عادل عصمت
(الكتب خان، القاهرة، 2021)
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النص؟ ما هي منابعه وروافده، ومراحل تطوّره؟
عادل عصمت (ع. ع.): ولد هذا النص من حكاية إحدى قريباتي في عام 2012 عن ظروف حياتها وكيف منع زوجها ابنها من الاشتراك في المظاهرات التي كانت تعم البلاد في هذا الوقت. كانت القصة قاسية، وفي مثل تلك الحالات لا أتمكن من تحمل ثقل القصص، أكتبها، لا بغرض أن أخلق عملًا أدبيًّا، بل لمجرد الرغبة في تأملها. بعد عامين رجعت إلى تلك الكتابة وجدت أنها يمكن أن تصلح لنوفيلا أطلقت عليها اسم "زوجة ضابط متقاعد"، ووعدت نفسي أن أعمل عليها بعد أن أنتهي من النصوص التي كنت أكتبها في ذلك الوقت. عدت إليها بعد أن أنهيت رواية "حكايات يوسف تادرس"، وتطورت الحوادث قليلًا وظهرت شخصية "منار" لتمثل الأجيال الجديدة التي تحمل وعيًا ذاتيًّا متقدمًا ومتخلصة من الأوهام الذاتية. بعد أن انتهيت من رواية "الوصايا" في عام 2018، تخففت قليلًا وشعرت بالحرية فعدت إلى ذلك النص وعملت عليه حتى ظهرت قصة مقبرة عائلة الأبيض، عندها عرفت أنني عثرت على الشكل الفني وأن الرواية في طريقها للاكتمال.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(ع. ع.): يأخذنا النص إلى عالم المدن الصغيرة في وسط الدلتا في مصر، إلى تلك البيوت التي تبدو الحياة فيها راكدة كأنما لا يحدث فيها أي شيء، لنرى كيف أن هذه الذرات الصغيرة، تحمل صدى اللحظة التاريخية التي تمر بها البلاد، ونرى كيف يمكن أن يخلق التسلط نقيضه؛ كيف يمكن أن تعمل الحياة التعسة على خلق اختلافها، ويتشكل منها ضوء ضعيف من الأمل، مثلما حدث مع نعمة الأبيض إحدى الشخصيات الرئيسية في الرواية، عندما حولت تعاستها إلى رغبة في تربية أطفالها وغذتهم بالرغبة في الفرار من هذا الكابوس، لكنها في النهاية وقعت فريسة هذه الرغبة وتدهورت صحتها بعدما هاجر مروان ابنها إلى ألمانيا. كما يتأمل النص أيضًا العلاقة الملتبسة بين جيل الأم وبين جيل ابنتها، التي تعتمد على وعي ذاتي متحرر يكشف العلاقة المتناقضة بينها وبين أمها.
(ج): كتابُك الأخير عبارة عن رواية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًّا بذاته تأثير فيما تريد أن تقول، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(ع. ع.): أحب الكتابة الروائية، لأنها تتخطى ما يريد أن يقول الكاتب بشكل مباشر، وتتغذى النصوص الروائية من مصادر خبرة وجدانية أكثر عمقًا من مجرد الرغبة في قول شيء محدد. فلو كان ما يريد الكاتب أن يقوله محددًا وواضحًا لكتب المرء مقالًا، ليقول رأيه في وضع سياسي أو اجتماعي معين، لكن الأمر في الفن يتخطى ذلك، فأنت لا تقول فكرة، بل تخلق خبرة وتجربة، مثلما يحدث في قصيدة شعر أو مقطوعة موسيقية. الرواية تمنحني هذا الحس بالحرية وتجعل الآراء والأفكار تفصيلة ضمن تفاصيل الحياة التي يخلقها الروائي، تصبح جزءًا من سياق أوسع، وفي النهاية تطمح الرواية إلى جمع شتات حياة متناثرة، لتؤلف عالمًا يحاول فيه الكاتب أن يقترب من تعقيد الحياة وتعدد معاني الخبرة الإنسانية.