ساد مؤخرًا جدل في الأوساط الشعبية السورية عن دور النساء كمعيلات بسبب خروج الكثير من الرجال من قوة العمل والحضور الاقتصادي. يتجاهل هذا الرأي السائد حقيقة أن النساء السوريات كنّ دائمًا مساهمات في الاقتصاد السوري عبر مشاريعهن الصغيرة حتى في عز حضور الرجال الاقتصادي. ففي المجتمع السوري لم يكن عمل المرأة قليلًا أو نادرًا أبدًا، بل مخفيًا، غير معلن، وفي الحقيقة مُجهّل عن عمد، وغير مسجل في الإحصاءات الرسمية. فالصورة النمطية تربط العمل بالإعالة، والإعالة تعني وجود رجل يعمل لينفق، وحصر الإنفاق والإعالة بالرجل يحرم النساء من صفة العمل المنتج، وينكر تحصيلهن موارد مالية. هذا عدا عن أن الإعالة هي فعليًّا مصدر للسلطة، وفي حالة هيمنة السلطة الأبوية يتم إخراج النساء من دائرة الإنتاج ومن دائرة التحكم بواردات الإنتاج تقييدًا لسلطتهن وحصرًا لهن في صورة نمطية رعائية فقط، لذلك تم التعامل مع كل ما تقوم به النساء من أعمال وكأنه بلا أية قيمة اقتصادية، حتى الموظفات والعاملات بأجر شهري.
تجاهل أم إنكار
ربما يمكننا القول أن جهلًا، أو تجاهلًا في أحسن الأحوال كان يمارس بتواطؤ جماعي لإخفاء القوة الاقتصادية لشغل النساء وعوائدهن المالية من خلال المشاريع الصغيرة. فالكثير من النساء السوريات كن منذ زمن طويل المورد الاقتصادي الثابت الوحيد أو شبه الوحيد للعائلة عبر مشاريع صغيرة كالعاملات اللواتي يذهبن إلى البيوت الغريبة لتأدية أعمال للنساء اللواتي ينتمين لطبقات اقتصادية ميسورة. ومن هذه الأعمال: إزالة شعر الحواجب، نزع الشعر بالسكر أو بالشمع، قص الشعر وتصفيفه، الخدمة المنزلية وشطف أدراج الأبنية وتعزيل البيوت، إضافة لتجهيز موائد السيدات الموسرات.
وبالنسبة للنقطة الأخيرة فالكثير من النساء السوريات طورن مشاريع صغيرة في مجال إعداد الطعام. فمنهن من يعمل بمناسبات الأفراح أو الدعوات الخاصة عن طريق إعداد ورق العنب والكبب والمحاشي والشاكرية وغيرها من المأكولات الاحتفالية. وهناك من يعمل بإعداد المأكولات الخاصة بمونة الشتاء كالمكدوس والزيتون والمربيات والزبيب والكشك والزعتر.
تبيع نساء كثيرات في دمشق منتوجاتهن إما مباشرة في أسواق باب الجابية وباب سريجة والقصاع والمزة، أو عبر وكلاء من رجال العائلة أو من أصحاب المحال التجارية في الشعلان والمزة جبل وباب توما والتجارة والقصور وسواها.
فمثلًا فور توقف العملية التدريسية وبدء العطلة الصيفية، تغادر أم عماد (معلمة في مدرسة ابتدائية) مدينتها إلى قريتها، حيث يزرع زوجها في الربيع الفاصولياء واللوبياء وبعض مساكب البصل الأخضر والبقدونس والنعناع في قطعة الأرض الملاصقة لبيتهم الريفي.
في معظم الأحيان، تقع على عاتق النسوة وحدهن كل أعمال السقاية والقطاف والتوضيب والبيع والتجفيف والسلق والطبخ والغلي وتحضير المنتوجات كدبس البندورة و المربيات.
