لولا سيتون
حين خطف الموتُ المفكّرَ والكاتب الاشتراكي ريموند ويليامز فجأة قبل الأوان في كانون الثاني/يناير 1988 في سن السادسة والستين امتلأت مراثي الفقيد بعبارات الإعجاب الشديد. فقد قال روبن بلاكبيرن في مقال نُشر في مجلة نيو ليفت ريفيو إن اليسار البريطاني خسر "صوته الأكثر صدقية وثباتًا وراديكالية" وفُجعت الثقافة بفقدان "ناقدها الأكثر فطنة". وفي حفل تأبيني جرى مساء في العام التالي قال المنظّر ستيورات هول للحضور عن ويليامز "لا شك أنه من وجهة نظري أهم ناقد ومؤرخ ومنظّر ثقافي لفترة ما بعد الحرب".
شُعر بفداحة الخسارة أيضًا من وجهات نظر شخصية غير عادية. ففي حفل التأبين الذي أُقيم في 1989 برئاسة هول، قالت المحللة النفسية والنسوية الاشتراكية جولييت ميتشيل إنها ما تزال مصدومة من وفاة وليامز: "ذلك أن ريموند بالنسبة لي يمتلك أهمية أسطورية تقريبًا. أما أعماله فما تزال حاضرة". كولن مكابي، الذي عرف وليامز جيدًا في السبعينيات، وهيلاري وينرايت التي التقت بوليامز أثناء عملهما المشترك في الجمعية الاشتراكية في الثمانينيات كلاهما تحدّث عن قوة "حضور" وليامز. وكان بالنسبة لتيري إيغلتون، صديق وليامز وطالبه السابق وزميله في قسم اللغة الإنجليزية في كامبردج (حيث درّس ويليامز من 1961 إلى أن تقاعد في 1983)، "شخصية أبوية في معظم الأحيان، ليس لي فقط. كان أبويًّا جدًّا، بمعنى ما".
نشأت السلطة الأخلاقية لأعمال وليامز الفكرية والارتباط العاطفي الذي ألهمته من ضغوط حياته والالتزام السياسي لكتابته. وأشار فرانسيس مولهيرن محرر ويليامز في منشورات نيو ليفت بوكس (فيرسو الآن) بعد موته إلى "المشاعر القوية لفرد مفكر وشاعر ومتحدث" والتي تكمن وراء كلماته. وأسرّ لي إيغلتون بأنه "كان اشتراكيًّا من النوع الذي عاش حقيقة معتقداته على مستوى حياته الشخصية". وفي 2018 قال إيغلتون راثيًا إنه بعد ثلاثة عقود من وفاة ويليامز "تراجع تأثيره إلى حد كبير".
احتوت طبعة 1979 من المقابلات المهمة مع ويليامز الصادرة تحت عنوان "سياسة وآداب"، والتي هي نوع من السيرة الذاتية الشفهية التعاونية، على مقدمة استُهلت بالإشارة إلى عدد قراء ويليامز الكبير وإلى أنه يحتل "موقعًا فريدًا بين الكتاب الاشتراكيين في العالم الناطق بالإنجليزية". لكن مقدمة جيوف داير للطبعة الجديدة من الكتاب في 2015 أشارت إلى "التقلص المتواصل والتدريجي لميراث وتأثير كانا جليّين". وعلى عكس الكاتب الاشتراكي جون بيرغر الذي كان شِبْهَ معاصرٍ له وشوهدت كتبه في احتجاجات حركة "احتلّوا" بدا ويليامز كأنه "الأثر القديم القيّم من بريطانيا متلاشية ما قبل تاتشرية".
صحيح أن وليامز بدا نوعًا ما من الطراز القديم، فقد وصفه إيغلتون بأنه يشبه "سيدًا من العالم القديم"، يرتدي سترة من النسيج الصوفي الخشن ويدخن غليونًا بيد أن المقارنة ليست دقيقة، ذلك أن بيرغر عاش حتى عام 2017 بينما توفي ويليامز حين كانت تاتشر ما تزال على رأس السلطة والاتحاد السوفياتي ما يزال قائمًا. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي قال مكابي: "ولّى أحد الأجزاء المحدِّدة للعالم الفكري.. فحسب"، مما غيّر بشكل لا رجعة فيه إحداثيات الاحتمال السياسي. وبُني المشروع السياسي لوليامز "كله على فرضية أنك تُسهم في بناء مجتمع اشتراكي"، كما قال مكابي، ورغم أن ويليامز انتقد بشدة الشيوعية السوفياتية، "من الصعب قراءة" أعماله في عالم ما بعد الحرب الباردة.
