«قالت حليمة بائعة اللبن لآمنة - وقد جاءت كعادتها قبل شروق الشمس - وهي تكيل لها لبنًا بقرش:
«سمعت بالخبر؟ الزين مو داير يعرّس.»
وكاد الوعاء يسقط من يدي آمنة. واستغلّت حليمة انشغالها بالنبأ فغشّتها باللبن.»
«خبر يتردّد في البيت والحارة.
تقول إحدى الجارات لأمّي:
- أما سمعت بالخبر العجيب؟
فتسألها عنه باهتمام فتقول:
- توحيدة بنت أم علي بنت عم رجب!
- ما لها كفى الله الشر؟
- توظّفت في الحكومة.»
في الاقتباسين قنبلة، حجر يحرّك مياه مستنقع راكد، خبر يمحو كلّ ما قبله من أخبار مع أنّ المكان - القرية في الحالة الأولى والحارة في الحالة الثانية - مكانٌ يعتاش على أخبار متلاحقة، ويستمدّ وجوده منها؛ بل ويؤسّس هذا الخبر لما بعده من أخبار أيضًا. الاقتباسان من عملين ينهلان من الأسلوب الشعبيّ، ويمزجان «الأدب العالي» بـ «الأدب الشعبيّ». تصبح الحدّوتة أدبًا، النّميمة قصّة، الحجر صخرة تُشيَّد عليها عوالم كاملة. ثمّة تشابهات وتقاربات أخرى، وثمّة اختلافات في التّفاصيل. صوتان متشابهان، والاختلاف في الأصداء.
الاقتباس الأول من التّمهيد الافتتاحيّ لرواية «عرس الزّين» للطيّب صالح، والاقتباس الثاني من «حكايات حارتنا» لنجيب محفوظ، الحكاية رقم 9. دوّى طبلا هذين العملين عامَيْ 1964 و1975 على التّرتيب. دويٌّ صادح مُزَلْزِل مختلف، أو ربّما كان هذا ما يُفترّض به أن يكون ولم يكن، لا لعلّةٍ فيه بل لعلّةٍ في السّياق والزّمن والتلقّي والتّوقيت. كان حظّ «عرس الزّين» أن تُنشَر في مجلة «حوار» التي مثّلت إشكاليّة معقّدة من ناحية التّمويل والإدارة والمشاحنات والسّجالات فيها وعنها، ثمّ توقّفت وخفتت أصداؤها، فنسي القرّاء الأعمال التي نُشرَت فيها. وكان حظّ «حكايات حارتنا» أن تُنشَر محشورةً بين «الكرنك» و«الحرافيش» وأعمال أخرى، وأن تسبقها «المرايا» بسنوات قليلة. حاول محفوظ في «حكايات حارتنا» شقَّ طريق جديدة - بالنّسبة إلى مسيرته الأدبيّة على الأقل - غير أنّ قرّاءه ونقّاده ما كانوا يتمتّعون باللياقة والسّرعة اللازمتين للّحاق بوتيرة إنتاج المعلّم المتلاحقة. كانت «الحكايات» تختلف عن كلّ ما سبقها من أعمال محفوظيّة: شعبيّة، تراثيّة، سلسة، قصيرة. لا تشبه العمارة الهائلة التي شيَّدها محفوظ طوال قرابة أربعة عقود؛ عمارة على الطراز الغربيّ، فيما البناء الجديد بناءٌ شرقيّ شعبيّ، وتلك هي المشكلة. وكانت «عرس الزّين» مختلفةً من حيث احتفاؤها بالمحكيّة، بل إنّ جذرها وعمودها الجوهريّ كان المحكيّة لا الفصحى (من دون تجاهل أسلوب الطيّب صالح السرديّ المدهش)؛ وفي ظلّ منظومة سرديّة مهيمنة لا تكتفي برفض المحكيّات بل تنفر منها نفورًا عجيبًا، لم يكن لـ«عرس الزّين» أن