كارين أرمسترونغ
لقد حوّل اللوغوس في جوانب كثيرة حياتنا نحو الأفضل، ولكن هذا لم يكن انتصاراً تاماً. لأن عالمنا المتحرر من الأساطير مريح لكثير منا نحن المحظوظين بما يكفي كي نعيش في بلدان العالم الأولى، ولكنه ليس الفردوس الأرضي الذي تنبأ به بيكون ولوك. فحين نتأمل العواقب المظلمة للقرن العشرين نرى أن القلق الحديث ليس نتيجة عصاب انكفاء على الذات فحسب. فنحن نواجه شيئاً لا سابق له. لقد نظرت مجتمعاتنا فيما مضى إلى الموت كانتقال إلى أنماط أخرى من الوجود. ولم تكن أفكارها تبسيطية وسوقية عن الآخرة، فقد اخترعت شعائر وأساطير ساعدت الناس على مواجهة ما لا يمكن التعبير عنه. ولن يشعر أحد بالاستقرار في أية ثقافة أخرى وسط شعيرة انتقال أو تكريس، طالما أن الرعب ما يزال ماثلاً. ولكن هذا ما نستطيع فعله في غياب ميثولوجيا قابلة للحياة. ثمة زهد مؤثر وحتى بطولي في الرفض الحالي للأسطورة. ولكن الأنماط الخطيّة والمنطقية والتاريخية الصرفة للفكر منعت كثيراً منا من التسلح بأدوات كانت قد مكّنت رجالاً ونساء من الاعتماد على المصادر الكاملة لإنسانيتهم من أجل العيش مع ما يتعذر قبوله.
ربما نعيش الآن على نحو أكثر تعقيداً على المستوى المادي ولكننا لم نتطور روحياً بعد نهاية العصر المحوري: بل ربما تراجعنا على هذا الصعيد بسبب قمعنا للميتوس. ولكننا ما نزال نتوق إلى "الوصول إلى ما يتجاوز" ظروفنا المباشرة، وإلى الدخول في "الزمن الكامل"، وإلى وجود أكثر غنى ووعداً. ونحن نحاول تحقيق هذا البعد الروحي من خلال الفن والروك والموسيقى والمخدرات وبعض الرؤى السينمائية المتجاوزة للحياة. لأننا ما نزال ننشد أبطالاً فقد حُوِّل كل من إلفيس بريسلي والأميرة ديانا إلى كائنين أسطوريين على الفور، إلى موضوعين للعبادة الدينية. ولكن هناك خللاً في هذا الوله المفرط. ذلك لأن أسطورة البطل السابق لم تكن تهدف إلى تزويدنا بأبطال مشاهير كي نُعجب بهم، بل لكي تترسخ قيم البطولة في شراييننا، لأن على الأسطورة أن تقود الناس إلى المحاكاة أو إلى المشاركة، وليس إلى التأمل السلبي. لم نعد نعرف كيف نتدبر حيواتنا الميثولوجية بطريقة مشبعة روحياً وتحويلية علينا أن نُحرر أنفسنا من فكرة القرن التاسع عشر الخاطئة بأن الأسطورة كذبة فارغة أو أنها تمثل نمطاً متدنياً من التفكير. والواقع أننا عاجزون الآن عن أن نعيد خلق أنفسنا بنحو كامل ونتخلص من المحاباة العقلية لتربيتنا ونعود إلى الحساسية ما قبل الحديثة. ولكننا نستطيع اتخاذ موقف من الميثولوجيا أغنى ثقافياً. فنحن كائنات صانعة للأسطورة وقد رأينا خلال القرن العشرين بعض الأساطير الحديثة الهدّامة التي انتهت إلى المذابح والمجازر. لقد فشلت هذه الأساطير لأنها لم تحقق معايير العصر المحوري. ولم تتشرب روح التعاطف واحترام قداسة الحياة كلها، أو ما دعاه كونفشيوس "الميل". فقد كانت هذه الأساطير الهدامة عرقية عنصرية وإثنية وطائفية وأنانية، كانت محاولة لرفع النفس من خلال تحويل الآخر إلى شيطان. ولقد خذلت مثل هذه الأساطير الحداثة التي خلقت قرية عالمية يجد فيها جميع البشر الآن أنفسهم في المأزق نفسه. ونحن لا نستطيع أن نواجه هذه الأساطير المريعة بالعقل وحده، لأن اللوغوس غير الملطّف بالميتوس لا يستطيع مواجهة مخاوف ورغبات وعُصابات كهذه متأصلة عميقاً وغير مأمونة. وهذا الدور لا يجيده سوى ميثولوجيا مكوَّنة أخلاقياً وروحياً.