إذا بدا ويليامز بعيدًا عنا فليس السبب أنه يتحدث من عالم مختلف ومتلاش فحسب، بل أيضًا الطريقة الخاصة التي أصّل بها أعماله في ذلك العالم. فقد كان انخراطه النقدي في الثقافة الإنجليزية "الرسمية" متأصلًا بشكل مثابر في عناق للتجربة المعيشة: ذلك أن تجربته الحياتية ألهمت استقصاءاته الفكرية المتبحرة في الثقافة وحفّزتْها. وكان مشروع ويليامز، كما كتب إيغلتون في 1976، "نتاجَ الحياة وليس مجرد نتاج فترة حياةٍ، كانت أعماله تستند إلى تجربة فردٍ تاريخي". ثمة مفارقة تكمن هنا في الطريقة التي يمكن أن تجعل بها تجربته الحياتية وسيرته الذاتية كتابته تبدو نائية عنا فيما يتراجع العالم الذي حدثت فيه.
بدأت الحياة التي ارتبطت بها أعماله بهذه الطريقة منذ 100 سنة في باندي، وهي قرية زراعية تقع في جنوب ويلز قرب الحدود مع إنجلترا. كان جدّا وليامز عاملين في مزرعة، وعمل والده في السكك الحديدية كعامل إشارة وانخرط بقوة في سياسة الطبقة العاملة. ولم يكن وليامز قد بلغ سن الخامسة حين فُصل والده من العمل لمشاركته في الإضراب العام في 1926. ورغم أنه أعيد إلى عمله فقد كان هذا حدثًا أثّر في ابنه الذي تخيل بعد عقدٍ الحادثةَ في روايته الأولى "بلد الحدود" (1960). "نبدأ بالتفكير في المكان الذي نعيش فيه"، كتب ويليامز مرة، وواصل المشهد الطبيعي للجبل الأسود لشبابه إحداث تأثير عميق فيه.
تشكّلُ الطبقة العاملة الريفية المترابطة نقطة مرجعية دائمة في أعماله ومصدرًا لتشديده طيلة حياته على التضامن والجماعة. وساهمت هذه النقطة أيضًا في تكوين موقفه النقدي من الثقافة الإنجليزية الرسمية خاصة كما صادفها في كامبردج في البداية كطالب في كلية اللغة الإنجليزية.
في كتاب "سياسة وآداب" يروي ويليامز قصة طريفة عن محاضرة حضرها للناقد النخبوي إل. سي. نايتس الذي يُعد من أتباع ليفيس: "حين قال نايتس إنه لا أحد قادر الآن على فهم المعنى الذي يقصده شكسبير من كلمة جار لأنه في حضارة ميكانيكية فاسدة لا يوجد جيران نهضتُ وقلتُ: أعرف بشكل جيد جدًّا من حياتي في ويلز ما الذي تعنيه كلمة جار".
ثمة تقليد نقدي يقول إن "قارئًا مُدرَّبًا" ينبغي أن يستبعد تجربته الذاتية حين يتعلق الأمر بدراسة المواضيع الثقافية وخاصة المقدسة كمسرحيات شكسبير. لكن استحضار ويليامز المعتاد للسيرة الذاتية شكل جزءًا من جهد لم يتوقف لتطبيق قيمه على جميع مجالات حياته وعمله سواء كانت رتيبة أو أكاديمية رفيعة. وحين ناقش عدم ذكر العمال العاديين في قصائد البيت الريفي في كتاب "سياسة وآداب" سأل ويليامز: "إذا لم أشعر بإهانة حقيقية من إغفال بين جونسون لذكر العامل في قصيدته فما معنى انتمائي الآن للعمال؟ إذا لم تشعر بالإهانة من هذا التعتيم التقليدي فما هو معنى التضامن إذًا؟".
