صباحٌ مُعتمٌ تشدُّني فيه صورٌ أجهلُ تاريخها، مثل طفلٍ يبدأ الحكاية بأن يتفحص الرسوم قبل أن يقرأ. صور ميلوراد بافيتش قليلة؛ شامةٌ على الخد، غليونٌ وكلابٌ ضخمةٌ يستأنسُ صُحبتها، تفاصيلٌ ملونةٌ لا تشفي الغليل فأعود للكلمات.
تخبرنا أعمال بافيتش عن حبّه للكتب القديمة وعن رغبته المستمرة في النبشِ فيها لإعادة تقديم قصص منها على شكل أدبٍ يكاد يكون إعادة كتابةٍ للتاريخ. الجدل مُستمر، المؤرخون مُعترضون على الخلط بينهم وبين كُتّاب الأدب، مُلوّحون أبدًا باستنادهم الدائم على الحقيقة كمنطلقٍ لأعمالهم. لكن الواقع يقولُ أن حَدَّ الفصلِ أدقُّ من أن نضع أصبعنا عليه، وأن الحقيقة في علاقتها بالماضي مفهومٌ مبهمٌ لا نتفق عليه. فالماضي، كالمستقبل، حيزٌ مُغرٍ للتفسير وإعادة الإنتاج والمراوغة. وفي هذا الحيز تحديدًا، في البرزخ بين التاريخ والفانتازيا، كتب بافيتش "قاموس الخزر"، حكايةً تُشبه الأحلام.
القاموس عملُ بافيتش الروائي الأول، سردٌ من ثلاثة أجزاء في بناءٍ خيالي على ما تبقى من تاريخ الخزر، القوم الذين عاشوا بين القرن السابع والقرن الحادي عشر في المنطقة بين البحر الأسود وبحر قزوين. المقاطع في القاموس مُرتبةٌ أبجديًّا، وككل قاموسٍ آخر، لا بداية للكتاب ولا نهاية، رواياتٌ خيالية عن الملحِ والشياطين والمرايا وغيرها، تتكررُ أو تتغيرُ في مروياتٍ ثلاث.
لاحقًا سيقدم بافيتش أعمالًا أخرى تقفز فوق الخطوط بين الأجناس الأدبية، في "رواية فريدة" 2004 يقدم كتابًا يتضمن صفحاتٍ بيضاء يختارُ فيها القارئ، ويكتبُ، ما يعجبه من النهايات المئة الممكنة للأحداث. وقبلها نشر "صندوق الكتابة" 1999 روايةً لها نهايتان، الأولى مدونةٌ في الكتاب والثانية يستطيع القارئ البحث عنها عبر الإنترنت.
كان ميلوراد بافيتش، والذي يعني اسمه الأول "محبوب"، إلى جانب كتابته للرواية والشعر، مُترجمًا ومُدّرسًا في تاريخ الأدب. ولد في العام 1929 في بلغراد وله فيها تمثال معدني في حديقة تاش إلى جانب تمثالٍ مشابه لحيدر علييف.
سليلُ عائلةٍ صربية بإرث ثقافي عميق، هذا الإرث الذي لم ير بافيتش نفسه إلا جزءًا منه: "ولدتُ ككاتب منذ مئتي سنة. في أكبر المكتبات في أوروبا يمكن للمرء أن يجد الكتب التي كتبها أسلافي. كما تعلمون، كان أسلافي هُم من دعموني في كل مرة فكرت فيها بالكتابة، حتى أنني كتبت لهم لاحقًا بعض القصائد بلغتهم القديمة".
في حوارٍ آخر أُجري معه بعد حرب البوسنة يُعرّف بافيتش نفسه بـ"الكاتب الأشهر من أكثر دولةٍ مكروهةٍ في العالم".
قاموس الخزر: نُشرتِ الرواية في العام 1984 وتُرجِمتْ لاحقًا إلى أكثر من ثلاثين لغة ليس بينها العربية. الحدث الأساسي في الرواية/القاموس هو المناظرة الخيالية التي جرت في البلاطِ لتفسير حلم الخاقان، حاكم الخزر. إذ إن الخاقان كان قد قرر أن يتحول مع شعبه إلى الدين الذي يعطي تفسيرًا مُرضيًا للحُلم. وهكذا، ثلاثة صيادي أحلام، مسيحيٌ ومسلمٌ ويهودي، راهبٌ ودرويشٌ وحاخام، يتلقى كُلٌّ منهم هديةً من الخاقان، سكينًا مصنوعةً من الملح، ويسعى لتفسير الحلم.
