح لنفسي بالعودة إلى أبجديات الماركسية والصراع الطبقي، للبحث عن مشروعية اليسار السوري الجديد أو حامله الطبقي، حين نكتشف أن 90 بالمئة من السوريين الآن في مناطق النظام، أو في مناطق الشمال السوري الخاضعة للاحتلال التركي أو لسيطرة هيئة تحرير الشام، أو في مخيمات اللجوء بين تركيا والأردن ولبنان، هم جميعًا بالمعيار المادي أو الاقتصادي تحت خط الفقر بكثير، مع أنهم ليسوا بروليتاريا أو طبقة عاملة، لكنهم ممن هبطت بهم مفاعيل الحرب إلى درجة أقرب لمفهوم البروليتاريا الرثة وفق التعبير اللينيني، وإذا كان لينين قد اعتمد أصلًا على فلول الجيش الإمبراطوري المهزوم في نهايات الحرب العالمية الأولى، وهم ليسوا بروليتاريا، ليقودهم من هزيمتهم باتجاه قصر الشتاء، ويحقق ثورة أكتوبر التي غيرت لعقود من الزمن وجه التاريخ، فهل يمكن ليسار سوري جديد أن يعاود الاشتغال على هذه النسبة الكبيرة من السوريين التي أفقرت دون حد الفقر بكثير، والتي تمرغت بكثير من الخسائر والذل في انتماءات وهويات واحتلالات لا تعبر عن قضيتها أو احتياجاتها وطموحاتها، ليصنع منها كتلة حقيقية في المعادلة السورية التي خرج منها السوريون نظامًا ومعارضةً؟

هي مجرد فرضية للتفكير، رغم معرفتنا أنه ليس بالمستطاع الآن قيادة هذه الفلول المفقرة إلى قصر قاسيون، بل ليست هذه المهمة مطروحة الآن على جدول العمل السياسي الراهن، لكن هذه المجاميع المفقرة بالضرورة هي أرض خصبة لانتعاش اليسار السوري مجددًا في بحثه عن الحرية والكرامة بعد أن عزّت عليها لقمة العيش، وهذا هو التحدي الحقيقي أمام النخب السورية لاستعادة هذه المجاميع عبر عمل دعاوي ربما يطول أمده بعض الشيء، عمل يعيد الاعتبار إلى الثقافة في المجتمع انطلاقًا من فصل الدين عن الدولة، بعدما قادتنا أسلمة الثورة أو الانتفاضة إلى العسكرة والكوارث الراهنة سوريا، فالعلمانية هي النظام الأقدر على الحفاظ على حقوق جميع المتدينين وعباداتهم بعيدًا عن شؤون السياسة وإدارة الدولة أو الشأن العام، فليس مطلوبٌ من الدولة أن تُدخل مواطنيها إلى الجنة، بل أن تؤمن احتياجاتهم في الحياة الراهنة، وتصنع لهم في دولتهم إمكانية للحياة بكرامة.

يؤكد المفكر الراحل إلياس مرقص هذه الفكرة بقوله: "إنه في زمن العسكرة ليس من مجال الآن للفعل السياسي، وربما يكون الأجدى العودة إلى العمل الدعاوي الفكري والثقافي لتجميع بنية حزبية قادرة أن تحسم الأمور ديمقراطيًّا حين نصل إلى هذه المرحلة ولو تأخر الزمن".

وأعتقد أن هذه الكتلة العريضة وضمنها الأجيال الشابة من السوريين تمتلك الآن حاملًا متاحًا تقدمه منصات التواصل الاجتماعي التي يمكن استثمارها بديلًا عن "الأيسكرا" البلشفية، كطريق للعمل الدعاوي الواسع، القائم على الاستثمار في حقوق السوريين المفقرين اقتصاديًّا والمهمشين سياسيًّا واجتماعيًّا، واستعادة الشباب منهم والعاطلين عن العمل بشكل أساسي باتجاه حقل السياسة، فجيل الشباب هو الضمان الوحيد لاستعادة ألق اليسار الثقافي والاجتماعي، يسار ينطلق من فكرة العدالة الاجتماعية ربطًا بمفهومي الحرية والديمقراطية، بعيدًا عن أي ديكتاتورية باسم البروليتاريا أو الدين أو الرسالة الخالدة، فهنا كان مقتل اليسار السوري الذي لم يكن ديمقراطيًّا ولم يعترف بالحرية كقيمة سامية في الفكر والسياسة، وهنا التحدي الذي ينتظره في المستقبل، وبدون ذلك لن تكون المساواة أو العدالة بين الأفراد ولن يكون حلم المواطنة ممكنًا.