حين وصل إلى كامبردج في 1939 بعد أن حصل على منحة دراسية في كلية النحو في أبرجافيني، انخرط ويليامز في الجماعة الثقافية للجناح اليساري التي كانت موّارة بالحياة وانضم إلى النادي الاشتراكي وإلى الحزب الشيوعي. وأثناء تلك الفترة التي اتسمت بحيوية كبيرة للنشاط السياسي (وربما بدرجة من الإهمال الأكاديمي) التقى بزوجته المستقبلية جوي دالنغ التي كانت طالبة في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية التي أُخليت ونُقلت إلى كامبردج عند نشوب الحرب. جُند في 1941 في نهاية عامه الثاني وبعد كثير من التدريب والانتظار شارك وليامز في عملية الإنزال في النورماندي في 1944 وقاتل في فوج مضاد للدبابات ساعد في تحرير بروكسل. عاد إلى كامبردج بعد الحرب التي كانت تجربة "مريعة" ومخيفة قوّتْ ميوله السلمية (رفض استدعاءه للخدمة في كوريا في الخمسينيات) واستأنف وليامز دراساته المتقطعة بتعصب جديد، وكتب أبحاثًا حول جورج إليوت وهنريك إبسن (الجنود السابقون أُعفوا من الامتحانات). وبعد التخرج في 1946 التحق بتعليم الكبار. قضى 15 سنة من عمره كمدرس للرابطة التربوية للعمال، يدرّس مساء ويكتب بانتظام حديدي في الصباحات. باستثناء فترة قصيرة عمل فيها كأحد محرري المجلة قصيرة العمر "بوليتكس آند ليترز" (التي أخذ منها كتاب 1979 عنوانه)، عمل وليامز على نقده خارج الجامعة وفي نوع من العزلة البطولية في أواخر الأربعينيات والخمسينيات وتتوج هذا بكتابه الرائد "الثقافة والمجتمع" (1958). ومن خلال سلسلة من القراءات الهادفة لأعمال مفكرين اجتماعيين إنجليز من إدموند بيرك إلى توماس كارلايل ومن ماثيو أرنولد إلى ت.س. إليوت، طوّر وليامز مفهومًا للثقافة أكثر شمولًا من التقليد الرجعي المهيمن. كانت الفكرة النخبوية لأولئك الكتاب عن الثقافة بحسب ويليامز رد فعل على "الميول التفكيكية" للتصنيع.
كان ويليامز يكتب هنا ضد الناقد المؤثر ف. آر. ليفيس الذي آمن بأن الثقافة الرفيعة لأقلية محاصرة هي آخر ملاذ للقيم المتحضرة المنقذة من القوى الفوضوية المنحطة للحداثة الصناعية والمجتمع "الجماهيري". كانت وجهة نظر ليفيس عن الحداثة الصناعية بسيطة جدًّا كما قال وليامز، فقد تجاهل مثلًا المكاسب التي حققتها الطاقة البخارية والطاقة الكهربائية. وكان حنينه إلى الماضي في غير محله: لم يكن العدو هو النزعة الصناعية بل الرأسمالية. ذلك أن وليامز الذي رأى وعدًا لا سببًا لليأس في وسائل الاتصال الشعبية الحديثة (التلفزيون والراديو والفيلم) اعتقد أن ما أفسد الجماهير ليس وسائل الإعلام الجديدة بل الانقسامات الطبقية وسوء توزيع الثروة الناجمين عن دافع الربح والملكية الخاصة.
لم تستهدف مقاربة وليامز الجديدة للثقافة ليفيس فحسب بل استهدفت أيضًا نوع الماركسية السوقية التي اختزلت الثقافة إلى مساعد للاقتصاد. وعلى غرار الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي عرّف وليامز الثقافة كحقل جوهري فيه يُعَبَّرُ عن القوة وتُجرَّب وتُجادل. وكما قال: "تحافظ طبقة معينة على هيمنتها الجوهرية في المجتمع ليس فقط من خلال القوة، وإن كان هذا ضروريًّا، وليس فقط من خلال الملكية، وإن كان هذا دائمًا. تحافظ عليها أيضًا وبشكل حتمي من خلال ثقافة معيشة: من خلال التشبع بالعادة والخبرة والنظرة".