تنال حظوةً؛ وإنْ أضفنا لعبة المركز والهوامش التي تنطلق منها خارطة القراءة والنّقد العربيّة وتنتج منها، سيكون تجاهل «عرس الزّين» نتيجةً «طبيعيّة» ضمن ذلك السّياق. ثمّة ناحية أخرى تتّصل بالتلقّي: اعتاد قرّاء محفوظ ابتكاراته الغربيّة فلم يكن صدى «الحكايات» مُرْضيًا، في الدّفقة الأولى على الأقل. وحين كرّر محفوظ دويّه الصّادح مرات لاحقة، التقط القرّاء النّبرة الجديدة ولكنْ حينما كانت تلك النّبرة مرتبطةً بعمل ضخم، لا محض حكايات متناثرة؛ انبهر القرّاء بـ «الحرافيش» ونسوا «الحكايات» التي بدت أشبه بدوائر ارتداديّة في المياه بعد قفزة صخرة «الحرافيش» الكبيرة، مع أنّ تلك الارتدادات كانت المنبع لا النّتيجة. لم تكن تلك الحالة الوحيدة في مسيرة محفوظ، إذ كان قد بدأ تجريبه «الشرقيّ» منذ «المرايا» عام 1971. ضربة معلّم متأخّرة، لأنّ محفوظ كانت قد تجاوز الستّين، فبدت «المرايا» مفاجأةً في غير أوانها، وحين أعاد الكرّة بعد عقدٍ ونصف في «حديث الصباح والمساء»، غابت الأنغام القديمة حين خلبت السَّلْطنة ألباب القرّاء بالأعمال الجديدة، فتراجعت «حكايات حارتنا» إلى حجرة الذكريات البعيدة، بل إنّ تأثير خفوت التلقّي كان لاحقًا حتّى على الأعمال المتأخّرة التي انطلقت من «الحكايات»: مرّت «صباح الورد» و«صدى النّسيان» بل حتّى «قشتمر» بصمت نسبيّ حين تغافل عنها النقّاد وقد انتبهوا متأخّرين إلى نتاجات محفوظ ذات الرّنين الصّادح؛ صارت الكتابة النقديّة تتحدّث عن «أصداء السّيرة الذاتيّة» بوصفها «فَتْحًا جديدًا»، وكأنّهم ما عرفوا «حكايات حارتنا» وما قرؤوها، أو لعلّهم قرؤوها ولم يلتقطوا نبضها الجوهريّ. وكذا كان حال «عرس الزّين». ما كان لروايةٍ سودانيّة أن تنافس المردة الكبار حولها إلا لو نالت دعمًا خارجيًا. لم تنلها «عرس الزّين» مباشرةً ولكنْ نالتها «موسم الهجرة إلى الشمال» (وقد نُشرت بعد «عرس الزين» بسنوات، لا قبلها، كما سادَ الاعتقاد). كان دعم «موسم الهجرة» مفروضًا من خارج منظومة السّرد العربيّ عبر التّرجمة وعبر طوفان النظريّات النقديّة الثقافيّة/السياسيّة/الاجتماعيّة. بات الطيّب صالح صاحب عمل أوحد، بل لعلّه ما يزال إلى اليوم، وإنْ بدأت أعماله الأخرى تكتسب قرّاءً جددًا. لم تنجح وصفة «موسم الهجرة» مع «عرس الزّين» حتّى حين تكرّرت العناصر الخارجيّة ذاتها، لأنّ «موسم الهجرة» كانت سلاحًا لا يُفوَّت في معركة صراعات السبعينيّات: رواية خرجت من عباءة عُرف المعارضات الأدبيّة الرّاسخ في التّراث العربيّ، غير أنّها باتت شيئًا آخر بعد التّرجمة: باتت معارضةً لا لعُرفٍ أدبيّ غربيّ مهيمن، بل معارضةً سياسية-اجتماعية-ثقافية لثقافةٍ غربيّة ولسُلطةٍ غربيّة