[هذه المقالة جزء من طاولة مستديرة خصّصتها جدلية لتناول موضوع اليسار في سوريا].

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • هل تعبدون الله أم البخاري؟

      هل تعبدون الله أم البخاري؟

      حدثان مترابطان يثيران الكثير من التساؤل، أولهما الحكم في مصر على المحامي المستشار أحمد عبده ماهر بالسجن خمس سنوات بسبب رأيه في كتاب "صحيح البخاري"، دفاعا عن الإسلام كما يعتقده صحيحاً، والثاني قرار إدارة موقع فيسبوك حظر حساب المستشار القانوني لمدة شهر

اليسار السوري خلال العقد الأخير وبعده

يصعب أن نتصوّر، في المدى المنظور على الأقلّ، يسارًا سوريًّا ثوريًّا ذا وجه مستقل، يقوم بالدور الذي يُنتظَر أن يقوم به يسار يستحقّ هذا الاسم، وذلك لجملة متراكبة من الأسباب. فطوال أكثر من نصف قرن، تعرّض اليسار السوري الجدير بهذا الاسم لحملات قمع وحشي متلاحقة ومتسارعة لم تسمح ببناء جدّي لكوادره أو قواعده أو برامجه. وأتى انهيار "الكتلة الاشتراكية" في أواخر ثمانينيات القرن العشرين وأوائل تسعينياته، لتجري كتل كبيرة من هذا اليسار مع الطَّفو الليبرالي الرائج متنكرةً لأبسط مبادئ تاريخها السابق. وأتت بعد ذلك انتفاضة الشعب السوري، ليرتكب فيها هذا اليسار السوري المتلبرل أشنع الأخطاء، بل الجرائم، السياسية.

عند تناول اليسار السوري بعد العقد الأخير، لا بدّ من التنبيه منذ البداية إلى أمرين ضروريين لن ندخل هنا في نقاشهما: الأول، هو أنّه مهما تكن أخطاء وجرائم اليسار السوري والمعارضة السورية عمومًا، فإنّهما ليسا السبب في ما جرى للبلد. ومشكلتهما، ومشكلتنا معهما، أنّهما لم يكونا حلًّا أو بديلًا أو فاعلًا يحسن الفعل، لا أنهما علّة ما جرى، فالعلّة معروفة لا تستحق أدنى نقاش في كونها العلّة البنيوية الجوهرية. والثاني، هو أنَّ الأساس الاجتماعي أو الطبقي الذي تنهض عليه هشاشة اليسار السوري على مختلف الصّعد إنّما هو هامشية هذا اليسار. والمقصود بالهامشية هو الارتباط الواهي بالطبقات والفئات الاجتماعية ومصالحها والانعزال الاجتماعي الاقتصادي عن السيرورات الجارية، نظرًا لاحتلال الكتلة الأكبر من هذا اليسار مواقع هامشية ضمن بنية البلد، سواء بسبب الأعمار المتقدمة أو الفتيّة (الطلاب خصوصًا)، أو بسبب الوظائف والمواقع، أو بسبب ما تركته اعتقالات سابقة من آثار التخلّع الشخصي والاجتماعي، أو بسبب الارتباط - المستجدّ - ببنى وسياقات خارج البلد.

