اليسار والانتفاضة في سورية: التشرذم السياسي، المأزق الاستراتيجي والمواءمة مع الواقع الراهن

[الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير] [الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير]

اليسار والانتفاضة في سورية: التشرذم السياسي، المأزق الاستراتيجي والمواءمة مع الواقع الراهن

By : Ferdinand Arslanian فرديناند أرسلانيان

المقدمة

برزت في أوساط المعارضة السورية صورة نمطية لكائن يساري سمي بـ"الأنتي الإمبريالي" يمثل شخصية متحجرة يبني موقفه السياسي بالتضاد مع الموقف الأميركي متجاهلًا أن ما يحدث على أرض الواقع يمثل ثورة شعبية. أما في الأوساط الموالية للنظام، فبرزت صورة نمطية أخرى عن الشاب اليساري الرومانسي الساذج الذي يجمل انتفاضة هيمنت عليها التيارات الجهادية. يمكن القول بأن هذه الصور المذكورة تعكس مأزق اليسار السوري الذي عانى من تقاطع أزمتين، أزمة فكرية وتنظيمية مرتبطة بأزمة اليسار الماركسي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وأزمة محلية مرتبطة بغياب الحياة السياسية في سورية خلال حكم البعث وتحول الأحزاب السياسية فيها إلى ما يشبه بالدكاكين السياسية التي تعصف بها الخلافات والمصالح الفردية. أثّر ذلك بالتالي على آلية تعامل اليسار السوري مع الوضع المعقد للانتفاضة السورية إذ إنه رغم كونها انتفاضة ضد نظام قمعي تحول إلى "رأسمالية المحاسيب" في العقد السابق للانتفاضة إلا أن هذا النظام يشارك اليسار أصوله الأيديولوجية وعلى علاقة تناحرية مع خصوم اليسار من القوى "الإمبريالية" الغربية والكيان الصهيوني. علاوةً على ذلك، فإن الصراع الدموي الذي جرى في العراق إبان الغزو الأميركي وتعبيره الطائفي شدّدا من تعقيدات التعامل مع الوضع السوري.

وبالنظر إلى المقالات التي تناولت موضوع اليسار السوري، يمكن القول إن هذه المقالات ركزت عمومًا على غياب اليسار "الحقيقي" وشددت على ضرورة بروز هكذا يسار للعب دوره السياسي المرجو. بالمقابل، غفلت هذه المقالات عن التمحيص "العياني" في الطيف الواسع من التيارات التي تعرّف عن نفسها على أنها يسارية وتحليل موقفها من الانتفاضة السورية. وعليه، ستكون مساهمة هذه المقالة في موضوع اليسار السوري هو التركيز على تحليل موقف مختلف التيارات اليسارية في سورية من الانتفاضة ومناقشة ممارستها السياسية خلال الانتفاضة السورية وتحولها إلى أزمة معقدة تتمفصل فيها الصراعات الداخلية مع الصراعات الإقليمية والدولية. بالأخص، ستتناول هذه المقالة التيارات التي تتبنى الفكر الماركسي على اختلاف تنويعاتها ولن تتطرق إلى الأحزاب القومية العربية واليسار الكردي إلا في إطار تحالفهما مع التيارات الماركسية. ستصنف هذه المقالة التيارات اليسارية بحسب موقفها من الانتفاضة إلى ثلاث كتل رئيسة هي المعارضة التقليدية اليسارية المتمثلة بـ"هيئة التنسيق الوطنية"، وتيار وسطي بين النظام والمعارضة ممثلًا بـ"جبهة التغيير والتحرير"، وتيارات متموضعة ضمن الحراك المعارض، وذلك علاوةً على الأحزاب الشيوعية الرسمية المندرجة ضمن الجبهة الوطنية التقدمية بقيادة حزب البعث الحاكم والتي لم يخرج موقفها عن الموقف العام للنظام السوري. ستحاجج هذه المقالة بأن مختلف الكتل اليسارية عانت من مأزق استراتيجي يكمن في استحالة التوفيق بين العمل على إسقاط النظام مع الاستمرار في رفض كل من تدويل وعسكرة الأزمة السورية وستشرح كيف واجهت كل كتلة ذلك المأزق وكيف ساهم ذلك في مواءمة استراتيجيتها مع المناخ السياسي للواقع الراهن.

المعارضة التقليدية: هيئة التنسيق الوطنية

الجذور والنشأة

تعود أصول "هيئة التنسيق الوطنية" إلى "التجمع الوطني الديمقراطي" والذي تأسس سنة 1979 كتكتل معارض وناتج عن الانقسامات والانشقاقات عن الأحزاب اليسارية والقومية العربية المنضوية تحت الجبهة الوطنية التقدمية. تعرض التجمع تنظيميًّا لضربة قاسية إبان أحداث الثمانينيات وتم إحياء نشاطه في أوائل الألفية الثانية ضمن الحراك المدني المسمى بــ"ربيع دمشق"، ومرورًا بمشاركته في "إعلان دمشق" سنة 2005. شكل "إعلان دمشق" أكبر تجمع لأقطاب المعارضة السورية إلا أنه سرعان ما تفاقمت الخلافات بين مختلف التيارات المنضوية تحت لوائه بدءًا من تعليق الأخوان المسلمين نشاطهم في الإعلان لتشكيل تحالف مع نائب رئيس الجمهورية المنشق آنذاك عبد الحليم خدام ووصولًا إلى الخلاف اليساري الليبرالي حول جدوى الاستعانة بالخارج لإسقاط النظام السوري تيمنًا بالتجربة العراقية في إسقاط نظام صدام حسين. توحدت التيارات الماركسية سنة 2007، وعلى رأسهم "حزب العمل الشيوعي"، في التجمع اليسار الماركسي (تيم) وسعت إلى خلق تيار ثالث بين النظام و"الإعلان" مع الأحزاب القومية العربية المندرجة في التجمع والأحزاب اليسارية الكردية خلال الفترة 2008-2010 ولكن من دون نجاح في الوصول إلى رؤية موحدة. إلا أنه مع اندلاع الانتفاضة السورية في آذار 2011، تمكنت تلك القوى من التوحد في "هيئة التنسيق الوطنية" خلال شهر حزيران. عرفت هيئة التنسيق عن نفسها على أنها تجمع لتيارات ماركسية وقومية عربية وكردية وسعت إلى تجاوز نواتها اليسارية من خلال ضم شرائح أخرى إلى صفوفها كـ"التيار الديمقراطي الإسلامي" وجهات محسوبة على الحراك كـ"حركة شباب 17 نيسان" و"حركة معًا" وحصرت برنامجها السياسي بالتحول الديمقراطي على النموذج الليبرالي وكذلك برنامجها الاقتصادي فكان مبنيًّا على الصيغة الرأسمالية مع الاحتفاظ بدور أكبر للدولة في النشاط الاقتصادي. 

فشل الحصول على الشرعية من الشارع المعارض

ساهم رفض هيئة التنسيق الوطنية المشاركة في اللقاء التشاوري الذي دعا إليه النظام كقاعدة للحوار في التوافق الأولي بين مختلف الكتل المعارضة وإن لأسباب مختلفة. فبينما كان رفض التيارات الأخرى الليبرالية والإسلامية ناتجًا عن رفض الحوار مع النظام من حيث المبدأ كان رفض الهيئة ناتجًا عما وصفته بغياب المناخ الملائم للحوار في ظل اتباع النظام الحل الأمني للتعامل مع المظاهرات. إلا أن الانقسامات داخل الأسرة المعارضة أخذت في التبلور وخاصةً مع تغير المناخ الإقليمي والدولي المصاحب لانهيار نظام القذافي في ليبيا بمساعدة الحظر الجوي الغربي والذي تمخض عنه تأسيس "المجلس الوطني" في اسطنبول. جاء رد الهيئة على إعلان المجلس الوطني بشكل فوري من خلال انعقاد "مؤتمر حلبون" في ريف دمشق طرحت فيه شعار اللاءات الثلاث (لا للعسكرة، لا للطائفية، لا للتدخل الخارجي) كأساس لتمايز رؤيتها السياسية عن رؤية المجلس الوطني. إلا أن طروحات هيئة التنسيق لم تكسب ثقة الحراك المعارض والذي سارعت التنظيمات السياسية المنبثقة عنه إلي تأييد المجلس الوطني والتأطر داخل تنظيماته خلال شهري أيلول وتشرين الأول من سنة 2011. شكل هجوم هيثم مناع، رئيس الهيئة في المهجر، الذي اتهم المجلس بتلقي التمويل من المنظمات غير الحكومية الغربية وبهيمنة تنظيم الأخوان المسلمين على مؤسساته، وعلى قناة العالم الإيرانية، القشة التي قطعت علاقة الهيئة بالشارع المعارض.