لا أحد يصف أم عماد بالمعيلة، ولا بصاحبة مشروع اقتصادي مساهم أو مستقل! الكل يصفونها بأنها امرأة قوية وشاطرة وبنت حلال تعين زوجها على تكاليف الحياة، هنا تكمن الحلقة المفقودة، لماذا تشترط فكرة الإعالة غياب الزوج أو عجزه عن العمل! ولماذا تغيب فكرة الشراكة الاقتصادية! ويذهب ريع المحصول لجيب الرجل وحده، أو قيمة نفقات منزلية! لا تتحكم النساء حتى بطريقة الإنفاق كفتح حساب بنكي مشترك. كما يتم تجاهل حق أم عماد بتغيير نمط أو أصناف المزروعات في الموسم القادم حسب خبرتها المتراكمة من العمل الطويل، أو التشاور معها حول توظيف عاملة زراعية تساعدها، أو فتح خط تسويق لترحيل الخضار إلى سوق المدينة، أو تخصيص علامة تجارية تسجل كل منتجات أم عماد تحت اسمها، تضمن لها حق ملكية العلامة التجارية وحق التصرف بقيمة أتعابها المبذولة في الزراعة وتحضير المونة المنزلية المعدة للتسويق والبيع!
النساء وصفحات التواصل الاجتماعي
استفادت النساء صاحبات المشاريع الصغيرة وخاصة المختصة في تحضير وجبات الطعام من صفحات التواصل الاجتماعي، فمثلًا أنشأت أم عمار صفحة خاصة بها على فيسبوك، تعرض فيها كل منتجاتها، وتضع رقم هاتف خاص للتواصل وتذيل الصفحة بعبارة توجد خدمة خاصة للتوصيل. وقد اكتسبت أم عمار مرونة فائقة بالتعامل مع طلبات زبوناتها، فقد تغير في المكونات بناء على ذوق الزبون أو تصنع المنتج من دقيق خاص بالمرضى المصابين بحساسية تجاه الغلوتين أو المكسرات أو الزيوت، مما وسع في شبكة علاقاتها وزاد الطلب على منتجاتها بصورة واضحة ومجزية.
أما ندى فقد لجأت إلى التوصيل بنفسها على دراجتها الهوائية خاصة للبيوت القريبة من مكان سكنها، وبذلك تضمن وصولًا آمنًا وسريعًا لمنتجاتها وخاصة السائلة منها وتستلم قيمتها شخصيًّا وتبني علاقة ود مع الزبائن، نساءً ورجالًا.
ندى امرأة عازبة وموظفة، وبعد شهرتها خاصة في المطبخ النباتي وقبولها لتحضير وجبات متناهية الصغر، ازداد الطلب على منتجاتها، فاستأجرت قبو البناء الذي تسكنه وتعاقدت مع عاملتين، واحدة لتحضير الخضار وغسلها وطبخها، وأخرى للفرم والشوي والعجن والخبز، واكتفت ندى بمهمتي شراء المنتجات وتوصيل الوجبات المطبوخة. وقد أضافت ندى بعدًا بيئيًّا إيجابيًّا إلى عملها، بحيث ألغت استعمال الأوعية البلاستيكية نهائيًّا في تعبئة منتجاتها خاصة الساخنة منها، بل وتلجأ أحيانًا إلى إعارة قدورها وأطباقها الزجاجية للزبائن على شرط الإعادة، أو أنهم يتركون عندها وبصورة مسبقة أوانيهم الصحية فيوفرون قيمة الأوعية البلاستيكية التي ارتفع ثمنها كثيرًا ويضمنون الصحة والسلامة في أوانيهم الزجاجية أو المعدنية.
ملاحظات وتوصيات
وقد لا تحظى غالبية مشاريع النساء الصغيرة بالنجاح، لتكرارها وكثرة عددها في مساحة جغرافية واحدة، خاصة إذا تم تكرار صناعة نفس الأصناف. ولا بد هنا من الإشارة إلى الكساد الذي لحق بمنتجات دبس الفليفلة الحمراء المعدة للمحمرة أو المكدوس، أو منتج تين الهبول ومربى المشمش وسواه من المربيات ودبس الرمان، خاصة في قرى ريف حماة في العام الماضي، فضمان ربحية أي مشروع تشترط دراسة شروط سوق التصريف. ولأن غالبية النساء العاملات في هذا المجال كررن صناعة نفس المنتجات فقد أصيبت هذه المنتجات بكساد كبير، مما دفع بعض السيدات لإعلان حالة الاستنفار عبر طلب كميات كبيرة منها وتسويقها في مدينة دمشق، مساعدة للسيدات صاحبات المشاريع اللواتي عجزن عن التصريف لقلة الطلب وكثرة العرض وتعذر التخزين لانقطاع الكهرباء المتواصل وارتفاع قيمة النقل إلى المدن والأسواق التي يتسع فيها الطلب على تلك المنتجات، عدا عن ارتفاع كلفة مصادر الطاقة البديلة وتعذر تأمينها.