كانت الانتفاضة التي انطلقت في سوريا في عام 2011 واحدًا من ارتدادات الزلزال البادئ في تونس ثمَّ في مصر وليبيا واليمن وصولًا إلى سوريا، على نحوٍ يذكّر بعض الشيء بثورات عام 1848 التي اكتسحت أوروبا متنقلةً من بلد إلى بلد. لكنَّ سوريا تميّزت عن تلك البلدان بأمور حاسمة، منها: تغييب احتكار السلطة والقمع المديد كلَّ مظهر جدّي من مظاهر المجتمع المدني (أحزاب، نقابات، جمعيات، نوادي، صحافة مستقلة، قضاء مستقل.. إلخ)؛ والتحام الجيش التحامًا وثيقًا بقمّة السلطة؛ وتمكّن قبضة النظام الأمنية على مدى عقود من إسكات الشعب وكسر عظام المعارضة؛ وموقع سوريا الجيوسياسي الإقليمي والدولي وعلاقتها الوثيقة بالقضية الفلسطينية؛ وبنية النظام الصلدة العاجزة عن احتمال أدنى اختلاف.

ساهمت في الانتفاضة بدايةً شتّى الفئات الاجتماعية والتيارات السياسية والفكرية، وغلب على أشهرها الأولى طابع التظاهر السلمي الذي تمكّن، على الرغم من القمع الوحشي، من أن يخلق ما تدعوه سوسيولوجيا الثورات بـ"الوضع الثوري": حيث يرفض المحكومون أن يُحكَموا بالوسائل السابقة، ويعجز الحاكمون بوسائلهم تلك عن إبقاء الوضع على ما كان عليه، وتتزعزع  بأفعالٍ على الأرض علاقةُ الإخضاع التي تربط الطرفين، وتتركّز شتى التناقضات في المستوى السياسي على شكل أزمة سياسية يحاول النظام حلّها لا بالقمع وحده، بل أيضًا بالاعتراف بأنّ ما يجري سياسيّ وبالدعوة إلى الحوار أو التفاوض وبتغيير الحكومات والقوانين والدساتير والبرلمانات، بما يخلق احتمال أن تتحوّل مثل هذه التغييرات شيئًا فشيئًا، على وقع انتفاضة الشارع، من مجرّد تغييرات شكليّة زائفة بقصد الانحناء أمام العاصفة إلى لحظة تحوّلٍ حاسمة.

لم تكد التظاهرات السلمية تضع قدم النظام على أوّل هذه الطريق حتى أدّى القمع الوحشي والتمويل والتسليح الخارجي (لا سيما الأميركي والتركي والخليجي) وتزايد نفوذ تيارات الإسلام السياسي وحلفائه من اليساريين السابقين المتلبرلين في المعارضة إلى طغيان الطابع المسلّح وتحوّل الانتفاضة إلى حرب مدمرة اختلط فيها المحلي بالإقليمي والدولي، وأفسحت المجال لتسيّد الإرهاب التكفيري من "نصرة" و"داعش" وأشباههما، لتتوارى في الخلف الأقسام الأوسع من الشعب السوري ومطالبه المحقّة المزمنة في الحريات والحقوق الأساسية ودولة القانون. ولم تعد الثورة ثورةً، لا من حيث الطبيعة الاجتماعية والسياسية لفئاتها القائدة، ولا من حيث الأهداف التي تتوخّاها، وهما الأمران اللذان عادةً ما تتعرّف بهما الثورات.

لم يكن اليسار السوري عمومًا بالغائب عن الحراك، على الرغم من الطابع الشعبي غير الحزبي الذي غلب في المراحل السلمية الأولى، وعلى الرغم من الضعف البنيوي الذي يعاني منه هذا اليسار بعد عقود القمع والاعتقال المديدة وتمزّقه الحاسم (بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وحرب الخليج الثانية) بين أربعة تيارات: تيار وطني ديمقراطي ماركسي، سيعبّر عن نفسه بعد الانتفاضة من خلال "هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي"، كما من خلال أشكال جمعية وفردية مستقلة أخرى؛ وتيار ليبرالي جديد، سيعبّر عن نفسه من خلال "المجلس الوطني السوري" ثم "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية"؛ وتيار شيوعي تقليدي مرتبط بالنظام من خلال "الجبهة الوطنية التقدمية"؛ وأعداد كبيرة من اليساريين المستقلين من شتى الآراء. كان لليسار، على الرغم من ضعفه، حضوره في الحراك، كما كان له الوزن المعنوي الذي فرض نفسه على تيارات الإسلام السياسي وداعميه ومموليه وتجلّى في مسائل عديدة أبرزها تعاقب ثلاثة من اليساريين السابقين المتلبرلين على رئاسة "المجلس الوطني" (برهان غليون وعبد الباسط سيدا وجورج صبرا).