في ظل هذه الحالة من العزلة السياسية، تعلقت الهيئة بمبادرة الجامعة العربية والتي عدتها بمثابة صمام أمان ضد تدويل الأزمة السورية ومما فاقم بدوره من الخلافات مع المجلس الوطني والحراك المعارض لدرجة ظهور هتافات في المظاهرات تندد بالهيئة والهجوم على وفد الهيئة خلال اجتماعه مع ممثلي الجامعة العربية. ومع فشل المبادرة العربية وتحويل الملف إلى مجلس الأمن في شباط 2012، حدثت موجة من الانشقاقات داخل صفوف الهيئة. فمن جهة أكثر محاباةً للشارع المعارض، انشقت مجموعة من الشخصيات المعارضة بقيادة ميشيل كيلو لتشكيل المنبر الديمقراطي والذي رسم لنفسه دورًا تنسيقيًّا بين مختلف التنظيمات المعارضة بهدف خلق تمثيل سياسي ملائم للانتفاضة السورية. أما من جهة أكثر إثارة للريبة تجاه الحراك المعارض، فانشقت مجموعة أخرى من أعضاء الهيئة بقيادة فاتح جاموس، القيادي في حزب العمل الشيوعي، تحت اسم "طريق التغيير السلمي" والذي رفض اعتبار ما يحدث في سورية ثورة بل أزمة قابلة للتصعيد نتيجة لتضافر هشاشة البنية الداخلية الاجتماعية مع المناخ الجيوسياسي وبالتالي تم رفض شعار إسقاط النظام والإصرار على الخروج من الأزمة بأقل التكاليف الممكنة.

البحث عن الحل السياسي وسط العسكرة

أعادت الهيئة النظر في استراتيجيتها إثر الفيتو الروسي الصيني على المبادرة العربية وإعلان "خطة عنان" جاعلة تدويل الأزمة السورية أمرًا واقعًا. بناءً على ذلك، تم رفض "مؤتمر أصدقاء دمشق" على اعتباره منصة للعسكرة ولاستئثار المجلس الوطني بالتمثيل الحصري للمعارضة بينما أيدت الهيئة خطة عنان وتقربت من روسيا والصين من منطلق رفضهما للعسكرة آنذاك وتأييدهما لحل سياسي. حاولت الجامعة العربية توحيد طرفي المعارضة للعمل بـ"مبادئ جنيف" - والذي ركز على تشكيل حكومة انتقالية يضم ممثلين عن كل من النظام والمعارضة كأساس لحل الأزمة السورية - من خلال عقد "مؤتمر القاهرة" في تموز 2012 على الرغم من توافق الطرفين على مبادئ عامة حول مستقبل سورية إلا أن مؤتمر القاهرة لم يسفر عن خطوات ملموسة إثر تفضيل الطرف الآخر الرهان على التصعيد العسكري مع إطلاق معركة العاصمتين، دمشق وحلب. كان رد هيئة التنسيق على التصعيد العسكري الذي تلا مؤتمر القاهرة هو القيام بجولات مكوكية للعواصم الدولية والإقليمية لإعادة إحياء الحل السياسي للأزمة السورية. كما عقدت الهيئة، وتحت رعاية كل من روسيا والصين وإيران، مؤتمرًا للمعارضة في دمشق سمي بـ"مؤتمر الإنقاذ". إلا أنه لم يكن للمؤتمر وقع إيجابي، فنظرت أطراف المعارضة للمؤتمر بسلبية كما أنها أثارت موجة أخرى من الانشقاقات داخل صفوف الهيئة (حركة معًا - هيئة الشيوعيين السوريين) على اعتباره يمثل خروجًا عن مبادئ مؤتمر القاهرة. كما تلا المؤتمر اختفاء القيادي في الهيئة، عبد العزيز الخير، على طريق مطار دمشق إثر عودته من الصين. استمرت حالة الريبة بعدئذ بين طرفي المعارضة مع تحول "المجلس الوطني" إلى "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية". حاولت الهيئة التقرب من رئيس الائتلاف، معاذ الخطيب، عقب طرح مبادرته الفردية للحوار مع النظام في أوائل سنة 2013، إلا أن هذه المحاولة لم تسفر عن أي تقدم ملموس.

الاندماج مع الجسم العام للمعارضة

شكل التقارب الروسي والأميركي في ربيع 2013 وإعلانهما المبدئي للحل الدبلوماسي للأزمة السورية موضع ترحاب للهيئة والتي أعلنت عن استعدادها للمشاركة بـ"مؤتمر جنيف 2" المزمع عقده. إلا أنه مع اتفاق الطرفين الروسي والأميركي على تقاسم مهمة تشكيل الوفود بينهما، رفضت الهيئة الشرط الأميركي للمشاركة في الوفد المعارض تحت مظلة الائتلاف واعتذرت عن الحضور. بينما شكلت الفترة التي تلت فشل مؤتمر جنيف 2 حالة من التخبط لدى الائتلاف إذ تفاقمت خلافاته الداخلية والتي مثلت انعكاسًا لخلافات الدول الراعية. انتهزت الهيئة هذه الحالة من التخبط وأخذت زمام المبادرة وخاصة في ظل تقاربها مع نظام السيسي في مصر والذي كان له مصلحة في إضعاف موقع تيار الإخوان المسلمين في المعارضة السورية. على ذلك الأساس، عملت الهيئة على التقارب مع الجناح السعودي في الائتلاف والذي أسفر عن عقد مؤتمر القاهرة في 2015 وتبني بيان جنيف كأساس للمفاوضات مع النظام. إلا أن ذلك قوبل بهجوم مضاد فرنسي تركي إذ رتب الطرفان اجتماعًا بين شخصيات مقربة منهما لدى كل من الهيئة والائتلاف في باريس، الأمر الذي فجر بدوره خلافًا داخليًّا في الهيئة بين "تيار المستقلين" بقيادة هيثم مناع و"تيار الأحزاب" بقيادة حزب العمل الشيوعي والتيار الناصري إذ اعتبر المستقلون اجتماع باريس محاولة انقلاب على مؤتمر القاهرة. أدى هذا الخلاف إلى موجة من الاستقالات في صفوف المستقلين وتشكيل تيار "قمح" بقيادة مناع. ومن جهة أخرى، تعزز التقارب بين الهيئة والائتلاف مع اجتماع بروكسل تموز 2015 والذي شكل أساسًا لانضمام "هيئة التنسيق" إلى "الهيئة العليا للمفاوضات" أواخر سنة 2015 وبذلك أصبحت جزءًا من الجسم العام للمعارضة السورية.

جبهة التغيير والتحرير

الأصول والنشأة

تعود أصول جبهة التغيير والتحرير إلى الصراعات السياسية داخل الأحزاب الشيوعية الرسمية المندرجة ضمن الجبهة الوطنية التقدمية في أوائل الألفية الثانية وبالتحديد إلى "اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين" والتي مثلت مبادرة لتوحيد قواعد الحزب الشيوعي الرسمي بقيادة "قدري جميل" والتي أدت بالمحصلة إلى خلق تيار جديد آثر الابتعاد عن العمل ضمن إطار الجبهة الوطنية التقدمية والمشاركة في الانتخابات التشريعية لعام 2003 بشكل منفرد و تأسيس جريدة "قاسيون" الخاصة بها. ومع اندلاع الانتفاضة، دعم جميل المظاهرات معتبرًا إياها ردًّا طبيعيًّا على السياسات النيوليبرالية المتبعة خلال العقد السابق على الانتفاضة وطالب بإجراء إصلاحات على المحورين السياسي، متمثلًا بطرح دستور جديد وإصلاح النظام الانتخابي، والاقتصادي متمثلًا بالتراجع عن سياسات التحرير الاقتصادي. سياسيًّا، تم التحالف مع جناح "الانتفاضة" في "الحزب السوري القومي الاجتماعي" بقيادة "علي حيدر" إذ أعلن التحالف عن نفسه كمعارضة "وطنية" تؤكد على أهمية القضايا الخارجية كتحرير الجولان إلى جانب القضايا الداخلية ومنها جاءت تسمية "جبهة التغيير والتحرير". وعلى خلاف القوى المعارضة الأخرى، شارك جميل في اللقاء التشاوري منتقدًا كلًّا من عنف النظام في مواجهة المظاهرات ومقاطعة المعارضة للقاء باعتبارها تبنيًا ضمنيًّا للعنف. لم يختلف جميل مع مزاعم النظام حول وجود المؤامرات الخارجية إلا أنه طالب بإجراء إصلاحات جذرية لتحصين الداخل من هكذا مؤامرات.