في كتابه المكمّل لكتاب "الثقافة والمجتمع"، والذي اتسم بإحاطة نظرية وتأمل أكثر عمقًا، وصدر بعنوان "الثورة الطويلة" (1961)، نقل ويليامز انتباهه من "التراث" إلى بريطانيا المعاصرة وأكد أن الثقافة نشاط "عادي" وليست تخصصًا حكرًا على النخب المتفرغة، بل تشمل "طريقة كاملة في الحياة". وهي أيضًا جوهرية، وليست "صلاة نعمة بعد الوجبات" بل نسخة مطورة من الجهود الضرورية التي نبذلها كل يوم كي نفهم (من خلال التفسير والوصف) بيئتنا كي "نتمكن من أن نعيش فيها بنجاح أكبر". ما اعتُبر بوصفه "ثقافة" لم يكن ما دُرس في قاعات المحاضرات في كامبردج في آب/أغسطس فحسب أو ما يُعرض في المتاحف بل يمتد كي يشمل جميع أنواع الأنشطة كالأناشيد الشعبية وقصائد البيت الريفي والتلفزيون وشكسبير، ويضم هذا أيضًا كما زعم ويليامز أمورًا لم يُنظر إليها بوصفها "ثقافية" أبدًا، أي "مؤسسات الطبقة العمالية الكبيرة" كنقابات العمال.
كانت العبارة "المتناقضة بشكل متعمد" التي ابتكرها للتعبير عن هذه الاستمرارية بين التجربة الاجتماعية والتعبير الثقافي هي "بنية الشعور"، وهي وسيلة لتحليل الفن بوصفه "سجلًّا مفصلًا لشيء ما كان ملكية عامة إلى حد كبير". سلط المفهوم الضوء على "مجال التفاعل بين الوعي الرسمي لمرحلة والعملية الكاملة للعيش الفعلي لنتائجها".
وبعد أن نشر كتبه الثلاثة المهمة: "بلد الحدود"، "الثقافة والمجتمع" و"الثورة الطويلة"، حصل ويليامز على زمالة في جامعة كامبردج حيث عمل لبقية حياته المهنية كأستاذ لمادة المسرح من 1974 حتى تقاعده المبكر في 1983. (صدر كتاب رابع لويليامز ربما كان الأكثر شهرة بين كتبه هو "الكلمات المفاتيح"، يمكن أن يضاف أيضًا إلى هذا النتاج المبكر من الكتب رغم أنه لم يظهر حتى عام 1976. يعد الكتاب "سجلًّا استقصائيًّا" لكلمات مهمة مثل "ثقافة" و"طبقة" و"صناعة" و"ديمقراطية" التي بيّن وليامز أن معانيها المتطورة احتوت على تاريخ اجتماعي معقد).
كتب ويليامز أثناء تلك الفترة بغزارة لا حول النظرية والتحليل الثقافي فحسب بل أيضًا روايات وسيناريوهات ونشرات وكذلك مئات المقالات والمراجعات. ويدين نتاجه الغزير بشيء ما إلى الطريقة التي أدار بها تعليمه. فرغم أنه "لطيف جدًّا" ومشجِّع بحسب أدريان بول الذي أشرف ويليامز على أطروحته في الدكتوراه في أوائل السبعينيات إلا أن ويليامز لم يلمع نجمه كأستاذ جامعي يميل إلى الدقة في تعليمه. كان "محاضرًا ممتازًا جدًّا"، وامتلك "جوًّا من المرجعية ورباطة الجأش" كما قال إيغلتون، و"يذهلك كرجل مرتاح جدًّا في كينونته الخاصة"، وله جاذبية إن لم يكن كاريزما.
نأى وليامز بنفسه عن سياسة الحزب وانسحب من الحزب الشيوعي في الوقت الذي استُدعي فيه إلى خدمة العلم في 1941 وهجر أي ولاء متبق لحزب العمال في 1966 شاعرًا بالقرف من تسويات هارولد ولسون لكنه كان دومًا نشيطًا في جهوده في التجديد الاشتراكي. عاود الظهور كشخصية رئيسة في اليسار الجديد وخاصة حين ألف "بيان عيد العمال" في أيار (1967)، في محاولة لطرح بديل اشتراكي لتشويهات الحركة الفابية لمبادئ حزب العمال والانحراف الستاليني للشيوعية.
بسبب كل هذا واهتمامه الفكري بالجماعة والسلوك الإنساني العبقري كان متحفظًا و"شخصًا هادئًا ومنعزلًا"، كما يتذكر مكابي. وأخبرني فرانسيس مولهين إنه سُئل مرة إن كان ويليامز صديقًا: "قلتُ مفكرًا بصوت مرتفع إنني لست متأكدًا من الذي سيُعتبر صديقه، وعنيت بهذا أنك تشعر دومًا أن هناك ذلك الجوهر المحمي جيدًا".