شكّلت المراهنة على التصاعد التدريجي لنضالات السوريين وعلى نبذ السلاح والتدخّل الخارجي والطائفية محور سياسات اليسار الوطني الديمقراطي المنضوي في "هيئة التنسيق" والشخصيات المستقلة القريبة منه. ومثّل هؤلاء مشروعًا لـ"التغيير الوطني الديمقراطي" لطالما كان المساهمة النظرية والنضالية الكبرى التي قدّمها الوطنيون الديمقراطيون واليساريون السوريون وأَنْمُوهَا على مدى عقود منذ أواخر ستينيات القرن الماضي إلى الآن. ويجمع هذا المشروع بين التشديد على ضرورة التغيير الجذري الذي ينقل البلد من الاستبداد إلى دولة القانون والحريات السياسية كشرط لا بدّ منه للانتقال من التخلّف الاقتصادي الاجتماعي إلى التقدّم والعدل، وبين معرفةٍ ببنية البلد ونظامه وموقعه الجيوسياسي تسبغ على ذلك التغيير الجذري صفات الوعي بالمخاطر المحتملة، وبين إدراك لأهمية المسألة الوطنية والقومية وعدم انفكاكها عن المسألتين الديمقراطية والاجتماعية في بلد مثل سوريا. 

تمثّلت هذه الرؤية خلال الحراك في التشديد على أنَّ الخلاص من الاستبداد الفاسد إمّا أن يكون خلاصًا وطنيًّا ديمقراطيًّا أو لا يكون؛ وأنّ ميزان القوى وطبيعة النظام يقتضيان أن يكون هذا الخلاص سيرورة متصاعدة تتلاقى فيها المقاومة المدنية السلمية والعمل السياسي، والعفوية والوعي، وحماس الشباب وخبرة الشيوخ، في جولات متلاحقة تحتمل الفشل والتراجع، لا بسبب قوة الطرف الآخر فحسب، بل أيضًا درءًا للمخاطر الأسوأ التي رأينا بالفعل كيف دُفِعَت سوريا على سكّتها بكلّ توحّش وفقدان للبصيرة.

لذلك لم ينبهر أصحاب هذا المشروع ببعض الأساطير التي راجت وتقدّست مع انطلاق الانتفاضات العربية مثل "العفوية" و"الشباب" و"ضرر التنظيم والسياسة". وانتبهوا إلى أنّ أقسامًا من المعارضة ليست معنيّة بالحرية والكرامة بقدر عنايتها بتغيير تحالفات سورية الإقليمية والدولية. ووعوا أهمية توحّد المعارضة على خطّ وطني ديمقراطي، الأمر الذي تجلّى في ما دُعي "اتفاق القاهرة" في أواخر عام 2011 الذي ساهم في صوغه القيادي اليساري البارز عبد العزيز الخيّر ووقّعه كلّ من هيثم منّاع عن "الهيئة" وبرهان غليون عن "المجلس الوطني"، لكن غليون ما لبث أن سحب توقيعه بأمر من ممولي "المجلس" ورعاته.

بيد أنّ "الهيئة" ذاتها - في ظلّ اختطاف قيادييها البارزين عبد العزيز الخيّر ورجاء الناصر ونزوح كثير من عناصرها باتجاه من حسبوه منتصرًا - لم تبق على تمسّكها السابق بخطّها الوطني الديمقراطي، الأمر الذي تجلّى في مشاركتها الخانعة في "الهيئة العليا للتفاوض" إلى جانب "الائتلاف" ومسؤولين سابقين في النظام منشقّين وفصائل مسلحة عديدة، ما أضعف كثيرًا تمثيلها الخط الوطني الديمقراطي.

