ديمة الشكر
(دار الآداب، بيروت، 2021)
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النص؟ ما هي منابعه وروافده، ومراحل تطوّره؟
ديمة الشكر (د. ش.): الأمر شخصي لأبعد حدّ يمكن تخيّله. بدأ الأمر بتعليق مشوب بالعتب من اثنين أحبّهما: "ليتك تكتبين، للأسف لم تكتبي". شعرت بالخجل، ورنّت في بالي جملة وحيدة: "أنت تخذلين من يحبك". صحيح أنني أكتب في النقد عامة وفي نقد الشعر خاصًة وأترجم، إلا أن ذلك لم يكن على ما يبدو مُرضيًا لصاحبيْ التعليق. الأمر الثاني الحاسم، كان طفوليًّا إلى حدّ بعيد، ويعود إلى زمن مضى: منذ حوالي اثني عشر عامًا علمتُ أن بناء مدرسة طفولتي في باب توما - وهو بيت شامي تقليدي جميل جدًّا بناه أنطون شاميّة أحد الوجهاء المسيحيين- مهدّدٌ بمشروع استثماري غامض. حزنت جدًّا وتذمرت كثيرًا أمام أصدقائي، جاء الجواب بسيطًا: اكتبي عن الأمر. حين بدأت البحث في تاريخ البيت في كتب القرن التاسع عشر، عرفت أنه بُني بأموال التعويضات التي أقرّها العثمانيون للمسيحيين المتضررين، الناجين من مذبحة باب توما في دمشق عام 1860. كتبتُ عن البيت/المدرسة ونُشر المقال حينها في جريدة الحياة بعنوان "سورية مهد التراث المتعدّد". لحسن الحظ، تعثّر مشروع الاستثمار الغامض، وأنا غنمتُ اهتمامًا شديدًا بكل ما يمت بصلة للمذبحة، هكذا أنت تجد في مكتبتي الورقية والإلكترونية، مجموعة كبيرة من الكتب التاريخية والبحثية حول المذبحة، وكتب شهود العيان، وبعض رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه، والكتب الخاصة بالمهن الدمشقية، فضلًا عن المقالات العلمية في الدوريات المحكّمة التي أعشقها. لذا حين أردتُ تبديد شعوري بالخجل تجاه صاحبيْ التعليق، لم يكن في بالي إلا المدرسة/البيت، ومذبحة دمشق عام 1860. فمن ناحية جمال البيت الشامي، ومن ناحية أخرى المذبحة البشعة، وبينهما رغبتي بتوثيق البيت من معرفتي به ومن صوره الكثيرة، إذ لا يمكن لي التخلّص من أفكار أؤمن بها مهما بدت لغيري نافلة أو ساذجة، كأن أقول: توثيق البيت/المدرسة سيحميه لا ريب، وإذ أحميه بالتوثيق أفوز بأمر آخر: لحظات الطفولة.
الأمر تطور حين عقدت اتفاقًا بيني وبين نفسي: أن أكتب رواية جذابة بأقصى ما أستطيع من جهد، مقابل أن أصف البيت فيها على نحو يبدو داخلًا في نسيجها لا مقحمًا في سردها، وإن نجحتُ في إنهائها، أكافئ نفسي بإهداء الرواية إلى البيت/المدرسة.