لم يصلنا من كتب التاريخ ما يكفي عن الخزر. الحكاياتُ قالت أنَّ جيش الروس مضى ثمانية أيام دون نوم ليدمر عاصمتهم عند منبع نهر الفولجا. والشهود، حُماةُ الذكريات، قالوا بعد الحرب أن ظلال المباني في العاصمةِ ظلّتْ على الأرض رغم أن المباني نفسها دُمرتْ. من الذكريات الأقرب إلينا عن العاصمة تلك، اقتباسٌ يعصرُ القلب أوردهُ بسام حجار في مطلع إحدى قصائده: "يُقال إن في إتيل، عاصمة الخزر، موضعٌ يستطيعُ فيه العابران، إذا التقيا، أن يتبادلا الاسم والمصير وأن يواصل أحدهما العيشَ في حياة الآخر". لم نبلغ العاصمة ولم نلتقِ الخزر، لكن الكتاب هذا بسردٍ بديع يعطينا صورةً عمّا فاتنا من حياةٍ سابقة.
هُنا ترجمةٌ عن لُغةٍ وسيطة لمقاطع مختارة من "قاموس الخزر".
نيكون سيفاست:
يُقالُ، إنه في وقتٍ ما عاش الشيطان حاملًا هذا الاسم في وادي أوفجار على نهر مورافا في البلقان. كان لطيفًا على غير المتوقع، يُنادي كل الرجال باسمه: سيفاست، وكان الخطاط الأساسي في دير القديس نيكلاس.
تقول الحكايةُ إنه كان يسرق في الليل حصانًا من الدير أو من البلدة، وعند شروق الشمس يُرى الحِصانُ مُغطىً بالزبدِ والغبار وقد ضُفّرَ عُرفه. ويقالُ إنه كان يمضي بالأحصنة ليبرّد قلبه لأن قلبه كان قد طُبِخَ في نبيذ مغلي. لذلك وضعوا ختم سليمان في أعراف الخيل ليحموها منه ومن أحذيته التي تحمل دومًا آثار أسنان الكلاب.
يقال أيضًا إن موهبة الرسم وصلت إليه من كبير الملائكة جبريل. وأن لوحاته على جدران الكنائس في أوفجار، لو قُرئتْ لوحةً لوحة ومن دير إلى دير فإنها تشكل رسالةً تبقى طالما بقيت اللوحات. نيكون سيفاست ترك هذه الرسالة لنفسه حين يعود بعد ثلاثمئة عام من عالم الموتى إلى عالم الأحياء. الشياطين، يقول سيفاست، لا يذكرون شيئًا من حياتهم السابقة ولهذا أترك هذه الذكرى لنفسي.
عن إتقانه للرسم تقول الحكاية إن الفرح أصابه كمرضٍ بعد حديثه مع جبريل. نقل الفُرَش من يده اليُسرى إلى اليُمنى وبدأ بالرسم.
بالكاد كان يُمدد اللون على اللوحة حتى ينفد منه مثل الحليب. رغم ذلك عرفَ كُلَّ شيء: عرف كيف يخلطُ الحبر الجاف مع المسك، عرفَ أن الأصفر أسرع الألوان وأن الأسود أبطؤها وأنّه أيضًا اللون الذي يحتاج أطول وقتٍ لينشف ويُظهِر وجهه.
أفضل أعماله كانت "القديس يوحنا الأبيض" و"دمُ التنين". لم تكن اللوحات مملوءة بالطلاء بل بأثر فُرشاةٍ مغموسةٍ في الخل تأخذ مع الوقت لون الرياح الخفيفة.
كان يُداوي كُلَّ شيء حوله بالألوان؛ قوائم الأبواب والمرايا، خلايا النحل وثمار اليقطين، العملات الذهبية والأحذية المُدببة. على حوافر حصانه رسم الإنجيليين الأربعة متى، ومرقص، ولوقا ويوحنا، على أظافره رسم الوصايا العشر، على دلو البئر رسم ماريا المصرية، وعلى درفتي النافذة رسم حواءين: حواء الأولى ليليث والثانية حواء آدم. رسم على العظام المعضوضة، على أسنانه وأسنان الآخرين، داخلَ الجيوب وخارجها، على القبعات والسقوف. على بضعة سلاحف حيّة رسمَ الحواري الأثني عشر ثم تركها تمضي في طريقها إلى الغابة.