لم يكن اليسار السوري عمومًا بالغائب عن الحراك، على الرغم من الطابع الشعبي غير الحزبي الذي غلب في المراحل السلمية الأولى، وعلى الرغم من الضعف البنيوي الذي يعاني منه هذا اليسار بعد عقود القمع والاعتقال المديدة وتمزّقه الحاسم

تَمَثَّلَ الجناح "اليساري" الآخر بعدد من القوى والشخصيات التي كانت يسارية وتحولت إلى الليبرالية و/أو الشعبوية ودخلت "المجلس الوطني" وخليفته "الائتلاف" إلى جانب، بل تحت، الإسلام السياسي (ممثلًا بالإخوان المسلمين بصورة أساسية). ويكاد هذا "اليسار" أن يكون مقلوب "يسار النّظام" ووجه عملته الآخر. ويكفي أن نعرف أعداء النّظام في كلّ فترة، كائنًا من كان هؤلاء الأعداء، كي نعلم من هم محطّ إعجاب هذا "اليسار" في تلك الفترة، وصولًا إلى إعجابه بالجيوش الأميركية المحتلة أو المستعدة للاحتلال، كما نجد في أطروحة "الصفر الاستعماري" التي طلع بها في تسعينيات القرن الماضي اليساري السابق رياض الترك (القائد التاريخي للحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي الذي غيّر اسمه إلى "حزب الشعب الديمقراطي السوري"). ومفاد هذه الأطروحة أنّ الاستعمار يعيد بلداننا إلى الصفر الذي أنزلها الاستبداد تحته، وأنَّ الخلاص من الاحتلال الخارجي الاستعماري أسهل من الخلاص من الاستعمار الداخلي الذي تمثّله الأنظمة المستبدة.

لم يُلاق هذا "اليسار" الأخير الحراكَ العفوي في 2011 بأيّ برامج أو تصورات تحسب حساب توازن القوى والأخطار المحتملة، بل لاقاه بأردأ أنواع الشعبوية التي تعزف على آلام القتل الوحشي وجراحه. بدا الأمر آنذاك كأنّه فرصة لا تتكرر، يقتنصها هؤلاء ولو خرب العالم. وحين صعب اقتناص الفرصة، حبّذ هذا "اليسار" لا العنف المعارض فحسب، بل قسمة الجيش والعلَم والبلد، والتدخل الخارجي، والطائفية. ومع ازدياد القمع وتسيّد حركات إرهابية تكفيرية ليست "داعش" و"النصرة" سوى مثاليها الأبرز، كشف هذا "اليسار" عن وجه ظلاميّ عبثي رهيب لا يتردد في تبرير الإرهاب التكفيري وفي اعتبار ما يستولي عليه من أرض أرضًا "محررة"، من دون أن يجرؤ على دخولها. يقول عضو "حزب الشعب" جورج صبرا في محضر اجتماع "المجلس الوطني" بتاريخ 20 و21 آب 2013: "إننا في المجلس الوطني لم نعلن لا تصريحًا ولا تلميحًا ضد جبهة النصرة أو غيرها، وقد دافعنا في اجتماعنا مع الأميركان دفاعًا قويًّا عن جبهة النصرة، كما لم تدافع هي عن نفسها". ويقول ياسين الحاج صالح، العضو السابق في الحزب ذاته والذي اشتهر بلقب "حكيم الثورة"، في مقابلة معه في جريدة المستقبل اللبنانية في 6 تشرين الأول 2013: "لا أزال على موقفي الأول: لا لتبنّي الموقف الأميركي من النصرة، ولا لفتح جبهة صراع معها، طالما كان هذا ممكنًا.. الصراع مع النصرة ثانوي ويعالج بالسياسة، والصراع مع النظام وجودي.. تخوض الثورة معركة صعبة مع النظام، بينما النصرة لا تفتح جبهة ضد أحد في الثورة". وقوله هنا لا يقتصر، بالطبع، على موقف هذا الكاتب من "النصرة"، ولا على ثمرة صراعاته الثانوية والوجودية التي نراها أمامنا، بل تتعدّاهما إلى فكرته عن الجبهات وحسبانه أنّه وأمثاله كان يمكن، في اللحظة والسياق المعنيين، أن تكون لهم جبهتهم بين الجبهات.