ونحن نحتاج إلى الأساطير لمساعدتنا على التماهي مع جميع الكائنات الحية الأخرى، وليس فقط مع أولئك الذين ينتمون إلى قبيلتنا الإثنية والقومية أو الإيديولوجية. نحتاج إلى الأساطير كي تساعدنا على إدراك أهمية التعاطف الإنساني، والتي لا تُعد دوماً عملية بنحو كاف أو فعالة في عالمنا البراغماتي العقلاني. نحتاج إلى أساطير تساعدنا على إبداع موقف روحي، يتيح لنا أن نرى ما وراء متطلباتنا المباشرة، ويمكننا من أن نرفع قيمة سامية تتحدى أنانيتنا الضيقة. نحتاج إلى أساطير تساعدنا على احترام الأرض وتقديسها مرة أخرى بدلاً من استخدامها كمستودع فحسب. وهذا أمر جوهري جداً لأننا إذا لم نتسلح بنوع من الثورة الروحية القادرة على التماشي مع تفوقنا التكنولوجي، فإننا لن ننقذ كوكبنا.
في سنة ١٩٢٢ صوّر الشاعر ت.س.إليوت التحلل الروحي للثقافة الغربية في قصيدته العظيمة الأرض الخراب. وفي أسطورة الجزة الذهبية تبدو الأرض الخراب مكاناً يعيش فيه الناس حياة خالية من الأصالة، يتبعون بعمى أعراف مجتمعهم دون إيمان نابع من فهم عميق. كيف يكون من الممكن غرس جذور إبداعية في "القمامة المتحجرة" للحداثة حيث فقد الناس كل صلة لهم مع المكوِّن الأسطوري الداخلي لوجودهم؟ وبدلاً من فهم التناغم الداخلي لتراثهم الأسطوري فهم لا يعرفون "إلا كومة من الصور المحطمة" حافلة بتلميحات عميقة وذكية إلى ميثولوجيا الماضي، إلى أساطير أوروبية وسنسكريتية وبوذية ويونانية ورومانية. لقد عرى إليوت عقم الحياة المعاصرة: استلابها وسأمها وعدميتها وخرافتها وأنانيتها ويأسها. وفيما هو يواجه موت الحضارة الغربية الوشيك، يختتم قصيدته بالقول: "تلك الشظايا التي جمعتها وحصّنتها ضد أنقاضي". فالصور المحطمة للماضي التي جمعها معاً في قصيدته يمكن أن تنقذنا. وحين نجمعها سوية ونعيد صقل جوهرها المشترك يمكننا إصلاح الأرض الخراب التي نعيش فيها.
لقد كانت قصيدة إليوت نبوئية. وكان الكتاب والفنانون وليس القادة الدينيين، هم الذين ملؤوا الفراغ وحاولوا إعادة تعريفنا على حكمة الماضي الميثولوجية. وفي محاولة العثور على بلسم للعقم والوحشية التي لا ترحم لبعض مظاهر الحداثة، عاد الرسامون، على سبيل المثال، إلى الموضوعات الميثولوجية. ففي ٢٦ نيسان سنة ١٩٣٧ وفي أوج الحرب الأهلية الإسبانية، قامت الطائرات النازية بأوامر من الجنرال فرانكو، بالهجوم على العاصمة الباسكية غيرنيكا في يوم الخروج إلى السوق وقتلت ١٦٥٤ من سكانها الذين يبلغ عددهم ٧٠٠٠. وبعد بضعة شهور، عرض بابلو بيكاسو الغيرنيكا في المعرض الدولي في باريس. وقد صدم هذا الصلب الحديث الدنيوي معاصريه، ولكنه كان مثل قصيدة الأرض الخراب شهادة نبوية، وصرخة تعبوية أيضاً ضد وحشية عالمنا الجديد والطريف.
