"إنّ المشاهد التي تراها على التلفزيون، تلك التي تشاهدها مرة تلو أخرى. المشهد نفسه، لشخص يمشي في مبنى ما حاملًا مزهريّة! ستشاهد هذا المشهد عشرين مرة، ثمّ تتساءل: يا إلهي من أين تأتي كلّ هذه المزهريات؟ هل من الممكن أن يكون كلّ هذا الكم من المزهريّات في هذا البلد؟".
دونالد رامسفيلد، في المؤتمر الصحفيّ لوزارة الدفاع الأميركية في 11 نيسان، 2003.
صادفت قبل أسابيع، وتحديدًا في الثالث والعشرين من شهر آب/أغسطس، الذكرى المئويّة لتأسيس الدولة العراقيّة الحديثة. ورغم كلّ المنعطفات الشديدة والحادّة في تلك الرحلة، إلّا أنّ أكثر تلك المراحل خرابًا وفوضى، هي تلك الفترة التي تلت وتخلّلت الاحتلال الأميركيّ للعراق في نيسان/أبريل 2003.
يقول العميد غراهام بينز، قائد اللواء المدرّع السابع، والذي كان مسيطرًا على البصرة، في إفادته للجنة تحقيق خاصّة إنه توصّل إلى أنّ "أفضل وسيلة لوقف عمليّات النهب كانت فقط الوصول في إلى نقطة أن لا يعود ثمّة شيء يُنهَب".(1)" من هنا يمكننا أن نرى أنّ الولايات المتّحدة وحلفاءها في تلك الحرب لم يمتلكوا أيّ مخططات واضحة للتعامل مع الوضع في مرحلة ما بعد - أو حتى أثناء - الإطاحة بنظام صدام حسين. في الوقت الذي سبق وأن كانت للولايات المتّحدة تجارب مشابهة؛ إذ استغرقها عامان من التخطيط لاحتلال ألمانيا، أثناء الحرب العالمية الثانية. في الوقت الذي قامت فيه الإدارة الأميركيّة بإنشاء الجهة المسؤولة عن إدارة العراق بعد الاحتلال، قبل شهرين فقط من بدء التحرّك العسكريّ، تحت مسمى "مكتب إعادة الإعمار والمساعدات الإنسانيّة" (ORHA). لكنّ هذا المكتب حُلّ بعد فترة قصيرة من عمله، لتحلّ محلّه "سلطة الائتلاف المؤقتة" (CPA)؛ والتي عملت تحت إمرة وزارة الدفاع الأميركيّة مباشرة، ممثّلة بوزيرها دونالد رامسفيلد آنذاك. لذلك كان الاختيار الأقرب للأخير هو الجنرال المتعاقد جاي غارنر - والذي كان رجل أعمال ومدير شركة في لحظة تكليفه - الذي شارك في حرب فيتنام وحرب الخليج، والذي كُلِّف بعد الحرب، عام 1991، بتأمين المناطق الكرديّة في العراق. لم يستمر غارنر في منصبه كمشرف على إعادة إعمار العراق سوى ثلاثة أسابيع، إذ عَيّن الرئيس الأميركيّ الثالث والأربعين، بتاريخ 6 أيار/مايو 2003، بول بريمر مديرًا إداريًّا لسلطة الائتلاف المؤّقتة وحاكمًا "مدنيًّا" للقوّات العسكرية المتواجدة في العراق، والتي وصفها مجلس الأمن الدوليّ بأنّها قوّات احتلال.
[موقع مكتب "إعادة الإعمار والمساعدات الإنسانيّة" (ORHA) داخل هيكليّة الإدارة الأمريكيّة]
حرص بريمر الدبلوماسيّ الأسبق والحاكم "المدنيّ" لاحقًا - والذي كان حتّى لحظة تعيينه رجل أعمال ورئيس شركة استشارات أيضًا - على ارتداء بسطاله العسكريّ طوال فترة بقائه في بغداد. إذ يذكر في كتابه "عام قضيته في العراق" أنّ زوج "التيمبرلاند" ذاك كان هديّة من ابنه عشيّة ذهابه للعراق. كتب عليه ملاحظة تقول: "اذهب واركل مؤخّرة أحدهم يا أبي".(2)" من هنا كان مدخل هذا الرجل الذي لم يكن على معرفة بسياسة الشرق الأوسط أو ثقافته، إضافة لعدم معرفته للغة العربية. وبالرغم من ذلك كلّه فإنّه من المؤكد أنّ تبعات قوانينه التي أقرّها خلال الـ14 شهرًا من وجوده في العراق - وخصوصًا القوانين الأولى منها - شكّلت وما زالت تشكّل العمليّة السياسيّة في العراق، بصيغتها الطائفيّة الحاليّة، التي ما زال العراق والعراقيّون يتحملون تبعاتها.