يبقى الإنجاز الفريد لهؤلاء تطويرهم أطروحة "الصفر الاستعماري" إلى تحالف فعلي مع ضواري العالم الاستعماري (لا سيما أميركا وإنكلترا وفرنسا ونواطير نفطهم في الخليج)، ودعوة هؤلاء إلى التدخل العسكري وإنزال ضربات عنيفة بالبلد (الذي يطابقون بينه وبين النظام). وفي حين كان وهم الحريات والديمقراطية والتنمية لا يزال يظهر مع الطبعة الأصلية لأطروحة "الصفر الاستعماري" مثل ورقة توت تغطي عورتها، سقطت هذه الورقة تماماً عن النسخة المطورة لتبدو على حقيقتها العارية من أيّ مطامح ما عدا الانتقام وإرواء الغليل، الأمر الذي يتجلى في عدم تفريق هؤلاء بين مطار أو مركز للبحوث وبين النظام، كما يتجلّي في افتقارهم إلى كلّ خطاب ما عدا خطاب التضرّع إلى رؤساء أميركا (بل وإلى إسرائيل) وتوسّل ضرباتهما ولومهما على التقصير فيها.

في مطلع العام 2017، بعد 6 سنوات من طوفان الدم والخراب، اعترف عدد كبير من أبناء هذا التيّار، في وثيقة موسومة "نداء إلى شعبنا السوري: من أجل الحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية، وجهة نظر نقدية لتصحيح مسارات الثورة السورية"، بأنهم اقترفوا "أخطاءً" و"أوهامًا" جسيمة، كما دعوها، من بينها وهم المراهنة على "أن نوعًا من التدخّل الدولي سيحصل"، و"التعويل على الخارج والارتهان لأجنداته"، و"وهم المراهنة على "جبهة النصرة.. وأخواتها"؛ و"وهم المناطق المحرّرة"؛ و"وهم المراهنة على الكيانات والخطابات الأيديولوجية والطائفية"؛ وسواها من الأوهام التي "ثبت أنها كلها تصدر عن عقليات قدرية ورغبوية لا علاقة لها بالسياسة ولا بموازين القوى، ولا تبدي أي حساسية للأرواح والتضحيات ولا للأثمان الباهظة المدفوعة ولا لعذابات شعبنا". لكن حبر هذا البيان الذي كُتب في ظلّ نوع من العزوف الأميركي والغربي عن الاهتمام بالوضع السوري، لم يكد يجفّ حتى عاد هؤلاء إلى التطبيل لا لضرب ترامب مطار الشعيرات ثم مركز البحوث فحسب، بل لضربات إسرائيل المتكررة أيضًا.

تعيش سوريا اليوم وضعًا رهيبًا تعوم فيه على خراب هائل وعلى مئات آلاف الضحايا وملايين المشردين من دون أن تتقدّم قيد أنملة على طريق التحول الديمقراطي الذي كان من المفترض باليسار أن يكون حامله الأبرز الذي ينتزعه من أيدي دعاته الزائفين من الضواري الإمبرياليين بجمعه مع المطلبين الوطني والاجتماعي، وبإضفاء طابع العدالة الاجتماعية والاقتصادية والاستقلال الوطني على الصراع من أجل الحرية والديمقراطية. غير أنّنا لو دققنا فسنجد أنّه ليس لدى اليسار السوري الحالي، بكتلته الغالبة، بل وليس لدى الإنتيليجنسيا السورية والمثقفين السوريين عمومًا، أيّ مشاريع نظرية وفكرية جادّة ومفصّلة، فما بالك بالمشاريع السياسية والعملية، على هذا الصعيد. بل إننا لا نكاد نجد دراسات ذات قيمة عن بنية البلد الاجتماعية الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية وتاريخ تكوّنها. ولا نكاد نجد حتى أعمالًا أدبية عليها القيمة عن سوريا ومحنتها. جلّ ما نجده شعارات ومطالب سياسية تُحسَب خطأً أنّها رؤى فكرية. حتى الأطروحة السياسية الأهمّ لدى هذا التيار، "التغيير الوطني الديمقراطي"، ببعد نظرها وإدراكها تكوين البلد وتناقضاته وتوازن قواه، سرعان ما كانت تُرمى جانبًا كلّما لوّح لهؤلاء أحد، سواء كان النظام نفسه أم خصومه.