كانت لوحة مشرّبة بالتعاطف والشعور بألم الآخرين. وقد ألهمت التضحية بعض التأملات الأسطورية القديمة العهد. ففي العصر الحجري القديم شعر البشر بقرابة ملتبسة مع الحيوانات التي كانوا يصطادونها ويقتلونها. وقد عبّروا عن كربهم البدائي لقتلها في طقوس التضحية التي كانت تعظّم الوحوش التي قدمت حياتها من أجل الإنسانية. وفي الغيرنيكا يختلط البشر والحيوانات الذين كانوا ضحية ذبح طائش وفوضوي في كومة مختلطة، فالحصان الصارخ متشابك بنحو لا يمكن فصله عن الجسد الإنساني المقطّع. وفي استعادة لوقوف النساء عند قدم الصليب، في تأملات لانهائية لصلب المسيح، تحدّق امرأتان إلى الحصان المجروح في تعاطف حزين مع ألمه. كانت الأم الكبرى في المجتمع ما قبل التاريخي صيادة لا تُقهر، أما في لوحة بيكاسو، فإن الأم التي تحمل الجسد الممزق لطفلها الميت، أصبحت ضحية، تُطلق صرخة صامتة. وخلفها يقف ثور، يقول بيكاسو إنه يرمز إلى الوحشية. كان بيكاسو مفتوناً دوماً بالطقوس الضخمة لصراع الثيران، رياضة إسبانيا القومية، والتي لها جذور في طقوس التضحية في العالم القديم. ولا يبدو ثور بيكاسو متوحشاً؛ فهو يقف مع الضحايا الأخرى، يهز ذيله ويراقب المشهد. وقد فُسر موقفه بأنه على الأرجح وصل إلى تلك النقطة في الصراع التي يتراجع فيها عن الهجوم كي يفكّر بحركته التالية. ولكن لأن هو نفسه أضحية، فإن الثور، رمز الوحشية، مقدر عليه الهلاك. هكذا هي أيضاً الإنسانية الحديثة، التي رغم أن بيكاسو يمكن أنه لم يعرف ذلك كانت تقوم باستكشاف القوة المطلقة لعنفها المدمر للذات والمحسوب عقلياً فحسب.
عاد الروائيون كذلك إلى الميثولوجيا كي يستكشفوا المأزق الحديث. ولا نحتاج إلا إلى التذكير برواية جيمس جويس عوليس، التي نُشرت في العام نفسه الذي نُشرت فيه قصيدة الأرض الخراب، والتي تعكس تجربة يتزامن فيها أبطال جويس المعاصرون مع أحداث وردت في أوديسة هوميروس. أما روائيو الواقعية السحرية مثل خورخي لوي بورخس وغنتر غراس وإتالو كالفينو وأنجيلا كارتر وسلمان رشدي فقد تحدوا هيمنة اللوغوس من خلال الجمع بين الواقعي وبين ما يعصى على التعبير، بين العقل اليومي وبين المنطق الأسطوري للحلم والحكاية الخرافية. ونظر روائيون آخرون في المستقبل. وحذرت رواية جورج أورويل ١٩٨٤ من خطر الدولة البوليسية التي تكون القوة فيها هي وحدها التي على صواب بحيث يُعدّل الماضي فيها باستمرار كي يناسب الحاضر. وقد نوقشت المعاني الضمنية الدقيقة لرسالة أورويل كثيراً، ولكنها، على غرار الأساطير القديمة للماضي، استقرت داخل الوعي الشعبي. لأن كثيراً من عباراتها وصورها، وبينها العنوان نفسه، صارت جزءاً من الكلام العادي: الأخ الكبير، ازداوجية التفكير، كلام جديد والغرفة ١٠١ وهي ما تزال تُستخدم لتحديد اتجاهات وسمات الحياة الحديثة، حتى من قبل أشخاص لم يقرأوا الرواية.