الليالي كانت صامتة مثل الغُرف التي اعتاد أن يختار واحدة منها. يدخل الغرفة ويضعُ مصباحًا خلف مسند اللوحة ويبدأ في رسم لوحة مُتناظرة.
في الأيقونة الأخيرة رسم الملاكين جبريل وميخائيل بحيث يُسلم أحدهم -بين يومٍ وآخر- روحًا ممتلئة بالخطايا إلى الثاني، ميخائيل واقفٌ دومًا في الثلاثاء وجبريل في الأربعاء. أسماء اليومين مكتوبة بأحرفٍ حادةِ الحواف والملاكان واقفان بأرجلٍ مُدماة من طول الطواف على الاسمين.
لوحاته كانت أجمل أثناء انعكاس بياض الثلج في الشتاء منها في الصيف المُشمِس، شيءٌ من المرارة فيها كما لو أنها قد رُسِمتْ في ظلام دامس، فيها أيضًا نوعٌ من الابتسامة التي تنطفئ في أبريل وتظهرُ مُجددًا مع أول تساقط للثلج.
(من الكتاب الأحمر)
****
الخزر:
.. تقول المصادر الإسلامية إن الخزر برعوا في الزراعة وصيد السمك. كان في أرضهم سهلٌ يجتمعُ فيه الماء كُلَّ شِتاءٍ مشكّلًا بُحيرةً. الأسماك التي يربونها هُناك سمينة بحيث يُمكنُ أن تطبخ في دهن جسمها دون إضافة أي زيوت. تجفُّ مياه السهل في الربيع فيزرع الخزرُ القمح في الأرض التي صار السمكُ سمادها، في كُلِّ موسمٍ هُناك حصاد سمكٍ وحصادُ قمح وفير.
الخزر مُبتكرون لدرجةِ أنهم يزرعون المحار على الشجر. يحنون غصنًا من الشجر النابتِ على الشاطئ نحو الماء ويثبتونه بالحجارة. بعد سنتين يجتمع على الغصن محّارٌ يقطفونه في السنة الثالثة، فقط يرفعون الغصن من الماء فيكون حصادٌ وفيرٌ من محارٍ طيب.
يمرُّ في أرض الخزر نهرٌ له اسمان، لأن تيارين من الماء يتدفقان فيه في نفس الوقت، الأول من الشرق إلى الغرب والثاني من الغرب إلى الشرق. اسما النهر هما اسما السنتين في تقويم الخزر، لأن الخزر يعتقدون أن الفصول الأربع تمرُّ في سنتين وليس في سنةٍ واحدة، وأن السنتين تتدفقان عكس بعضهما كالنهر تمامًا. تختلطُ الأيام والفصول في سنتي الخزر كأوراق اللعب، فيمر الشتاء مع الربيع والصيف مع الخريف. وفوق كل هذا، واحدةٌ من سنتي الخزر تعبر من المستقبل إلى الماضي والسنة الأخرى من الماضي إلى المستقبل.
ينقشُ الخزر كُلَّ الأحداث المهمة في حياتهم على عُصيٍ، النقوش على شكل حيواناتٍ تُمثلُ حالاتٍ أو مشاعر. لاحقًا يأخذ قبر صاحب العصا شكل الحيوان الأكثر تكرارًا على عصاه، لذلك تكون مقابرهم مُقسمةً على مجموعاتٍ حسب إذا ما كان للقبر شكلُ نمرٍ أو طيرٍ أو جملٍ أو قِطٍ برّيّ أو سمكٍ أو بيضٍ أو ماعز..