كان بريمر حريصًا منذ لحظات وصوله الأولى على تأجيل الانتخابات وتشكيل ما سيعرف لاحقًا بـ"مجلس الحكم" تحت وصاية الاحتلال. إذ كان سلفه غارنر يجتمع بفصائل المعارضة؛ مثلما حدث في مدينة الناصريّة في منتصف نيسان 2003. حينها اختارت واشنطن 43 سياسيًّا عراقيًّا - بينهم 14 منفيًّا و26 من الداخل - للمشاركة في ذلك الاجتماع. وأعلن غارنر في نهاية الشهر نفسه، البدء في عملية تشكيل حكومة انتقاليّة، واقترح حينها أن تقوم وكالة دوليّة بالإشراف على عائدات صناعة النفط العراقيّ، وقد تكون هذه إحدى الأسباب التي أدت إلى تعجيل عزله بتلك السرعة. ذلك أنّ الإدارة الأميركيًة تقدّمت بعد أيام من اقتراحه هذا، بمشروع قرار معدّل لرفع العقوبات عن العراق، تقرّ فيه بالتزاماتها كـ"قوّة احتلال" وفي الوقت نفسه تحتفظ لنفسها وحلفائها بسلطات واسعة لإنفاق عائدات النفط ولفترة عام على الأقل. بعد ذلك بأسبوع - أي بعد يومين فقط من تشكيل سلطة الائتلاف المؤقتة - قرّر بريمر ومعه الدبلوماسي البريطاني - ممثّلًا عن رئيس الوزراء البريطانيّ في العراق - جون سويرز، إبلاغ قيادات الأحزاب السياسيّة والمعارضة بقرار قوّات التحالف إرجاء قيام حكومة انتقالية إلى أجل غير مسمّى.
كانت العواقب وخيمة بعد أوّل قانونين صدرا عن قوّات الاحتلال؛ وهما قانونا حلّ الجيش العراقيّ وقانون اجتثاث البعث. إذ لم يكن هذان القراران صادرين عن جهة سياسيّة أو قضائيّة، بل عن جهة عسكريّة - في بادئ الأمر - وذلك ضمن ما نصّت عليه "رسالة الحريّة" التي وجّهها الجنرال تومي فرانكس إلى الشعب العراقيّ في 16 نيسان/أبريل 2003، دعا فيها إلى تسليم كافّة ممتلكات حزب البعث ووثائقه إلى قوّات التحالف، وإلزام أفراد الجيش العراقيّ والتنظيمات العامّة بإلقاء أسلحتهم وإطاعة أوامر أقرب قائد عسكريّ من قادة قوات التحالف. كما قرّر تجريد أجهزة الأمن من كافّة سلطاتها وصلاحياتها، البعض يعتبر هذه النقطة واحدة من العوامل الأساسيّة التي أدّت إلى ظهور داعش فيما بعد. وبمجرّد وصول بريمر وإصداره للّائحة التنظيميّة الأولى التي تضمّنت في جزئها الأوّل قرار إنشاء سلطة الائتلاف المؤقّتة، وفي الجزء الثاني منها تضمّنت بندًا بعنوان "إقصاء حزب البعث عن المجتمع العراقيّ". في تلك اللحظة كان عدد المنتمين لحزب البعث ما يقارب 2 مليون (في إحصائيات غير رسمية أخرى يصل 11 مليونًا)، وعدد سكّان العراق وقتها كان نحو 25 مليونًا. بالإضافة إلى أنّ بريمر لم يكن ليعلم من الذين يجب اجتثاثهم، ومن هم المتورّطون في جرائم حرب وإبادة جماعيّة. بالإضافة لوجود بعض أفراد الحزب الذين كانت هناك حاجة لهم في عمليّة بناء النظام الجديد، في مفاصل الجيش والتربية والنفط على سبيل المثال. يذكر السياسيّ والدبلوماسيّ اللبناني غسّان سلامة، موجّهًا كلامه للأمين العام للأمم المتّحدة وقتها، كوفي عنان - ومن بعدها متوجّهًا إلى المسؤولين في البيت الأبيض والبنتاغون - أن أحد آثار قرار اجتثاث البعث بتلك الطريقة كان تدمير التعليم نهائيًّا. إذ يشير إلى أنّ غالبيّة مديري المدارس والمشرفين التربويّين كانوا أعضاء في حزب البعث. ويذكر مثالًا في إحدى المحافظات العراقيّة، بعد عزل مديرة التربية ونائبها وعدد من مديري المدارس، ليشغل محلّها "فَرَّاش" تلك المديريّة الذي يصفه بأنه كان شبه أميّ.(3) لذلك حصر بريمر صلاحيات الاستثناء من قرار الاجتثاث بيديه بديلًا عن عمل المحاكم. وذلك لأن لم يكن من أولويّاته أو أولويّات المعارضة العراقيّة محاكمة البعث وجرائمه عن طريق القضاء - مثلما حدث في "محاكمات نورمبرغ" عامي 1946-1945 على سبيل المثال(4). يشير بريمر بنفسه إلى أنّ أكثر من ثلثي القضاة العراقيين كانوا مستقلّين عن حزب البعث وأنّ المؤسّسة القضائّية كانت من أكثر المؤسّسات مهنيّة وكفاءة للعمل في تلك المرحلة. لكنّه عوضًا عن ذلك، نقل كلّ تلك الصلاحيّات فيما بعد لمجلس الحكم. ليقوم المجلس في وقت لاحق بتكليف أحمد الجلبي، ليستخدم هذا القانون كأداة للإسقاط السياسيّ. لتتفاقم فيما بعد وتصبح أداة موجّهة ضد العرب السنّة في تلك الفترة. إذ إنّ قانون الاجتثاث سبق إنشاء محكمة لمحاكمة صدام حسين والمسؤولين في النظام العراقيّ السابق، وبالتالي لم يتجاوز هذا الشكل من "العدالة" مقاييس الثأر. هذا ومن الجدير بالذكر، بأنّ قرار الاجتثاث بصيغته الأولى كان يشمل البعثيين حتى الدرجة الخامسة في التنظيم الحزبي.