ولدت الرواية من شعورين اثنين: الشعور بالخجل والرغبة في حماية البيت/المدرسة. لكن لم أجد ذلك كافيًا، لذا استدعيت القنصل البريطاني سير ريتشارد فرنسيس بورتون وزوجته إيزابيل، اللذين سكنا في دمشق بين عامي 1869-1871، أردت من جهة إضفاء بعد درامي إلى الرواية، لأنني شغوفة ببورتون وسِيره الكثيرة، ولأنه من جهة أخرى، ذريعتي لوصف الأشياء التي تهمّ "المستشرقين" عادة ويميلون للاستحواذ عليها من دون أن يرف لهم جفن، سواء أكانت قطعًا آثارية أو كتابات عربية أو ببساطة تأويل عادات السكان وأعرافهم وطرقهم في العيش وتفسيرها وإطلاق الأحكام عليها. إعادة قراءة سِير بورتون الوفيرة وكل ما يمت له بصلة، أوصلتني إلى حادثة حقيقية: كان ثمة خادمة سورية اسمها "قمّور" لدى الزوجين الإنجليزيين، وحين أُنهي عمل بورتون فجأة عقابًا له واضطر إلى ترك دمشق على عجل - إذ لم يكن في تصرفاته متوافقًا على الإطلاق مع "مؤسسة" الإمبراطورية البريطانية - قرّرت زوجته إيزابيل اصطحاب الخادمة معها إلى لندن، وبعد حوالي ثلاث سنوات أنهت عملها وقررت إرسالها إلى دمشق. التعليقات النادرة التي نجدها في كتب سِير بورتون تلك عن الخادمة السورية استشراقية بامتياز، ورنّت في بالي فورًا فكرة الاستحواذ، فالزوجان الإنجليزيان عدّا الخادمة السورية شيئًا يمكن الاستحواذ عليه ومن ثم التخلص منه. هنا تراجع طيف بورتون خطوتين، وتقدّمت الخادمة السورية لتصير بطلة الرواية. ابتكرت لها حياة خاصة من أمور شخصية تشغفني: المدرسة والمذبحة وريتشارد بورتون، وهي كلها وثيقة الصلة بمكان ولادتي: دمشق. اخترعت لقمّور عائلة وقصة شخصية والرغبة بالكتابة، والأهم أنني جعلتها تعيد نفسها بنفسها إلى الشام، لا كما حدث واقعًا حين استُغني عنها كأنها شيء ملّ ريتشارد وإيزابيل منه.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(د. ش.): الثيمة الرئيسة هي الاستحواذ: استحواذ الاستثمار الغامض على البيت التراثي الجميل، واستحواذ بورتون وزوجته على الخادمة السورية، واستحواذ الزوج على كتاب الزوجة/البطلة. الاستحواذ هو إحدى صور السلطة، شيء يشبه القوة الناعمة بتعبيرنا المعاصر، إذ يحوز الأقوى على ما يريد من الأضعف، ويبدل فيه. يختلف الاستحواذ عن الهيمنة، فهو ينشئ لنفسه خطابًا متماسكًا، إذ لا يمحو الأضعف تمامًا بل يبدل فيه ويقولبه. وفي ما يخص مذبحة دمشق عام 1860، لا بدّ من التوقف عند أمر مهم: مُنعت الضحية من الكلام، فما وصلنا من شهود العيان جزء من مدونة أكبر، والسبب أن العثمانيين حظروا وقتها الكلام عمّا جرى. أُغفلت أحيانًا أسماء مؤلفي تلك الكتب، وفي أحيان أخرى تعددت نسخ مخطوطاتها نظرًا إلى منع طباعتها. وبكلام مختلف استحوذ العثمانيون على الخطاب حين فرضوا طريقتهم في معالجة الأمر: عقوبات لأفراد بعينهم، تتراوح بين الإعدام والنفي "المزيف" من جهة، ومنع الضحية من الكلام من جهة أخرى. لعلّ هذا ما أدّى إلى تبديل الإشارة للمذبحة من حوادث 1860 إلى "طوشة النصارى"، فهذه التسمية المؤذية حقًّا تُجهّل الفاعل، لكأنها تلوم الضحية. وبالنتيجة، هي مثال صريح عن فعل الاستحواذ. لقد انسحب هذا "الخلل" على تحديد أسباب المذبحة، ثمة من يقصرها على بعدها الاقتصادي - لأنه يشير ضمنيًّا إلى دور القناصل الأوروبيين - ليروج لخطاب "التعايش" بصورة أقرب إلى البروباغاندا، في حين أن للمذبحة مجموعة أسباب: سياسية واجتماعية ودينية واقتصادية.