(من الكتاب الأخضر)
****
أبراهام بن عزرا:
عاش أبراهام بن عزرا في منزلٍ صغيرٍ بجانب البحر. حول المنزل كانت تنبتُ طول الوقتِ نباتاتٌ عطرة لا تستيطعُ الرياح تشتيت روائحها فتحملها معها مثل سجادةٍ من مكان إلى آخر. ذات يومٍ، وبفعل خوفٍ اعتراه لاحظ أبراهام بن عزرا أنَّ الرائحة قد تغيرتْ. كان الخوف بداخله في البداية على عُمقِ روحه الصغرى. ثم هبط إلى عُمقِ روحه الوسطى وبعدها إلى روحه الثالثة، روحه الأقدم. صار الخوف أعمق من أرواح بن عزرا، وما عاد يحتمل البقاء داخل المنزل.
أراد الخروج لكنه عندما فتح الباب وجد أن شَبَكًا من خيطِ العنكبوت قد نُسِجَ على المدخل أثناء الليل. كان مثل أي شَبكِ عنكبوت آخر لكنه أحمر اللون. حين حاول إزالته وجدَ أن الشّبكَ غَزْلٌ بديعٌ من الشَعر، راح عِزرا يبحث عن صانعه.
لم يجد دليلًا، لكنه في المدينة رأى امرأةً غريبة تسيرُ مع والدها. كان شَعرُها أحمرَ طويلًا ولم تُلقِ بالًا لبن عزرا.
في الصباح التالي شعر مرة أخرى بالخوف ومرة أُخرى وجد شَبكَ عنكبوتٍ أحمر مَغزولًا عند الباب. في ذلك اليوم، عندما التقى بالفتاة صاحبة الشعر الأحمر، قدم لها باقتين من الآس.
ضحكتْ وسألتْ:
"كيف وجدتني؟"
قال: "عرفتُ على الفور أن ما في داخلي من الخوف ثلاث، وليس خوفًا واحدًا".
(من الكتاب الأصفر)
****
موستاج بيك سابلجَك: القرن الخامس عشر
واحدٌ من القادةِ الأتراك في تريبيني. المُجايلون قالوا إن موستاج بيك لم يكن يستطيع حفظ الطعام في بطنه، وأنه كان يأكل ويقضي حاجته في الوقت نفسه، تمامًا كما يفعل الحمام.
حين يذهب للمعارك كان يأخذ معه مُرضِعاتٍ يعطينه الحليب، عدا عن ذلك لم يكن يقترب من النساء، ولا من الرجال. كان يضاجعُ المُحتضرين فقط، وإلى خيمته كان يؤتى بهم، نساءٌ، رجالٌ وصغارٌ، مشترون، مغسولون ومرتبون وهم في آخر أوقات حياتهم. فقط مع هؤلاء كان يستطيع أن يقضي ليلة، كأنه كان خائفًا من أن يزرع أطفالًا في بشرٍ سيستمرون في العيش. كان يقول إنه لا ينجبُ أطفالًا لهذه الحياة بل للحياة القادمة بعد الموت.
لا أدري، يقول مُشتكيًا، لأي جنةٍ أرسلهم أو لأي جحيم. لا أدري إن كانت ملائكة اليهود تأخذهم أو شياطين المسيحيين فلا أستطيع رؤيتهم لاحقًا حين أدخل الجنة.
شرحَ شهواته مرةً لدرويش بطريقةٍ سهلة: "الموتُ والحب، هذا العالمُ والعالم الآخر اللاحق، عندما يقتربان من بعضهما، يستطيع المرء أن يعرف الكثير عنها.. تمامًا مثل تلك القردة التي تتجرأ أحيانًا على قطع الحدود، وعندما يعودون يكونون كُتلًا من الحكمة. فهل من الغريب أن يعطي شخصٌ يدهُ لهذه القِردة لتعُضّها، فيبلغَ الشخصَ شيءٌ من الحكمة عن طريق العضّة. لا أحتاجُ عضّةً كهذه..".