في مواجهة التدويل ومحاولة إصلاح النظام من الداخل

وضع تنامي تدويل الانتفاضة السورية الجبهة التي شددت على وطنيتها على المحك. هاجمت الجبهة بشراسة معارضة الخارج والتدخل المتنامي للسفير الأميركي "روبرت فورد" في الشأن السوري إثر لقائه مع ممثلي المعارضة والحراك. إلا أنها أيدت الفيتو الروسي الصيني المزدوج في مجلس الأمن في تشرين الأول 2011 واعتبرتها بمثابة حماية المدنيين من تداعيات السيناريو الليبي. ساهم تجميد عضوية سورية في جامعة الدول العربية في تبلور استراتيجية الجبهة إذ دعت إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية تعمل على الحوار والإصلاح لمواجهة التدخل الخارجي. تنظيميًّا، تحولت اللجنة إلى حزب سياسي "حزب الإرادة الشعبية" بينما شكلت الجبهة ائتلافًا أوسع مع "طريق التغيير السلمي" المنشق عن "هيئة التنسيق" تحت مسمى "ائتلاف قوى التغيير السلمي".

يمكن القول بأن هذه الصور المذكورة تعكس مأزق اليسار السوري الذي عانى من تقاطع أزمتين، أزمة فكرية وتنظيمية مرتبطة بأزمة اليسار الماركسي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وأزمة محلية مرتبطة بغياب الحياة السياسية في سورية خلال حكم البعث وتحول الأحزاب السياسية فيها إلى ما يشبه بالدكاكين السياسية التي تعصف بها الخلافات والمصالح الفردية.

إثر ذلك، شاركت جبهة التغيير والتحرير في الانتخابات التشريعية في أيار 2012 وحصلت على 5 مقاعد من أصل 250 مقعدًا. وعلى إثره دخلت في حكومة وحدة وطنية مع حزب البعث الحاكم حصلت فيها على حقيبتين وزاريتين هي وزارة المصالحة الوطنية لعلي حيدر ووزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية لقدري جميل. كما شغل جميل منصب نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية ومدير هيئة الاستثمار. عكست المناصب التي شغلتها الجبهة رؤيتها لمعالجتها الأزمة السورية من خلال معالجة كل من الشق السياسي من خلال الإشراف على المصالحات الوطنية والجانب الاقتصادي من خلال التراجع عن سياسات التحرير الاقتصادي. إلا أن تزامن تشكيل الحكومة مع اشتداد وتيرة الحرب في صيف 2012 أدى للحؤول دون إمكانية اتباع سياسات اقتصادية طويلة الأمد والاعتماد على الإجراءات الطارئة. شهدت هذه الفترة تزايد التوتر بين جميل والحكومة نتيجة رفع الحكومة المتكرر للأسعار دون موافقة جميل كما زاد انتقاد جريدة قاسيون لـ"شركة سيرياتل" المملوكة لـ"رامي مخلوف"، ابن خالة الرئيس، من وتيرة التوتر وعلى إثر ذلك تم إعفاؤه من منصبه كمدير هيئة الاستثمار.

الابتعاد عن النظام والانخراط الملتبس في المعارضة

وفي ظل التحضيرات لمؤتمر جنيف 2، سعت الجبهة إلى التمثيل في "مؤتمر جنيف 2" كجهة معارضة مستقلة بدلًا من مشاركتها ضمن وفد النظام. وبناءً على ذلك، قام جميل بزيارة إلى موسكو للقاء "روبرت فورد" لمناقشة مشاركته في المؤتمر إلا أنه في نهاية المطاف اعتذر عن المشاركة تحت مظلة الائتلاف. ومن الجهة المقابلة، قامت الحكومة السورية بإعفاء جميل من جميع مناصبه في الحكومة كرد على هذه الزيارة. تزايد التباعد بين جميل والنظام، بعد ذلك، إذ قاطع حزبه الانتخابات الرئاسية التي جرت سنة 2014 وصولًا إلى إلغاء الحكومة لعضويته في مجلس الشعب. بالمقابل، تصدرت الجبهة عقد مؤتمرات في موسكو برعاية روسية وعرفت فيما بعد بـ"منصة موسكو". استطاعت المنصة الحصول على قبول دولي كطرف معارض مستقل إلى أن تم إدراجها في مؤسسات المعارضة ("الهيئة العليا للمفاوضات" سنة 2017 من ثم "هيئة التفاوض السورية") وذلك على الرغم من الارتياب المعارضة بها كممثل للنظام والتصادم المتكرر بينهما.

اليسار المتموضع ضمن الحراك المعارض

التشكيلات السياسية والموقف السياسي الأولي

ضم الحراك المعارض الكثير من النشطاء الذين كانوا أعضاء سابقين في الأحزاب اليسارية المعارضة. فـ"ياسين الحاج صالح" و الذي يعد من أبرز مفكري الحراك كان عضوًا في "الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي"، و يمكن أيضًا ذكر "جلال نوفل" و"سميرة الخليل" والذين كانا أعضاء سابقين في "حزب العمل الشيوعي".

إلا أنه بحلول خريف 2011، وبالتزامن مع إعلان التشكيلات السياسية المعارضة الأساسية، أعلنت عدة أحزاب يسارية صغيرة متموضعة ضمن الحراك المعارض عن نفسها مثل "ائتلاف اليسار السوري"، "ائتلاف اليسار الثوري في سورية" و"تنسيقيات الشيوعيين السوريين" وطرحت رؤاها السياسية على مواقع التواصل الاجتماعي. عرف "ائتلاف اليسار السوري" عن نفسه على أنه ائتلاف عدة مجموعات وشخصيات يسارية منخرطة في الانتفاضة السورية ويعتبر المفكر الفلسطيني "سلامة كيلة" من أهم رموز هذا الائتلاف. بينما يحسب "ائتلاف اليسار الثوري" في سورية على التيار التروتسكي ويمكن الاستقراء من مواقع التواصل الاجتماعي بأن مدينة السلمية في وسط سورية تشكل معقله الأساسي. أما "تنسيقيات الشيوعيين السوريين" فعرفت عن نفسها على أنها تمثّل القاعدة الشعبية للأحزاب الشيوعية الرسمية والتي هي على خلاف مع قياداتها حول الموقف من الانتفاضة السورية. نظرت هذه المجموعات إلى الانتفاضة السورية على أنها ثورة الطبقات المعدمة وعدت تحقيق الديمقراطية بمفهومها الليبرالي هدفًا مرحليًّا باتجاه الوصول إلى أشكال ديمقراطية أكثر مباشرة مستقبلًا. اختلفت هذه المجموعات مع كل من "هيئة التنسيق" حول التفاوض مع النظام ومع "المجلس الوطني" من جهة أخرى حول اللجوء إلى العسكرة والتدويل ووضعت هذه المجموعات بالمقابل ثقلها على قوة الجماهير واتباع وسائل سلمية كالإضرابات والعصيان المدني للإطاحة بالنظام.

العسكرة ومواءمة المفاهيم

إلا أنه مع تزايد عسكرة الانتفاضة في النصف الأول من سنة 2012، تبنت هذه المجموعات العسكرة كأمر واقع. ومع امتداد رقعة الاشتباكات إلى كل من دمشق وحلب عدت هذه المجموعات هذا التقدم بمثابة بداية للنهاية. أما حالة الفوضى المصاحبة للعسكرة فنظر إليها على أنها من الأعراض الجانبية للعملية الثورية حتى أنه تم الاستعانة بالمقولة اللينينية التي مفادها أن من يتوقع أن يرى ثورة اجتماعية نقية فلن يراها. وبنفس المنطق، تمت مواءمة المفاهيم والمقولات الماركسية وإسقاطها على المستجدات السياسية في الأزمة السورية. فتخبط وعجز الائتلاف الوطني اعتبر دلالة على فشل البرجوازية في قيادة الثورة وبروز التيارات الدينية المتشددة ودور الدول الإقليمية الراعية لها فنظر إليها من منظور الثورة المضادة بينما مثلت روسيا إمبريالية مشرقية جديدة على نفس السوية مع الإمبرياليات الغربية التقليدية. إلا أن موقف هذه التنظيمات تمايز بخصوص حل الأزمة، فبينما دعم كل من "ائتلاف اليسار السوري" و"تنسيقيات الشيوعيين السوريين" فكرة الحكومة الانتقالية طالب "ائتلاف اليسار الثوري في سورية" بإعادة تنظيم لجان التنسيق المحلية والجيش الحر والقوى الديمقراطية واليسارية في جبهة ثورية موحدة.