إذا ما كان معروفًا عن اليسار وعن الإنتيليجنسيا عمومًا أنّهما بعيدان عن شعبوية عموم المثقفين، لا يتنازلان عن معرفتهما العلمية برغم انحيازهما للقيم الديمقراطية ومصالح الناس، فإنّ اليسار السوري والمثقفين السوريين يبدون انتقالًا سريعًا ومفاجئًا من احتقار الشعب الصامت إلى تقديس الشعب الصارخ، من الدعوة العجيبة إلى العمل الثقافي البعيد عن السياسة حينًا إلى الانخراط السياسي التام لإسقاط النظام ثم إلى الفرار حتى من المناطق التي سقط فيها حينًا آخر. هكذا انتقل هؤلاء من مديح الأنظمة البرجوازية الصغيرة القومية غير النقدي حتى أواسط سبعينيات القرن العشرين إلى اعتبار التمرد الإسلامي المحدود عليها أوائل الثمانينيات حركة شعبية تلفّ سورية من أقصاها إلى أقصاها. وبدوا في 2011 كأنّهم يحولون "الشباب" إلى أسطورة. والتحقوا بمشروع الإخوان المسلمين وامتدحوا حتى "النصرة" و"داعش" من دون أي انتقاد إلا بعد فوات الأوان ومن منطلق الخندق الواحد. وطالبوا بتدخّل حلفائهم الخارجيين (أميركا وأوروبا والخليج وتركيا) من دون أيّ تبرير نظري يتعدّى مظالم النظام وخزعبلات شعبوية مفادها أنّهم لا يسمحون لأنفسهم بأن يتعالوا على "الحراك" أو بأن يطالبوا "الشعب" بغير ما يفعله.

يكمن تفسير جزء كبير من الدور الذي لعبه المثقفون السوريون واليسار السوري في تاريخ سوريا الاجتماعي الثقافي وموقعهم فيه على أساس الانشقاق غير الحاد بينهم وبين النظام السياسي لفترة طويلة، وحصوله، حين حصل، على نحو مترع بالأخطاء وأسواء الفهم، وعلى أساس الالتحاق بعد ذلك بمشاريع سياسية مناقضة لمشروعهم الديمقراطي، إسلامية غالبًا، والانخراط في تصوير هذه المشاريع على أنّها مشاريع شعبية بغية تغييب كلّ نقد جدي لها على غرار تغييب كلّ نقد جدي للشعب الثائر.

هذه التبعية لمشاريع أخرى، سلطوية وإسلامية، تفاقمت في العقود الأخيرة بتحوّل عالمي أطاح بدور المثقفين النقدي والأخلاقي لمصلحة فكر ليبرالي ضامر يركّز تركيزًا قاصرًا على حقوق الإنسان، ويفهم العدالة فهمًا ضحلًا وفوضويًّا، ويُحِلُّ الناشطَ محلّ المناضل، والمنظمات غير الحكومية المتمولة والمرتبطة محلّ أحزاب المناضلين ونقاباتهم، ويحتفي بصعود التيارات الهوياتية الطائفية والقوموية الشعبوية ذلك الاحتفاء المجرم.

هذه هي الظروف الكارثية العامة والخاصة التي يتعيّن فيها على يسار سوري أن ينهض إذا ما أراد النهوض واستطاع إلى ذلك سبيلًا، بتصورات جديدة، وآليات عمل جديدة، وربما ببنى جديدة، بل وبأجساد وعقول جديدة بالمعنى الحرفي للكلمة.

[هذه المقالة جزء من طاولة مستديرة خصّصتها جدلية لتناول موضوع اليسار في سوريا، وهي مقالة رأي ولا تعبّر بالضرورة عن آراء جدلية].