كذلك اعتاد موستاج بيك سابلجَك أن يشتري أحصنةً يحبّها ولكنه لا يمتطيها وبشرًا مُحتضرين لا يحبّهم لكنه ينام معهم. في مكان غير بعيد عن البحر كان للبيك مقبرةٌ جميلةٌ للأحصنة، محفورةً من مرمر، يقوم عليها يهوديٌّ من دوبروفنيك اسمه صامويل كوهين. ترك اليهودي مُلاحظةً عن مشهدٍ وقع في مُعسكر سابلجَك باشا أثناء حَملةٍ على فالاشيا:
كان واحدٌ من جنود الباشا مُتهمًا بشيء لا يمكن إثباته بشكل قطعي. كان الناجي الوحيد من معركةٍ بين جماعته وفرقة من الأعداء على ضفة الدانوب. حسب قائد المجموعة فإن الجندي كان قد هرب من المعركة لينجو بحياته. لكن الجندي قال إن جنودًا عُراةٍ هاجموهم في الليل، وأنه الوحيد الذي ظلّ يقاتلهم حتى آخر لحظة خوفًا من الموت. عُرض الجُندي على سابلجَك الذي سيحكمُ إذا ما كان مُذنبًا. شُقتْ أكمامُ قميص الجندي وأُدخل على الباشا الذي لم ينبس بأي كلمة، مثله مثل جميع الحاضرين في المحاكمةِ الخرساء. فجأةً نطَّ الباشا بطريقةٍ وحشية باتجاه الجندي، عضّ ذراعه آخذًا منها قطعة من اللحم ثم ابتعد، غير مُبالٍ، عن الجندي المسكين الذي اُقتيد على الفور إلى خارج الخيمة. لم ينظر الباشا إلى الجندي ولم يتبادل معه أي كلمة، لكنه ظلَّ يمضغ بهدوءٍ قطعةً من لحمه، مُركِّزًا كمن يحاول تذكر مذاق طعام لم يأكله منذ وقت طويل، أو كمن يجرب مذاق النبيذ.. بصقَ سابلجَك قطعة اللحم من فمه وهي إشارةً تعني أن يقطع رأسُ الجندي في الخارج، إذ إنه قد أُثبِتَ الآن أنه مُذنب.
"لأني قضيتُ في خدمة الباشا فترةً قصيرة" يوضحُ كوهين في نهايةِ مُلاحظته، "لم أحضر مُحاكماتٍ كثيرة، لكني أعرفُ أنّه في المرات التي يَبلعُ فيها الباشا قطعة اللحم تسقطُ التُهمُ عن المُتهم ويكون غير مُذنبٍ ويُتركُ في حال سبيله".
كان لسابلجَك باشا جسمٌ غريبٌ غير متجانس، كأنه يرتدي جلده فوق ثيابه وكأن عمامته بين شعره وجمجمته..
(من الكتاب الأخضر)
****
مُكدسا السَفِر: القرن الثامن والتاسع، أفضلُ مُفسري الأحلام وأفضلُ صيادي الأحلام.
تقول الحكاية إنّه من وضع النسخة المُذّكرة من قاموس الخزر، وأن النسخة المؤنثة من القاموس من عمل الأميرة آتيه. لم يكتب مكدسا السَفِر نسخته من القاموس لُمجايليه ولا للأجيال التي ستأتي بعده، كتبها باللغة الخزرية القديمة من القرن الخامس التي لا يفهمها أحدٌ من مُعاصريه. كتب فقط لمن عاشوا سابقًا، لأولئك الذين حلموا بأجزاء من جسم آدم قدمون، ذلك الجزء الذي لن يحلم به أحدٌ غيرهم.
أميرة الخزر آتيه كانت حبيبة مُكدسا السَفِر، وهناك أسطورةٌ تقول إنه غسل ثدييها بشعر ذقنه المغموس بالنبيذ.
قضى السَفِر أيامه الأخيرة مسجونًا، والسببُ، حسب أحد المصادر، كان سوء فهم بين الأميرة آتيه وخاقان الخزر. رسالةٌ كانت الأميرة آتيه قد كتبتها ولم ترسلها ولكنها مع ذلك وقعت في يد الخاقان، ولأن في الرسالة إشارةٌ إلى مُكدسا السَفِر فإنها كانت سببًا في غيرة الخاقان وغضبه. تقول الرسالة:
"زرعتُ وردًا في أحذيتك، وعندي زهرة منثور نبتتْ في قبعتك. بينما انتظرك في ليلتي الوحيدة الأبدية، تهبطُ عليَّ الأيام مثل قِطع ورقٍ من رسالةٍ ممزقة. أضعهم جنب بعض فأقرأ كلمات حُبِّكَ حرفًا حرفًا. لكنه ليس كثيرًا ما أقرأ، يظهرُ لي أحيانًا خَطٌ لا أفهمه وقطعٌ من رسائل أخرى تختلط برسائلك: أيامُ شخصٍ آخر ورسائله تدخلُ في ليلي.. أنتظرُ عودتك، حيث لن نحتاج الأيام ولا الرسائل. وأسأل نفسي: هل ستظلُّ تصلني رسائل الشخص الآخر، وهل سيبقى الليل؟".