تحاول الرواية أخذ القارئ إلى عالم الخادمة قمّور، القائم على امتزاج قصّتها الشخصية بمذبحة دمشق، وكيف تفتحت لديها الرغبة بالكتابة. لقد جعلتها تتدرّج في الأمور: تتعلم القراءة والكتابة بالعربية أولًا ثمّ تتعلم الإنجليزية. تصير ناسخة منزلية لدى القنصل البريطاني، وحين يطلب منها جمع قصص المذبحة، تتولد لديها الرغبة بالكتابة.
عالم قمّور متعدد الأمكنة: دمشق ولندن وتريسته. وقد سمح لها السفر أن ترى اختلاف أمر الزوجين الإنجليزيين وفقًا لاختلاف الأمكنة. لقد تمعنت قمّور في تأثير السلطة وفي غيابها وابتكرت لنفسها عالمًا خاصًّا. نضجت من خلال السفر والمعرفة، ومن خلال الزمن أيضًا. لكنها حين قررت الكتابة أخيرًا بعد سنوات، لم يكن الأمر متاحًا إلا عبر تبديل اللغة؛ من العربية إلى الإنجليزية.
(ج): كتابُك عبارة عن رواية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًّا بذاته تأثير فيما تريدين أن تقولي، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(د. ش.): أكيد اختيار الجنس الأدبي أمر حاسم. لسنين طويلة خلت، كنت أكتب في النقد. كان الأمر مريحًا لي منذ البداية: أنا غير مضطرة لوضع مشاعري على الورق، أستطيع حين أريد أن أغلفها بالكلمات القوية واللهجة التقريرية أنّى شئت. لكن ثمة بعد آخر؛ أنا مأخوذة بطريقة تعبير الشعراء عن أنفسهم - الشعر الحديث خاصة - دواخلهم الغنية وعوالمهم الحميمية مهما بدت غرائبية أو تجريدية. أقرأ القصيدة وأحسّها تنقل لي عالم الشاعر/الشاعرة الداخلي. وإذ هي تمتعني، فإنها تريحني لأقصى حدّ. بيد أنني أجفل باستمرار من ملاحظة أردّدها لنفسي كلما أنهيت قراءة قصيدة أحبّها: كيف فعل الشاعر/الشاعرة ذلك؟ من أين هذه الجرأة لسكب القلب على الورق، وعصر الروح بالكلمات ثم إشاعة ذلك كله علنًا وبين الناس؟ كيف يفعل المرء هذا الأمر "القاسي" بنفسه؟ مرات كثيرة تأكدت من ملاحظتي، إذ إنني أهوى مشاهدة الشعراء/الشاعرات وهم/هن يقرأون/يقرأن الشعر: أرى الارتباك والصوت المترقرق والروح المرتجفة. المرة الأولى التي رأيت فيها بدر شاكر السياب على الإنترنت يقرأ شعرًا أثرت بي إلى أبعد حدّ، ما زال صوته الأليف الممتلئ بنبض قلبه وتلك الرجفة في الروح تسكنني.
وإذ لستُ شاعرة وما رغبت يومًا، بسبب عدم رغبتي في وضع مشاعري كشيء مشاع، وعزوفي عن التورط في ما هو شخصي وحميم علانيةً، اتجهت للنقد، وارتحت فيه طويلًا. ظننت نفسي حرّة في إخفاء نفسي. بيد أن الأمور لا تسير على هذا النحو، وما أردت اجتنابه في النقد، تسرب إلي من المشاعر: الخجل والشغف. حين قفزت المدرسة إلى رأسي حسمت الأمر واخترت الرواية. لم أكتب رواية سيرية بالطبع، لكنني وضعت فيها أشياء كثيرة أحبها، رغبات وأحلام وأوهام أيضًا. ربما هذا هو السبب في أن روايتي رواية تاريخية على الأقل في قسمها الأول، في قسمها الثاني الأمر مختلف.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(د. ش.): التحدي الكبير كان في الموازنة: الموازنة بين العواطف والمشاعر وبنية الرواية؛ فمن جهة تعجبني شخصية ريتشارد بورتون، ومن جهة أخرى أجفل من سلطة الاستشراق. لحسن الحظ أنه كان ديبلوماسيًّا فاشلًا، وشغوفًا بالسفر والكتابة والمعرفة. وجوده في الرواية وازن بين مشاهد المذبحة العنيفة وعالمه، عالم الكتابة والمعرفة.
