محمد اليحيائي
(رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2021)
جدلية (ج): كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟
محمد اليحيائي (م. ي.): الكتاب في الأصل هو أطروحة دكتوراه أُجيزت في جامعة السلطان قابوس في مسقط، لكن الجذور الأولى للمشروع تعود إلى اهتمامي الخاص بالتاريخ العُماني، وبالتاريخ السياسي على وجه الخصوص، وإلى قراءاتي وانشغالاتي السابقة، وما كان يتشكل لدي من أسئلة تتعلق بنظام الحكم في عُمان وبالتحولات التي شهدها هذا النظام على مدى الحقب التاريخية المختلفة.
(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
(م. ي.): الأطروحة والأفكار الرئيسة للكتاب تقوم على العوامل والأسباب التي دفعت نظام الحكم في عُمان إلى التحول مما وصفناه بـ"إمامة الانتخاب" إلى "السلطنة الوراثية"، أي تحول الحكم من الانتخاب والاختيار المفتوح إلى حكم سلالي وراثي مغلق. كيف ولماذا حدث هذا التحول؟ هذا هو السؤال الذي حاولت الإجابة عنه في هذا الكتاب.
لمن لا يعرف تاريخ الحكم في عُمان (وهذا الكتاب يقدم صورة شاملة وواضحة عنه)، من المهم التوضيح أنه كان أول نظام حكم في تاريخ العرب والمسلمين الذي أقر انتخاب الحاكم، ومارسه على مدى أكثر من عشرة قرون، بل وعزل الحاكم إذا أخل بشروط البيعة، ووفق ما يمكن وصفه بالتعاقد بين "أهل الحل والعقد"، وبين الحاكم/الإمام الذي يقع عليه الاختيار وينتخب وتتم مبايعته. في هذا السياق، فإن أول حاكم منتخب في تاريخ عُمان هو الإمام الجلندى بن مسعود عام 750 م.
الجانب الآخر الذي يضيؤه هذا الكتاب، خصوصًا للقارئ العربي الذي لا يعرف الكثير عن تاريخ عُمان، هو أن "الإباضية" ليست مجرد مذهب ضمن مذاهب الإسلام المختلفة، بل هي في الأصل حركة سياسية، يمكن اعتبارها بأول حزب سياسي في الإسلام، وأن نظام الحكم في عُمان قام على الأسس والمبادئ التي نظّر لها الفكر الإباضي، وعمل على تطبيقها، على مدى اثني عشر قرنًا.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
(م. ي.): تحدي المصادر التي أرّخت لنظام الحكم في عُمان كان الأصعب، خصوصًا مع قلة الدراسات العلمية التي ناقشت هذا الموضوع، ومع اختلاط التاريخي بالفقهي في الكثير من كتب ومدونات التاريخ العماني، لكنني تغلبت على هذا التحدي من خلال القراءة المنهجية لمجمل ما كتب، ومن خلال البحث في الأراشيف المختلفة، في عُمان وخارجها، عن الوثائق والمراسلات التي ارتبطت بنظام الحكم خلال 300 عام مضت، وقراءة وتحليل تلك الوثائق.
(ج): كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
(م. ي.): يُعدّ هذا الكتاب دراسة علمية منهجية لتاريخ نظام الحكم في عُمان، بل ولتاريخ نشوء الدولة في عُمان منذ الألف الرابع قبل الميلاد، وللتحولات والأطوار المختلفة التي شهدها تاريخ عُمان السياسي، والحروب والصراعات التي عرفتها أسر الحكم.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والإبداعية؟
(م. ي.): هذا الكتاب يأتي ضمن اهتماماتي المختلفة في البحث والكتابة الإبداعية، وقد كتبت الرواية والقصة القصيرة كما كتبت الدراسة والمقال، وأظن هذا الكتاب هو محطة ضمن محطات مضت، وأخرى قادمة.
(ج): من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
(م. ي.): رغم أن الكتاب، كما ذكرت، هو في الأصل أطروحة دكتوراه، وكتب بلغة علمية، إلا أن الطابع السردي التاريخي يجعل منه كتابًا مقروءًا من قبل الجميع؛ الباحثين وطلاب الدراسات السياسية والتاريخية، والقراء عمومًا.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(م. ي.): أعمل حاليًّا على رواية جديدة وهي في مراحلها النهائية وقد تصدر خلال العام القادم 2022.
مقتطف من الكتاب
"عرفت عُمان على مدى أكثر من ثلاثة قرون أسرتين حاكمتين؛ هما: الأسرة اليعربية (1624- 1747م)، والأسرة البوسعيدية (1747م - إلى الآن)، وهو ما يعني - افتراضًا - أن النظام الذي حَكَمتْ وتحكمُ بواسطته هاتان الأسرتان، هو نظام سلالي وراثي، له تقاليده وقواعده المُنظِّمة، أسوةً بباقي نظم الحكم الوراثية. غير أن هذا الافتراض لا يصمد أمام الدراسة لمسيرة نظام الحكم هذا خلال القرون الثلاثة هذه، فرغم ما بدا من تشابه ظاهري، فإن نظام الحكم في عمان مختلف عن باقي نظم الحكم الوراثية من حيث أن التوريث الذي مُورس خلال هذه الحقبة الزمنية، لا يُعترف به على مستوى التشريع، إذْ لا توجد "مؤسسة ولاية العهد"، ولا مسمى "ولي العهد"، وبقي هذا النظام وفيًّا لنظرية الحكم التي أسست لها الحركة الإباضية منذ منتصف القرن الثاني للهجرة، منتصف القرن الثامن للميلاد، والتي لا تُجيز التوريث، وتُبقي أمر انتقال الحكم شورى بين أهل الحل والعقد.