[مخطط الدرجات الحزبية في حزب البعث المنحل]
اليوم وبعد 18 عامًا على حظر الحزب، ومع اقتراب الانتخابات البرلمانية العراقية يقوم التيار الصدريّ بقيادة مقتدى الصدر - وأحزاب دينية أخرى - بحملة في البرلمان تهدف للحرمان من المشاركة في الانتخابات لكل من "يثبت" أنه سبق وانتمى لحزب البعث بدرجة نصير، أو لديه أقرباء من الدرجة الأولى شغلوا مناصب قياديّة في الحزب. وما زالت هذه الورقة "المحروقة" ترمى في كل مكان يُكشف فيه فشل وفساد العملية السياسية برمتها مثلما حصل - وما زال يحصل - مع الناشطين المدنيّين في ثورة تشرين، إذ اتُّهموا بأنهم بعثيون إضافة إلى غيرها من التهم على الرغم من أن الجزء الكبير من جيل الثورة/الحراك ولد ما بعد الاحتلال وسقوط نظام البعث.
من هنا نرى كيف سبقت "المعادلة" الطائفية تشكّل العملية السياسيّة، والتي صيغت بطريقة تكرس للطائفية بشكل ممنهج. وذلك لأنّ الولايات المتّحدة لم تبحث أو تعطي الوقت لقيادات عراقية جديدة للظهور. وهذا مفهوم في أي سياق انتقاليّ، لكنّها في الوقت نفسه فضّلت التعامل مع "مجموعة السبعة" - سبعة سياسيّين من بينهم سني واحد - رغم إدراكهم الكامل لما في تلك المجموعة من إشكاليّات مثل تهميش التمثيل السنّي وعدم وجود المرأة. لكن هذه المجموعة هي التي كانت النواة لتشكيل مجلس الحكم؛ الذي تشكّل بعد 95 يومًا من انهيار نظام البعث. والذي تكوّن من 25 عضوًا، 13 شيعيًّا و5 أكراد و5 سنّة وتركمانيّ واحد وآخر مسيحيّ. وفي بداية مرحلة اختيار رئيس مجلس الحكم، اتُّفق على التناوب على المنصب بناءً على اعتبارات طائفيّة. بينما أعلن بريمر أنّه سيستخدم حق النقض (الفيتو) - باعتبار أنّ مسؤوليّة الأمن بيديه إضافة لحقّ النقض لكلّ القرارات الصادرة من مجلس الحكم الانتقاليّ - لمنع صدور الدستور العراقيّ إذا لم يتوافق مع "المفهوم الغربيّ للديمقراطيّة" وأيضًا في حال ورود أيّ نصّ يعتبر الشريعة الإسلاميّة مصدرًا رئيسيًّا للتشريع.
إنّ كلّ تلك الأعراف والتقاليد السياسيّة التي عمل بها بريمر - على المستوى الفردي حتى - وتلك التي عُمِلَ بها أيضًا في فترة وصاية الاحتلال، أصبحت أشبه بأعراف أو قوانين في الظلّ يتمترس خلفها اليوم من يرفعون شعارات "مقاومة المحتلّ". بدءًا من الإقصاء السياسيّ والسماح لرجال الدين بالتَنفُذ في - وعلى - سياسات الدولة، واستخدام الصلاحياّت بدون خبرة مسبقة، حتى إطلاق النار على المتظاهرين العزّل. مثلما حدث في الموصل بعد أيام من فرض الاحتلال لسلطته على المدينة، عندما احتجّت مجموعة من المواطنين المدنيّين ضدّ تعيين محافظ بعثيّ للمدينة وهو مشعان الجبوري، واستشهد على إثرها 12 متظاهرًا بنيران قوّات الاحتلال. كلّ هذا الإرث - وإرث الديكتاتوريّة التي سبقته - وغيره، هو ما يحاول ثوّار تشرين وبكلّ صلابة ووعي إبدالها بمشروع مدنيّ يُعدّ بمثابة حجر الزاوية في مراحل بناء الدولة العراقيّة بعد أن استعصت لعقود.