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(ع. ع.): التحدي الأكبر دائمًا هو العثور على شكل وطريقة بناء للقصة، فكثير من المرات كنت أمتلك قصة وموضوعًا ولا أستطيع أن أعثر على تشكيل فني يجعلني أشعر بأن هذه القصة عثرت على شكلها الخاص، ملامحها الخاصة، والبناء الذي يعطيها أقصى معانيها. دائمًا ما يعاندني الشكل الفني؛ كيف أحكي القصة، وكثير من المرات فشلت في استكمال بعض القصص لأن الشكل الفني لم يكن مناسبًا للقصة ولم أتمكن من الانتهاء من هذه القصص.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ع. ع.): إنه استكمال لتأملي للشروط الاجتماعية والإنسانية التي تخلق الشقاء، وكيف أن البشر ينسجون مصيرهم الشخصي من خلال اختيارات قد تبدو صائبة، لكنها تؤدي إلى مصير مختلف عما أرادوه، مثلما حدث مع الشيخ عبد الرحمن الشخصية الرئيسية في رواية الوصايا ونعمة الأبيض في هذه الرواية.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(ع. ع.): أثناء الكتابة لا أرجع إلى أي نصوص إبداعية، بل يكون تركيزي بالكامل على استبطان تجربة وروح الشخصيات، ربما أعود إلى بعض المراجع من أجل المعلومات كما حدث في تلك الرواية عندما عدت إلى كتاب عن تحديث المدن المصرية للتأكد من معلومات حول نقل المقابر خارج زمام السكن.
(ج): هل تُفكّر بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه لنا؟
(ع. ع.): في حالة كتابة المسودات الأولى للنصوص لا أفكر في أي شيء غير أن أخلق الأجواء والشخصيات والحبكة، لا أفكر في القارئ، لكن في المراحل النهائية أقرأ النص كما أنه نص لشخص آخر، لذلك يمكن القول أن من يرافقني في رحلة الكتابة هو نفسي كقارئ، بمعنى أنني أحكّم فيما أكتب، ذائقتي في القراءة، وتقريبًا أحاول أن أكتب تلك النصوص التي أحب أن أقرأها.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(ع. ع.): أتمنى أن أتمكن من استكمال حكاية القرية التي أنشأتها في هذا النص، قرية "نخطاي"، بطريقة تؤسس لبعض الحكايات التي ظهرت في جنازة السيدة البيضاء، أتمنى أن أكون قادرًا على ذلك.
مقتطف من الرواية
تطل عليها صورة أمها ترقد على الفراش في غرفة مروان. تريد منار أن تعرف كيف تدهورت حالتها ولماذا؟ مالت برأسها تجاه زجاج النافذة. تتأمل مجرى القطار وتسأل نفسها عن وقت الوصول وهل ستتأخر أكثر من ذلك. أشعة شمس اليوم تبهت والمساء يدخل. ربما ستصل بلدتها بعد المغرب. يعود القلق كاسحًا. تدهورت صحة نعمة بعد سفر مروان إلى ألمانيا. المشكلة أنها تنكر. تقيم تصورًا لحياتها مثلما نفعل جميعًا. كلنا ننظر من زاوية خاصة ونظن أننا نرى كل الحقيقة. تنكر نعمة أن صحتها تدهورت في الشهر التالي لسفر مروان؛ فقد ذاقت مرارة الفشل في الوقت الذي انتظرت فيه الطعم الحلو للنجاح.
لم تتمكن منار أبدًا من الإجابة عن هذا السؤال: لم تحملت أمها الحياة على هذا النحو؟ لمَ لمْ تطلب الطلاق؟ كان ذلك على وشك الحدوث عندما كان عمرها سبع سنوات تقريبًا، وأقاموا في بيت جدها في نخطاي. كانت فترة منيرة، ما زالت حية في انطباعاتها. حبها لصوت اليمام آت من تلك الفترة. شجرة الكافور الكبيرة أمام الدار كانت مأوي اليمام. قطعوها عندما أراد خالها أنس أن يفتح في الجنينة القديمة محلًّا لتجارة البذور والمبيدات ومستلزمات الأرض لكي ينقذ ابنه الصغير من المخدرات والضياع.