ولكن هل تستطيع رواية دنيوية أن تكون حقاً نسخة عن الأسطورة التقليدية، بآلهتها وإلاهاتها؟ لقد رأينا في العالم ما قبل الحديث أن الإله كان نادراً ما يُنظر إليه من الزاوية الميتافيزيقية التي فرضها عليه فيما بعد اللوغوس الغربي، ولكنه كان يُنظر إليه عادة على أن يساعد الناس كي يفهموا إنسانيتهم. وبما أن ظروف الناس قد تغيّرتْ، تراجعت الآلهة عن مواقعها محتلة مكاناً هامشياً في الميثولوجيا والدين؛ واختفت أحياناً. ولم تعد الميثولوجيات التي غابت عنها الآلهة تقدم شيئاً في الروايات المعاصرة، والتي تعالج مشكلات الوضع البشري التي يصعب رصدها على غرار الأساطير القديمة، والتي تجعلنا ندرك أنه مهما كان وضع الآلهة فإن الكائنات البشرية يمكنها أن تتخطى ظروفها المادية و تمتلك قيمة روحية مقدسة.
ولأن الفنان والروائي يعملان على صعيد الوعي نفسه مثل صانعي الأسطورة فإنهما يلجأان عادة إلى الموضوعات نفسها. ويمكن النظر إلى رواية جوزف كونراد قلب الظلام كبحث بطولي وتكريس في غير زمانه. فهذه الرواية التي نُشرت في سنة ١٩٠٢، أي قبل أن ينجز الغرب تحرره الكبير من الوهم، تصف الإقامة المؤقتة للسيد كيرتز المفرط التحضر داخل الغابة الأفريقية. ففي الأسطورة التقليدية يتخلى البطل عن أمان عالمه الاجتماعي. ويكون عليه غالباً أن يهبط في أعماق الأرض، كي يصادف مشهداً يصدمه ويفتح عينيه. بحيث أن تجربة العزلة والحرمان يمكن أن تقوده إلى تحطم سيكولوجي، يفتح أمامه كشفاً حيوياً جديداً. وحين ينجح البطل يعود إلى قومه بشيء جديد وثمين. وفي رواية كونراد يُذكِّر النهر الأفريقي الشرير والمتاهي بالأنفاق المحفورة تحت الأرض في لاسكو والتي كان المكرسون يزحفون عبرها عائدين إلى رحم الأرض. وفي العالم السفلي للغابة البدائية ينظر كيرتز بالفعل داخل ظلمة قلبه ولكنه يبقى ملتصقاً بنكوصه وموته الروحي حيث يصبح شاماناً خائباً ويعامل الجماعة الأفريقية التي يستغلّها بازدراء. كان البطل الأسطوري متيقناً من أنه إذا تخطّى ذاته القديمة فإنه سيولد من جديد؛ ولكن كيرتز كان عالقاً في أشراك أنانية عقيمة، وحين يظهر أخيراً في الرواية، تفوح منه قذارة جثة حية. مهووساً بشهرته، لم يكن كيرتز ينشد البطولة، وإنما الشهرة فحسب. وهو لا يستطيع القيام بتأكيد بطولي للحياة: فكلمات احتضاره كانت هي "الرعب! الرعب!" وقد جعل ت. س. إليوت من كلمات كيرتز الأخيرة العبارة التصديرية لقصيدته الأرض الخراب. لقد عمل كونراد، النبي الحقيقي، على سبر تفاهة وأنانية وجشع وعدمية ويأس القرن العشرين.