الناشط عمر عزيز وتأسيس المجالس المحلية

وأخيرًا وليس آخرًا، لعب اليسار أيضًا دورًا في تكوين المجالس المحلية. ونخص هنا بالذكر دور الناشط "عمر عزيز" المتأثر بالأفكار الفوضوية والذي كان قد ترك عمله في السعودية ليعود إلى سورية للمشاركة في الانتفاضة. طرح عزيز في أواخر سنة 2011 ورقة للنقاش يجادل فيها أهمية تشكيل نظم إدارة ذاتية في المناطق الثائرة. شخّص عزيز المشكلة بتداخل "زمنين، زمن السلطة وزمن الثورة"، بمعنى أن إدارة الخدمات المرتبطة بالحياة المعيشية اليومية تدار من قبل نفس السلطة التي تحاول الجماهير إسقاطها. مما قد يشكل خطورة على "الثورة" من خلال احتمال شعور الجماهير بالإرهاق نتيجة الانشغال بمشاكل الحياة اليومية وعليه فـ"انتصار الثورة فهو رهن بتحقق استقلالية زمنها". وبناءً على ذلك، أوصى بتشكيل مجالس محلية تعمل على تأمين مستلزمات الحياة اليومية. وقد تم تأسيس أول لجنة محلية في منطقة برزة في ضواحي دمشق في أوائل 2012 وسرعان ما انتشرت هذه اللجان إلى سائر أنحاء المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. إلا أنه تم اعتقال عمر عزيز في تشرين الثاني 2012 من قبل السلطات السورية حيث توفي في السجن في شباط 2013 أما اللجان المحلية فكان مصيرها أنه تم إخضاع عملها لمصلحة مموليها والمجموعات المسلحة فبدت على أنها مرتبطة بـ"زمان سلطة جديدة" بدلًا من "زمن الثورة".

الخلاصة

سعت هذه المقالة إلى تصنيف التيارات السياسية السورية التي تعرف عن نفسها بأنها تتبنى الفكر اليساري الماركسي حسب موقفها من الانتفاضة ومناقشة استراتيجياتها خلال الانتفاضة السورية وتطورها إلى أزمة دولية وحددت ثلاث كتل سياسية هي "هيئة التنسيق الوطنية"، "جبهة التحرير والتغيير"، واليسار المتموضع ضمن الحراك المعارض. واجهت هذه الكتل الثلاث مأزقًا استراتيجيًّا متمثلًا باستحالة التوفيق بين هدف تغيير النظام مع المحافظة على سلمية الانتفاضة وتجنب التدخل الخارجي. أيدت "هيئة التنسيق الوطنية" تدويلًا لاعسكريًّا للأزمة السورية للضغط على النظام لإجراء تحول سياسي أما "جبهة التغيير والتحرير" فاعتبرت في البداية التدويل الخطر الأساسي فخفضت سقف تغييرها للنظام وحاولت الإصلاح من الداخل قبل أن تتبنى استراتيجية شبيهة باستراتيجية الهيئة. أما التيارات المحسوبة على الحراك فأرخت شرط اللاعنف وأيدت العسكرة مع رفضها لكل من التدخل الخارجي والمساومة على تغيير النظام.

وعلى الرغم من رفضهما الأولي للتدويل، نجحت كل من "هيئة التنسيق الوطنية" و"جبهة التغيير والتحرير" في استثمار التغييرات المستجدة في الوضع الدولي. فقراءتهما السياسية بأن التوازن الدولي لن يسمح بنجاح فكرة الحسم العسكري في سوريا جعلهما يتحديان الحل العسكري الذي تبناه الجسم الأساسي للمعارضة السورية من خلال خلق علاقات مع القوى الدولية والإقليمية الرافضة لذاك الحل. ومع إعادة البحث الدولي عن الحلول السياسية بدءًا من سنة 2013، نجح كل منهما في كسر احتكار الائتلاف للمعارضة وتليين موقفها المتصلب. كما أن اليسار المتموضع ضمن الحراك شهد تحولات مماثلة، نخص هنا بالذكر دور المجالس المحلية والتي عوضًا عن تمثيلها لفكرة الإدارة الذاتية مثلت شكلًا جنينيًّا من البلديات التابعة لإمارات دينية ناشئة. وبالمحصلة، فإن اليسار السوري على الرغم من شرذمته ومأزقه الفكري كان قد حافظ على هامش من النشاط السياسي في ظل الركود السياسي الذي عاشته سورية جعله يلعب أدوارًا مختلفة، وإن هامشية، في الانتفاضة السورية. وبالمقابل، فإن الانتفاضة السورية أثارت تغييرًا في استراتيجية هذه التنظيمات بحيث جعلتها أكثر مواءمة مع المناخ الدولي والمحلي المعاصر.

[هذه المقالة جزء من طاولة مستديرة خصّصتها جدلية لتناول موضوع اليسار في سوريا].

عقد على الانتفاضة: اليسار السوري بين انهيار الأيديولوجيا والعبث السياسي

ليس سرًّا أن اليسار السوري في أزمة، لكنها بالتأكيد ليست نتيجة عقد الانتفاضة أو ثورات الربيع العربي، بقدر ما هي جزء من إشكالية اليسار العالمي الذي دخل في نفق لم يُعرف له نهاية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وكل المنظومة السياسية والعسكرية/الأمنية التي كانت تدور في فلكه، إذ تلاشى التوازن العالمي ثنائي القطب، وانتهت معه حقبة الحرب الباردة، وبدأت الأحزاب الشيوعية المهيمنة سابقًا، ومعها كل القوى والأنظمة الملحقة بالقطب السوفياتي تحت مسمى الأنظمة التقدمية أو حركات التحرر العالمي، والمجموعات اليسارية في العالم تتداعى وبعضها ينهار تباعًا وكأنها أحجار في لعبة "دومينو".

بالطبع لن يعني ذلك بأي حال من الأحوال "نهاية التاريخ" كما نظّر فوكوياما للأمر بشيء من العنجهية والتسرّع، إذ لا توجد في المجتمع أو العلوم الإنسانية، وحتى في الفيزياء، نهايات كاملة أو صفرية، لذلك ما زلنا نرى أنظمة يسارية تتبنى السردية الشيوعية مع بعض البهارات المحلية لكل منها، كالصين وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا، إضافة لبقايا أحزاب شيوعية في مختلف بقاع العالم ومنها أوروبا الرأسمالية، أو بقايا يسار يتكنّى بمسميات شتى وطنية وقومية واجتماعية وثقافية، والمفارقة أن بعض هذه القوى والأحزاب ما زالت ترى في شخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي تولّى عمليًّا دفن بقايا النظام الشيوعي السوفياتي السابق، وريثًا شرعيًّا لإرث الشيوعية العالمية وخليفة لينين في قيادة العداء للإمبريالية الأميركية.

كل هؤلاء الناجين، دولًا وأحزابًا ومجموعات ومثقفين، لم يعرفوا إلى الفطام عن ثدي ماضيهم سبيلًاً، ولم يستطيعوا الاعتراف أو تقبل فكرة النهاية ذاتها، فظلّوا عالقين بشبكة نوستالجيا تربطهم إلى صور وذكريات وشعارات ألفوها سابقًا، على طريقة "الشيوعي الأخير" كما أحب الشاعر العراقي سعدي يوسف أن يُلقّب حتى وفاته! 