كانت تلعب في الصالة بعروسة من البلاستيك والشمس تتدحرج من فوق السلم وتنزل حتى باب وسط الدار، وفي ضوء الشمس يتردد تغريد اليمامة سائلًا في لمعان النور، كأنه صوته، حسه، جوهره. كان جدها عبد المعز قد مات، وجدتها كاميليا تضفي على البيت الحس الكريم الذي ظلت منار تحبه وتحن إليه. لم تحزن على موت أحد في حياتها مثلما حزنت على موت جدتها. الطيبة مجسدة. كتبت مرة على صفحتها في فيسبوك "إنها نظرتنا الرومانسية نضفيها على الجدات، لكن كاميليا جدتي كانت طيبتها كاملة وروحها مزهرة مثل اسمها". لو أنجبت بنتًا سوف تسميها كاميليا.
طوحت رأسها ونظرت خارج نافذة القطار. القرى تمضي بعيدة، موغلة في رقدتها، مثل نخطاي. يظن الناظر من النافذة أنها خالية من الحياة من البشر ومشاعر والحب والكراهية. تبدو -في نظر من لا يعرف- كأنها أعشاش للنمل أو وحل تعيش فيه ديدان. زميلة لها في المستشفى لم تنزل قرية في حياتها، وطول الوقت ترى القرية محلًّا للناموس والذباب والتراب والروث، ولبشر يمطون الكلام أثناء النطق مثلما يحدث في المسلسلات.
تفكر في نخطاي وفي دار الأبيض والفترة الذهبية في حياتها التي شعرت فيها بقرب حقيقي من أمها. الفترة الوحيدة تقريبًا، لأن علاقتها بنعمة ظلت وبقيت حتى الآن معقدة، لا تتمكن من فهمها مهما حاولت. في الثانوية العامة فوجئت بعنف أمها الهائل. دخلت البيت من أجل أن تأخذ مذكّراتها وتنزل إلى درس الأحياء. رأت نعمة تقف في الصالة بجسدها الطويل، وجهها شاحب تبرق فيه عيناها العسليتان. تنظر إليها كأنما لم يعد في وجهها غير عينين واسعتين. ملامحها تلاشت ولمع فوق جبهتها العريضة المسطحة نضح العرق. لاحظت منار الهيئة الغريبة ولم تفهم الأمر، ولا استعدت لما حدث، عندما انقضت عليها نعمة وهات يا ضرب. هذه هي المرة الوحيدة التي جربت فيها العنف الماحق لأمها، وأدركت أنه يمكن أن يفيض عن عنف سيادة العقيد وشدته. في النهاية فهمت. فقد عثرت على خطاب غرامي في مذكرة الفيزياء.
لم يكن الخطاب موجهًا إليها. كان موجهًا إلى زميلتها واختلطت المذكرات على من وضع الخطاب فاستقر في مذكرة منار. عرفت الأمر في الأيام التالية وشعرت بحزن أقوى من تحملها، وبعناد البغال، الذي يسري في الدم موروثًا من سيادة العقيد، رفضت أن تريح أمها وتحكي لها الحكاية. وتركتها نهبًا للشك. لم تفهم تصرفها. لم تتمكن من مواجهة رغبتها في تعذيب أمها. تفجرت طاقة الغضب تجاه أمها التي أصرت أن ترافقها إلى الدروس. حزنت بشدة وكتبت في مذكراتها عن مشاعرها. كتبت وقتها إنها لم تشعر أبدًا بحب أمها، إلا في فترة طلب الطلاق التي قضتها في دار الأبيض.