كاملة، ما أثّر تأثيرًا ساحقًا على قراءتها، سلبًا وإيجابًا. غطّت «موسم الهجرة» على «عرس الزّين» التي كان لها، لو نُشرت في سياقٍ مختلف، أن تغيّر خارطة السّرد العربيّ بأسره بلا مبالغة، إذا أضفنا نتاجات إميل حبيبي. كان على الطيّب صالح انتظار عقود كاملة كي تنال «عرس الزّين» الحفاوة التي تستحقّها، وعقودًا أكثر كي تنال أعماله الأخرى قرّاءها، على عكس محفوظ الذي كان التأخّر في حالته وجيزًا. ليست غزارة محفوظ أو شهرته وحدهما السّبب في هذا؛ ثمّة سبب آخر أهم: الإيقاع. أعمال محفوظ متماثلة بقدر ما هي مختلفة؛ بوسعنا تمييز لمسته حتّى لو غيَّر الشّكل الخارجيّ؛ بوسعنا تمييز صوته حتّى حين يحاول إخفاءه أو تمويهه. الطيّب صالح مختلف حتّى حين نظنّ أنّه كرَّر وصفته الكتابيّة؛ ما من عمل يشبه عملًا آخر. تلك لعنة ضمن سياق القراءة والتلقّي لدى القرّاء العرب (أكانوا قرّاء عاديّين أم نقّادًا محترفين). يكره القرّاء التّغيير. لنا أن نُعمِّم المسألة على المجالات كافّة، في السياسة والاقتصاد والمجتمع، ولكنّها تبلغ أقصاها في المجال الأدبيّ. يعشق قرّاؤنا الرّتابة، وينفرون من المغامرات السرديّة التي لا تشبه ما اعتادوه. حظيت «أميركا» و«دروز بلغراد» لربيع جابر بحفاوةٍ غير مسبوقة في العقدين الأخيرين، لا لأنّهما أفضل أعماله (وهما ليستا أفضل أعماله حتمًا)، بل لأنّهما - تحديدًا - أكثر أعماله تقبُّلًا لدى الذائقة العامة، على عكس «شاي أسود» أو «البيت الأخير» أو «رالف رزق الله في المرآة» مثلًا، بل إنّ هذه الروايات (وهي ثلاثيّة على نحوٍ من الأنحاء) لا تشبه سابقتها «سيّد العتمة». وفي المقابل، تقبَّل القرّاء أعمال محمّد شكري لأنّها تحمل نبرةً متشابهة؛ صحيح أنّهم رفضوها بادئ الأمر غير أنّ السبب كان «أخلاقيًا»، وحين اعتادوا جرعة الجرأة، انفتحت أمامهم بوّابة الأعمال. لا نكاد نجد عملًا مُهمَلًا لدى محمّد شكري أو نجيب محفوظ ولو تأخَّر زمن اعتياد الذائقة، فيما لاقت أعمال الطيّب صالح وربيع جابر درجات تلقٍّ مختلفة. الفارق ليس في درجة البراعة لدى الكاتب، بل في درجة مرونة ذائقة القرّاء، وفي درجة تقارب صوت الكاتب في أعماله المختلفة. باستعارةٍ موسيقيّة بسيطة، معظم أعمال نجيب محفوظ معزوفات كمان، وحين غيَّر الصوت انتقل إلى الڤيولا: درجات صوتيّة وإيقاعيّة متقاربة تلتقط الأذن تقارُبَها، وتألَفُها وتعتادها؛ بينما كانت أعمال الطيّب صالح ذات إيقاعات مختلفة، بآلاتٍ مختلفة: لعلّ ثمّة بعض التّقارب بين «عرس الزين» وبين «بندر شاه» بجزءيها، ولكنّه تقارُب الكلارينيت والأوبوا؛ «موسم الهجرة» ساكسوفون صادح تلتقطه الأذن أسرع فتعتاده، وتغيب عنها نغمات الأعمال الأهدأ والأبرع.