بالتأكيد عَززت هذه المؤشرات الموضوعية أو العامة من أزمة اليسار السوري قبل الربيع العربي ومعه، دون أن تحجب خصوصية هذا اليسار في علاقته بالمجتمع والجغرافيا والسكّان والثقافة، في نشأته وتطوره، خياراته ومساراته السياسية، وصولًا إلى عجزه الراهن بالمعنى التنظيمي والحضور والفعّالية، وأبرز أسباب أزمته يعود إلى انقلاب آذار 1963 العسكري، الذي أوصل حزب البعث إلى السلطة، كونه محسوبًا على اليسار القومي، إذ تبنّى الاشتراكية وطبّق الإصلاح الزراعي وأمّم المصارف والشركات الصناعية والتجارية، لكنه في السياق ذاته أمّم الصحافة وحرية التعبير في سوريا وأمّم كل بُنى ومنظمات المجتمع المدني واحتكر الفضاء العام الثقافي والسياسي، في ظلّ ديكتاتورية عسكرية انتقلت لاحقًا إلى استبداد عائلي فاسد شكل المبرر الأساس لخروج السوريين عام 2011، مطالبين بالحرية والكرامة وإسقاط النظام، وربما أحد أهم أسباب أزمة اليسار السوري تكمن في هذا النموذج المشوه لاستبداد فاسد يدّعي اليسار، وفي استمرار قوى يسارية محلية وعربية وعالمية بدعم هذا النظام من منظور يساريّته المزعومة حتى الآن.

المحطة الثانية التي تستدعي التوقف معها، تمثلت بهزيمة/نكسة حزيران 1967، والتي كشفت عجز وخواء تلك الأنظمة التقدمية التي تدّعي اليسار في كل من سوريا ومصر تحديدًا، مما دفعها للبحث عن مشروعيتها المنتهكة تحت وطأة النكسة، فجاء انقلاب وزير الدفاع حافظ الأسد والذي دعاه "الحركة التصحيحية" عام 1970، بهدف إعادة تشكيل السلطة بما يخدم مشروعه الاستبدادي العائلي، على حساب قيادة حزب البعث التي انتهت في السجون والمعتقلات.

لكنّ تداعيات النكسة انداحت أبعد من حدود الأنظمة، إذ شكلت أحد العوامل الكامنة وراء الخلافات داخل "الحزب الشيوعي السوري" قبل ومع المؤتمر الثالث للحزب عام 1969، والتي بدأ بعدها سلسلة انشقاقات طويلة، وضعته في النهاية ملحقًا بسلطة الاستبداد والفساد ضمن إطار "الجبهة الوطنية التقدمية" عام 1972، هو وبعض انشقاقاته أيضًا، إذ ساهموا مع بعض دكاكين اليسار الناصري أو مخلفات حركة "الاشتراكيين العرب" في كذبة أو ديماغوجيا أن السلطة في سوريا تعيش شكلًا من الديمقراطية التشاركية، فيما كان الأسد يُهمّش حقيقة كل القوى السياسية، بما فيها حزب البعث الحاكم نفسه بعد أن صادر الحقل السياسي لصالح مشروعه العائلي فقط كطغمة فاسدة ومستبدة.

بالمقابل عرفت سوريا والمنطقة تداعيات أخرى مختلفة لنكسة حزيران 1967، تداعيات في مستوى المجتمع ولدى بعض النخب الشبابية، إذ عزّزت مشروعية اليسار الفلسطيني المقاوم بدءًا من الفصائل اليسارية التي خرجت من رحم الجناح الفلسطيني لـ"حركة القوميين العرب"، وصولًا إلى تعزيز شرعية "منظمة التحرير الفلسطينية" كمظلة وطنية للشعب الفلسطيني، رفعت شعار تحرير فلسطين.

أبعد من ذلك، شكّلت هذه النكسة وتأثيرات الثورة الطلابية في فرنسا وألمانيا 1968، مُحرضًا في أوساط الشباب السوري والفلسطيني، وتحديدًا الطلاب، لاكتشاف أشكال من اليسار الجديد، الذي وسمَ سبعينيات القرن الماضي، فظهرت في سوريا تنظيمات وبنى جديدة لليسار الذي سار بعضه بتأثير مشروعية حركات التحرر العالمي والحالة الفلسطينية بشكل خاص باتجاه العنف المسلح، أمثال "المنظمة الشيوعية العربية" التي تمّ تصفيتها إعدامًا وسجنًا عام 1975، ويمكن تصنيف "رابطة الشغيلة" في لبنان ضمن هذا الإطار، مع أن جناحها السوري كان أكثر هشاشة من التفكير بالعمل المسلح، إذ ذهبت المنظمة كلها بعد استشهاد القائد ظافر الخطيب منتصف سبعينيّات القرن الماضي في منحى التحالف مع تيار المقاومة والممانعة بقيادة حزب الله في لبنان وامتدادًا إلى تحالفاته الإقليمية وخصوصًا مع النظام السوري حتى هذه اللحظة.

ربما تكون تجربة "الحلقات الماركسية" أواخر ستينيات القرن الماضي هي الظاهرة الأهم التي استدعت التفكير في العلاقة بين الأيديولوجيا والثقافة وبين حقل السياسة، في محاولة لفهم الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في شرطه العياني قبل الشروع في بناء تنظيم سياسي، وقد ذهبت بعض هذه الحلقات أو تداخلت مع تجارب فلسطينية، فيما تطور بعضها الآخر في منتصف السبعينيات إلى "رابطة العمل الشيوعي"، والتي تابعت نشاطها الدعائي النظري، مع ميول أخذت تنحو تدريجيًّا باتجاه العمل السياسي، وتحديدًا في ظرف المواجهات القمعية الشرسة مع النظام، مما سرع في تحول الرابطة إلى "حزب العمل الشيوعي" في سوريا عام 1981.

وقد حافظ هذا الحزب الوليد على خطه الناقد لتجربة اليسار الماركسي التقليدي في جموده النظري، وفي تبعيته للمركز الأممي في موسكو، وفي غياب الاجتهاد والممارسة الديمقراطية في صفوفه، لذلك سعى حزب العمل إلى شكل من التنظيم المغاير انطلاقًا من رفض فكرة الأمين العام للحزب والتمسك بمبدأ القيادة الجماعية للمكتب السياسي، كما أصرّ على مبدأ الديمقراطية والاعتراف بحق الاختلاف داخل صفوفه، إذ مُنحت الأقلية التروتسكية في الحزب حق الإشراف على مجلة "البروليتاري" الداخلية، وحق ممارسة النقد الفكري والسياسي وحتى التحريض تنظيميًّا ضد خط الحزب، وأعتقد أنها التجربة اليتيمة في كل اليسار السوري ضمن حدود معرفتي.

كل هؤلاء الناجين، دولًا وأحزابًا ومجموعات ومثقفين، لم يعرفوا إلى الفطام عن ثدي ماضيهم سبيلًاً، ولم يستطيعوا الاعتراف أو تقبل فكرة النهاية ذاتها، فظلّوا عالقين بشبكة نوستالجيا تربطهم إلى صور وذكريات وشعارات ألفوها سابقًا، على طريقة "الشيوعي الأخير" كما أحب الشاعر العراقي سعدي يوسف أن يُلقّب حتى وفاته!

يُمكننا أن نلاحظ تداخل اليسار السوري بقوة في تلك الفترة مع نظرائه في الساحات اللبنانية والفلسطينية، وفي عموم المنطقة إذا ذهبنا مع تناقضات وصراعات حزب البعث في كل من سوريا والعراق، أو علاقات الفصائل والأحزاب الناصرية المتشظّية في تلك الساحات المتشابكة، مع التنويه بأن سوريا كانت في تلك الحقبة أرضًا موّارة بالمعنى السياسي والفكري، فبعيدًا عن انشقاقات الحزب الشيوعي الرسمي وفصائل اليسار الجديد، وجِدَتْ في ذلك الوقت مجموعات شيوعية كثيرة داخل الترسيمة "السوفيتية/اللينينية"، وخارجها أيضًا، كالتروتسكية والماوية وحتى المجالسية من جماعة العفيف الأخضر، ومجموعات أخرى كثيرة نجد من الصعوبة بمكان اعتبارها أحزابًا سياسية بالمعنى التنظيمي، بقدر ما كانت تجمعات واتجاهات أو حلقات صغيرة، الجامع المشترك بينها جميعا وبين التجارب التي أشرنا لها بتفصيل أكبر يكمن في الهوية الشبابية، إذ انتمى غالبية كوادر وأعضاء هذه الحركات لجيل الشباب والطلاب تحديدًا، هذا الجيل الذي اندفع إلى العمل السياسي، حاملًا راية اليسار في كل تجلياته الثقافية والقومية والاجتماعية والثورية.