أما التحدي الأصعب، فقد كان في الكتابة عن دمشق اليوم، أي القسم الثاني من الرواية. لدمشق اليوم صورة معاكسة لصورتها في القرن التاسع عشر من ناحية العمران والغوطة التي كانت تزنّرها. كبرت المدينة بصورة غير مرضية وعلى عجل أُنشئت فيها مبانٍ فقيرة معماريًّا. ولتكبر على هذا النحو وتصير عاصمة، تخلخل نسيجها المعماري والمديني بصورة لا يمكن العودة عنها. التاريخ ثقيل جدًّا في دمشق صحيح، إلا أنه لا يطغى على حيوية سكّانها وطرقهم المنمنمة في ابتكار فن العيش واستقبال الغريب، لقد استحقت دمشق صفتها كعاصمة في القرن العشرين. أما في الحاضر فأنت لا يمكن لك القول إنه ثمة كتب تاريخية قديمة وصور بالأسود والأبيض، بل ثمة مدينة تعيش في ركامها الروحي، قلبها الممزق، وأهلها، أهلها هم القصة.
دمشق اليوم تبدو كما لو أن أحدًا صفعها وركلها هي وسكّانها وتاريخها. لستُ في موضع إقامة مسافة بيني وبينها لأصفها اليوم، من هنا جاءت الصعوبة في الكتابة عنها. أتذكر بدقة مشاعر الغضب والقهر التي أكلتني وأنا أكتب عنها. أظنني كتبت عنها وأنا مغمضة العينين.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(د. ش.): هي روايتي الأولى بعد بضعة كتب في النقد والترجمة. لا أعلم ما موقعها، فأنا أفكر بكتب كثيرة، وفي الانتظار أقرأ.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(د. ش.): أثناء إنجاز النص كانت لكتب المذبحة تأثير موضوعي فلنقل، عدت باستمرار لكتاب ليلى فوّاز An Occasion for War: Civil Conflict in Lebanon and Damascus in 1860 وسكنتني عبارتها عن الأجواء قبل المذبحة: مزاج دمشق القبيح. لكن تلك الصور الكثيرة التي شاهدتها عن القرن التاسع عشر؛ الأزياء والبيوت وأصحاب المهن، هي التي ألهمتني الكثير. للصور قصص صامتة وموحية، كأنها تتمّم الكتب التاريخية وتنقّحها.
(ج): هل تُفكّرين بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفيه لنا؟
(د. ش.): عادة لا، لكن هذه المرة فكرت بتلاميذ المدرسة، بالراهبة التي أحبّها، بالناس الذين أعرفهم.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(د. ش.): أقرّع نفسي يوميًّا لأنني لم أكتب كتابًا في النقد عن محمود درويش.
مقتطف من الرواية
كان في مقدوري على الدوام طرد كلِّ الشياطين تقريبًا، إلَّا أنَّني ما كنت يومًا متوهِّمةً أنَّ قوَّةً ما تخصُّني، تعينني على النجاة من فخاخهم. كنت ضئيلةً جدًّا، وروحي كانت ضعيفةً إلى درجة أنَّني ظننت أنَّهم لا يأبهون لأمري ولا ينصبون الفخاخ لروحي المتموِّجة أصلًا. هذا ما كان يتراءى لي في بيت الصالحيَّة، وفي بيت القسِّ ويليام، بل وفي القنصليَّة البريطانيَّة أيضًا حين كنت أجلس أمام طاولة الزاوية في مكتب القنصل البريطانيّ، مخفضةً رأسي على الدوام، أكتب أو لا أكتب سيَّان. بَيْدَ أنَّ الكلمات منمَّقة الوقع والمرتَّبة حدَّ الإتقان، سحرتني باستمرار، ما إن أسمعها حتَّى أرفع رأسي وأصغي بكلِّ جوارحي. لئن كان لديَّ من طمعٍ لا أتغلَّب عليه، فهو الطمع بها. كنت أطمع وأطمع بجمالها، وبتربيتها الرَّقيقة لي تربيةً تمدُّني بثقةٍ قويَّةٍ أن لا شيطانًا ماكرًا نصب فخاخها أمامي. ثمَّ أستدركُ أنَّ بلى ثمَّة شيطانٌ للكلمات، وقطعًا لا علاقة له بشياطين إيزابيل الخاسرة على الدوام أمام الماء المقدَّس منثورًا من مرشَّتها، إنَّما هو شيطانٌ مختلف، وأنَّى له ألَّا يكون، فهو ليس إلَّا شيطان ريتشارد بورتون.
