أحمد الحقيل
(دار روايات، الشارقة، 2020)
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النصوص، ما هي منابعها وروافدها ومراحل تطوّرها؟
أحمد الحقيل (أ. ح.): كتبت أكثر القصص المنشورة في الكتاب بعد عام 2015. اتخذت قرارًا وقتها أن ما أكتبه لم يكن مُرضيًا، وعليّ أن أغير خطّي ليلائم توقعاتي. ومن ثم وُلد هذا الخط السردي، الجانح إلى الواقعية الرصدية.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية؟ ما هو العالم الذي تأخذنا إليه القصص؟
(أ. ح.): الواقع، والناس، والحياة اليومية. الحدث ليس مهمًّا، بقدر أهمية ما يحيط به، وما يؤدي إليه، وما ينشأ منه. الهامشي، والمهمل، والظلّي، هو مصدر أغلب الحياة، ومكمن أكثر الانفعالات. لا يستيقظ شخص في يوم ما مجرمًا أو عاشقًا أو تاجرًا أو أحمقًا، تريد أن تعرفه فعلًا إذن يجب أن تختبر حياته اليومية.
(ج): كتابُك الأخير مجموعة قصصيّة، هل لاختيارك جنسًا أدبيًّا بذاته تأثير فيما تريد أن تقول، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(أ. ح.): لا، طبعًا. أكتب كل شيء تقريبًا. عدا الشعر، ولله الحمد.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(أ. ح.): لا صعوبات تذكر. الكتابة متعة من متع الحياة، التي نتقوى بها على مجابهة الرتابة والتكرار. صعوباتها ملذات، وجزء من التجربة، ومحفز على التحدي، ومعيار لقيمة المكافأة النهائية حينما تبدع شيئًا تحبه، وترضى عنه.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(أ. ح.): محبب، أكثر من غيره. ربما لطول الصحبة في كتابته، وعمق الأثر في لذة تجربته.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(أ. ح.): كل ما قرأته، وكل ما مررت به، كان مؤثرًا، طبعًا. كل شيءٍ وكل أحدٍ له فضل في تكوينك، بطريقة أو بأخرى. ولكنني حرصت أكثر الحرص ألا أبدو متأثرًا بأحد، أن يُكتب العمل منحوتًا من الواقع المعاش. ولكنك حتمًا إذا فتشت، مترصدًا متعمدًا، ستجد أثرًا لكتّاب وأشخاص وتجارب محددة مررت بها.
(ج): هل تُفكّر بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه لنا؟
(أ. ح.): أي شخص يعرف الأبجدية العربية، ولديه فائض من الوقت يريد أن يهدره في كتاب جيد.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(أ. ح.): رواية، ستكون جزءًا من سلسلة. ستصدر خلال الشهر المقبل.
مقتطف من المجموعة
أظن أن هنالك فرقًا، يكاد لدقّته يكون غير ملحوظ، بين ذاكرة الجسد والرصد. ذاكرتك الرصدية تجنح دائمًا إلى استرجاع المشاهد كسرديّات، أو محكيّات وصفيّة، ولكن استكشافاتك المحسوسة تعمل مثل الدبوس في الخريطة، على الرغم من صعوبة اقتناصها. حينما كنا نصنع التمر "الكنيز" في بيتنا مثلًا، كانت أمي تستقطبني أنا وإخواني للعمل. تصف لنا التمرة المختارة، أن تكون كبيرة ورطبة، فنفرز ونتفحص وننتقي ونتّخذ قرارًا قبل أن توافق عليه. نعاين غسل التمر وتصفيته من الشوائب في المنخل، ثم نغرسه داخل أكياس النايلون، نضغط التمرة تلو الأخرى، حتى يمتلئ الكيس عن آخره، ولا يبقى منه إلّا مساحة بحجم الإبهام تشبه الرقبة، نخنقها بإحكام. نضعها في الشمس، ونتركها مدة، ثم نعود إليها لرصها. نذهب نحن العيال لنجيء بالبلوك، والأحجار الثقيلة، نحملها من الحارة إلى البيت، ونضع التمر في مكان مناسب من الحوش، حيث تمره الشمس ولكن لا تحرقه طوال النهار، ونرصه بالبلوك والأحجار على هيئة طبقات، كيسُ تمرٍ فوقه حجر ثم كيس آخر فوقه حجر آخر. نراقبه يوميًا، ونقلّبه، ونعدله، ونعاينه، ونلاحظ التغيرات التي تطرأ عليه، حتى يبدأ الدبس بالتفزر، غني وكثيف وأصفر مثل الذهب المذاب، وقد بدأ يتشكل على الأطراف، ويسيح محبحبًا وصمغيًّا. حينما ذقت أول تمرة سكرية من تلك الدفعة التي صنعتها بيدي، تكسرت أطرافها المقرمشة بين أسناني، وساح دبسها الكثيف والغني على لساني وشفتي، ونضجت حاسة الاستطعام مثلما يتغير صوت الطفل في ليلة، وكأن الطعام لم يعد مجرد وقود جسدي، ولكن كيفٌ، ومزاجٌ، وفنّ. ولذا حينما كنت صغيرًا، أصغر من أن أفرّق فعلًا بين النساء، دون الثامنة تقريبًا؛ كانت رائحة أمي هي الانعكاس الأساسي للمرأة. المزيج اللاذع من الدخون والحناء والحمسة وقماش الشيلات والصوف. رائحة الأمومة، التي تظل انعكاسًا للمرأة الأم في نجد الثمانينات والتسعينات الميلادية للطبقة المتوسطة وما دونها، مهما كبرت في العمر. كنت أشمها في عباءتها، وملابسها، واستلقائي على فخذها وهي تمسد شعري. وعلى الرغم من أنني أشمّ عطور النساء حينما يزرننا وحينما أزور منازل أصدقائي، إلّا أنني ظننت أن رائحة أمي هي الرائحة الحقيقيّة لكلّ النساء، بصدق. ثم حينما زرت بيت سالم أول مرة أو ثاني مرة، لا أذكر، كانت هند جالسة في الصالة. في الثامنة عشرة من عمرها تقريبًا. كانت رائحتها لا تشبه رائحة امرأة عرفتها من قبل، وهي تسلم علي وتجالسني وتكلمني، وتحاول أن تخفف من ترددي وخجلي. رائحة أخف بكثير من العطر، وألطف بكثير من العرق. مطبوعة في كلها، في ثيابها وعباءتها وشعرها ووجها، في كلها، في جلدها وعظمها ونخاعها، وما زلت أذكر ذلك الانطباع الفذّ العجيب، الذي يشبه الاكتشاف، وهو أن رائحة النساء كلهن ليست رائحة أمي، وأن هنالك فرقًا أدقّ من الفروقات الواضحة في الشكل والعمر بين أمي والأخريات، فرقٌ أدقّ هو الذي يصنع علاقة الذكر والأنثى، وهو الذي يبرّر مشاعر الحب التي نسمعها في الأغنيات، ونقرؤها في الشعر ولا نفهمها.