ضوء الشمس يصبح خفيفًا وهشًّا، يلوح من خلف زجاج عربة القطار، شفافًا يشع بالسكينة. علامة على السكينة المفقودة للروح. تنصت إلى المكالمات التليفونية في عربة القطار. الموبايل جعل أسرار الرجال والنساء بلا قيمة؛ تُبذل في الطرق وعربات القطارات ومحطات الانتظار وفي الشرفات. أصبحت البيوت مفتوحة، لو كان مروان موجودًا لاقترحت عليه أن يسجل مكالمات التليفونات التي تسيل حوله ويؤلف منها كتابًا وثائقيًّا عن أحوال البلاد في تلك الفترة، فالمادة المتاحة في الفضاء لا تقل شأنًا عن بريد الأهرام، الذي داومت أمها على قراءته كل يوم جمعة بإدمان، لم يتوقف إلا عندما مات عبد الوهاب مطاوع، وطلبت من مروان بعدها أن يشتري لها كتبه من باعة الكتب القديمة.
أنصتت إلى المكالمات هربًا من أفكارها، وتعلقت بمتابعة أحوال رفاق العربة. من يريد أن تُكوى ملابسه قبل أن يصل لأن عنده عزاء بعد العشاء، ومن يريد أن يجد الغذاء جاهزًا، ومن توقظ ابنها لأن ميعاد الدرس فات عليه، ومن يتفق على الذهاب لزيارة صديق قديم ومن يطلب حقه وإلا فإنه سوف يهد الدنيا على دماغ الآخر، لن يترك من أكل حقه ولو في بطن أمه.
انشغلت عن أفكارها قليلًا، تحاول أن تبعد عن ذهنها الخوف على أمها. لقد شربت من الماعون وانتهى الأمر، لا تفيد النقمة، عليها أن تقوم بواجبها، وتواجه مشاعرها.
"حب مر". كتبت ذات يوم في مذكراتها، مندهشة من أنها لا تشعر فعلًا بالحب تجاه نعمة، ويتعقد الأمر ويصبح عصيًّا على الفهم، أن هذه المشاعر يرافقها إحساس بالذنب وبأنها غير بارة بأمها التي كرست حياتها من أجلهم. ماذا تفعل؟ لقد شعرت طول الوقت بحاجز بينها وبين أمها، رغم الالتصاق والترابط، يكفي دليلًا خجلها من أن تتحدث معها عن مشاكلها مع الطمث عندما جاءها وهي صغيرة. الحقيقة أن نعمة حاولت قدر ما تستطيع أن تقترب منها، لكنها هي التي نفرت، ابتعدت عن أمها لأنها شعرت بأن الاقتراب يعني أن تشرب من نفس المرار.
"حب مر".
تمتمت لنفسها. المشاعر معقدة. تعبت منار في فهمها. ليالي المذاكرة لم تكن ليال لدراسة الطب فحسب بل لمحاولة فهم مشاعرها، وفهم ما يحدث بين جدران هذا البيت. ترفع عينيها عن الكتاب وتعرف أنها قد شردت وابتعدت في تتبع مسار مشاعرها. بذلت محاولات يائسة في الإجابة على سؤال ظل عصيًّا على الإجابة: لم كان هذا البيت على هذا النحو؟ لمَ لمْ يكن مثل مناخ بيت خالها أنس أو أي من بيوت زميلاتها. عرفت أن البيوت أمزجة وأن مزاج البيت يكوّنه من يعيشون فيه، وتلمست مشاعرها تجاه مناخ البيت.
طول الوقت يغص فضاء الشقة بالمشاحنات، والتوتر والتربص. الحياة تسير فوق حبل رفيع يمكن أن ينقطع في أي لحظة. الظلال التي انعكست عن صراع بين شخصين غير متوافقين يريد كل منها أن يهزم الآخر، أن ينتقم منه، وأن ينفذ إرادته، ترسبت في أعماقهم. الحلبة التي أداروا عليها هذا الصراع كانت حياتها وحياة مروان وسمية. خلقوا جوًّا لا بد أن يتم هجره. سافر مروان وسمية تزوجت وهي تعيش في القاهرة، ولم يبق غير الشخصان اللذان خلقا هذا المناخ، يتخبطان في ظلمات ما خلقا. نعمة مرضت، وعثمان في مزرعته يدفن هزيمته من أنه لم يتمكن من بناء بيت على غرار بيوت نخطاي، يتكعبل كل يوم الصبح في الأحفاد على السلم وهو نازل إلى عمله.