مع التأكيد أن هذا اليسار شكّل بكل تنويعاته حاملًا للنشاطات الثقافية والاجتماعية منذ الاستقلال في سوريا، على مستوى الأدب والمسرح والجمعيات الأهلية والمنتديات الثقافية الكثيرة، حتى في لحظات الحذر الديمقراطي لزمن الانقلابات العسكرية، إضافة لامتلاكه منابر إعلامية وثقافية في سوريا والأهم في لبنان، دون أن ننسى الدور الريادي لهذا اليسار بشقيه الماركسي ويسار البعث قبل أن يتردى الأخير في مستنقع الانقلابات العسكرية، إذ ساهما في تأسيس "رابطة الكتاب السوريين" عام 1951، التي استمرت لاحقًا باسم "رابطة الكتاب العرب" إلى زمن الوحدة بين سوريا ومصر حين صدر قرار بحلها عام 1959، في إطار الخلافات بين عبد الناصر والشيوعيين عمومًا.

ارتبط حضور ودينامية اليسار السوري في سبعينيات القرن الماضي بمناخات صعود اليسار الأوربي الجديد وحركات التحرر العالمي، ولاهوت التحرير في أميركا اللاتينية، التي انتظمت كلها في إطار الهوية الشبابية لهذا اليسار، فمن خلال مقاربة حسابية بسيطة نجد أن ظافر الخطيب استشهد على خطوط التماس في الحرب الأهلية اللبنانية قبل أن يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، ولم يكن رفاقه في رابطة الشغيلة بجناحيها اللبناني والسوري، أو باقي الرفاق في المنظمة الشيوعية العربية أو رابطة العمل الشيوعي/الحزب لاحقًا، بعيدين عن هذا المتوسط العمري إن لم يكن الأمر دون ذلك، مما يسمح لنا بمقارنة هذا الجيل ومن بقي منهم على قيد الحياة في بداية انتفاضات الربيع العربي 2011، لنكتشف أنهم وسطيًّا ولجوا إلى منتصف العقد السادس وبدايات العقد السابع من العمر، فيما يساريّو الأحزاب الشيوعية والقومية الرسمية وانشقاقاتهم السابقة قد تجاوز أغلبهم الثمانين من عمره، وقد يكون هذا أحد أسباب عجز تلك القوى اليسارية الكلاسيكية والجديدة عن تجديد بنيتها الفكرية والتنظيمية خلال العقود السابقة، كما عجزت عن تجديد دمائها الشبابية التي جفت حتى بين سلالات هؤلاء اليساريين، وكأنه العقم الأيديولوجي.

رغم العديد من المبادرات السياسية والديمقراطية التي انتشرت في العقد الأول من القرن الجديد، بعد توريث الأسد الابن عام 2000، كانتشار ظاهرة المنتديات الحوارية في دمشق وبعض المدن السورية، والتي وسمت ربيع دمشق القصير، إضافة لبيان الـ99 ثم بيان الألف وصولًا إلى "بيان دمشق/بيروت" عام 2006، وفي السياق ذاته بدأ العمل مع تشكيل "لجان إحياء المجتمع المدني" و"الجمعية السورية لحقوق الإنسان" وصولًا إلى تشكيل "إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي" عام 2005، والذي فشل في مأسسة ذاته كمحصلة، ليس بسبب الاعتقالات المتلاحقة لنشطاء هذه المرحلة فقط، بل وبسبب الخلافات الشخصية والحزبية ومسألة المحاصصة في قوى هرمة لم تفلح بتجديد ذاتها أو تطوير أدواتها، واستمرأت العبث السياسي الذي أضحى سمة لهذه القوى استمرّت في أوساط المعارضة السورية الديمقراطية واليسارية حتى تاريخه.

فاليسار السوري كان لحظة اندلاع انتفاضات الربيع العربي، في حالة عجز أو كهولة فيزيولوجية وأيديولوجية إن صحّ التعبير، أو أنه كان مجرد يافطات لدكاكين أضحت خالية من أي محتوى، دون أن يؤثر في هذه الحقيقة معرفتنا أن أسباب هذا العجز في معظمها تعود إلى عقود من العسف والاضطهاد الذي مارسه نظام الاستبداد البعثي في ظل قانون الطوارئ، حتى استتب له الأمر بوأد تلك الحياة السياسية والفكرية الموّارة في سوريا حتى تصحّرت.

تعطيل ديناميات اليسار السوري تزامن مع سعي نظام الأسد لتحويل الدولة ومؤسساتها، وتحديدًا المؤسستين العسكرية والأمنية، إلى دولة ومؤسسات عقائدية يقوم ولاؤها للأسد بديلًا عن الولاء للوطن. إضافة لتزامنها مع غض الطرف عن نشاطات الإسلام المعتدل والتيارات الصوفية في الجوامع وعبر منابرها المفتوحة، ومن خلال الجمعيات الخيرية والأهلية بحجة مواجهة الإسلام السياسي وتعبيراته الإخوانية، مما ساعد في نموّ وتكريس البنى الاجتماعية ما قبل الدولة المدنية، وهذا شجّع الانقسامات العمودية في المجتمع مع ظهور هويات صغرى مذهبية وطائفية وقومية وعشائرية وقبلية وحتى مناطقية أو جغرافية متنابذة ومتصارعة، طغت على سطح الأحداث منذ السنوات الأولى لانتفاضة السوريين، وبتشجيع كبير من القوى الإقليمية والدولية التي ساهمت بحرف الصراع داخل سوريا إلى اتجاهات غير وطنية.

بعد خروج معتقلي حزب العمل وباقي معتقلي القوى اليسارية من السجن، "خرجتُ أنا بتاريخ 7 يناير 1999، بعد أن أمضيتُ 12 عامًا و 32 يومًا"، كانت قد جرت خلالها الكثير من المياه تحت جسور الأيديولوجيا واليسار في العالم، وأهمها انهيار الاتحاد السوفياتي أواخر ثمانينيات القرن المنصرم، دون أن تتوقف أغلب قوى اليسار في سوريا عند هذه المجريات أو ارتداداتها، مراجعةً أو ناقدةً لها، باستثناء مراجعة الحزب الشيوعي السوري/المكتب السياسي في مؤتمره السادس عام 2005، حين غير اسمه من "الحزب الشيوعي/المكتب السياسي" إلى "حزب الشعب الديمقراطي" والذي اعتبر مؤشرًا للانتقال من الخط الإيديولوجي الماركسي اللينيني باتجاه الاشتراكية الديمقراطية وظلالها الليبرالية.

بالنسبة لي كمعتقل في حزب العمل الشيوعي/الرابطة سابقًا، رأيت مع أغلبية الرفاق الخارجين من السجن، أن تلك المرحلة انتهت، وأنه فيما لو أراد أحدنا العمل السياسي فعليه التفكير بطريقة جديدة، إذ بات من غير المقبول التمسك بشعار ديكتاتورية البروليتاريا مثلًا، في بلد يسيطر فيه نظام كلياني شمولي على كل الجمعيات المدنية والنقابات بما فيها النقابات العمالية، وهذا ما دفع أغلبنا لتثمين المراجعة التي أنجزها الأصدقاء في حزب الشعب، والتي وئدت سريعًا مع استقالة الأمين العام المنتخب عبد الله هوشة، احتجاجًا على إغلاق نوافذ الحرية والديمقراطية في الحزب.

فيما نشط بعض رفاقنا في حزب العمل على استعادة الحزب فور خروجهم من السجن، ولمآرب مختلفة من شخص لآخر، إذ نشط بهذا الاتجاه رفيقنا السابق فاتح جاموس الذي سبق وخاض معارك نظرية داخل حزب العمل وفي السجن دفاعًا عن أولوية المسألة الوطنية على المسألة الديمقراطية، كما عمل على إصدار مطبوعة باسم "الآن" ما زالت حتى تاريخه تصدر باسم من بقي من هذه المجموعة في هيئة التنسيق، إضافة للرفيق منيف ملحم المنتمي لاتجاه الأممية الرابعة أو التروتسكية، وسبق له في فترة ربيع دمشق تأسيس "منتدى اليسار للحوار" مع بعض رفاقه، كما أسس عام 2002 حركة "مناهضة العولمة".

بينما الرفيق عبد العزيز الخير الذي تأخر إطلاق سراحه، تأخر أيضًا انضمامه إلى جهود استعادة الحزب ولم يبرز بشكل واضح إلا بُعيد انتفاضة السوريين، بدليل أنه عندما شارك بتأسيس تجمع اليسار الماركسي في سوريا "تيم" بتاريخ 24 أبريل 2007، وقّع باسمه الشخصي رغم مشاركة حزب العمل بالتأسيس والتوقيع، وظلّ لفترة بُعيد الانتفاضة يُنسق مع فاتح جاموس، حتى غادر هذا الأخير حزب العمل الشيوعي إلى حاضنة قدري جميل في "جبهة التغيير والتحرير"، وبقي الرفيق عبد العزيز الخير ومعه قسم من رفاق الحزب داخل هيئة التنسيق، حتى اختطافه وتغييبه قسريًّا في 16 أكتوبر 2012، من قبل أجهزة الأمن السورية على طريق المطار حين كان عائدًا من زيارة للصين.