ثمة مأخذ آخر على تلك المشاريع مرتبط بقلة الخبرة والدعم والتمويل الكافي والحماية من الكساد والتلف. أيضًا هناك خطر التنميط وربط فكرة المطابخ البيتية أو مشاريع المونة كملاذ آمن وحيد للنساء، مع أن إبداع النساء يتخطى نمطية الطبخ وتقديم الوجبات وتحضير المونة البيتية.
وتنتشر حاليًّا أفكار لتنويع اختصاصات المشاريع الصغيرة الخاصة بالطبخ والطعام، كفكرة مطبخ خاص لمرضى السكري أو مطبخ خاص لمرضى السرطان، عبر أشكال إبداعية، مثل المطابخ التي تعد الطعام كاملًا لكن دون طهي، أو مطبخ متنقل للنساء والرجال الوحيدين والوحيدات مقابل بدل نقدي شهري يدفعه ذوي النساء والرجال، أو بعض الجمعيات المعنية بمساعدة العجزة والمحتاجين والسكان بلا مأوى من الأطفال والنساء والرجال.
ومن التحديات عالية الخطورة التي تواجه المشاريع الصغيرة، الوضع الخدمي العام، وخاصة الخدمات الأساسية مثل الكهرباء وانقطاعها الدائم. ففي حادثة جرت حديثًا اضطرت بضعة سيدات يعملن في ورشة للطبخ وإعداد الفطائر، إلى رمي كل ما كان مخزنًا بالثلاجة الكبيرة والمجهزة للبيع بسبب انقطاع الكهرباء، مما خلف خسارة كبيرة لهن، تجاوزت المليون ليرة سورية، دفعتهن للتفكير جديًّا بوقف مشروعهن.
قصة ميساء أيضًا توضح العقبات المتعددة أمام استدامة المشاريع الصغيرة النسائية، فبسبب الوعود البراقة والكبيرة باعت ميساء آخر قطعتي ذهب بحوزتها لشراء مستلزمات للطبخ بهدف افتتاح مطبخ صغير في إحدى غرف بيتها الضيق. إلا أن انقطاع الغاز وارتفاع ثمنه في السوق السوداء، والتعثر المعيشي الحاد الذي طرأ على حياة الناس في سوريا، أدى إلى أن يخيب ظن ميساء بكل الوعود التي أعطتها الأمل بنجاح مشروعها. فكمية الطلب على منتجاتها منخفضة وفي مرات كثيرة عندما يكون هناك طلب يلجأ الزبائن لتقليص عدد المواد المطلوبة لضيق ذات اليد، مما يدفع ميساء للاعتذار، بسبب الكلفة المرتفعة لإعداد كميات صغيرة لا تعوض كلفتها الحقيقية.
إن تغيرًا حقيقيًّا وصارخًا طرأ على نمط وجبات الطعام اليومية والنمط الغذائي السوري عامة، لم تعد الكبب أو الفطائر مطلوبة، بل تحولت لأضغاث أحلام متروكة للصدفة إذا ما تمت دعوتهم لمناسبة أو غداء خارج بيوتهم، وقد تغيرت المكونات الأساسية فغابت اللحوم عن جسم الكبب ودخل عوضًا عنها العدس أو البطاطا.
ولا بد من الإشارة إلى غياب أية تدابير حماية لهذه المشاريع الصغيرة وصاحباتها، لدرجة أن الحديث عن نقابة خاصة بالعاملات المنزليات أو صاحبات المشاريع الصغيرة وحتى العاملات في المطاعم أو في مراكز تجارية، يبدو ضربًا من الخيال ومجلبًا للسخرية، وتبدو فكرة الحماية مرتبطة فقط بالحظ أو بالقدر، في بلد اعتاد أهله على عدم جدوى النقابات أو الجمعيات الاجتماعية والاقتصادية الداعمة.
إن فكرة الإعالة يجب استبدالها بمبدأ التكافل وهو مسؤولية مجتمعية، تجمع كل ما يمكن من المبادرات وتوجهها وتصوبها وتوظفها لتضمن حقوق الجميع وأمنهم الغذائي والصحي والمالي.