لم تسحرني الإمبراطوريَّة في بلاد الإنجليز، وإنَّما صعقتني، ثمَّ أردتني بضربتها العظمى الأخيرة. لكنِّي سُحِرت تمامًا بتلك الحافَّة المركونة قرب البحر كسقطٍ من المتاع: تريسته. هناك تركتُ ذاكرتي الحلوة على هواها، تسرح وتمرح في أيَّامٍ قليلةٍ متقطِّعة. وهناك أيضًا حفرت ذاكرتي المرَّة مشهد تريسته الأخير قبل رجوعي إلى الشام.
شيطان ريتشارد ما كان ليظهر إلَّا هناك، على الحافَّة المركونة في تريسته، فأراني في القاعة الكبيرة حيث الأحد عشر مكتبًا وقد احتلَّت الكتب المكان كلَّه. كتبٌ فوق المكاتب، كتبٌ فوق الكراسي، فوق المقاعد، فوق الطاولات. كتبٌ جالسةٌ على رفوفٍ لا حصر لها، وكتبٌ من الأرض حتَّى السقف العالي، أخالها أيضًا معلَّقةً مع الثريَّات البلوريَّة والنحاسيَّة. وكتبٌ كثيرةٌ غير منظورة، لا أراها، بل أعرفها تطلع باستمرارٍ من رأس القنصل البريطانيِّ المخيف الأليف.
مدَّ ريتشارد أوراقًا أمامي، قائلًا: "الخطُّ المقروء يحتاج تدريبًا باستمرار. أريد نسختيْن من هذه الأوراق. انتبهي لتعليماتي الدَّقيقة. تكتبين الجملة الأولى، ثمَّ تتركين فراغًا، ثمَّ الجملة الثانية، وحين تنتقلين إلى السطر الثاني، يجب أن يكون الفراغ مساويًا للفراغ الأوَّل. أريد للفراغات أن تكون دقيقة القياس". لمعت عيناه القويَّتان وابتسم ينظرني ويحادث نفسه: "لكتابة الشعر العربيِّ والعثمانيِّ والفارسيّ، شكلٌ لا تخطئه عين. عمودان من الكلمات وبينهما فراغٌ بهيّ، ليركن المرء إلى استراحة الإيقاع بين شطريْن، ثمَّ ترنُّ القافية".
نظرتُ أوراق الشعر العربيِّ فرأيت في رسمها عمودَيْن من الكلمات وبينهما الفراغ البهيّ. وإذ تطابق الرَّسم مع الوصف الإنجليزيّ، حسمت أمرًا يخصُّني وحدي.
كنت أنسخ على مهلٍ شديدٍ شعر العربيَّة الفصحى، وأقرأ بيني وبين نفسي كلَّ بيتٍ ما أن أنتهي من خطِّه. وحين تنتهي أبيات القصيدة، أقرأ بيني وبين نفسي القصيدة كلَّها وأزيِّنها بأصوات حركاتها. ثمَّ صحوت على صوت ريتشارد: "هذا جيِّدٌ فعلًا. تنسخين بمهارة". وإذ لاحت منِّي طرف ابتسامةٍ بتر حديثه فجأةً وقال بنبرٍ عربيٍّ متألِّق: "اقرأي". صدر الأمر لا من كلامه فحسب، بل من عينيْه اللَّتيْن تراقص فيهما جنِّيٌّ صغير. فخضعتُ من فوري وبدأت أسمع صوتي ضعيفًا يقرأ: "دع جمال الوجه يظهرْ/ لا تغطي يا حبيبي/ طول ليلي فيك أسهرْ/ زاد شوقي ونحيبي". انتفض ريتشارد ونبر كلماته الإنجليزيَّة بقوَّة: "لا، لا! ليس على هذا النحو الكئيب كمحادثةٍ باهتةٍ تفتقر إلى الذكاء، بل بصوتٍ مرتفع، وبقوَّةٍ وسمو".