ثمّة تشابهات أخرى في المضمون لا في الشكل وحسب بين «عرس الزّين» وبين «حكايات حارتنا». ينطلق العملان من الخبر بوصفه قصّة مستقلّة ومن ثمّ يتّضح أنّ الخبر محض تمهيدٍ أو تفصيلٍ ضمن عمارةٍ سرديّة أكبر. «حكايات حارتنا» متتالية قصصيّة، كلُّ حكايةٍ فيها فصل مستقلّ ومنفصل في آن؛ الفصول/الحكايات معنونة بأرقام، كما لو كانت ملفّاتٍ مرتَّبةٍ في ذاكرة المؤرشف العجوز الذي فضَّل الاتّكاء على الذاكرة في عقود الشّيخوخة وتخلّى عن العمارات السرديّة المعقّدة. «عرس الزّين» رواية قصيرة لا تتّكئ على أرشيف الذاكرة تمامًا لأنّ مؤلّفها ما زال شابًا بذاكرةٍ غضّة، غير أنّها تستعير من المتتالية القصصيّة بُنيتها (وهي بنية سائدة في التّراث السرديّ العربيّ) وتغيّر تركيبتها لتجعلها دائريّة مثل «حديقةٍ بممرّات متشعّبة» تدور حول الزّين الذي يَرْسُم فضاء الحكاية ويُرْسَم بتفرّعاتها الاستطراديّة. ما كان لدى محفوظ رغبةٌ في التّفصيل، ولذا بدت الشّخوص ضبابيّةً لا تتّضح معالمها إلا لو شاء الراوي العليم، وهو محفوظ نفسه أو أناه العليا، حتّى حين تكون الحكاية متمحورةً حول شخصيّة بعينها (كما نجد في شخصيّة توحيدة في حالتنا هنا): لا نقرأ الشخصيّة بل نقرأ توصيف محفوظ الطفل/الشيخ لها، لا تنطق الشخصيّة بل تمرّ بالضّرورة عبر فلتر محفوظ اللغويّ؛ بينما كان الزين شخصيّة أسطوريّة مع أنّه (ولأنّه) شخصيّة لاأسطوريّة بامتياز؛ هو الضدّ في كلّ شيء: ساذج، بسيط، نافل، هزليّ، بيد أنّه سيُمسي الضدّ وضدّه حين يؤسطر الطيّب صالح سرده وشخوصه، ليكون الزّين كلّ شيء، الجذر والساق والأغصان والثّمار. صحيحٌ أنّ محفوظ وصالح يستعيدان الشخصيّتين مرةً أخرى في أعمال لاحقة، ولكنّ الاستعادة ليست متماثلة: حتّى حينما حظيت توحيدة بعنوان حكايتها في مجموعة «همس النّجوم»، لم تحظ بصوتها وبصورتها وبعالمها، بل بقي محفوظ راويًا مهيمنًا تختلف شخصيّاته بقدر اختلاف طول الخيط الذي يُرخيه لها كاتبها، بينما تحوَّل الزين إلى مَعْلمٍ من معالم المكان تُؤرَّخ أحداث المكان بتاريخه، كما سنرى في «ضو البيت».
ما كانت «حكايات حارتنا» حكايات حارتنا حقًا، بقدر ما كانت حكايات محفوظ عن حارتنا، والفارق شاسع. لنا أن نفهم الفارق أكثر بالمقارنة مع «عرس الزين»: الراوي شخصيّة مجهولة؛ راوٍ عليم، غير أنّه يُفرِد مساحةً كبيرة لشخصيّاته كي تنطق بنفسها عن نفسها. ليس الطيّب صالح نفسه، وإنْ ظننّا ذلك لوهلة. كان ذلك الصوت صوت المكان، صوت ود حامد، بينما كانت العناوين خادعة مُخاتِلةً تلذَّذ الطيّب صالح في إحكام لعبته فيها، تيمُّنًا بعُرفٍ أدبيٍّ هائلٍ شرقيٍّ وغربيٍّ في آن، فيه المتنبّي بمدائحه التي تبدو مدائح للملوك غير أنّها مدائح لنرجسيّة الشاعر، وفيها شيكسپير بمسرحيّاته التي تمنح الملوك هِباتٍ خادعة في إفراد العناوين لهم، بينما الخشبة، كلُّ الخشبة للشخصيّات التي تبدو هامشيّة فيما هي الجوهر كلّه. ولكنّ الطيّب صالح أمكر وأبرع من الاكتفاء بمحض تقليدٍ، إذ منحَ شخصيّاته المؤسطَرة عناوينها، وصانَ لهم أسطورتهم ومكانتهم، من دون أن يضحّي بمكانة راويه الحقيقيّ وأسطورته: المكان؛ المكان الذي يتشظّى في حكايات متفرّقة تبدو كما لو أنّها متناثرة لا رابط يربطها، فيما كانت في حقيقة الأمر أغصانًا لشجرةٍ وارفة هي