بالمقابل، أحصي في سوريا خلال السنتين الأوليين من زمن الانتفاضة وجود ما ينوف عن 300 مجموعة صغيرة، ينشط أغلبها في المجالات الإغاثية والمدنية والطبية والإعلامية، كما اشتغل بعضها على تقديم مساعدات لوجستية وجمع تبرعات للمنتفضين إضافة إلى المشاركة في التظاهرات التي كانت علامة فارقة لتلك المرحلة، ولوحظ انخراط أغلب رفاق تجربة حزب العمل، وبعيدًا عن إطار الحزب السابق، ضمن بعض المجموعات ذات الطابع اليساري الداعمة لانتفاضة السوريين، مع حذر شديد من موضوعة العمل العسكري أو التسليح، باستثناء نوايا لبعض الأشخاص أجهضت باكرًا.

ما يميّز ديناميات رفاق حزب العمل السابقين تجلى بقدرتهم على التفكير خارج الصندوق إن صح التعبير، أي دون البحث عن شرعية الحزب السابق، لذلك رأيناهم يتوزعون في مجموعات كثيرة بعيدًا عن الرابط الحزبي أو البرنامجي، من لؤي حسين وتيار بناء الدولة إلى تيار مواطنة وحركة معًا واليسار الثوري وتجمع نبض وحركة شمس وغيرها من المسميات، وكنت مشاركًا في تأسيس تيار مواطنة، والذي شارك في تشكيل "ائتلاف وطن" الذي ضمّ 17 منظمة صغيرة ذات طابع يساري عمومًا، كما وُجِدتْ منظمات أخرى كثيرة بنفس الاتجاه وإن لم تنخرط في هذا المسمى، وقد حققت أغلب هذه المجموعات الصغيرة نجاحات مهمة ضمن حدود بيئتها ولصالح تجسير الهوة بين مكونات المجتمع السوري ضمن إطار النشاطات الداعمة للانتفاضة، وكذلك نجاح هذه المجموعات ضمن حدود أهدافها أو برامجها العملية، لكنها لم تحقق أي نجاح يذكر حين اقتربت من العمل السياسي المباشر، وتحديدًا عندما ذهبت إلى التشكيلات السياسية الكبرى لاحقًا، أو احتكت بها.

وكانت تجربتنا الأولى حين شارك "تيار مواطنة" في مؤتمر القاهرة الذي رعته جامعة الدول العربية، وأنتج أول صيغة توافقية عرفت باسم "وثائق القاهرة" التي صدرت بتاريخ 3 يوليو 2012، وقد توزعت بين "العهد الوطني" وبين "الرؤية السياسية المشتركة"، وكانت الأرقى والأفضل حتى تاريخه وباعتراف الجميع، رغم العبث الذي مارسه الجميع بدءًا ممن أراد أن يحجز عبر الهاتف لصالحه نصف أسماء لجنة الصياغة كونه يمثل معارضة الداخل، إضافة لانعدام الثقة بين الجميع، والفوضى العارمة التي سادت في الجلسة الختامية، إذ تناوب أربعة أو خمسة أشخاص على رئاسة الجلسة، دون أن يفلحوا في التقليل من غوغائية البعض وانسحاب البعض وتراجع البعض عن انسحابهم حين قرروا في اليوم التالي توقيع الوثائق مع التحفظ.

ما جرى تلك الليلة ينتمي حقًّا إلى مسرح العبث أكثر مما ينتمي إلى العمل السياسي والفكري الوطني، ولا أستثني أحدًا من العبث الذي استمر بعد صدور الوثائق التي تركت أصداء جيدة عند السوريين عمومًا ولدى أغلب الأطراف الدولية الفاعلة أو المعنية في ذلك الوقت بالملف السوري، إلا أن الطرفين الأساسيين في المعادلة المجلس الوطني وهيئة التنسيق ساهموا بوأد هذا المنجز، المجلس الوطني/وامتداده الائتلاف لاحقًا اعترضوا على اعتماد شرعة حقوق الإنسان مصدرًا للتشريع، فيما استمرت هيئة التنسيق في مواقفها المُعطِلة وتمترسها وراء المحاصصة، البعيدة عن أي إحساس بالمسؤولية السياسية والوطنية.

ورغم إصرارنا في تيار مواطنة على رفض المشاركة في المجلس الوطني أو هيئة التنسيق، إلا أننا راهنّا على لحظة ولادة الائتلاف، وشاركنا بها منذ البداية، ثم دَخلتُ في المرحلة اللاحقة ضمن التوسعة التي جرت نهاية أيار/مايو 2013، إذ خَبِرتُ سوء وضع هذه المكونات، وأذكر أنني خلال عامين كنت أقاتل في "تيار مواطنة" على فكرة الخروج من الائتلاف، وبعد لأيِ أعلنت انسحابي دون موافقة التيار، واعتذرت من أصدقائي ومن كل السوريين عن فشلنا في بيان علني بعنوان "بُنى غير قابلة للإصلاح"، إذ كان الائتلاف وما زال يسير ضمن المحور التركي الإخواني، فيما ممثلو اليسار ضمن الائتلاف كانوا يمارسون العبث السياسي بكل معنى الكلمة في مستوى تحالفاتهم وفي مستوى مواقفهم السياسية، حتى من كان منهم شركاء لنا في تجربة السجن، وانسحبت لاحقًا من "تيار مواطنة" أيضًا.

هنا سأعود إلى تجربة "حزب الشعب" التي خرجت من رحم المراجعة النقدية للحزب الشيوعي السوري/المكتب السياسي، التي أشرنا إليها، وسأكتفي بما أورده الصديق مازن عدي في دراسة مهمة بعنوان "الربيع العربي والأحزاب السياسية: سوريا مثالًا" في العدد الثالث من "رواق ميسلون، تموز/يوليو، 2021". يتحدث الصديق المهندس عدي القيادي في "حزب الشعب-الهيئة القيادية" عن تجربة حزبه الأم "حزب الشعب" في زمن الثورة وداخل مؤسسات المعارضة، قائلًا:

"تعـرض حـزب الشـعب لانتقادات واسعة علـى سـوء الأداء، وعلـى تأخيـر عقد مؤتمره الـذي يضمن المراجعـة وتجديد الطاقات. لـم تعمـل قيادته كي يكـون فاعلًا كمؤسسة، وتُـرك أعضاؤه لمبادراتهم الفردية خلال الثـورة، فــي الوقــت الــذي لعبــت بعــض التصريحات السياسية لأحــد مسؤوليه غطاء للإسلاميين المتشددين مثل جبهة النصرة (جورج صبرا)، يُضاف إلى ذلك عدم الرضى عن أداء الحزب في المجلس الوطني والائتلاف الوطني الذي جُيّر لمصلحة جماعة الإخوان المسلمين وحلفائهم من التيارات الإسلامية. تفاقمت أزمة الحزب تنظيميًّا، إذ صدرت قرارات فصل داخلية لمجموعة كوادر كانت تسعى لإنشاء منبر ديمقراطي داخلي بحسب النظام الداخلي، إلا أن القيادة رأت أنه تكتل بغرض الانقسام. احتكم المعترضون إلى هيئة التحكيم الوطنية داخل الحزب برئاسة عمر قشاش التي أنصفتهم، لكن القيادة المركزية لم تحترم قــرارات هيئة التحكيم، وأعلنت حالة الطوارئ، ولجأت إلـى قـرارات الفصل التي طالـت أعضـاء فـي المركزيـة وكوادر أساسية. كذلك، لم تحدث استجابة لدعوة ثلث أعضاء المؤتمر السـادس إلـى عقـد مؤتمـر سابع، ولا يـزال الأمـر معلقًا حتى اللحظة الراهنة. انتهى الحزب واقعيًّا إلى جسمين تنظيمين يحملان الاسم نفسه مع تميّز الطرف الجديد بإضافة عبارة الهيئة القيادية إلى الاسم".