تبعًا لمصادر أخرى، ينسبها داوبمانوس إلى المخطوطاتِ في كنيس القاهرة، هذه الرسالة لم تكن مكتوبة للخاقان بل لمكدسا السَفِر، وتشير إليه وإلى آدم قدمون. بكل الأحوال، الرسالة كانت سببًا في إثارة غيرة الخاقان وإثارة مخاوفه السياسية، لأن مُفسري الأحلام الذين تقودهم الأميرة آتيه كانوا حركةً مُعارضةً قوية لسلطة الخاقان.
عوقِبَ مكدسا السَفِر بأن سُجِن في قفصٍ حديديٍ مُعلقٍ على شجرة. وكُلَّ سنةٍ كانت الأميرة آتيه ترسل إليه، عبر أحلامِها، مفتاحَ غرفتها. كان أفضل ما فعلته الأميرة حتى تخفف من محنته هو أن ترشو شياطينًا ليحلَّ أحدهم، لفترة وجيزة، محلّه في القفص. وهكذا تألفتْ حياةُ مكدسا جزئيًّا من حياة أشخاص آخرين، تناوبوا في إقراضه بضعة أسابيع من حياتهم. في هذه الأثناء، تبادلَ العُشاق الرسائل بطريقتهم الخاصة: كان مكدسا يخدش بِضع كلماتٍ بأسنانه على درقة سلحفاة أو سلطعون يصطاده من النهر تحت قفصه ثم يعيدهم إلى الماء. وتجيبُ الأميرة بالطريقة نفسها، مُرسِلةً رسائل الحُب على ظهر السلاحف الحية السابحة في النهر الذي ينتهي في البحر عند القفص.
عندما جرد الشيطان الأميرة آتيه من ذاكرتها ونسيتْ لُغة الخزر، توقفت عن الكتابة، لكن مكدسا استمر في إرسال الرسائل، محاولًا تذكيرها باسمها وبكلمات قصائدها. بعد مئات السنين من تلك الأيام، رأى الناسُ على شواطئ بحر قزوين سُلحفاتين تحملان رسائل محفورة على درقتيهما، رسائل من امرأة ورجل كانا يحبان بعضهما البعض. ظلّتْ السُلحفاتان تسيران معًا وعلى ظهريهما يُمكن قراءة رسائل العاشقين. جاء في رسالة الرجل:
"أنتِ مِثل فتاةٍ اعتادت التأخر في النوم، وعندما تزوجتْ من رجل في القرية المُجاورة، واضطرتْ إلى النهوض مبكرًا لأول مرة، رأتْ صقيعَ الصباح يُغطي الحقول فقالتْ لحماتها: "ليس لدينا مثل هذا في قريتنا!". أنتِ مِثلها، تظنين أنه لا حُبَّ في العالم، لأنكِ لم تكوني أبدًا مُستيقِظةً باكرًا كفاية لمقابلته، على الرغم من أنه هُناك كُلَّ صباح في الوقت نفسه..".
رسالة المرأة كانت أقصر، بضع كلماتٍ فقط:
"الصمتُ موطني الأصلي، وطعامي الخَرَسُ، وأجلسُ داخل اسمي مثل مجذافٍ في قارب.. أنا أكرهك، أكرهك كثيرًا لدرجة أنني لا أستطيع النوم".
دُفِن مكدسا السَفِر في قبر له هيئة ماعز.
(من الكتاب الأصفر)
****
آتيه: الأميرةُ التي كان لها دورٌ حاسم في مناظرة الخزر. اسمها هو الكلمة التي تصفُ حالات الوعي الأربع عند الخزر.
على كُلِّ جفنٍ من جفونها يُكتب في الليل حرفٌ، كالحروف التي تُرسم على جفون الخيل قبل السباق. الأحرف مأخوذة من الأبجدية القاتلة للخزر، إذ يموتُ من يقرأ الحروف لحظة القراءة. عُميانٌ من يكتبون الحروف على جفونها كل ليلة، وفي الصباح قبل دخولها للاستحمام تمسحُ الوصيفاتُ الحروف بعيونٍ مُغمضة.