استخدم توماس مان كذلك موضوع التكريس في روايته الجبل السحري (١٩٢٤) والتي تقع أحداثها أثناء مفصل مأساوي آخر في تاريخ الغرب. وقد أكد في البداية أن هذا لم يكن قصده الأصلي، ولكن حين بيّن له باحث شاب في جامعة هارفارد أن الرواية نموذج حديث لـ "البطل الباحث" عن لغز الحياة، اعترف على الفور أن هذا هو ما أراده. إذ كانت ميثولوجيا البحث البطولي قارة في لاوعيه وقد استمد منها دون أن يدرك موضوع روايته. تبدو مصحة دافوس في رواية مان "معبداً لطقوس التكريس، مكاناً يبحث فيه البطل عن لغز الحياة". فهانز كاستروب، بطل الرواية، يبحث عن الجزة الذهبية، رمز "المعرفة والحكمة والتكريس" الذي يمنح للحياة معنى. "يختار كاستروب بطواعية الموت والمرض لأن اتصاله الأول معهما يمنحه وعداً بتقدم فائق للعادة، محفوفاً بالطبع بمجازفات كبيرة". ولكن هذا المكرّس الحديث يشارك في الوقت نفسه في التفاهة المزمنة للقرن الواحد والعشرين. لقد رأى مان المرضى في المصحة يشكلون "دائرة بهيجة من العزلة والفردانية". وحيث أراد كاستروب الباحث التقليدي الاستفادة من المجتمع فقد انغمس في بحث أناني طفيلي وبلا هدف. وهو يمضي سبع سنوات في جبله السحري حالماً بحلمه المهيب عن الإنسانية، فقط كي يموت في الحرب العالمية الأولى، والتي يمكن أن تُوصف بأنها الانتحار الجماعي لأوروبا.
أما رواية مالكولم لوري تحت البركان (١٩٤٧) فتحدث في المكسيك على أبواب الحرب العالمية الثانية. وهي ترصد اليوم الأخير في حياة القنصل، والكحولي لوري، الذي لم تكن شخصيته الأخرى الأخرى البديلة شخصيته وحده بل كما بيّن شخصية الجميع. يبدأ الكتاب في الكانتينا دل بوسك، والتي تُذكِّرُ بـ "الغابة المظلمة" في جحيم دانتي، في يوم الموتى، وهي المناسبة التي يُعتقد أن الموتى يتحادثون فيها مع الأحياء. وخلال الرواية يكتشف لوري الفكرة الأسطورية القديمة بأن الحياة والموت لا يُمكن الفصل بينهما. وتخلط الرواية باستمرار بين المشاهد الطبيعية المكسيكية التي تعج بالحياة والجمال (جنة عدن) وبين الصور الجحيمية عن الموت والظلمة. وتكتسب التفاصيل التافهة على ما يبدو معنى كونياً. فالناس يلجؤون إلى المأوى من العاصفة على غرار ضحايا الحرب الذي يختبئون في ملاجئ ضد الغارات الجوية في كل أنحاء العالم؛ حيث تنطفئ أضواء السينما، كما تغطس أوروبا بالظلمة تماماً. والإعلان المصور عن فيلم يدا أورلاك، بيديه الملطختين بالدم يذكرنا بالخطيئة الجماعية للإنسانية؛ أما العجلة الكبيرة فترمز إلى مرور الزمن؛ وهناك جثة فلاح ميت إلى جانب الطريق تذكرنا بأن جميع الناس في أنحاء الكوكب يموتون دون أن يبالي بهم أحد. وبينما يصبح القنصل ثملاً بنحو مزمن فإن محيطه يكتسي توتراً هذيانياً تتجاوز فيه الأحداث والأشياء خصوصيتها. وفي الأسطورة القديمة كان لكل شيء أهمية مقدسة ولم يكن هناك شيء أو نشاط واحد يعد دنيوياً صرفاً. وفيما يتواصل عيد الموتى في رواية لوري، فلا شيء يبدو حيادياً: إذ يُحمّل كل شيء بدلالة مشؤومة.
تصوّر الرواية ثمل العالم قبل سنة ١٩٣٩. فكل جرعة يشربها القنصل تقربه خطوة من موته المحتّم. والبشرية، مثلها مثل القنصل، تعيش خارج السيطرة وتقترب من الكارثة. وحين تهيمن عليه رغبة بالموت يفقد قدرته على الحياة والرؤية الواضحة. والواقع أن القبالية تشبّه المتصوف الذي يرهق قواه بسكّير. وهذه الصورة هي محور الرواية: فعلى منوال ساحر ضل طريقه، أطلق البشر قوى لا يستطيعون التحكم بها، والتي ستدمر في النهاية عالمهم. يقول لنا لوري إنه كان يفكر بالقنبلة النووية، ولكن الرواية ليست عدمية، فهناك تعاطف عميق واستحضار لعنصر الشفقة حيث الجمال والعبث المحبوب للبشرية.