وكل هذه التفاصيل معروفة داخل الوسط المهتم في سوريا، وأنا أتفق مع كامل الملاحظات التي أوردها الصديق مازن عدي، وسبق لي الإشارة إليها في سياق مختلف، مع أنني لست من مؤيدي أي انشقاق تنظيمي، وخاصة في بنى هي مأزومة في الأساس.

سبق للصديق اليساري الفلسطيني الراحل سلامة كيلة، الذي أمضى ثماني سنوات من عمره في سجون الأسد، وبقي مخلصًا ليساريته حتى النهاية، أن كتب عن أزمة هذا اليسار في كتابه المهم "اليسار العربي في أفوله" الذي صدر أواخر عام 2011، عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، حين يقول إنّ "اليسار بات يتلاشى، فيتحول إلى أحزاب هرمة ذات سياسات تميل إلى المهادنة والتكيف مع الأمر الواقع، والقبول بأقل القليل"، دون أن يَحدُّ هذا التشاؤم من إصرار كيلة على بناء يسار جديد، وهو السؤال الذي يبحث عن مشروعيته في إطار الأزمة الراهنة ومقدماتها العديدة؟

حتى هذه اللحظة، لا يوجد أي أفق لولادة يسار سوري حقيقي، طالما لم نزل نفكر بتقسيم الدكاكين الخاوية واليافطات القديمة، مستسلمين لتناقضاتنا السابقة وصراعاتنا القديمة بعد عشر سنوات من السيول الجارفة التي دَمّرت كامل سوريا عمرانًا ومجتمعًا واقتصادًا، وقوضت في طريقها بقايا اليسار السوري الهرم، فبات حريًّا بنا أن نفكر بطريقة مختلفة، مستحضرًا ملاحظتي السابقة حول إمكانية "التفكير خارج الصندوق"، لماذا نحاول التمسك بإرث لم يمنعنا من الخطأ سابقًا؟ ولماذا نسعى إلى القسمة داخل الصندوق ولا نسعى إلى بناء صندوق جديد أرحب؟ وهذا يفترض السؤال حول ضرورة ومشروعية اليسار الجديد؟ وتاليًا أي يسار نريد؟

أعتقد أن فكرة اليسار الشيوعي باتت جزءًا من الماضي، وعلينا أن نعترف بتطور مفهوم اليسار كثيرًا باتجاهات تربط فكرة العدالة الاجتماعية بالديمقراطية وحرية الإنسان وحقوقه، بالتوازي مع ربط مفهوم العدالة بالكثير من القيم الثقافية والاجتماعية التي تشكل حاملًا للفعل السياسي أكثر منها أيديولوجيا ترتبط بدكتاتورية البروليتاريا أو أي دكتاتورية أخرى يسارية أو قومية أو دينية.

علينا أن نفكر الآن مع كارل بوبر في كتابه "المجتمع المفتوح وأعداؤه"، إذ لم يعد مقبولًا تأطير الحياة والتاريخ وعناصرهما المتحركة من مجتمعٍ وثقافةٍ وأفرادٍ في منظور أو إطار محدد أيديولوجيًّا، دون أن ننسى بالطبع أثر الديمقراطيات الغربية التي ذهبت أبعد من ديكتاتوريات البروليتاريا في الأنظمة الشمولية، من حيث تطبيق مفهوم العدالة والتأمينات الصحية والاجتماعية التي تحدث عنها ماركس وبعض تلامذته المجددين.

بالطبع سيرفع كثيرون علينا تهمة الليبرالية، مع أنها في شقها السياسي باتت ضرورة ملحة لاستعادة جيل الشباب السوري إلى حقل العمل السياسي أولًا، وبأقل حمولة أيديولوجية ممكنة، فعصر الأيديولوجيات الكبيرة قد انتهى، كما انتهت معه أحلام التنظيمات الأيديولوجية الكبيرة التي تسيطر على المجتمع، وتستغل قوتها لبناء ديكتاتوريات جديدة.

مع ذلك سأسمح لنفسي بالعودة إلى أبجديات الماركسية والصراع الطبقي، للبحث عن مشروعية اليسار السوري الجديد أو حامله الطبقي، حين نكتشف أن 90 بالمئة من السوريين الآن في مناطق النظام، أو في مناطق الشمال السوري الخاضعة للاحتلال التركي أو لسيطرة هيئة تحرير الشام، أو في مخيمات اللجوء بين تركيا والأردن ولبنان، هم جميعًا بالمعيار المادي أو الاقتصادي تحت خط الفقر بكثير، مع أنهم ليسوا بروليتاريا أو طبقة عاملة، لكنهم ممن هبطت بهم مفاعيل الحرب إلى درجة أقرب لمفهوم البروليتاريا الرثة وفق التعبير اللينيني، وإذا كان لينين قد اعتمد أصلًا على فلول الجيش الإمبراطوري المهزوم في نهايات الحرب العالمية الأولى، وهم ليسوا بروليتاريا، ليقودهم من هزيمتهم باتجاه قصر الشتاء، ويحقق ثورة أكتوبر التي غيرت لعقود من الزمن وجه التاريخ، فهل يمكن ليسار سوري جديد أن يعاود الاشتغال على هذه النسبة الكبيرة من السوريين التي أفقرت دون حد الفقر بكثير، والتي تمرغت بكثير من الخسائر والذل في انتماءات وهويات واحتلالات لا تعبر عن قضيتها أو احتياجاتها وطموحاتها، ليصنع منها كتلة حقيقية في المعادلة السورية التي خرج منها السوريون نظامًا ومعارضةً؟

هي مجرد فرضية للتفكير، رغم معرفتنا أنه ليس بالمستطاع الآن قيادة هذه الفلول المفقرة إلى قصر قاسيون، بل ليست هذه المهمة مطروحة الآن على جدول العمل السياسي الراهن، لكن هذه المجاميع المفقرة بالضرورة هي أرض خصبة لانتعاش اليسار السوري مجددًا في بحثه عن الحرية والكرامة بعد أن عزّت عليها لقمة العيش، وهذا هو التحدي الحقيقي أمام النخب السورية لاستعادة هذه المجاميع عبر عمل دعاوي ربما يطول أمده بعض الشيء، عمل يعيد الاعتبار إلى الثقافة في المجتمع انطلاقًا من فصل الدين عن الدولة، بعدما قادتنا أسلمة الثورة أو الانتفاضة إلى العسكرة والكوارث الراهنة سوريا، فالعلمانية هي النظام الأقدر على الحفاظ على حقوق جميع المتدينين وعباداتهم بعيدًا عن شؤون السياسة وإدارة الدولة أو الشأن العام، فليس مطلوبٌ من الدولة أن تُدخل مواطنيها إلى الجنة، بل أن تؤمن احتياجاتهم في الحياة الراهنة، وتصنع لهم في دولتهم إمكانية للحياة بكرامة.

يؤكد المفكر الراحل إلياس مرقص هذه الفكرة بقوله: "إنه في زمن العسكرة ليس من مجال الآن للفعل السياسي، وربما يكون الأجدى العودة إلى العمل الدعاوي الفكري والثقافي لتجميع بنية حزبية قادرة أن تحسم الأمور ديمقراطيًّا حين نصل إلى هذه المرحلة ولو تأخر الزمن".

وأعتقد أن هذه الكتلة العريضة وضمنها الأجيال الشابة من السوريين تمتلك الآن حاملًا متاحًا تقدمه منصات التواصل الاجتماعي التي يمكن استثمارها بديلًا عن "الأيسكرا" البلشفية، كطريق للعمل الدعاوي الواسع، القائم على الاستثمار في حقوق السوريين المفقرين اقتصاديًّا والمهمشين سياسيًّا واجتماعيًّا، واستعادة الشباب منهم والعاطلين عن العمل بشكل أساسي باتجاه حقل السياسة، فجيل الشباب هو الضمان الوحيد لاستعادة ألق اليسار الثقافي والاجتماعي، يسار ينطلق من فكرة العدالة الاجتماعية ربطًا بمفهومي الحرية والديمقراطية، بعيدًا عن أي ديكتاتورية باسم البروليتاريا أو الدين أو الرسالة الخالدة، فهنا كان مقتل اليسار السوري الذي لم يكن ديمقراطيًّا ولم يعترف بالحرية كقيمة سامية في الفكر والسياسة، وهنا التحدي الذي ينتظره في المستقبل، وبدون ذلك لن تكون المساواة أو العدالة بين الأفراد ولن يكون حلم المواطنة ممكنًا.

[هذه المقالة جزء من طاولة مستديرة خصّصتها جدلية لتناول موضوع اليسار في سوريا].