ربما كان هذا البعد تقنية نقدية، طريقة للعثور على (كما عبر عن ذلك ويليامز في كتابه النقدي الكلاسيكي "الريف والمدينة"، 1973) فضاء للتنفس، على مسافة مريحة، بعيدًا عن السيطرة المباشرة والمرئية".
بقي وليامز في كامبردج، كما قال، رغم مشاعر التناقض لديه حيال هذه المؤسسة النخبوية، لأن "الجدل الذي أنا مهتم به يحدث في أمكنة كهذه. فهنا تواجه جوهريًّا معارضتك الرئيسة"، وإذا جعلكَ هذا متراخيًا بسبب الراحة والتراث والجمال الاصطناعي للمكان و"البنايات الرائعة والحدائق الجميلة إذًا عليك أن تواصل الانسحاب. وهكذا أجد أنني دومًا في كامبردج وخارجها، داخلها وخارجها".
يتسم نسيج نثره بهذا الانسحاب. يمتلك تماسكًا داخليًّا لكنه يمتلك أيضًا شعورًا منعزلًا، كما لو أن كل أفكاره مشتقة من تأمل داخلي حول تجربته. وربما كانت معالجته لهذه التجربة تجريدية ولا-شخصانية بصورة غريبة. مُدح ويليامز بسبب "إحساسه التاريخي بنفسه وقدرته على النظر إلى نفسه كما لو من الخارج لكن المرء يستطيع أن يرصد أحيانًا نبرة دفاعية تقريبًا في الطريقة التي يسند بها التلميحات المتعلقة بالسيرة الذاتية بالتنصل من المسؤولية. وحين ناقش قرية طفولته الجبل الأسود في كتابه "الريف والمدينة" عبّر وليامز عن خصوصية ارتباطه بها قائلًا: "يشعر كثيرٌ من الرجال بهذا، بأمكنتهم الأصلية..".
بزغ في المقالة تعبير مشابه، تقريبًا التزام لتذويب الشخصي في الجماعي، "فكرة ثقافة مشتركة": "ليس من المفاجئ في الحقيقة أنه في هذا الزمان والمكان يجب أن أحاول التفكير بالثقافة كتجربة خاصة أتشاطرها مع كثيرين".
كان أسلوبه متميزًا ورفيعًا واتسم ببناء معقد للجمل وبجمل طويلة وماهرة لغويًّا وتجريدية وُصفت بأنها "صعبة" و"كثيفة" و"متخثرة" و"ضبابية". ويرى مولهيرن أن سبب غموض المعنى لديه "ناجم عن تجربته الشيوعية"، التي جعلته "يرفض أن يكون عقائديًّا"، ويرفض "الصيغ السهلة". لم يثق وليامز "بالأسلوب السهل" المرتبط بجورج أورويل (الذي انتقد سياسته أيضًا) مشتبهًا "بأي شيء يظهر مألوفًا وطبيعيًّا هكذا".
ربما كان نثره الدقيق والمعقد متولدًا عن محاولة رؤية ما تقوم الثقافة السائدة "بتعتيمه عادة" وإيضاحه. وكما قال ويليامز تمامًا حين أذهله الجمال التقليدي للمنازل الريفية بأننا يجب أن نحاول رؤية العمال العاديين الذين تم حذفهم، وهم من قام ببنائها وصيانتها. بالنسبة لهذا، ربما يحتاج المرء إلى تنمية قدر من اليقظة الشديدة: أن ينسحب حين يجد نفسه "متراخيًا" وقد أغرته الراحة والتراث.
فضّل ويليامز على نثر أورويل الخادع وغير المزخرف أسلوبًا كان من صناعة إنسان بشكل ملموس، يعكس شكلًا من العمل الواضح. إن الواقع ليس ثابتًا بل "يُصْنَع بشكل متواصل، بجهد مشترك". قد تكون هذه الفكرة متعبة قليلًا لكنها أيضًا مفعمة بالأمل وراديكالية: إذا صُنع شيء ما يمكن أن يُعاد صنعه. يذكّرنا هذا أيضًا بأن الطرق الأسهل، والتي تبدو أكثر طبيعية للرؤية يمكن أن تضللنا وتلهينا وأن تبديد الأوهام الأيديولوجية ليس دومًا (ربما نادرًا) مجرد مسألة فتح المرء لعينيه.