قريةٌ سودانيّة لمسها سحر السّرد فباتت عالمًا، بل عوالم كاملة، يمتزج فيها السّحر بالواقع (قبل وصول قافلة أميركا اللاتينيّة إلينا بعقود)، والحُلم باليقظة، والرّوحانيّة بالجسد، والفصحى بالمحكيّة في مزيجٍ إعجازيّ ما يزال أمامنا عقودٌ كي نكتشف أسراره التي تبدو للعين المتعجّلة محض حكايات بسيطة. لعبة الطيّب صالح كانت في جعل المكان موزَّعًا على شخصيّاته: هو مصطفى سعيد، والزين، وبندر شاه، ومريود، ومريم، وسعيد عشا البايتات، وهو - في الآن ذاته - ودّ حامد في ذاتها. لعبة تقمُّصٍ رهيفة يكون فيها الواحد واحدًا بقدر ما يكون جمعًا. صوفيّة محفوظ وسرده مختلفان: أبسط، أقرب للذائقة، ولا مكر فيهما، وتلك خسارة كبرى. لعلّ لإكثار محفوظ وإقلال صالح دورٌ في هذا: أعمال الطيّب صالح الكاملة (قصصًا وروايات) تعادل روايةً واحدةً لمحفوظ حجمًا؛ غير أنّ الحجم مُخاتِلٌ هنا أيضًا. نقرأ محفوظ فنحسّ بعد انتهاء القراءة أنّ ثمّة ما لم يُكتَب، وينتظر دوره في عمل آخر، حتّى لو كان العمل ضخمًا، حتّى لو كان «الحرافيش» أو «أولاد حارتنا»، بينما كلُّ عملٍ من أعمال الطيّب صالح مُكتَفٍ بذاته حتّى لو كان قصيرًا (لعلّنا نستثني القصص القصيرة، وهي ليست نقطة تفوّق صالح الفعليّة). تبدو أعمال صالح رؤى مختلفةً لجوهر واحد؛ ستدرك بُعدًا من أبعاد ذلك الجوهر لو قرأتَ عملًا واحدًا، ولكنّه جوهرٌ مكتملٌ بذاته في آن. لعلّ لأسلوب كتابة كلٍّ منهما دورٌ في الاختلاف: كان محفوظ يكتب مسابقًا الإلهام أو شيطان الإبداع أو الخيال لو شئنا، يكتب ليُنجِز حتّى لو لم يكن الإنجاز نهائيًا؛ ثمّة وقتٌ آخر لإنجاز آخر يُكمِل ما سبقه، ويؤسِّس لما بعده. وكان الطيّب صالح يرسم عالمه في مخيَّلته، في ذهنه، يكتبه بأكمله في حواسّه قبل أن يدوِّنه، ولذا يبدو كاملًا، بل إنّ صالح لا يكترث إنْ طال الزّمن بين عمل وآخر، ولا يكترث لو تخلّى عن عملٍ لاحق؛ لم يكتب جزءًا ثالثًا من «بندر شاه»، ولم يبدُ نادمًا على هذا لأنّ العمل كان مكتملًا في ذهنه، وعلى القرّاء أن يكتفوا بما هو موجود، بما هو مُدوَّن.
ما كانت «حكايات حارتنا» حكايات حارتنا حقًا. لعلّ هذا صحيح، غير أنّ عالم محفوظ بأكمله كان حكايات ذاكرة محفوظ، ودأبه، وقدرته الهائلة على الكتابة. لن نحيط به كاملًا إلا لو قرأناه كاملًا، كأنّه بلزاك أو زولا. وما كانت «عرس الزين» عرسًا للزين فقط، بقدر ما كانت عرسًا للمكان بأكمله؛ المكان الذي يستمدّ ضحكته من ضحكة الزين، يستمدّ وجوده من وجود الزّين، بقدر ما يستمدّ الزين ضحكته ووجوده من المكان. لعلّه ولعي الشخصيّ بأعمال الطيّب صالح، إذ أتوق حقًا لرؤية مسوّداته أكثر بكثير من توقي لرؤية مسوّدات محفوظ. يخطر لي أحيانًا أنّ الطيّب صالح كتب بلا مسوّدات؛ كان ساحرًا يُكوِّن سحره في ذهنه ثم يتخلّص منه بحركةٍ واحدةٍ فيُكتَب، قبل أن يملّ اللعبة ويعيد تكوين سحرٍ جديد، كي يُدوَّن أو لا يُدوَّن. ليس هذا مهمًا، إذ اللعبة هي الجوهر هنا، السحر. لن نجد مثيلًا عربيًا لما فعله الطيّب صالح هنا، حين جعل المكان يَكتُب ويُكتَب، يَرسُم ويُرسَم، يَخلُق ويُخلَق في آن. لن نجد مثيلًا عربيًا لما فعله حين جعل الخبر الصغير فعل خلقٍ لعالم بأسره. لعلّ بإمكاننا استثناء «نهايات» عبد الرحمن منيف، وستكون محور المقالة القادمة.