نظام الحكم في عُمان الذي قام على الأسس والمبادئ التي نظّر لها الفكر الإباضي، وعمل على تطبيقها، على مدى اثني عشر قرنًا (750- 1959م) وإن بصورة متقطعة، هذا النظام مرّ بمراحل تاريخية عديدة ومسارات متباينة، بعضها، لم تكن بالضرورة ملتزمة بتلك المبادئ التي تأسس عليها، رغم الحرص عليها من الناحية النظرية على الأقل. فعلى سبيل المثال، نظام الحكم هذا الذي قام على قاعدتي الشورى والاختيار، وعلى مبادئ واضحة تُنظِّم اختيار الحاكم ومبايعته وعزله أيضًا، بقي لمراحل عديدة داخل أسرة حكم بعينها. لكن الوقائع التاريخية أثبتت، في المقابل، أن هذا النظام لم يكن وراثيًّا مُلزمًا، لا رأسيًّا من الأب إلى الابن ولا أفقيًّا بين الأخوة، وإنما، صار متداولًا بين أبناء الأسرة الحاكمة، رأسيًّا أو أفقيًّا أو غير ذلك.
كما أن ما بدا وكأنه صورة من صور التناقض في بنية نظام الحكم، بين عدم جواز ولاية العهد من جهة، والقبول بالتوريث من جهة ثانية، إنما هي نتاج تطور تاريخي مرت به عُمان، عبر محطات تاريخية عديدة، وهي أيضًا نتاج البنى الاجتماعية القبلية التي قام عليها نظام حكم السلالة العربية في عُمان منذ القرن الثاني الميلادي، وهي ذاتها البنى الحاضنة للحركة الإباضية، ثم للمذهب الإباضي، ثم لنظام حكم الإمامة الإباضية، ولنظام الحكم بصورة عامة.
غير أن الدراسة التاريخية لتطور نظام الحكم في عُمان، منذ قيام دولة اليعاربة 1624م وحتى حسم الصراع بين نظام حكم الإمامة ونظام حكم السلطنة لصالح الأخير عام 1959م، تستدعي العودة إلى الجذور المؤسِّسة لنشأة الدولة في عُمان، عبر المراحل والمحطات التاريخية المختلفة، قبل وبعد ظهور الإسلام. كما تستدعي العودة إلى ما يمكن وصفه باللحظة التاريخية الفارقة في مسيرة الدولة الإسلامية، والمقصود بها لحظة اغتيال الخليفة الثالث عثمان بن عفان، والتي مثلت وما صاحبها وتبعها من تداعيات ونتائج، الصدع الأول في مشروع نظام حكم إسلامي، قائم على الشورى، لدولة عربية إسلامية جامعة، عابرة للقبيلة وللعرق ولأشكال التراتبية التي كانت قائمة قبل بعثة النبي محمد. ففي الوقت الذي انقسم فيه المسلمون، فيما يتعلق بحكم الدولة، إلى مسارين يقومان على العصبية: مسار القرشية أو عصبية القبيلة، ومسار بيت النبي أو عصبية العائلة، ظهر فريق ثالث دعا إلى حكم يقوم على الشورى وحق الناس في اختيار من يحكمهم من بين المسلمين، بصرف النظر عن انتمائه القبلي أو قرابته من بيت النبي. هذا الفريق الثالث خرج منه فريق سيؤسس للمبادئ والقواعد التي قام عليها نظام الحكم في عُمان في طوره التأسيسي الأول، وهي قواعد الشورى والاختيار والبيعة، لا الغلبة والتوريث، وتحديدًا منذ قيام الإمامة الأولى في عُمان عام 132هـ/ 750م.
لقد مرت عُمان بأحداث وتحولات أثرت في بنية نظام الحكم وفي قواعده المؤسِّسة، ونقلته من نظام حكم قام على ما يصفه الكتاب بالاختيار المفتوح إلى نظام حكم يقوم على الاختيار المُغلق. تلك الأحداث والتحولات هي ما يناقشه هذا الكتاب في سرد علمي تاريخي، بهدف فهم ومحاولة تفسير ما يُمكن وصفه بخصوصية نظام الحكم في عُمان القائم على المزج بين التوريث من جهة، وعدم جواز التوريث من جهة ثانية. فضلًا عن مناقشة العوامل التي مر بها نظام الحكم خلال أكثر من 300 عامًا، والتي تطور عبرها وانتقل مما تصفه الدراسة بإمامة الانتخاب إلى الإمامة الوراثية وصولًا إلى السلطنة الوراثية.
ورغم قدم الدولة والنظام السياسي في عُمان، ومرور أزيد من ثلاثة قرون على تداول الحكم في إطار الأسرة الواحدة (اليعاربة ثم البوسعيديين)، فإن أول تعريف تشريعي-دستوري مكتوب بأن نظام الحكم في عُمان هو سلطاني وراثي، هو ذلك الذي نصت عليه المادة الخامسة من الباب الأول من أول دستور مكتوب في تاريخ عُمان، والذي يُعرف بـ"النظام الأساسي للدولة"، صدر عام 1996م وعُدّل عام 2011م. في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن تطورًا جديدًا طرأ على نظام الحكم مؤخرًا ومع تولي السلطان هيثم بن طارق الحكم في يناير 2020، وإصداره لنظام أساسي جديد للدولة في يناير 2021 نص في مادتيه الخامسة والسادسة على توارث الحكم بين الذكور من أبناء السلطان، كما نص على وجود ولاية للعهد وعلى تسمية ولي للعهد".