في ثقافة اليوم الفردانية التي تتصف بالانشغال الذاتي والمعتدة بنفسها والمشبعة بالتركيز على السير الذاتية والنزعة الاعترافية الأدائية الرقمية، يمكن أن يبدو موقف ويليامز اللا-شخصي وتقريبًا المجازي إزاء تجربته مراوغًا ومتصلبًا وغير مرض. لكن إذا كان يمكن اتهام الأجيال المعاصرة بأخذ تجربتها على محمل الجد فإن انفصال ويليامز يمكن أن يقدم نموذجًا لقيام المرء بالنظر إلى تجربته بشكل جدي ولكن ليس بشكل غير نقدي. قد يولّد أيضًا الثقة بأن ما هو شخصي لا حاجة كي يكون خاصًّا بل يجب أن يُشاطر غالبًا، وأنه يوجد بنية مشتركة تقوم على المشاعر الفردية. إن نأيًا بالنفس كهذا يمكن أن يعيننا على فحص انطباعاتنا بدلًا من تجسيدها، ووضع العاطفة وراء الحجة العقلية.
قد لا نرغب بأن نرث تشديد وليامز الدقيق على الجماعة والمكان، الفئتين اللتين غالبًا ما يُفْتَتن بهما اليمين. لكن تركيزه على تفاصيل التجربة المعيشة يبقى نقطة بدء حيوية لتوليد رؤى إنسانية واقعية لكيف يمكن أن تكون الأمور مختلفة.
أصرَّ ويليامز على "أن أية فكرة عن نظام اجتماعي مستقبلي يجب أن يُنظر إليها في سياقها على نحو دقيق جدًّا"، و"أية بلاد خاصة أو منطقة خاصة يجب أن نبدأ مما هو موجود ماديًّا أو متاح فيها". من دون هذا الانتباه إلى العمل من داخل خصوصية مجتمع وثقافة ما فإن الاشتراكية نفسها، كما يبدو أن ويليامز يشير، تعرّض نفسها لخطر نسخ المنطق الاختزالي للرأسمالية، اختزال الناس إلى وحدات اقتصادية والتخطيط من أجل "نمط إنتاج" جديد ولكن ليس من أجل "طريقة حياة كاملة" يمكن أن تثير الخيال وتحفز الفعل.
إن سياسة ويليامز الاشتراكية الثقافية هي قبل كل شيء مشروع ديمقراطي غني المصادر. لا يستحضرُ رؤى طوباوية ولا يفرضُ خططًا مهيبة من الأعلى، بل يصرُّ على البداية من حيث نحن. لا توجد قفزة سحرية من حاضر يتّسمُ بالفوضى الكاملة إلى بديل غير مُدنَّس، بل فقط سيرورة طويلة لا تنتهي أبدًا من الصراع من أجل طرق في الحياة معًا أكثر عدلًا ومساواة، طرق لا تشبه عودة إلى أزمنة أبسط وتماثلية، أو من أجل طرق "للاستمرار" في الحياة معًا، كما عبر ويليامز أحيانًا عن هذا: "لا نبدأ من لا شيء بل من منتصف الأشياء، وارثين إرثًا من الإنجازات السابقة ومعتمدين على جيوب المقاومة البازغة ولحظات التضامن. لا يوجد نظام اجتماعي مهيمن يستنفد كل الممارسة البشرية والطاقة البشرية والنية البشرية".
يحتوي نثر ويليامز على ومضات من الوضوح الساطع إلا أنه يتطلب جَلَدًا بالرغم من هذا. ويمكن أن يساعد تأكيدهُ المنتظم على المدى الطويل والدقة الصارمة الصبورة لفكره على تعويدنا على التعاقب الحتمي لخيبات الأمل المباشرة.
كتب كريستوفر برينديرجاست: "لا شيء يبدو أكثر بعدًا عن أسلوب ويليامز الدقيق من جنس الشعار". وأن نحكم بالشعارات، كما قال ويليامز، هو أن نجازف "بفقدان مريع للمستقبل: خسارة مستقبل اشتراكي يستطيع الناس أن يبدأوا بتخيله ماديًّا". أضاف: "نريد ما هو أكثر من هذا. إن التحدي هو بالتالي تحدي تعقيد ضروري".
[ترجمة أسامة إسبر، عن مجلة نيوستيسمان].