نحن نعلم بأن الأسطورة لا يمكن أن تُعاش بخلفية دنيوية صرفة. ولا يمكن فهمها إلا في سياق طقسي يفصلها عن الحياة اليومية؛ كما ينبغي أن تُجرّب كجزء من عملية تحول شخصي. ولكن لا شيء من هذا ينطبق على الرواية المعاصرة، التي يمكن قراءتها في أي مكان دون خلفيات طقسية، وإذا كانت رواية جيدة، فعليها أن تتفادى كل ما هو تعليمي بنحو صريح. ولكن تجربة قراءة رواية تمتلك صفات معيّنة تذكّرنا بالدور التقليدي للميثولوجيا. من الممكن أن يُنظر إليها كشكل من أشكال التأمل. وعلى القراء أن يعيشوا مع الانطباعات التي تخلفها الرواية لأيام أو حتى أسابيع. وهي تدخلهم في عالم آخر، مماثل لكنه منفصل عن حياتهم العادية. وهم يعرفون جيداً بأن هذا الحقل الخيالي ليس "واقعياً" ولكنهم، فيما هم يقرؤونه يصبح مشوقاً لهم. والرواية القوية تصبح جزءاً من خلفية حياتنا، قبل وقت طويل من إنهائها. إنها تمرين خيالي يحطّم، مثله مثل اليوغا أو الاحتفال الديني، حواجز المكان والزمان ويوسّع من تعاطفنا الإنساني بحيث نملك القدرة على التعاطف مع حيوات وأحزان أخرى. فهي تعلّم التعاطف، والقدرة على أن "نشعر مع" الآخرين. والرواية العظيمة مثل الميثولوجيا، تحويلية. إذا أتحنا لها أن تقوم بذلك، فإنها تغيّرنا إلى الأبد.
تبدو الميثولوجيا، كما رأينا من قبل شكلاً فنياً. وأي عمل فني قوي يغزو وجودنا ويغيّره إلى الأبد. يزعم الناقد البريطاني جورج شتاينر أن الفن، كمثل أنواع معيّنة من التجربة الدينية والميتافيزيقية، يمثل تقريباً استدعاء لما هو أعظم "تعاطفاً وتحويلاً للتجربة البشرية". إنه طيش فضولي متطفل "يشكك بالخصوصيات الأخيرة لوجودنا"؛ إنه عيد بشارة (محذر) "يقتحم المنزل الصغير لوجودنا"، وهكذا "يصبح وجودنا غير قابل للسكنى بالطريقة نفسها التي كان عليها من قبل". إنه تجربة متخطية تقول لنا، في المحصلة: غيّروا حياتكم".
إذا كُتبت الرواية وقُرئت بانتباه جدي، فهي مثل الأسطورة أو مثل أي عمل فني عظيم، يمكن أن تُصبح تكريساً يساعدنا على القيام بشعيرة انتقال مرهقة من طور في الحياة إلى طور آخر، ومن حالة ذهنية إلى حالة أخرى. تعلّمنا الرواية، مثل الأسطورة، أن نرى العالم بنحو مختلف؛ وتبيّن لنا كيف ننظر في داخل قلوبنا ونرى عالمنا الخاص من منظور يتجاوز منفعتنا الذاتية. وإذا كان القادة الدينيون المحترفون لا يستطيعون أن يرشدونا من خلال المعرفة الأسطورية، فإن فنانينا وكتابنا المبدعين يستطيعون ربما أن يحتلوا هذا الدور الكهنوتي ويقدموا كشفاً جديداً لعالمنا الضائع والمتخبّط.
[لقراءة الجزء الأول من المقالة يرجى الضغط على الرابط].
[ترجمة أسامة إسبر، عن Karen Armstrong, A Short History of Myth].
[الصورة: ملاك التاريخ، بول كلي]