هكذا كانت الأميرة محميةً من الأعداء أثناء النوم، والنوم هو الوقت الذي يكون فيه الإنسان -حسب اعتقاد الخزر- أضعف ما يكون.
على طاولة الأميرة دائمًا سبعُة أنواعٍ من الملح، تُصلّي بأن تغمس أصبعها في ملحٍ جديد كُلَّ مرة قبل أن تأكل قطعة من السمك.
يُقال إن لها سبعة وجوهٍ تغيرهم كما تُغير أنواع الملح على طاولتها. وتقولُ حكاياتٌ أخرى إن آتيه لم تكن جميلة على الإطلاق، لكنها تؤلف في المرآة كُل صباح وجهًا بديعًا جديدًا ترتديه. وتتعبُ من تشكيل الوجوه، ثمَّ حين تبقى وحيدةً لترتاح يذوب جمالها تمامًا كما يذوب الملح.
(من الكتاب الأحمر)
****
الخاقان: لقبُ الحاكم عند الخزر، من الأصل العبري كوهين ومعناه الكاهن. الخاقان الأول في مملكة الخزر بعد أن اتخذ اليهودية دينًا كان اسمه صابريل وزوجته كانت صيرا.
لا نعرف اسم الخاقان الذي دعا اليهود والإغريق والعرب إلى بلاطه كي يفسروا حلمه فيما عُرف لاحقًا بمناظرة الخزر.
حسب المصادر العبرية التي اقتبس منها داوبمانوس فإن انتقال الخزر إلى اليهودية تم بعد الحلم. الخاقان روى حلمه لابنته أو أخته، الأميرة آتيه على النحو التالي:
"حلمتُ أنني كُنتُ أخوضُ في مياه تصل إلى ارتفاع الخصر وكنتُ أقرأُ كتابًا. كان الماء نهرَ "كورا"، موحِلًا ومليئًا بالأعشاب؛ ماءٌ من النوع الذي يتشرب من خلال شعرك أو لحيتك. كُنتُ، كُلّما جاءتْ موجةٌ كبيرة، أرفع كتابي لأمنع عنه البلل، ثم أكمل القراءة. المياه الأعمق كانت قريبة ويجب أن أنهي القراءة قبل أن أصل إليها. عندها ظهر ملاكٌ وفي كفِّه طائر وقال لي: "الربُّ راضٍ عن نواياك ولكن ليس عن أعمالك". ثُمّ استيقظتُ وفتحتُ عينيّ. لكني استيقظتُ واقفًا إلى الخصر في الماء نفسه في نهر "كورا" الموحل بأعشابه، أحملُ نفس الكتاب، وأمامي يقفُ الملاك من الحلم، الملاكُ نفسه مع الطائر في كفّه. أغمضتُ عينيّ بسرعة، لكن النهر والملاك والطائر وكُلُّ شيء آخر ما زالوا هناك في الحلم. فتحتُ عيني، لم يتغير شيء. مُرعِب. قرأتُ سطرًا من الكتاب في يدي "فلا يتفاخرُ ذلك الذي ارتدى النعل" وهناك أغمضت عينيّ، لكني ما زلت أرى نهاية الجملة: ".. مثل من مضى حافيًا". في تلك اللحظة نفسها طار الطائر من كفِّ الملاك وفتحتُ عينيّ فرأيتُ الطائر يُحلق بعيدًا. حينها أدركتُ أنه لم يعد هناك ما يحجبُ عيني عن الحقيقة، ولا خلاص في عصبِ العينين. لا وجود للحلم ولا للحقيقة، لا للنوم ولا للصحو. كل شيءٍ واحدٌ مُطلق، يومٌ أبدي وعالمٌ يلتف حولي مثل ثعبان. وحينها أيضًا رأيتُ السعادة البعيدة العظيمة صغيرةً لكن قريبة؛ أدركتُ أن الأمور الكبيرة فارغة، والصغيرة مثل حُبّي لـ.... ثُمَّ فعلتُ ما فعلت".
(من الكتاب الأصفر)
[ترجمة وتقديم: هوزان شيخي].