خرج جنِّيُّ ريتشارد من عينيْه اللَّماحتيْن المشتعلتيْن دومًا وأعانني على القراءة، ونبر صوتي بثقة: "كان قلبي عنهُ غافلْ/ وهو لا يغفلُ عني/ فانثنى يختالُ رافلْ/ بثيابِ النَّفس منِّي/ فأنا للحقِّ مظهر/ بين أهلي كالغريب/ كلُّ شيءٍ عقدُ جوهر/ حلية الحسْن المهيب".
تراقص الجنِّيُّ الصَّغير في العينيْن الثاقبتيْن مسرورًا من فخِّه وقد أحكمه حولي. وحين أغمض ريتشارد جفنيْه على الجنِّيِّ النابت توًّا من الكلمات، حادث القنصل البريطانيُّ نفسه: "هذا شاعرٌ سوريٌّ من بلادك، عبد الغني النابلسي من دمشق. وقد وضعتِ الحركات الصَّغيرة على الكلمات، وهذا أمر مثاليٌّ حقًّا. أين تعلَّمتِ هذا؟".
فتحتُ فمي لأسمع صوتي للمرَّة الأولى يُخبر شيئًا عنِّي: "في مدرسة الكنيسة، في المسميَّة، وقبلها في مدرسة الكنيسة، في باب توما".
"لا بدَّ أنَّ من علَّمكِ كان موهوبًا ليترك فيكِ كلَّ هذا الأثر الذي كان واضحًا لي على نحوٍ مؤكَّد، ها أنت تعرفين الإنجليزيَّة والعربيَّة، فصحى ومحكيَّة. باب توما، باب توما. الأوراق التي دوَّنتِها عمَّا جرى في الحيِّ سيِّئةٌ للغاية، لا تصلح لشيء". تأفَّف ريتشارد ونبر: "لن تكون مفيدةً لي كما أردتُ". سهمت ولم أنتبه تمامًا للملاحظة القاسية الصحيحة التي تفرَّعت مثل نباتٍ غير مشذَّب؛ "خاليةٌ من المعنى، غير مترابطة، كأنَّها جريمةٌ نافرةٌ حدثت مصادفةً لا في دمشق بل في شرق لندن الثقيلة ذات الضباب المزعج. لا تحيل على أيِّ شيء، تفتقر إلى قوامٍ وبنية، لا زمان لها، ولا مكان أيضًا. كأن لم تكن، كأن لم تدوَّن. قرأتها بقرفٍ فهي جاهلةٌ ومجهِلة". كانت كلمات القنصل البريطانيِّ تطلع من فمه فتحرِّك شاربيْه الطويليْن، وتضيء الندوب العميقة في وجنتيْه النحاسيَّيْن، وتجعل عينيْه مثل المسدَّس المركون على المكتب، وشرر الطلقات يخرج منهما.
تلقَّيتُ الطلقات، إلَّا أنَّ الطلقة الأخيرة هي التي شلشتني. ما زلت أذكر إصابتها بدقة، أستعيدها وأنا جالسةٌ في غرفة الظلال في الشام، وأمامي أوراق المخطوط القديم وصوت ريتشارد يرتفع ساخطًا: "لو أنَّك تذكَّرت ما حدث لأمِّكِ بدقَّةٍ وتخلَّيت عن مخاوفك التي لم يَعُد لها من معنى، فهي قديمةٌ وقد مضت، لأنجزتِ تدوينًا مفهومًا على الأقل، لا مُفكَّكًا وجاهلًا على هذا النحو السيِّئ جدًّا". ثمَّ تذكَّرت كيف كان صوتي ضعيفًا فارغًا ورأسي خفيضًا منكسرًا: "سأحاول مرَّةً ثانية".